الأحد، 24 نوفمبر 2013

مفهوم الجهاد وتأسيسه الفلسفي 02 من 02 - أبو يعرب المرزوقي

مفهوم الجهاد وتأسيسه الفلسفي 02 من 02              
 أبو يعرب المرزوقي
 منزل بورقيبة في 2013.11.21 




   المستوى الثاني من القيم

           ما لا يقبل منها الاستعمال ولا التبادل بالمعنى الاقتصادي

والمشكل الفلسفي العويص في هذه المسألة هو التالي: ما الحد الذي نقف عنده للفصل بين التعامل بمنطق ما يقبل الاستعمال والتبادل الاقتصاديين من القيم وبين التعامل بمنطق مختلف مع نوع من القيم يمتنع بمقتضاها هذان الضربان من التقويم؟ فهذا هو المعيار الوحيد الذي يمكن من قيس الشعور بالكرامة والحرية عند الأفراد والجماعات: الحد الفاصل بين نوعي القيم ومنطقي التعامل هو المحدد لشعور الجماعة بكونها متعالية أو مخلدة إلى الأرض. فإذا كان كل شيء قابل للتبادل والاستعمال بمعنى القيم المادية الاقتصادية كانت الأمة عديمة الحرية والكرامة لأنها مخلدة إلى الأرض وإذا كان الوعي بما يتعالى على هذا التقويم غالبا على الأمة كانت أمة ذات كرامة وحرية.

ولنلاحظ أولا أن درجة العامل الثاني حتى في مجال ما يقبل التقويم الاقتصادي نقلتنا من الاستعمال والتبادل الاقتصاديين الخالصين والحرين إلى الاستعمال والتبادل المقيدين غير الخالصين اقتصاديا بل هما مقيدان بقيود أجنبية عن المجال الاقتصادي هما المجال الثقافي الذي يدخل البعد الجمالي سواء كان للزينة وحدها أو للتعبير عن الروحي بل  وبينا أن هذا المعنى الثاني من التقويم ينسحب على المعنى الأول حتى وإن كان ظهوره فيه ليس في متناول الفهم الساذج للاقتصاد. ذلك أن الفرق بين الاستعمالي من القيم والتبادلي منها ليس مقصورا على الحاجة المادية بل هو يتعداها إلى الحادة الذوقية والجمالية والخلقية ومن ثم فهو عائد إلى عامل ثقافي يحدد سلم الحاجات.
فهذا القيد الأجنبي عن الاقتصادي هو بداية الاقتراب من الوجه الخلقي وما يترتب على الكرامة والحرية في تقويم  الأشياء أو إن شئنا هو البداية البينة للبعد الروحي من العلاقات الإنسانية في المعاملات التي لا تقبل التعيير المادي الصرف.
لذلك فالمعاملات لها دائما وجه يقرب من العبادات في الشريعة الإسلامية لصلتها بمعياري الكرامة والحرية إذ إن كرامة الإنسان وحريته تقاس بمقدار استقلاله عن خضوعه لحاجته المادية. لذلك كانت هذه البداية متغيرة من ثقافة إلى ثقافة بحسب درجة القرب من البعد الروحي غير القابل للتعيير المادي الصرف وهو ما يجعل هذا البداية علامة بينة تمكن من ترتيب الحضارات والثقافات في سلم الكرامة والحرية أو إن شئنا في درجات شعور الإنسان بكونه إنسانا مكرما لا يخلد إلى الأرض: 
فبعض الثقافات يقل فيها هذا الجانب وبعضها يكثر والتناسب بين هذا وقلة الكرامة والحرية بين لكل ذي بصيرة.

وبين كذلك أنه لا توجد ثقافة تخلو منه رغم أنه قد يوجد من البشر من لايتجاوز العامل الأول فيكون كل شيء عنده قابلا للاستعمال والتبادل بكامل الحرية ودون قيد ثقافي ناهيك عن القيد الخلقي والروحي: 
ولعل جل الناكرين لضرورة الجهاد من هؤلاء ويكفي النظر إلى حججهم حتى تعلم أنهم من هذا الصنف إذ إن جل حججهم تكاد ترد الكرامة والحرية إلى مقومات الحياة البهيمية.
لذلك فهم لا يفهمون أن المسلم يعتبر الكرامة فوق كل اعتبار ويعتبر منزلة حريته وعرضه فوق كل تقويم مادي وهو معنى كونه مستعد للموت من أجلهما ومعنى اعتبار ذلك شهادة.

ولنبحث الآن في شرط القفز إلى المستوى الثاني أو في القفزة النوعية التي لابد منها عند الفرد والجماعة لتحصل النقلة من الاقتصادي والثقافي الإضافيين إلى الموضوعي والذاتي في حدود كونهما لم يتجاوزا الفاني والمتناهي إلى العقلي والروحي الكونيين المتحررين من التناهي الموضوعي والذاتي: ذلك أنه إذا لم يكن الإنسان قد بلغ درجة يعتبر فيها مجرد"حياة" أدنى قيمة من القيم التي تضفي عليها المعنى إضفاء يجعلها "الحياة"بالمعنى الحقيقي للكلمة كما قابل القرآن الكريم بينهما لا يمكن الكلام معه على قيم تنقل الإنسان مما يقبل الاستعمال والتبادل إلى ما يتعالى على كل استعمال وتبادل اقتصاديين.
فرأس القيم التي لا تقبل الاستعمال هو الكرامة رغم كونها تقبل المقايضة الاختيارية بمعنى مجازي كما في الحب البدني أو الروحي بين متساويين بالاعتراف المتبادل فتكون المقايضة بينهما مقايضة أمرين من نفس الطبيعة: وذلك هو جوهر العلاقة الزوجية أو أي علاقة حب. لكنها قد تنحط فتصبح قابلة لاستعمال عندما يقبل الإنسان منزلة العبودية بدنية كانت أو روحية أو بهما معا.
 مثال ذلك بيع الذات من أجل سد الحاجات التي تنتسب إلى المستوى الأول سواء بيع الجسد بما هو مصدر اللذة فيها وهو أول تجارة إنسانية أو بيع الفكر الإنساني ليكون في خدمة غاية خارجية مقابل عوض مالي وليس من أجل تحقيق نفس القيم التي يؤمن بها صاحبه. فتكون نسبة العبودية للعمل التعاوضي من جنس نسبة العهر للعلاقة الجنسية المشروعة بالزواج. فالعبودية هي بيع الحرية الجسدية والروحية وهي تجارة الأبدان والأرواح أيا كان نوعها. ولعل نوعيها الأشهر هما بيع جسد الإنسان رجلا كان أو امرأة وبيع روح الإنسان صحافيا كان أومفكرا. فكل من يجعل فكره في خدمة غير ما يؤمن به ويسعى إليه من الحقيقة الممكنة للإنسان عبد لأنه حول فكره إلى مجرد بضاعة تقوم اقتصاديا لا روحيا. وفي هذه الحالات جميعا يكون الإنسان قد جعل نفسه أداة. فهو بضاعة في حالة بيع الجسد وهو خدمة في حال بيع الفكر.

ورأس القيم التي لا تقبل التبادل هو الحرية رغم أنها تقبل الاستعمال الاختياري بمعنى مجازي كما في التزام المجاهد بالتضحية المفقدة للحرية الجسدية من أجل تحقيق شروط الحرية الروحية. لكنها قد تنحط عندما تفضل شروط الحياة العضوية على شروط الحياة الروحية كالحال في المرتزقة سواء بالسلاح المادي أو بالسلاح الرمزي ومن هؤلاء المعترضون على ضرورة الجهاد من أجل الحق والعدل. وهذا الموقف لا يحصل إلا متى ارتد صاحبه إلى الحياة النباتية فيجعل ذاته مجرد أداة مقابل عوض مادي سواء كان الارتزاق عسكريا أو فكريا.
والتبادل بالمقايضة الجنيسة حيث يكون الحبيبان متبادلين إلى حد يصبح فيه  كل منهما الآخر في ذروة التحقق الفعلي للحب الصادق والاستعمال بالالتزام الاختياري للتضحية بالحرية الجسدية من أجل الحرية الروحية في ذروة الجهاد حيث يذيب العابد ما يحول دونه واللقاء بالمعبود بفضل تحقيقه إرادته تقربا منه هما صنفا الحب الذي يجعل الإنسان إنسانا بحق فيتعالى على الفاني ويسعى إلى الباقي فيتحرر بذلك من عبادة ذاته لمن هو من جنسه في  الدرجة الأولى ولمن هو ربه في الدرجة الثانية.  

فمن شروط القيام الحر للأفراد والجماعات التحرر من التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والتربوية لتبلغ الأمة درجة التحرر الروحي المؤسس للخلقي وللجهاد من أجله كما يتعين تاريخيا في شروط الكرامة والحرية: من دون ذلك لا معنى للكلام على الإبداع فهو من دونها ممتنع حتى في أدنى درجاته فضلا عن أسماها. فالتابع بنيويا يقلد ولا يبدع.  
كذلك فهمت شعاري الثورة وبهما أعلل ضرورة الجهاد وأفخر بوجود شباب تونسي يجاهد في كل أصقاع الدنيا من أجل ما يؤمن به من قيم الكرامة والحرية. ولو كانت شابا لكنت منهم. وعلى كل فأنا أجاهد بما يناسب سني. باليراع. ولن أقبل السكوت أمام النذالات التي أراها تنصب على رؤوس أبطال المستقبل الذين سيعيدون للأمة مجدها ليس بالجهاد المباشر فحسب بل وكذلك بالاجتهاد العلمي الطبيعي والإنساني الشارطين لتحقيق شروط الكرامة والحرية.
إني أخجل ممن يعتبر ذلك جرما حتى إني أتساءل أحيانا: ما الذي دهى هؤلاء الذين يساندون بشاعات ما يحدث في سوريا ويعتبرون من ينصر المستضعفين فيها مجرمين؟ ماذا تراهم فاعلون بالشعب التونسي لو كانت لهم قوة بشار ومن معه من قوى الشر في العالم؟ هل كانوا يذبحوننا لأننا لا نفكر مثلهم ؟  إن من يسمع كلام هؤلاء المتباكين على شباب تونس الذي ذهبوا لنصرة ثوار الحرية والكرامة في سوريا ينبغي أن يستنتج أنهم كانوا حتما سيكونون مع القذافي الذي أراد دعم النظام البائد لفرضه بجنس ما يفرض به الأسد سلطانه أعني بالمرتزقة سواء كانوا أفارقة أو من مليشيات نصر الله ومن هم جنسه من العراق وإيران وحتى من روسيا.

إن من يسمع خطابهم العنيف الساعي إلى قود الشعب إلى جنة حداثتهم المسيخة وتقدميتهم القردية يسارية كانت أو قومية أو ليبرالية قودهم بعنف الدولة الفاشية لا ينتظر منهم أقل مما يجري في سوريا لو تمكنوا من أسباب القوة. إنهم إذن من القائلين بالجهاد المحرف: ليس نصرة المستضعفين بل نصرة الطغاة الذين يستضعفونهم ولو كان ذلك بجبال من الجثث وبحار من الدماء. فمن يريد أن يجعل مقاومة الظلم والباطل ومساندة المستضعفين سبة لا يمكن إلا أن يكون عبدا ذليلا في حال الضعف ومستبدا حقودا في امتلاك القوة. إنه لم يفهم سر الوجود الإنساني ومعنى قيمتي الثورة في الربيع العربي الذي يسعى لتحقيق شروط إمكان الحرية والكرامة للإنسان في هذه الأرض بعد أن تداعى عليها كل المجرمين في العالم لتقاسم ثرواتها وإذلال شعوبها.

ومن ثم فكل شيء يرد عند هؤلاء المجرمين الناكرين على شباب الثورة فزته لمقاومة الاستبداد والفساد في بلاد العرب من المحيط إلى الخليج يرد عندهم إلى المستوى الأول بل وإلى أدنى درجاته: 
كل شيء عندهم قابل للاستعمال والتبادل ومن ثم فهم تابعون أذلاء بل وساعون كل السعي لتوطيد التبعية بما يريدونه من قتل لإرادة المقاومة في شباب الثورة.
فهمهم لا يتجاوز إرضاء من يتحكم في شروط حياتهم النباتية أعني مستعمر الأمس ناصرين له في حربه على شروط المقاومة المحقق للحرية والكرامة أعني الجهاد بما يروجون له من محاولات:

1-                     للإبقاء على تقطيع أوصال مكان الواحد لئلا تتحرر الأمة من التبعية المادية وإذن فهو يحارب ثورة الشعب العربي في سوريا لأنه في الحقيقة يدافع عن الجغرافيا التي رسمها الاستعمار وهنا بالذات عن خارطة سايكس بيكو التي وضعها من يريد للأمة الضعف والتبعية رفضا لشرط شروط وحدتها. والشباب المتطوع في أي بلد عربي أو إسلامي يرفض ذلك ولذلك فهو مجاهد بحق.

2-                     وللإبقاء على تمزيق روابط زمان الأمة الواحد لئلا تتحرر الأمة من التبعية الروحية وإذن فهو يحارب مفهوم الجهاد لأنه في الحقيقة يدافع عن التاريخ الذي خطه الاستعمار وبالذات عن تكوين الدويلات القومية والعرقية على أرضية الوحدة العربية والإسلامية. والشباب المتطوع لرفض ذلك مجاهد بحق بصرف النظر عن الفهم الديني حتى وإن كان لهذا الفهم دور في تقوية الدافع إليه.

3-                     وللدفاع عن تقطيع أوصال المكان هو علة فقدان الدورة المادية للأمة بحيث إن اقتصاد اقطارها يصبح تابعا بحكم كونه عاجزا عن تحقيق شروط الاستقلال ومن ثم فكل مواطن عربي يصبح فاقدا للكرامة ما لم يثر على هذه الوضعية التي يفرض فيها الأعداء علينا مقايضة حياتنا النباتية بفقدان الكرامة وذلك هو مفهوم العبودية.

4-                     وللدفاع عن تمزيق روابط الزمان هو علة فقدان الدورة الرمزية للأمة بحيث إن ثقافة أقطارها تصبح تابعة بحكم كونها قبلت فقدان الكرامة ولا يمكن لمن يفقد الكرامة أن يبقى حرا فيبدع رمزيا.

5-                     وأخيرا فإن النقلة إلى المستوى الثاني من القيم مشروط بالأمر الواحد في كل القيم كما أسلفنا وبشرط المحافظة عليه حيا في ضمائر الشعب أعني بالجهاد حتما لكونه شرط شروط إمكان الكرامة وشرط شروط إمكان الحرية. 

وذلك ما كان علينا بيانه C.Q.F.D.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق