الجمعة، 16 مايو 2014

العجل الذهبي وخواره - أبو يعرب المرزوقي

abou-yaareb

أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2014.05.16

تكلمنا أمس على العلل التي تفسر تملق النخب في العالم كله للنخب الإسرائيلة خاصة واليهودية عامة. وكان الداعي لكلامنا على هذه المسألة ما يلحظه أي متابع للشؤون العربية في كل أقطار الوطن من الحج إلى لوبيات إسرائيل في الغرب للبقاء في الكرسي أو للوصول إليه. وقد يكون هذا الكرسي سياسيا أو منزلة في سلم الرتب النخبوية التي أصبحت هي بدورها شبه ترشيح يأتي من هناك: ويتقدم على المسعيين دائما تمهيد يعد لهما هو الهجوم التنويري على كل ما هو إسلامي في موقف يشبه التبرؤ من الانتساب أو التفصي من تحمل عبء الانتساب.
وقد انتهينا إلى علة العلل أعني الحاجة إلى دور الوسيط الذي تؤديه النخب الإسرائيلية ذات الطول في مؤسسات السلطان سياسيا كان أو ثقافيا أو اقتصاديا. فالنخب التابعة جميعا وتقريبا من كل اصقاع العالم المزعوم متحضرا تبدأ متملقة لها وتنتهي خائفة منها لأنها لا تتوسط لفائدتها إلا بعد أن تورطها في ما يجعلها تابعة إلى الأبد. وهذه الوساطة تكون بالنسبة إلى السياسيين مدخلا للتقرب من سيد الوقت الذي تستمد منه إسرائيل وجودها وحمايتها والذي أصبحت نخبه خاتما في إصبع نخب اللوبيات الصهيونية. والمعلوم أن هذا الدور يجمع بين وظيفتي السلطان المادي والروحي.
ذلك أن الوساطة المادية وحدها لا تكفي بسبب اتصافها بالتناهي ما يحوجها للوساطة الروحية التي تضيف ما ينقصها فتوهم بحيازة الوساطة مع السلطان اللامتناهي. ومعنى ذلك أن نخب بني إسرائيل تجمع بين السلطان المادي (السياسي والاقتصادي) والسلطان الروحي (التربوي والثقافي) على الأقل في الغرب فتؤدي دور الوسيط بين النخب المتملقة بداية والخائفة غاية في مستويين بدايتهما أدوات السلطان المادي أي السياسي والاقتصادي وغايتهما أدوات السلطان الروحي أي التربوي والثقافي (من هنا تعريف الحضارة الغربية بكونها يهودية مسيحية):
بينها وبين ورب الأرض مادي. 
بينها وبين رب السماء روحيا.
ولا يمكن أن يتحقق اللجوء لهذين السلطانين من دون خلق الحاجة إليه عند طالبي الوساطة رغم أنها موجودة بالطبع لكون أصحاب الطموح للقوة المادية والروحية ميالين بالطبع لاستعمال وسائل تحقيقه التي تعتمد أساسا على نقاط ضعف النفس البشرية عند الطالب والمطلوب (ضعف الطالب والمطلوب). فالنخب التي تلجأ للوسيط بينها وبين الربين ينبغي أن تكون أو أن تجعل فقيرة في المستويين المادي والروحي حتى يصبح اللجوء للوساطة أمرا محتوما. لذلك فشرط الحاجة إلى الوساطة هو جعل طالبها فقيرا ماديا (الحاجة الدائمة للدعم المادي الوارد من خارج شرط التبعية العضوية) وروحيا (الحاجة الدائمة للسند المعنوي الوارد من خارج شرط التبعية الروحية) حتى ينتقل من التملق للحصول على الوساطة التي يظنها ستوصله إلى موقع التخلص من التبعيتين إلى الخوف من الابتزار بما ورط فيه للحصول على الوساطة التي تكون دائما على نحو يجعله يزداد تبعية ولا يتخلص منها أبدا كما توهم عندما تصور نفسه ذكيا فأراد استعمال النخب الإسرائيلة مصعدا يمكن التخلص منه.
ذلك هو الداء الذي ينبغي تحليله لفهم آلياته وقوانينه انطلاقا من رمز العجل الذهبي الخوار. فبفضل هذا المطلب يمكن أن نفهم سلوك جل النخب العربية وخاصة النخب السياسية رغم أن كل النخب العربية أصبحت بمقتضى الظرف سياسية لأنها في نظام الاستبداد والفساد لا تتصور طريقا أخرى لسد نهمها دون جهد يذكر وبالسرعة المذهلة للقوتين المادية والرمزية في مجتمعات بلغت القاع في الفقرين المادي والروحي بسبب ما أصاب التربية والثقافة الإسلاميتين ونخبهما من انحطاط وفساد حتى اعتبرها ابن خلدون مصدرا لإفقاد المسلمين معاني الإنسانية.
ويمكن الجزم بأن سر الانحطاط المعرفي في المؤسسات التعليمية العربية وخاصة في مستواها الأسمى أعني الجامعي يكمن في هذه الطرق السريعة في النجاح الشكلي الذي يغني عن الجهد الطويل للوصول إلى شروط الإبداع وخاصة في البحث العلمي ويجعل كل جيل يحيط نفسه بجل أدنى منه مستوى للحفاظ على منزلته: لذلك ترى الكثير من المتقافزين الذين لا يميزون بين ترديد الأسماء وحفظها والغوص في تشاجن المسميات غير دارين بما أطلق عليه ابن خلدون اسم الحجب في المعرفة البشرية. فيصبح كل بادي متصورا نفسه شاديا يناطح الجميع ببضاعة مجزاة خلطا بين الحصول على العناوين الأكاديمية والتحصيل العلمي الحقيقي.
وقد يكون ذلك مقبولا إذا جاء من شباب متعجل في البروز قد يتخلى عن مثل هذا السلوك بمجرد أن يتقدم في المعرفة. لكن المصيبة أن هذا التعجل لمجرد كونه قد أصبح ثقافة عامة تحول إلى ثقافة الجمود العام للظن بأن مضغ القشور كاف لذوق الألباب. لذلك تجد جرأة عجيبة متناسبة مع الضحالة تزداد بزيادتها. وقد كانت الثورة مناسبة لاشتداد هذه الظاهرة إلى حد مذهل في ما يشبه بالبوتلاتش العام: ثقافة عدم الحياء من التردي العام وفقدان الأشياء لقيمها ومعانيها. وقد يكون ذلك شرط تحويل البشر إلى أدوات تستخدمها هذه اللوبيات استعمال المافيات لمنفذي عمليات القتل والأجرام المشروط فيهم التخلف الذهني.
كيف يشخص القرآن هذا الداء أولا
ليس من باب الصدف أن يكون الوحيد الذي نجح فتغلب على سلطان الوساطة اليهودي بما هم مختصون في الوساطة الدنيوية والأخروية سلطانهم شبه الكلي في الجزيرة العربية قبيل مجيء الإسلام هو الرسول الخاتم كما يتبين من القصص المتعلق بهذا الدور والذي حاولنا بيان بعضه في المحاولة التي أجبنا فيها عن علة تملق النخب للإسرائيليين. ذلك أنه لم يتهم اليهود بما هم يهود ولم يلعنهم أو يقول بمسخهم كما يتوهم القارئ السطحي من دجالي الدعوة واللعانين بل هو حاول معاملتهم بما سعى إليه من تخليص لتوراتهم من التحريف معتبرا إياهم ضحايا للداء الذي يمثله سلطان الوساطة الشيطاني الناتج عن تحريف التوراة بعد أن الانقلاب الروحي الذي استبدل دين العجل بدين موسى.
لم يكن الأمر مقصورا عنده على تحرير العرب من هذا الداء بل كانت الرسالة سعيا لتحرير البشرية بمن فيهم حاملو الجرثومة المرضية هذه. وهو بذلك كان مواصلا لمحاولات أنبيائهم من قبله وهو معنى التصديق والهيمنة. فأغلب يهود الجزيرة العربية ليسوا إلا ممثلي هذين السلطانين الدائين وحاملي الجرثومة المرضية التي صار رمزها العجل الخوار:
الداء المادي ورمزه الارتهان الربوي المادي لسد حاجات البدن. وهو رهن لحرية اللاجئ إليه والذي يبدأ مختارا وينتهي مضطرا لأن يصبح رهينة من أجل العيش التابع عضويا: وهو اليوم أصبح سياسة الدول التي تحكمها مثل هذه النخب ولم يبق مجرد سلوك الأفراد.
والداء الرمزي ورمزه الارتهان الربوي الرمزي لسد حاجات النفس. وهو رهن لحرية اللاجئ إليه والذي يبدأ مختارا وينتهي مضطرا لأن يصبح رهينة من أجل العيش التابع نفسيا: وهو اليوم أصبح ثقافة الأمم التي تقودها مثل هذه النخب ولم يبق مجرد سلوك أفراد.
بحيث إن نخب العرب في جاهليتهم كانوا على حال تجعل كل من تجاوز حرية الحياة البدوية على هامش الحضارة فتأسس لديه طموح إلى السلطان المادي والرمزي وقع بين مخالب هذين السلطانين تقريبا على نحو لا يكاد يختلف عما نراه اليوم عند نخب الأمة النافذة. فكيف يعمل الوسطاء للسيطرة على الإنسان من حيث هو كائن عضوي ومن حيث هو كائن نفسي؟
والجواب لا يمكن طلبه من غير الانثروبولوجيا أي من نظرية الإنسان الذي يراوح بين كسل الإخلاد إلى الأرض وجهد التحرر منه. وكسل الإخلاد إلى الأرض هو الغالب وهو الذي يجعل فاعلية العجل الذهبي وخواره يبلغان قمة التأثير المادي والرمزي على سلوكه. أما جهد التحرر منه فهو الذي يمكن من السيطرة على هذا التأثير بمقادير يمكن أن تلغيه نهائيا بمجرد التخلص من التبعية في الحاجات المادية والروحية. وهي نوعان كلاهما يمثل أحد وجهي العبودية:
التبعية المنفعلة وهي التي تخضع للتأثير: وهي المعنى الظاهر من العبودية حيث يصبح الإنسان فاقدا لحريته وكرامته لأنه وضع نفسه في ظرفية تجعليه مخيرا بين سد الحاجات العضوية والنفسية بالخضوع للغير والموت.
التبعية الفاعلية وهي التي تستعمل التأثير: وهي المعنى الخفي من العبودية حيث يصبح الإنسان مفقدا لحرية غيره وكرامته حتى يشعر بقوته الناتجة عن إذلال غيره متناسيا أنه حط من معاني الإنسانية وفقدانا لها وإن في غيره.
وفي الحقيقة فكلما نما الوجه الأول نما معه الوجه الثاني: فيكون الوجه الأول نسبة إلى من يوجد فوقه في سلم القوة المادية والروحية والوجه الثاني نسبة إلى من يوجد تحته في هذا السلم. وهذا هو وضع النخب العربية: فهي ذليلة وحقيرة أمام مسعتبدها ومذلة وحاقرة لشعوبها. وإذا كانت هذه هي آليات التأثير لدى الوسطاء فعلا وانفعالا فينغي فإن الأدوات التي تحقق ذلك هي صفتا العجل:
2-رمز الفعل أو الأموال المتعينة في العملة (عندما تتجاوز دورها وسيط تبادل خيرات حقيقية):
كل الأفعال الإنسانية من حيث هي أمر متبادل بين الناس بضاعة أو خدمة تخضع للتبادل والتعاوض. والمال هو أداة التعاوض في كل تبادل بعد أن تجاوزت البشرية التبادل المباشر عن طريق المقايضة. لذلك فالمال يمثل رمز كل فاعلية إنسانية مادية وبه يقع التأثير المادي وسد الحاجات العضوية وما يتبعها من النفسية. فيصبح صاحبه صاحب أقوى أدوات التأثير المادي.
2-فعل الرمز أو المفاهيم المتعينة في الاسم (عندما يتجاوز دوره وسيط تبادل معاني صادقة): 
كل الأفعال الإنسانية من حيث هي لقاء بين الناس مصحوبة بمفايهمها لديهم وتتعين في أسمائها. والأسماء هي أداة التفاوض خلال كل تبادل بعد أن تجاوزت البشرية التبادل الإشاري عن طريق المسمى. لذلك فالأسماء تمثل فعل كل رمز إنساني رمزي وبه يقع التأثير المادي وسد الحاجات النفسية وما يتبعها من العضوية. فيصبح صاحبه صاحب أقوى أدوات التأثير الرمزي.
وإذا جمع الواحد بين فعل الرمز المتجاوز لدور الوساطة في تبادل الأخيار (المال أو العملة) ورمز الفعل المتجاوز لدور الوساطة في تبادل المعاني (المفهوم او الاسم) فإنه يصبح حائزا على أداتي الوساطة الشريرة المطلقة في الأعيان وفي الأذهان. لذلك فإن سلطان بني إسرائيل بما هو وساطة شريرة اساسه حيازة هاتين الاداتين المتعينتين في رمزيهما أعني الشبكات البنكية والشبكات الإعلامية وكلتاهما توظفان لاستعباد الإنسان ماديا ورمزيا. فالأولى تستعمل المحرك المادي لضعف الإنسان المادي والثانية تستعمل المحرك الرمزي لضعفه الرمزي فتؤثران في ضعفه وتفقدانه كل معاني الإنسانية ليصبح عبدا تابعا ومطيعا.
وهذه الآلية ليست مجرد أداة تستعمل ضد الأعداء فحسب بل هي داء يستعمل في كل سلطان حتى مع الذات ومع الأسرة وفي نفس الجماعة بل هي جوهر التعفن الذي يصيب الحياة السياسية والفكرية في أي جماعة أصابها المرض الوجودي المتمثل في الإخلاد إلى الأرض والادبار عن معاني الإنسانية. فتكون بنية المعاملات البشرية الحالية هي بنية العبودية المعممة وهي جوهر التحريف الذي يصف به القرآن الكريم مآل الدينين المنزلين قبله ويحاول تحرير البشرية منه: النظام البنكي والنظام الدعاية الإعلامية يستعملان لغاية الاستتباع والاستعباد وهما من جوهر الوساطة التي تسيطر بها المافيات الصهيونية على النخب في العالم وخاصة عندما تكون في الخدمة. لذلك فغالبا ما تجد هذه النخب بعد خروجها من الخدمة وكأنها قد عاد إليها الوعي بما وقعت فيه من حبائل فتصبح قادرة على قول الحق الذي كانت عاجزة دون قوله.
وبذلك نفهم العلة التي تجعل القرآن يعتبر الربا (استعمال العملة أداة استعابد) والكذب (استعمال التسمية أداة غش) السلوكين اللذين لأجلهما استعملت عبارة حرب الله ونبيه على أصحابهما. والعالم اليوم يحكمه الربا والإعلام الكاذب الذي يزيف كل شيء فيجعل جحيم العولمة أمرا محبوبا في حين أنه يقضى على الضرع والزرع ويحول البشر كلهم إلى عبيد لآليات عمياء تطحن الإنسان طحنا فتجعله مجرد أداة لمصالح المافيات المسيطرة على العالم والمستعبدة للجميع بمن فيهم أصحاب هذه المصالح. لكن الأخطر من ذلك كله هو تحويل الإنسان إلى البقرة التي تلد صفة العجل الأولى أي الذهب والبوق الذي يلد صفة العجل الثانية أي الخوار:
1-فاستغلال حاجتيه الماديتين الأساستين أعني شرط بقاء الفرد العضوي أي الغذاء وشرط بقاء المجموعة العضوي أي الجنس يحولهما إلى مصدري ابتزاز للإنسان ومورد ثراء لمستعمليهما في أهم تجارتين استعباديتين للإنسان فيتحول الغذاء والجنس وسيلتي الثراء والابتزاز في المعاملات السياسية داخل نفس المجموعة وبين المجموعات.
2-واستعمال حاجتيه الرمزيتين الأساسيتين أعني شرط بقاء الفرد النفسي أي الثقافة وشرط بقاء المجموعة الرمزي أي التاريخ يحولهما إلى مصدري تشويه للوعي الإنساني وللعداوات بين الأمم وكذلك وسيلتي ثراء لمستعمليهما إذ يصبح مدارهما حول التجارتين السابقتين ويصبح المخيال الإنساني أداة تلاعب بالوعي لتوطيد تلك التبعية وتبرير ذلك الاستغلال.
تلك هي المأساة التي اردنا وصفها لعل فهم آلياتها يمكن من حل مشكل الغذاء والجنس والثقافة والتاريخ لتكون أدوات تحقيق الأخوة الإنسانية كما حددتها الآية الأولى من سورة النساء ما يجعل هذه السورة وسورة يوسف مدخلين للإصلاح الذي هو شرط استئناف المسلمين لدورهم التاريخي بل والمعنى الحقيقي لمدلول الشهادة على العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق