هذه محاولة قد يعتبرها الكثير تدخلا في شأن مصري خالص, أُقدم عليها في ظرف انحطت فيه أخلاق المروءة والرجولة عند الكثير من متصدري الكلام في شأن الأمة, حتى بات علماء الدين يتفصون من الدعوة إلى الجهاد في سوريا التي فاق فيها إرهاب الفساد والاستبداد الطائفي أفعال نيرون وبز كل الجبروت الذي عرفه تاريخ الإنسانية. ولست ممن يخاف عملاء الاستعمار المتباكين على الشباب المقاوم أو ممن يقبل بتلطيخ بطولات شباب آمن بقيم القرآن التي تكرم الإنسان وتحرر من التبعية والخذلان خاصة أولئك المحافظين على أخلاق المقاومة الشريفة التي تنبذ العدوان فلا تتجاوز حماية كرامة الإنسان.
إن من لا يحتقر العملاء والسفهاء ليس أقل منهم عمالة وسفاهة. ومن لا يشمئز من حقارتهم أحقر منهم. وهل أحقر ممن امتهن الكذب على نساء المسلمين وشبابهم ليحمي طائفة خربت بلادها وأذلت مواطنيها؟ فاعتبار نخوة الشباب ذكورا وإناثا إرهابا و محاولة المس بشرفهم لا لشيء إلا لأنهم تأسوا بنخوة جدودهم الذين آزروا إخوتهم في ليبيا ضد غزو الطليان أو أخوتهم في فلسطين ضد غزو مشردي أوروبا أو نافسوا بأندادهم في الخيرات سندا لأخوتهم في البلقان إلخ..، عمل لا يبدر من إنسان إلا إذا انحط إلى مرتبة حيوان رعديد وجبان. والمعلوم أن مقاومة الاستبداد و الفساد من أجل الحرية و الكرامة لا تقل نبلا عن مقاومة الاستعمار بل هي تجمع بين المقاومتين, لأن المستبدين ليسوا إلا نواب المستعمر الذين نصبهم لمواصلة الاستعباد والاستغلال.
والغريب أن الكثير من هؤلاء العملاء والسفهاء تجدهم معجبين بالأدب الفرنسي (مالرو مثلا) تثمينا لفزعة شباب أوروبا مع الثورة في إسبانيا في ثلاثينات القرن الماضي. لكنهم يقدحون في قيام الشباب المسلم لمساندة الثوار في سوريا أو في مصر أو في أي بلد عربي آخر. وعندي أن كل مؤمن بالقيم القرآنية والإنسانية ينبغي أن يعتبر نفسه مقاوما في مصر وفي سوريا وفي أي بلد عربي آخر بل وفي كل بلد في العالم شعر بأن الإنسان فيه يهان وأن يفخر بذلك وذلك للعلتين التاليتين:
1- أولاهما "وطنية صغرى و أنانية" بنحو ما وتتمثل في أني أعتبر الاعتقاد بأن تونس قد خرجت من عنق الزجاجة ظن ساذج لإيماني الراسخ بأنه إذا استتب الأمر للانقلاب في مصر فسيعم ذلك كل أقطار الربيع العربي في مسار معاكس لمسار البداية.
2- والثانية "وطنية كبرى و إنسانية" وتتمثل في أني حتى لو قبلت بأن كلامي على الحاجة إلى المقاومة مقصور على مصر وسلمت لمن فرحوا بسرعة بما يعتبرونه نجاحا في تونس وتجاوزا لخطر الانقلاب فإن الكلام على المقاومة يبقى مشروعا.
وإذن فليكن كلامي حصرا على مصر - ولكن من منطلق المسلمتين التاليتين - مصر التي اعتبر الثورة فيها قد تقدمت أشواطا على الثورة في تونس لأنها تجاوزت مرحلة تأجيل الحسم مع عهد الاستبداد والفساد للشروع في بناء المستقبل الذي سيكون على صورة مخرجات المعركة. لست أدري لم ينسى المتفائلون في تونس أن مصر أيضا كتبت دستورا توافقيا بنواب من مجلس منتخب بل ومع سند الاستفتاء الشعبي. لكن ذلك لم يمنع ما نرى. ويوم يشعر الأعداء في الداخل وفي الإقليم وعند محركهما بالخوف فلن يترددوا في القيام بما قاموا به في مصر خاصة إذا استتب للانقلاب الأمر.
أكتب من تونس على شأن يتصوره الكثير خاصا بمصر لكنه في الحقيقة شأن يهمنا في تونس بل ويهم كل العرب و المسلمين كلهم بل والإنسانية لأن عودة المسلمين إلى التاريخ يعتبرها المحيطون بدار الإسلام والطامعون في ما فيها حدثا كونيا من جنس دخولهم إليه أول مرة.
وأكتب من منطلقين هما عندي مسلمتان قد لا يشاركني فيهما الكثير من القراء الذين نجح معهم التأييس وتجفيف المنابع خاصة، وجل كلامي لن يدور حول تونس مباشرة بل حول مصر التي أخاف أن يفرضوا عليها المسار السوري.
لكن خوفي ليس بالمعنى الذي يتهم الثوار بأنهم متآمرون على قوة العرب لكأن الجيوش العربية قوة عربية أعني التهمة التي تجعل الثورة نفسها مؤامرة في حين أن المؤامرة هي بالذات تحول هذه الجيوش العربية – ذات الجنرالات والمشيرين الذين تفوق هزائمهم عدد نجومهم - إلى أداة احتلال للشعوب العربية بيد الاستعمار وحلفائه من جاهلية العرب وجاهلية الفرس، الجاهليتين المتنكرتين للتاريخ الإسلامي والعائدتين بالأمة إلى الشعوبيات والقطريات والطائفيات بسند من الاستعمار وأدعياء الحداثة:
1- المسلمة الأولى هي أني كما سبق أن بينت في المحاولات السابقة أرفض تفتيت مكان الأمة وتشتيت زمانها و أومن بأن قوتها تقتضي استعادتهما لبناء القوة المادية (الاقتصادية والسياسية) والقوة الرمزية (الثقافية والتربوية) ومن ثم فالشأن المصري لا يخص المصريين وحدهم بل هو شأن عربي و أكثر من ذلك شأن إسلامي هذا عدا ما وصل إليه الأمر من قضايا تشغل الإنسان من حيث هو إنسان.
2- المسلمة الثانية هي أني أومن بأن الثورة العربية الحالية كل لا يتجزأ وأنها لا يمكن أن تنجح في أي قطر إذا فشلت في قطر واحد من أقطار الربيع العربي بل وأنها لن تنجح من دون نجاحها في مصر التي تمثل قلب الأمة مكانا (في الجسر الواصل بين عرب آسيا وعرب إفريقيا) وزمانا (وهي التي نابت الخلافة لما سقطت ومنذئذ هي قلب التاريخ الإسلامي) وزنا ماديا (فهي ربع العرب بسكانها) ووزنا رمزيا (المركز الأول للعودة الثقافية العربية).
ما يترتب على هاتين المسلمتين
ويترتب على هاتين المسلمتين أنه من واجبي ومن واجب كل مؤمن بقيم الإمة وحقوق الإنسان بل ومن حقي أن أدلي بدلوي في مسار المقاومة البطولية التي نشهدها منذ بداية الثورة في مصر بدءا بتحديد طبيعتها التي يخطئ الكثير فيتصورها تالية عن الانقلاب لعل ذلك يسهم في ترشيد الفعل الثوري خاصة وأهم عقبة تعاني منها الثورة حاليا هي سوء الفهم لمفهوم المقاومة السلمية وصلتها بالظرف العالمي. ذلك أن مفهوم المقاومة السلمية له دلالتان مطلقة وإضافية والثانية متقدمة ولا تتأخر إلا بفضل ديمومة الأولى:
1- فما يمكن أن تثمره المقاومة السلمية مفهوم إضافي إلى الظرف الدولي الذي يحدده موقع القائمين بالمقاومة في استراتيجية الذين بيدهم الحل والعقد في توجهات الرأي العام الدولي: وهذا هو علة السند شبه المطلق للانقلاب في مصر من كل الجهات النافذة في الإقليم وفي العالم. لذلك فلا ينبغي أن ننتظر الكثير من الرأي العام الدولي الخاضع للوبيات معادية للأمة.
2- و ما يمكن أن تثمره المقاومة السلمية مفهوم مطلق إذا كان لأصحابه النفس الطويل وأخلاق الحرب القرآنية في آن. فالنفس الطويل هو أساس حرب المطاولة (بلغة ابن خلدون). وأخلاق الحرب الإسلامية هو أساس العامل الخلقي في المقاومة التي تفرض الاحترام حتى على العدو قبل الصديق. لذلك فالنفس الطويل وأخلاق الفرسان هما شرطا التغلب على الصمم الدولي.
فأما الطابع الإضافي إلى ثمرة المقاومة السلمية فعلته ما يخشاه الأعداء وعملاؤهم من الدور المحتمل لعودة المسلمين إلى التاريخ من جديد. فهذه العودة يخشاها الكثير من أهل الحل والعقد في الإقليم وفي العالم. ذلك أن المتوقع والمرهوب هو أنها عودة ستغير خارطة العالم بما لحضارة الإسلام من دور كوني:
1- في الجسر المكاني لأن دار الإسلام هي قلب العالم وبؤرة التقاء كل قاراته قديمها وحديثها (بين العالمين الغربي والشرقي)
2- وفي الجسر الزماني لأن بداية التاريخ الإسلامي مثلت الواسطة بين القديم والحديث (بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث)
3- وفي جسر الدورة المادية العالمية (مكانهم حباه الله بكل أسباب الثروة وخاصة الطاقة والبحار السخنة والشمس).
4- وفي جسر الدورة الرمزية العالمية (مشاعر كل الأديان السماوية والطبيعية في أرضهم مكانا وزمانا أي بدأت انطلاقا منها)
5- وأصلا لكل هذه الجسور في توسطهم بين قطبي التاريخ البشري أعني الشرقي الأقصى والغربي الأقصى ومن ثم من توحيد حقيقي للإنسانية بمعنيي التوحيد الإسلامي بما هو فطرة وبما هو منزل أعني الدين الطبيعي (أديان الشرق خاصة) والدين المنزل (أديان الغرب خاصة) .
وأما الطابع المطلق لثمرة المقاومة السلمية فعلته أن صمود الأعداء يمكن أن يثمر إذا كانت مقاومتنا فاقدة للأسس الخلقية وقابلة لتهمة الإرهاب بصورة مقنعة. ذلك أن كل مقاومة تتحول إلى منطق الانتقام ومعاملة العدو بمنطقه تنحط خلقيا فتفقد القدرة على الصمود لأنها لا تبقى دفاعا عن القيم بل تتحول إلى تنفيس عن الغضب ومواقف ذاتية لا تختلف عن منطق الثأر.
لذلك أسس القرآن الكريم أخلاق الحرب وبينها الرسول في توجيهاته للجيوش الإسلامية و طبقها في كل الحروب التي خاضتها بصورة إنسانية يمكن أن تعد أول تأسيس لقانون الحروب التي تراعي كرامة الإنسان وحقوقه. ولعل الغرب لا يعرف منها إلا ما ينسبه إلى صلاح الدين الأيوبي من معاملة إنسانية راقية امتلأت آدابهم بذكرها (يكفي الكلام على مسرحية ناتان للسنج).
استراتيجية الثورة المضادة
لكن أغلب من يزعمون أنهم مجاهدون هم لسوء الحظ أبعد الناس عن هذه الأخلاق حتى إنى صرت أتصورهم طالبي إمارة ولسوا في خدمة رسالة. لذلك فهم يساعدون الأعداء أكثر من مساندة الثورة. إنهم يطيلون أعمار الأنظمة الفاسدة والمستبدة كما نرى ذلك رؤية العين في سوريا. ففي حين كان من واجب المتطوعين في سوريا أن ينضووا تحت سلطان الجيش الحر أسس بعضهم إمارات تحتل نواحي من سوريا حتى بات الشعب السوري نفسه يضيق بهم بل ويعتبرهم في خدمة استراتيجية النظام الذي يريد أن يقنع العالم أنه لا يحارب شعبا يريد الحرية والكرامة بل تكفيريين وإرهابيين وهو أمر يجد تجاوبا لدى الاستعمار الذي كان أول من أحدث هذه التعلات لإيقاف المد التحرري في العالم.
وآمل أن يكون الأخوة في مصر مدركين لما هذه الأخطار.
لكن هذا الكلام على مخاطر عسكرة المقاومة لا ينبغي أن يؤول إلى الظن الساذج بأن المقاومة مخيرة بين الغاندية والعنف الأعمى.
فهذا الظن دليل قاطع على سوء فهم للجهاد. إنه مقاومة سلمية تستعمل القوة للدفاع عن النفس بالمحافظة على الأخلاق السامية التي لا تتحول إلى تنفيس عن الغضب البدائي لعنف جاهي فاقد لأهداف عالية. فالمقاومة السلمية لا تخلو من استعمال القوة الشرعية التي تحترم أخلاق القتال وهو المعنى الحقيقي للجهاد القتالي الذي يؤمن بأخلاق الحرب باعتبارها جزءا من المقاومة السلمية عن الحق والكرامة والحرية وعلامة ذلك أن يعد شروط شرعيتها احترام الحق والكرامة والحرية حتى للأعداء. ولست أقول هذا الكلام متهما الثوار عامة بل إن البعض شوه الثورة في سوريا فضلا عن محاولات تشويهها من أعدائها: فكل المنظمات الإرهابية حقا هي من صنع الأنظمة الفاسدة والمستبدة مثل جي-ئي-آ جنرالات الجزائر و بيت مقدس جنرالات مصر وداعش جنرالات إيران والعراق وسوريا و قاعدة أمريكا.
لكن الثوار الذين يعلمون ذلك كله يحاولون ما استطاعوا أن يلتزموا بهذه القيم. ومع ذلك يبقى الخوف من أن يفلت الأمر من سلطان القيادات خاصة والشباب يشعر بلا مبالاة الرأي العام الغربي الذي يكفي لتحريكه مقتل متظاهر واحد في أوروبا ويحمي قتلة الآلاف في الوطن العربي. فمن منا لا يرى أن معاناة المخلصين للثورة من شعب مصر -بكل أطيافهم وبكل عقائدهم وليس الإسلاميين وحدهم رغم كونهم الطيف الأوسع - لم تبدأ بعد الانقلاب كما يتصور الكثير ممن يعتقدون أن الثورة المضادة لم تبدأ حربها العدوانية إلا بعد الانقلاب؟ ومن منا لا يدرك أن الحرب على الثورة كانت ملازمة لما تقدم على الانقلاب في مصر وأن التضحيات واكبت الثورة قبلها ثم بينها وبين الانقلاب إلى أن وصل عدد الشهداء الآلاف. فالثورة المضادة حتى بعد استكمال المسار الدستوري ووضع المؤسسات كانت تحاول منع استقرار الأمر وإيقاف كل الخدمات وآلة الإنتاج وتحريك أجهزة الدولة ضد شروط التداول الديموقراطي. وقد عشت ذلك أياما في مصر وتحدثت مع منافقي التيار العلماني والليبرالي الذين صفقوا للانقلاب وسيكونون بإذن الله أول ضحاياه: كل مطامعهم وآمالهم ذهبت سدى و خاصة بعد "القلم=الكف" الذي أكله ذلك الدنيء الذي يتصور نفسه ممثلا للتيار الشعبي. والأمر لا يختلف عما حدث في تونس:
فليس الثوار هم الذين تسلموا الحكم مباشرة بعد سقوط رأس النظام ولا حتى هم الذين أسقطوه
بل إن الثورة المضادة بادرت فأسقطت رأسها لكي تسيطر على الأمور وتعد العدة للمعركة الحاسمة.
فالثورة المضادة أو بعبارة أوضح الأنظمة التي كانت قائمة فاجأتها الموجة الثورية التي أخذتهم أخذ غرة. وفاجأت سندهم الذي يستمدونه منه شرعية القوة فأراد هو بدوره أن ينحني أمام التيار حتى يعد العدة كذلك متصورا أنه ربما يجد في الثوار عملاء قابلين للتعامل بنفس الشروط أو حتى أفضل من التي كان يتمتع بها مع الأنظمة القديمة. وسلوكه هذا هو الذي يبرر به عملاؤه اتهام الثوار بكونهم مجرد عملاء لمؤامرة دولية للاستعمار لكأنهم كانوا بحق يعبرون عن إرادة مستقلة عنه.
وكما أن الثورة المضادة في تونس التي عادت بفضل ما يسمى بالحوار الوطني والانقلاب النقابي هي التي حكمت السنة الأولى مباشرة وحكمت السنتين الأخريين بصورة غير مباشرة منعا للحكم الثوري أن يستتب له الوضع ليحقق بعض الممكن من أهداف الثورة فكذلك فعل العسكر في مصر. فالعسكر الذي عاد بالانقلاب هو العسكر الذي حكم السنة الأولى مباشرة. وهو الذي حكم السنة الثانية بصورة غير مباشرة بنفس الاستراتيجية من خلال إفشال الحل الديموقراطي والخطة واضحة: وضع المواطنين أمام خيار معلوم النتيجة: إما نحن أو فقدان الأمنين المعاشي (تعطيل كل الخدمات) والحياتي (الفوضى والانفلات الأمني).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق