Hot

السبت، 1 فبراير 2014

هل صرنا رعايا راعيي الحوار والسفارات؟ - أبو يعرب المرزوقي



بمناسبة الحملة السخيفة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها ضد سيدة لا أعرفها ولا أنوي السعي لمعرفة قضيتها أكتب هذه المحاولة لفهم أصل المشكل بدل أحد أعراضه: كيف صرنا رعايا راعيي الحوار والسفارات الاستعمارية. فشخصية الوزراء وحياتهم الخاصة لا تعنيني. ولست اعتبر نفسي وصيا على الجماعة الوطنية فأفحص سير وزراء حكوماتها من حيث علاقتها بالأعداء خاصة إذا أصبح الكثير منا يستعديهم على الأهل ليبقي على كرسيه. ما يهمني هو دلالة الشعارات المرفوعة لتحديد خصائص الحكومات سلبا بنفي الكفاءة (حكومتي الترويكا) ولتحديد خصائصها إيجابا بادعاء الكفاءة (الحكومات الثلاث التي تقدمت عليها والحكومة الحالية) دلالتها عن طبيعة التبعية الخطيرة التي ينبغي أن يفهمها شباب الثورة:

فأولا لا أفهم سبب معارضة هذه السيدة دون سواها في حين أن مبدأ تكوين الحكومة نفسه من هذا الجنس: فهي مبنية على طلب الكفاءة والكفاءة المستوردة خاصة تماما كما يفضل التونسي عادة البضاعة المستوردة على البضاعة المحلية. ألا يكفي أن جل الحكام العرب لا يتداوون إلا في المهجر؟

وثانيا لا أرى فرقا كبيرا بين زيارة إسرائيل غبا أو حبا وتعامل جل سياسيي البلاد العربية مع لوبيات إسرائيل في الغرب بل ومع إسرائيل نفسها. فمن من سياسيينا وحداثيي مثقفينا ومفكرينا إلخ...أيا كانت مرجعيته لا يسوق لنفسه لدى لوبيات إسرائيل في الغرب مباشرة ولدى إسرائيل بصورة غير مباشرة؟

فمن دون فهم مثل هذه الظاهرات سيُبقي تخريف زعماء اليسار والقوميين شبابَ الثورة مخدرين وغافلين عن أمهات المشاكل ليجعلوهم عائشين على قشور ثورية تجاوزتها البشرية منذ أكثر من قرن. لذلك فهم قد وضعوا قضية علاقة هذه السيدة بإسرائيل ويكثرون من الكلام على تجريم التطبيع مع حلفهم الواضح مع حلفائها في الثورة المضادة في تونس باسم الحداثة وفي مصر باسم محاربة الأخونة ويجمعون العلتين تحت مسمى مقاومة الصهيونية التي يتحالفون معها ضد الثورة الحقيقية المتمثلة في تحرير الأمة من التبعية.

لكن مموليهم ممن كانوا يتهمونهم بالرجعية والتخلف والتبعية للإمبريالية والصهيونية فضحوهم إذ جعلوهم جلادين لشعوبهم ومحاربين لأهداف الثورة أعني التحرر والكرامة وأسس التخلص من التبعية. فهم يقومون بكل ما ينبغي حتى تصبح التبعية أمرا محتوما لمجرد تخريبهم كل محاولة لتوحيد الصف ضد الثورة المضادة مفضلين الحلف مع رموزها على مساندة من هم من جنسهم اجتماعيا وثقافيا لو أدركوا أن كلامهم على الحداثة والتقدم من علامات تخلفهم وجهلهم بشروطهما المتمثلة في شروط عدم التبعية المادية والرمزية أي الاستقلال الروحي للحضارة. وهذا التخريف يكشف عن أكبر مهازل الدهر فيفضح نفاقهم وحمقهم:

فغالبهم من أبناء الشعب الفقير بل و "المزمر" وجلهم من الجهات المحرومة التي نبعت منها موجة الثورة الأولى والتي سرعان ما حولوها إلى شعارات هدفها توظيف قضايا الفقر والتخلف بدلا من السعي لعلاج أسبابها التي تحالفوا مع أصلها.
لكنهم مع ذلك أكثر الناس ولاء للاغتراب (التنكر إلى الذات) ولخدمة مصالح البرجوازية بالتحالف مع بقايا النظام المستبد والفاسد وقياداتها الخفية والعلنية (عقدة نقص إزاء البلدية الذين يستغلونهم حطب معركة).
لذلك فقد صاروا برعونة عجيبة في خدمة سيد سادتهم أعني الاستعمار بأن حولوا مساهمتهم في الثورة حربا على شروط التحرر من التبعية (تصورا منهم أن اليسار يعتبرهم يسارا وهم عنده عسار لا يسار) بشعارات مفادها في الحقيقة مناقض تماما لما يغالطون به الشعب إذ يدعون أنهم حراس الثورة.

اجعلي تونس طيارة يا طيارة

لن أطيل الكلام على هذه السيدة وسأترك قضيتها لتخريف ماضغي القشور لأحلل المسألة التي تعنينا هنا. سأكتفي بشيء من الممازحة إن صح التعبير انطلاقا من كلام لها سمعته مسجلا. ومنه هذا الطلب في شبه العنوان: فهي تنوي جعل تونس طيارة. ومن ثم فهذه الكفاءة العالمية التي هي "طيارة" في ما لا أدري من الفنون تنوي أن تصبح رئيسة رؤساء بلديات المدن السياحية لتنظيف تونس الخامجة وجعلها طيارة ربما في الرقص أو في اللغة "المالطية". فلندع لها بالتوفيق لتحقيق رفاهية السواح من فقراء أوروبا وعواجيزها وفي زادها إضافة إلى كفاءتها ما يمكنها أن تستثمره مما مكنها منه معارضوها بغير قصد منهم طبعا:
فهم بهذه الحملة رشحوها للنجومية الدولية بفضل هذه المعركة السياسية الدنكيشوتية.
إذ هم أمدوها بالعصا السحرية لكل بما تحلم به كل النخب السفيلة والقيادات العميلة.

منطق الانتخاب والاستثناء في منطقتنا

ولنأت الآن إلى الظاهرة العامة التي ليست قضية هذه السيدة إلا أحد أعراضها الثانوية. فالمعلوم أن تسويق النخب في المناطق التابعة سواء كانت سياسية أو فكرية وشرط النجاح سواء كان اقتصاديا أو سياسيا في المستوى المحلي لأنظمتنا التابعة أو في المستوى الدولي الذي هو بالجوهر نظام تابع وكذلك ضديدهما أعني الاستثناء من النجومية والفشل السياسي والاقتصادي في المستويين نفسيهما مضاعف بالنسبة إلى منطقتنا العربية الإسلامية وله صلة جوهرية بالكاريكاتور الذي فرضوه صورة لمقومات حضارتها صورتها المشوهة:
فهو إما تسويق سلبي بتجنب الانتساب إلى الحضارة العربية الإسلامية انتساب الواثق من ذاته نأيا بالنفس من الاستثناء مما تجود به مكرمات المؤسسات الممولة للحوار الدولي حول طرق تشويه الإسلام والمسلمين في العالم بل وفي عقر دارهم.
أو هو تسويق إيجابي بالتفصي من هذا الانتساب خوفا من تهمة الظلامية والتكفير والإرهاب التهمة التي تيسر البروز في الساحة الدولي لنخب الثورة المضادة وخاصة منذ العودة القوية للأنظمة التي وقعت عليها الثورة بفضل الانقلاب العسكري في مصر.

لذلك فإني أطلب العذر من القراء وأسائل المحتجين على هذه السيدة:
كيف تتجاهلون حقيقة المبدأين اللذين وضعهما الرابوع المقدس لتكوين الحكومة والذي صرنا رعاياه مع السفارات التي تحرص على إنجاح الثورة المضادة؟ وكيف تهاجمون سيدة لا تمثل ظاهرة شاذة خاصة بعد أن فضحت الانقلاباتُ على الثورة الجميع؟
ألا تبين جرائم السيسي أن الشرعية لا معنى لها لأن النخب العربية يمكن أن تستعيض عنها برضا الاستعمار وذلك منذ ما يسمى بالاستقلال الذي لم يكن في الحقيقة إلا تأسيس شروط الاستعمار اللطيف بديلا أذكى من الاستعمار العنيف؟
وهل يوجد من هو أقدر على تحريك رايه العام أو تجميده فضلا عن القدرة على الابتزاز بتقطير المساعدات لدويلات كان الهدف الأول من تكوينها هو جعل الأمة بالجوهر تابعة حتى في قوتها اليومي؟
ثم ألم يصبح المعيار الأكثر نجاعة في انتخاب الحكام هو القدرة على التسول وتمتين عرى التبعية بفضل هذه العلاقات مع رب العالم الجديد بحيث إننا صرنا رعايا لممثليه وعيالا على فضلاته ومصبا لنفاياته ولكفاءاته المستوردة؟

إن ذينك المبدأين السلبي والإيجابي يقتضيان إذن أن يكون الوزراء بهذه الصفات حتما حتى يحققوا شروط الرضا من الممسك بمصير الانتخاب وبأداة رشوة النخب العميلة للشعوب تنويما لها بالعيش التابع و إلهاءً عن الثورة الحقيقية التي تحرر من الحاجة إلى التسول الدائم (بمجرد تنصيب الحكومة الصندوق الدولي عملية التقطير للعيش الاصطناعي لدويلات جعلت لتكون تابعة):

ينبغي أولا أن يستمدوا الاعتراف بكفاءتهم إن لم يكن من المستعمر نفسه فعلى الأقل بمعاييره التي صارت المقياس الوحيد للكفاءة عند نخب لا تفهم أنها بهذا الموقف ذاته تثبت أنها متخلفة عمن تجاوز مستعمرها كما نبين بعد قليل: فليس الوزير هو الذي يحقق وظيفة المجال الذي هو وزيره بل كل العاملين فيه وليس الوزير هو الذي يحدد سياسة علاج مشاكل هذا المجال بل ميزان القوى السياسي ومدى استقلالها عن الإرادات المفروضة.

وينبغي ثانيا أن يصحب الكفاءة - وهي ليست محل نقاشنا لأنه من السخف تصور غيرهم غير كفء لمجرد أنه ليس مستوردا أو تصور الكفاءة وحدها قادرة على تحقيق المعجزات ما لم يكن كل جهاز العمل في المجال ذاته بلغ درجة الكفاءة الضرورية وخاصة أخلاق العمل - ولاء ما إن لم يكن للمستعمر نفسه فلنموذجه الحضاري الذي يعتبرونه ممثلا للنجاح في حين أنه في أزمة. لذلك فمباشرة بعد خروج حكومة الترويكا تغيرت الصورة دون أن نرى أي إنجاز بعد للكفاءات المزعومة.

لذلك فالانتخاب الذي يحكم في هذه الحالات معلوم الأصل ولا يعزب عن ناظر أحد إلا إذا كان أعمى البصر والبصيرة. فهو خاضع بالأساس لمعايير الوزارات السيادية للبلاد التي تصدر لنا الكفاءات المزعومة. فليس من الصدفة أن يكونوا إما من خريجي مدارسها أو من مرشحي مخابراتها أو منهما معا. لذلك فلا معنى للتركيز على سيدة قد تكون مظلومة. لكن لها كبير العزاء. فهذا الظلم الممكن مربح في هذه الحالة.

فالكثير من زملائها سيعتبرونها محظوظة لأن هذه الحملة الغبية من اليسار ومن تبعه من الأغبياء سيتبين لاحقا أنها فرصة توفر لها حظوظا سيحسدها عليها الكثير من نخب العرب الذين لا يتركون أي سانحة تمر من دون التذكير بأن تونس ليست إسلامية أولا بل هي يهودية قبل ذلك ولا تزال. ولا يستغربن أحد أن تصبح زيارة كنيس الغريبة أولى من زيارة مكة عند الكثير منهم لأنهم يعلمون أن الانتخاب المؤهل لمثل هذه المهام يخضع للشرطين التاليين:

فمبدأ الكفاءة مشروط باعتراف من بيده الحل والعقد في تحديدها أي برضى اللوبيات المعروفة. ولا أحد يسأل عن أي كفاءة يتحدثون ولا خاصة عن صلة الكفاءة بما ينتدب له المعين لها: فهل توجد كفاءة دون تحديد لمجالها؟ وهل من شروط الوزارة كفاءة أخرى غير الكفاءة الإدارية للبشر والأشياء مع المعرفة بشؤون البلاد وظروفها وطبيعة مشاكلها؟

ومبدأ الحياد مشروط باعتراف من بيده الحل والعقد في استثناء ممثلي قيم الأمة ومن ثم استثناء كل من استثناهم النظام السابق فيكون المنتخب بالضرورة من توابعه ومن المعادين للتيارات التي يراد لها أن تبقى مستثناة وذهب الكثير إلى اعتبارهم غير تونسيين. وأغرب ما في الأمر سذاجة جماعة اليسار والقوميين الذين أعماهم عداؤهم للإسلاميين ويزعمون محاربة التطبيع.

طبيعة الصفقة ودلالتها

وإذن فعندي أن ما دار حول هذه السيدة لغو. ولو لم يكن قصدي بيان سوء الفهم الذي يمكن أن يقع فيه الراي العام الثوري أو سذاجة المتعجبين مما لا يتضمن أي داع للعجب إذا عرف السبب لما كتبت في الموضوع. فظاهرة الانتخاب بالمنطق الذي وصفت أصبحت المجال الوحيد لطموح النخب. وهو مجال صار عاما. لذلك فإذا كان لتكوين الحكومة بهذه الطريقة دلالة فهي قد وفرت المناسبة لتحليل هذه الظاهرة: لا ينبغي أن نهمل الكلام على ما يترتب على المعيارين اللذين يجعلاننا نفهم حقيقة هذه الحكومة ومن ثم حقيقة ما يحاك للثورة.

والأهم من ذلك بالنسبة على شباب الثورة فتيات وفتيانا هو فهم معايير التقويم التي سادت منذ بداية الثورة لتثبيط العزائم والحط من شأن من اختارهم الشعب لرعاية شؤونه. فقد طفت ظاهرة أشبه بالفطر من تناسل الخبراء والمعلقين والإخصائيين في كل المجالات إلى درجة مذهلة جعلتني أحيانا أتساءل:
أين كان هؤلاء العباقرة لما كانت الحجامة تصول وتجول؟ لماذا كانوا يحكمون على الغالبية العظمى من وزراء الحكومتين اللتين لا تنتسبان إلى النظام القديم بعدم الكفاءة رغم أنهم لا تنقصهم المؤهلات الأكاديمية بل إن فيهم من هم خريجو جامعات غربية؟
لماذا يعتبرهم خبراء الحجامة ومفكروها "غفاصة" وناقصي خبرة رغم أن لهم ما للكفاءات الذين يأتون بهم الآن من التكوين والخبرة ؟.
أليست العلة الحقيقية هي أنهم كانوا فاقدين للمعيار الثاني: معيار شهادة الولاء ممن نصبهم خبراء هم بدورهم يستعملون في الحرب النفسية على الثورة التي يشتم منها بعض السعي للتحرر من التبعية؟

لم يعد أحد يشك في أن الحكومة الحالية لا تتميز بكونها حكومة كفاءات أو حكومة مستقلين. إنما هي حكومة سفارات وتابعين لمصالح الثورة المضادة. إنها ثمرة صفقة مشبوهة بين أركان مربع معلوم للجميع: أعني الاتحادين اللذين لا حياة لهما إلا بحلب الدولة لأنها هي الممول الأول وبواسطتها يحلب المجتمع والمواطن (العمال والأعراف) والرهان الأول للحزبين الأكبرين - أحدهما خوفا من تبعات الثورة وسعيا للخروج سالما من ورطة الحكم (النهضة) والثاني توطيدا للتبعية وسعيا للوصول غانما إليه (النداء).

وإذن فهذه الحكومة يمكن تعريفها بوضوح تام: فهي ليست حكومة كفاءات مستقلة بل هي حكومة وظيفتها طي صفحة الثورة واستئناف العهد السابق. ولو كانت النخبة السياسية تريد حقا استكمال مسار الثورة والوصول إلى انتخابات تخرج من يحقق أهدافها لما اتفقت على استبعاد أكثر الناس أهلية لقيادتها لإيمانه بها وسعيه إليها حتى قبل حصولها (الأستاذ أحمد المستيري) لمجرد خوفهم جميعا من الثورة وخوف من بلغ أرذل العمر من خسران ما يحلم به. وأكبر دليل هو تكوينها نفسه:

فالمناطق التي قامت بالثورة استثنيت أو تكاد من التمثيل فيها إذ قد تم الحفاظ على ما يمكن من ذر الغبار على العيون ما يعني أن الكفاءة لم يبق معيارها الاستيراد فحسب بل وكذلك من نسل أعيان النظام السابق ومنطقته.
واقتصر التمثيل على المناطق التي يعود إليها ما كان بيدها من العقد والحل قبل الثورة مع زيادة دور السفارات. والمعلوم أن الموحد بين ذلك كله هو يد المخابرات الأمريكية والإسرائيلية قبل كل شيء وبعده.

هل خرجت تونس من التبعية؟

تونس تزداد غرقا في التبعية: فهي ليست عائشة بحياة اصطناعية تحت ابتزاز تقطير المساعدات فحسب بل بلغت إلى الحد الذي صارت السفارات تختار لها حكامها وتحدد لها مقومات دستورها لتكون شعارات يحكم بها أصحاب التحضير المستبد وتجفيف المنابع. لم نخرج من نفس الظاهرة التي تسيطر على الموجة الثانية من الثورة والثورة المضادة:
فما يحدث في مصر بعنف العسكر و الصراحة.
يحدث في تونس بلطف المجتمع المدني و الوقاحة.

نحن أمام انقلاب صار فيه الحلف بين المجتمع المدني الممول أجنبيا والسفارات والإعلام الأجير العوامل المحددة لخيارات الشعوب. إنه انقلاب من جنس انقلاب السيسي وطباليه ومن لف لفهم في كل أصقاع الوطن العربي من عملاء و سفلاء حتى وإن كان لطيفا ولم يصل إلى عنف الجيش المصري. لكن الانقلابين في خدمة الثورة المضادة التي يقودها جماعة اللحاسين للغرب ولإسرائيل وللوبياتها في الغرب ولا أستثني من هذا الوصف من يتصورون أنفسهم ممثلين للثورة ممن يتوددون للوبيات الصهيونية في الغرب أو في السفارات للبقاء في الحكم أو للوصول إليه.

لكن الظاهرة الأخطر هي التي جعلت بعض النخب أكبر أمانيها أن توضع في موضع هذه السيدة أي أن تتوفر لها فرصة تقديم نفسها بوصفها مقموعة بسبب علاقتها بإسرائيل أو حتى باليهود من غير الصهاينة. فهذا يفتح لها أبواب المجد الدنيوي الذي تحلم به. وهذه السيدة لا أعرفها ولا أتهمها بشيء وهي قد لا تكون من هؤلاء لما بدا لي من اتصافها بالتلقائية والعفوية التي قد تكون متكلفة إمعانا في التمثيل الدال على الانتساب "للقافزين أو الهاي". لكن الحملة ستجعلها رمزا يحاكيه الكثير منهم – لأن من حاول ذلك قبلها سواء بالاختصاص أو بافتعال القضايا التنويرية - لم ينجح فينل مايمكن أن تناله.

فما ينسب إليها صار مطلب جل النخب الطموحة للعب دور محليا كان أو دوليا. فكلهم يتعامل مع إسرائيل وخاصة من كان منهم صاحب صوت مرتفع في الكلام على المقاومة والمقاطعة: والدليل أن كل من "يزنق" يتعلل بالدفاع عن حدوثة الحداثة رغم أنهم أكثر الناس تخلفا وجهلا بها وبمقاومة الإسلاميين وتخويف الغرب من التكفيريين والإرهابيين بمن في ذلك خاصة أدعياء المقاومة في الشام وتابعيهم من القوميين الذين فضحهم حلفاؤهم الممولين لحربهم على شعوبهم.

لذلك فإني أبشرها بأنها ستصبح نجما دوليا بفضل آلة الدعاية والبروباجندا الإعلامية العالمية التي يعلم الجميع من بيده حلها وعقدها. ولعلها لم تخطط لهذا النجاح لكنه تحقق لها. لذلك فستجد أن جل النخب ممن خططوا لذلك وهم كثر وخاصة بين الجامعيين من زاعمي التفتح حاسدين لها رغم نفاقهم بدليل مراوغاتهم في الكلام على طبيعة المشروع الذي يجعلهم أخطر على الأمة من العدو الواضح الإسرائيلي. فإسرائيل مهما فعلت لن تستطيع تخريب روح الأمة إلا بتوسطهم باعتبارهم معاولها الممكنة.

وأخيرا فإن ما جلب انتباهي في تعابير هذه السيدة رد فعل على الحملة أنها من المتمكنين في لغة تونس الجديدة التي تشبه اللغة المالطية والتي بدأ التدرب عليها مع بداية نظام ابن علي: خليط من العربية والفرنسية و"الوكوكة" الممزوجة بابتسامات التغنج وهو مما يناسب رئاسة الخدمات السياحية خاصة وقد يكون لفن الرقص الخليع دور مهم في بلاد يراد لشبابها أن يكون طموحه لا يتجاوز فن النواد للعجائز أوروبا. وأظن أن هذه اللغة الجديدة أو المالطية هي أيضا من مزايا الانفتاح و "المدرسة الجمهورية" التي وضع أسسها كتبة الثورة الهادئة والتنوير الحداثي. وبعض ما سمعته من كلام السيد رئيس الحكومة نفسه في المجلس جعلني أعتقد أنه كفاءة بالمعايير التي سبق ذكرها وأنه من هواة هذه اللغة المزيجة التي يمكن أن يتعلمها كل هاو من نسمة ومن كل الإذاعات التي أنشأتها أسرة ابن علي وليلاه.

الكفاءة وما أدراك ما الكفاءة

كلما قلبت هذه الخرافة لم يتبين لها الفرق بين رأسها وذيلها. فالكفاءة بالجوهر تعني الاختصاص في مجال محدد. لذلك فلا يمكن الكلام على كفاءة في ما يعم مالا يتناهى من المجالات كالحال في السياسة حيث لا يتعلق الأمر بكفاءة بمعنى التخصص الأكاديمي بل بقدرة وحنكة وتسمى عادة بالحكمة العملية التي لا يمكن أن تتوفر في من يستورد من مجال أكاديمي من دون أن يكون صاحبها قد مر بالعديد من مراحل الممارسة العملية في سياسة الأشياء والبشر مع المعرفة الدقيقة بمعطيات الوضع والوقائع التي عليه علاجها.

فهبنا استغنينا عن شرعية التمثيل أساسا لمهمة الوزارة التي هي بالأساس مسؤولية أمام الناخب أو الحزب الذي عينه بموجب تكليف الناخبين له في ضوء برنامج معين فأي معنى للكفاءة الأكاديمية من غير الخبرة السياسية التي لا تحصل إلا بالممارسة ممارسة القضايا المطروحة في مجال العلاج السياسي و ممارسة قيادة العاملين عليها ممن يصبح تحت مسؤولية الوزير مع شيء من الموهبة والحكمة العملية أعني طبيعة العلاج الجامع بين الحلم في التعامل مع المرؤوسين ومع هذه المعضلات المطروح للعلاج والدهاء في التعامل مع الخصوم و بالاطلاع المستبصر بالمآلات والمعرفة بالحقائق والوقائع والإمكانات.

ولا شك أن خرافة الكفاءة في الوزارة التي تتصل بالشهادات هي من علامات التخلف والجهل الموروث عن الإيمان بالزعيم الملهم وهو أمر موروث عن النزعة اليعقوبية الفرنسية. فالكثير من الزعامات الفرنسية تسخر من الحكام في الولايات المتحدة لأن الأمريكان لا يشترطون التبريز في حكامهم أو التخرج من مدرسة الإدارة أو من مدرسة السياسة الباريستين ويقبلون أن يكون ممثلا (ريجن) أو حتى جاهلا ومشعوذا مثل (بوش الابن) لأنهم لا يتصورون الرئيس حاكما بأمره ومطلق الكفاءة بل هو عندهم رئيس فرق عمل من أهل الخبرة والمشورة يديرها بوصفه ذا شرعية مصدرها تمثيل إرادة الناخبين.

أما كون المنتخب للحكم حاصل على كل شهادات العالم لكنه "بقر الله في زرع الله" سياسيا أعني خالي الوطاب من هذه الخصال المتعلقة بالشرعية وبالدراية بتسيير الأشياء والبشر في المعترك السياسي أعني من الحكمة العملية فإن ذلك سيكون بداية الفشل الذريع لأنه دليل على تصور متخلف للحكم وخاصة لشكله الحديث كما نراه في أكثر الأنظمة الديموقراطية رسوخا. فلا علاقة للاختصاص الأكاديمي في إحدى المعارف بوظيفة الوزير مهما كانت صلتها بمجال الوزارة. فمسؤولية الوزير ليست تقنية في المجال الذي يديره بل هي مسؤولية سياسية والمسؤولية التقنية تعود للبشر الذين يشرف الوزير على تحقيق برنامج معينهم بفضل عملهم هم لا عمله هو. والاعتقاد في عكس ذلك من دلالات الغباء وسوء الفهم لوظيفة الوزير:

فليس الوزير هو الذي سيقوم بالأعمال التي تديرها الوزارة وإلا لكان من الواجب أن يكون وزير الدفاع خالد بن الوليد أو نابليون إلخ.. ولامتنع أن يكون وزير الدفاع مدنيا في حين أن القاعدة في الديموقراطيات أن وزير الدفاع من الأفضل أن يكون مدنيا لا عسكريا.

والخصال المطلوبة من الوزير أيا كان مجال اختصاص الوزارة هو الحكمة العملية والالتزام بخيارات سياسية معنية هي التي لأجلها انتخب حزبه لتسيير البلاد مدة معينة من الزمن مع القدرة على إدارة الأشياء والبشر مثله مثل رئيس الجوقة في أي عمل يقتضي النظام والترتيب.

وهذه الخصال لا يمكن أن يتعلمها المرء بالشهادات التي لها صلة المجال الفني للوزارة - ومعنى ذلك أن وزير الفلاحة ليس من الضروري أن يكون فلاحا حتى وإن أرادوا للسياحة وزيرة سائحة أو إن صحت المعلومات المتداولة راقصة - لأن هذا المجال لا يقوم بتحقيقه الوزير بل آلاف المواطنين. ولنأخذ مثال وزير التربية هل بالضرورة أن يكون حائزا على شهادات في كل الاختصاصات التي تديرها الوزارة: فهو سيدير جهاز معقد فيهمئات الألاف من الإداريين والمعلمين في كل الاختصاصات والتلاميذ وحتى الأوساط الاجتماعية المحيطة بالمدارس. وهذا جهاز لا يمكن الكلام فيه على التكوين الأكاديمي وحده: فلا هذا التكوين بالشرط الضروري ولا هو بالشرط الكافي.

لكن الاختصاصات الفنية ضرورية لواضعي البرامج الإصلاحية وهم بالضرورة فريق عمل متعدد الاختصاصات بحيث لا يمكن أن يكون الوزير هو القائم بذلك وذلك في حالات الحاجة إلى الإصلاح الجذري بعد فترات الانحطاط كالتي تعاني منها مدارسنا حاليا ويكون ذلك خطة لفترة طويلة وليس لأقل من سنة انتقالية. فالعمليات التربوية تقاس بالعقود والوزارة وخاصة هذه تقاس بالشهور. ولو صح أنه ضروري لكان رئيس الوزراء مختصا في كل المجالات الوزارية ولكان كافيا لكان مستغنيا عن الخبراء واللجان المختصة.

هل صرنا رعايا راعيي الحوار؟

وأخيرا فإن الوزراء إذا لم يكونوا معبرين عن إرادة الشعب في ضوء برنامج قدم له فانتخبهم من أجل إنجازه فإنهم يكون مغتصبين لهذه الإرادة إلا إذا اقتصر دورهم على مجرد التسيير الإداري للموجود دون أدنى تدخل في سياسته بالمعنى الحقيقي لكلمة سياسة أعني تحقيق برنامج يريده شعب في لحظة من لحظات حياته ومن أجل إنجازه كلف جماعة أعطاها ثقته لتحقق هذا البرنامج. لكن هذه الوزارة لم يخترها الشعب ولا تمثل جماعة يثق فيها الشعب فضلا عن كونها ولدت من رحم غير طبيعي لأننا صرنا بمقتضى هذا الرحم الجديد رعايا راعيي الحوار:
فبدلا من أن يكون السياسي هو الذي يحدد سياسة البلد باعتباره نائبا عن الشعب بعقد البرنامج النجاح في الانتخاب.
صار النقابي الذي يمثل مهنة هو الذي يسوس البلد. فلقل إذن: إنها حكومة الاتحادين والسفارات الأجنبية ولا علاقة لها بالإرادة الشعبية.

لذلك فبرنامجها واضح المعالم وهو من جنس برنامج السيسي: تحميل حكم الإسلاميين القصير مسؤولية كل جرائم الستين سنة الماضية بمسحها فيهم ومحو كل ما تحقق خلال حكمهم للعودة إلى نفس الجرائم. ولعل أكبر جريمتين سنراهما تتحققان تحملان عنوانين رمزيين هما تحييد الإدارة والمساجد:

فتحييد الإدارة يعني العودة إلى إقصاء كل إسلامي من حق المواطنة: ذلك أننا حتى لو فرضنا أن الإسلاميين وظفوا آلافا منهم خلال فترة حكمهم فإن ذلك لا يساوي واحد في المائة من حقهم لو كانوا حاصلين عليه طيلة فترة إقصائهم من هذه الحقوق. فلو فرضنا مثلا أن الإسلاميين في تونس يمثلون عشرة في المائة من الشعب وصدقنا أن الدولة كانت تحدث سنويا 50 ألف موطن شغل ألا يكون من حقهم أن يكون لهم خلال الثلاثين سنة الأخيرة فحسب ما يدعى أنهم وظفوه؟ إن كل من يسكت على هذا الشعار مشارك في الجريمة التي ستحصل لطرد كل من يخافهم أزلام النظام وعملاؤهم من اليساريين والقوميين المتحكمين في راعي الحوار المزعوم.

وتحييد المساجد يعني العودة إلى تجفيف المنابع ومن ثم منع حرية الرأي على الإسلامي إذا سلمنا أن المساجد هي المكان الوحيد الذي بقي لهم للتعبير عن رأيهم في أوطانهم. فإذا كان يحق للصحافي أن يقول ما يريد في الدين وفي كل شيء ويحق للمتفاكرين وللمتثاقفين باسم حرية الضمير وحرية الرأي وحق الاختلاف إلخ... من الشعارات أن يقول ما يريد فلم يمنع على الأيمة أن يقولوا مايريدون؟ هل نحن أكثر دراية بدور الدين من الأمريكان حيث يحق لكل كنيسة أن تصدع برأيها في المسائل العامة دون أن يمنعها أحد ؟ وهل تونس وخاصة مصر فيها دين واحد؟ لماذا تسكت الدولة على الكنيسة والكنيس ولا تتجرأ إلا على المسجد؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق