أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2014.04.26
:تمهيد
هذه رسالة إلى أولي الألباب من الشباب عامة وإلى من هم منهم مؤمنين بحماية الثورة ورعايتها خاصة لإيمانهم باستئناف دور الأمة التاريخي : الطموح الريادي للشباب المؤمن برسالة كونية. وهم كثر في كل التيارات الفكرية والسياسية لأن الطموح الجامع أقوى من الجنوح القامع خاصة إذا خوطبوا بما يحررهم من العاهة التي نحاول وصفها في هذا البحث. فدخان المناكفات السياسية الكثيف وغبار العدوات العقدية العنيف لا يمكن أن يحولا دونهم وتجاوز سطح الأحداث والنفاذ إلى ما يخفيه من معان ودلالات: كل شعارات الثورة التي أنشدها الشباب في حركاته العفوية في الظاهر والمعبرة عن أعماق صلتهم بتاريخ حضارتهم في الباطن تترجم عن ثورة روحية وخلقية : الطموح للقيام بالدور الكوني والتحرر من التقزيم الذي فرض عليهم أفرادا وجماعات.
جمعت ثورتهم الحالية في هذا الترجمان التاريخي لطموح الشباب طموحه للخروج من هامش التاريخ ومن التفزيم الأبدي الذي ينتج عن الوضع في موضع الخاضع للحتميات المنتجة للتبعية فهما جديدا لدور الإنسان في علاقته بالقدر ولدور الشعوب في تحديد مصيرها (بيتا الشابي) ومن ثم فهي لا تكتفي بمباشر الحاجات بل تطلب سامي الغايات وتدرك مؤثر الأدوات في سعيها لتحقيقها بأسبابها. ولا يعجبن أحد من توجيه الخطاب إلى الشباب فتيات وفتيانا دون سواهم. فهم الوحيدون الذين يمكن ألا يكونوا ممن قد انطبع فيهم الأثر الثابت لثقافة الفساد والاستبداد الموروثة عن الانحطاطين :
الانحطاط الذاتي الذي حول قيم الإسلام إلى قيم الجاهلية والبداوة.
الانحطاط المستورد الذي حول قيم الحداثة إلى قيم الدهرية والغباوة.
لذلك فرجائي من الشباب فتيات وفتيانا أن يتحلوا بالصبر لقراءة هذه المحاولة. فلا يمكن أن يكون الطموح كونيا وذا دلالة فلسفية ودينية والسبيل اليه مجرد جمل متناثرة من جنس ما يتسع إليه التويتر أو الكلام الصحفي الراقص على سطح الشائعات والثرثرة الإعلامية الأجيرة. فالشباب القادر على التأمل النظري والتدبر الاستراتيجي هو الأمل الوحيد لتحقيق الطموح الذي يضفي على حياتهم معنى فلا يبقيهم كما يراد لهم خدما ونوادل لمتقاعدي الفضلات السياحية ولراقصات الحداثة المسيخة.
ذلك أني لا أومن بالإصلاح اليتوبي في غير مكان ولا بنشأة ثانية للإنسان خارج واقعه التاريخي ولا خاصة بالتملص الذي يدعي التفلسفي بمضع موضات فكرية تتوالي بتوالي الموضات في صحافة التقريب الجمهوري. فاليتوبيا الفلسفية التي يريد صاحبها إعادة البناء انطلاقا من الصفر وتنفي الأثر الذي لا يمحي للتراكم الحضاري في الأذهان وفي الأعيان لم تعد مما يصدقه عاقل فضلا عما تتأسس عليه من أحوال نفوس القائلين بتقديم المونادات الفردية على الهويات المتجاوزة لما تؤسس له أنانيات المرتدين إلى صَغار الإخلاد إلى الأرض. وإصلاح الأجيال التي رضعت قيم الانحطاطين بات أقل قابلية للتصديق من أي يتوبيا إذ كما أسلفنا فإن الكثير من كهول النخب وشيوخها النخب التي من هذا الجنس باصنافها الخمسة أو جلها على الأقل لم يعودوا ممن يعول عليهم في استئناف الأمة لرسالتها (النخبة السياسية التابعة والنخبة الاقتصادية الطفيلية والنخبة التربوية شبه الأمية والنخبة الثقافية الماجنة والنخبة الجذرية المؤسسة لحصانة الأمة الروحية الضائعة في شكليات العبادات من دون معانيها). إنهم مستعدون لبيع كل شيء من أجل أدنى الحاجات النباتية والبهيمية بعد فقدان كل طموح : إنهم عبيد المظاهر.
لذلك فطلبي من الشباب ألا يتعجلوا الفهم المقصور على سطحيات الدعاية التي سداها ولحمتها الشائعات والإرجاف وأن يغوصوا إلى الأعماق لفهم نظرية المؤامرة وأهدافها. وحتى المتعجل من الشباب تعجلا يجعله لا يطيق صبرا على التدبر اطلب منه أن يقرأ على الأقل الملخص الوارد في صدر كل فصل من هذا المقال. فالهدف من المحاولة هو بيان المغالطات التي يخفيها القول بنظرية المؤامرة والقول بنفيها في آن كلاهما يخفي ما علينا تحديد طبيعته. فكلا الموقفين يجعل كلا صفي المعركة الحالية بين أبناء الأمة لا يتجاوزون سطح الأحداث بدعوى اكتشاف أعماق هي من مبتذلات القول السياسي بل هي مجرد تبرير للاقتتال الأهلي.
ذلك أن نسبة الخلاف بين الصفين إلى صف ثالث يوصف بكونه العدو المطلق نسبة تحول ل دون التمييز بين موضوع الصراعات المشروعة داخليا وما يتعالى عليها من مقومات حصانة الأمة خارجيا مع رد الصف المقابل إلى مجرد أداة لهذا الطرف الثالث إلى حد ينفي وجوده الذاتي فلا تؤخذ دوافعه الذاتية بعين الاعتبار. وذلك هو مصدر نفي علل الصرراع الداخلي وحصره في الصراع الخارجي فيصبح الجميع أداة لهذا الطرف الثالث الذي يصبح كلا الصفين محققين لاستراتيجيته: فتبرير الاقتتال الداخلي بنسبة مطالب أحد الصفين إلى طرف ثالث هدفه الأول والأخير نفي الصف الثاني . ولعل أفضل مثال على ذلك موقف المجرمين الذين يبررون ذبح الشعب السوري بالتصدي لمؤامرة طرف ثالث جاعلين مقاومة إسرائيل المزعومة كافية لإثبات شرعية مواقفهم النافية لحقيقة علل الثورة عليهم فيلغون كل إمكانية لفهم العلل العميقة لما يجري في سوريا ويحولون دون فهم طبيعة المؤامرة الحقيقية التي تستهدف الجميع.
موضوع المؤامرة هو المشكل
فعندما يصبح القول بالمؤامرة الغربية تعليلا لموقف يدافع عن الاستبداد والفساد في الأنظمة الحاكمة باسم الدين والأصالة أو باسم القومية والحداثة تكون النتيجة إخفاء أسباب الصراع الموضوعية بين أطراف المعادلة الداخلية وإغفال طبيعة ما تستهدفه المؤامرة.وذلك هو هدف أصحابها بالذات أعني دفع الجمع إلى جعل التهديم الذاتي وكأنه مقاومة للعدو في حين أنه تحويل لكل الصفوف إلى معاول داخلية للقيام الذاتي: أن يصبح كل صف من المعادلة الداخلية يعامل الصف المقابل بوصفه عميلا وأن يصبح القتال بين الصفين وكأنه قتال للعدو المطلق في حين أنه تحقيق لهدفه الأساسي. فجعل الصفين يغفلان حقيقة الهدف العميق للمؤامرة يلغي كل إمكانية لاستعادة الوحدة بين الصفوف في المستوى الذي تتعلق به المؤامرة بحيث تلغى الخلافات السوية وينسى العدو الحقيقي لأن المعارك الجانبية تتحول إلى مليهات عن المعركة الرئيسية التي ينبغي خوضها ضد العدو الحقيقي : من يحول دون الأمة واستعادة شروط القيام المستقل أعني وحدة المكان شرط القوة المادية ووحدة الزمان شرط القوة الرمزية والاستناد إلى الحصانة الروحية شرط وحدة الذات .
هدف المحاولة
سأحاول تقديم بيان لهذه الآلية يكون مستندا إلى الدليل المنطقي الصارم فضلا عن الشواهد التاريخية البليغة التي تثبت أن نظرية المؤامرة في تبادل التهم خلال المعارك الداخلية يمكن أن تكون آلية يستعملها العدو ليحول دون قوى الأمة والاعتراف المتبادل بينها من خلال تحديد المميز الجوهري بين الخلافات المشروعة والخلافات غير المشروعة في الجماعة الواحدة.
فمن دون هذا التمييز يمتنع بيان الحد المقبول من الخلاف الداخلي بين قوى الأمة الواحدة شرطا في تحديد شروط الحسم الذي يحقق الوحدة الحامية والراعية للجماعية دون أن تلغي الخلاف المشروع بين اجتهاداتها: ففي حالتنا الراهنة لا بد من الاعتراف أولا بأن الصدام الحضاري بين الحديث والقديم في حضارتنا لم يعد خارجيا مقصورا على صراع بين المسلمين والغرب بل هو صار داخليا ولا يمكن تجاوزه فضلا عن إلغائه. لذلك فلا من الاعتراف به لبيان أن الخلاف لم يعد بين من يريد التحديث ومن يرفضه بل هو بين من يريد التحديث المستقل والتحديث التابع. فلم يعد أحد من التأصيليين يعارض التحديث بل المعارضة تتعلق بخلطه بالاندماج في أحد أشكال التحديث المشروط بالتبعية.
وهذا يعني أن الخلاف المشروع هو الخلاف حول السبل التي تحقق ذلك أي التي تحقق شروط التحرر من التبعية في المقومات المادية والمقومات الرمزية لقيام ا لأمة. والمعلوم أن ذلك يقتضي إبداع قيم حضارية تتعالى على أعيان القيم في الحضارتين المتصارعتين للوصول إلى ما فيهما من كلي مشترك هو جوهر القيام المستقل أي مقومات حيوية الفاعلية الحضارية للأمم :
والمقومان الأولان هما شرطا الاستقلال المادي أي : 1-شرط القدرة أو الاقتصاد المبدع لما يعيل الإنسان لئلا يبقى عبدا للعاجة النباتية والحيوانية 2-وشرط الإرادة أي السياسة المبدعة لما يحمي الإنسان ويمده بالطموح إلى الرئاسة والاستقلال.
والمقومان الثانيان هما شرطاط الاستقالال الرمزي أي : 3-شرط العلم أو التربية المبدعة للإنسان ولأدوات سيادته على ذاته وعلى محيطيه الطبيعي والثقافي 4-وشرط الحياة أو الثقافة المبدعة للمعاني التي تجعل الحياة إنسانية بحق.
والمقوم الأصل والمؤسس لكل الشروط السابقة أي : 5- ما يسميه ابن خلدون الرئاسة الإنسانية بالطب. إنه جوهر الطموح الوجودي الحقيقي لأن يكون ذاتا حرة لا تتبع غيرها ولا معبود لها إلا الله. وهذا المقوم الأصل هو المستهدف مما يسمى مؤامرة على المسلمين لئلا يستأنفوا دورهم الكوني: الطموح في توسيع الأفق الإنساني وتحديد قبلته من جديد. فالهدف الأول والأخير للاستعمار هو منع الشباب العربي والمسلم من استرداد شرط تحقيقه الطموح الجوهري الذي يستمد معنى وجوده منه. وذلك ما نعنيه بالتحرر من الانحطاطين أعني مما شاب الحضارتين المتصارعتين من انحطاط :
الانحطاط الذاتي الذي يمكن اعتبار شعار الثورة الأول دليلا على تخلص الشباب منه : فبيتا الشابي تمثلان العلامة القاطعة على قراءة ثورية لمفهوم القضاء والقدر ومن ثم فهي استرجاع لدور الإنسان في صنع التاريخ الذي يعد الانحطاط الذاتي اسما لفقدانه. ومن ثم فالطموح قد عاد لاستئناف الدور التاريحي الكوني للأمة.
والانحطاط المستور الذي يمكن اعتبار شعار الثورة الثاني "Dégage" دليلا على تخصل الشباب منه : فطرد ممثلي الاستعمار من الحكام أصحاب التحديث الفاسد والمستبد يعني أن الشباب أدرك أن التحديث السطحي الذي يمثله الخواجات سواء كان من حكام العسكر أو حكام القبائل لا يمكن أن يحقق طموحهم.
مشغبات الفهم لنظرية المؤامرة
لكن هذا الفهم يعترضه الكثير من المشغبات بعضها ناتج عن الانحطاط المستورد لسوء فهم الفكر الغربي الحالي والبعض الآخر عن الانحطاط الموروث عن سوء فهم ماضينا. فالمضغ غير المستوعب لفكر مبدعوه قصدوا به العكس تماما لما فهم منه من يحاكي موضاته ما بعد الحداثية خاصة إذا وصلنا ذلك بأصول هذه الفلسفات التي حدت من مركزية العقل فأعادت مركزية الأسطورة في الوحدات الحضارية تأسيسا على السرديات الجمعية التي تصبح في هذه الحالة دينية بالأساس والجوهر. وهم يعتمدون عليها ليؤسسوا عليها شروط القيام المستقل أمام عماليق العولمة الحالية : الأسطورة والسردية هي المؤسس البديل من العقل في فكر ما بعد الحداثة. وبدلا من المشاركة في فكر يبدع سرديات مؤسسة لشروط القيام المستقل تحول الفهم الرديء إلى الكلام على نهايات الأولى دون فهم البديل الذي يقوم بدور الثانية في كل بناء حضاري في نشأته الأولى وحتى في استئنافه التي هي دائما نشأة ثانية. ولهذه العلة نرى الأمم العظيمة التي وضع مفكروها هذه النظريات يعودون إلى شروط استئناف الدور بالاستناد إلى تاريخهم الروحي والحضاري فيستأنفون تاريخ المجال الذي حددته روما ومسيحية القرون الوسطى : إذ لا شيء يوحد أوروبا غير هذين المصدرين لكونهم قوس قزح من اللغات والثقافات المختلفة بل والمتناحرة طيلة جل حقب تاريخها.
أما أولئك الذين يباهون بما يتصورونه تجديدا في الفكر الفلسفي مدعين أن الفلسفة لا تكون فلسفة إلا إذا نأت بنفسها عن السياسة فهم من القواعد أو المخلفين الهاربين إلى تصوف عصر الانحطاط إذ نكصنا من حماة الثغور أو المرابطين إلى دراويش القبور. فهؤلاء تراهم يبثون بين الشباب من الخليج إلى المحيط أفكار الاستقالة التاريخية لتنويم الشباب ويثنوه عن الثورة والطموح التاريخي فيجعلوهم مثلهم راضين بالفساد والاستبداد بل ويصفقون له بمجرد حصول زعيمهم على ما كان يطمع فيه من ترضيات لنفسه المريضة. لذلك فلا ينبغي للشباب أن يصدقهم في زهدهم الكاذب. فما من فلسفة تحترم نفسها نفت العلاقة الجوهرية بين الفلسفة والعمل في مستواها النظري وبين الأخلاق والسياسة في مستواها العملي ومن بحث متوصل في الابداعين الروحي والجمالي والسبل التربية لجعل الإنسان قادرا عليهما لعلاج المستوى العملي استنادا إلى المستوى النظري منها.
إن فالفكر الفلسفي غربيا كان أو شرقيا قديمه وحديثه وحتى ما بعد حديثه لا فاعليةله تاريخية إذا لم يسلك سبل التأثير التاريخي الذي يتنافى غايات وأدوات مع هذين الموقفين المتقاعسين سواء كان التخلي بدعوى فكر ما بعد الحداثة أو بالفكر الصوفي : فالعلم الفاعل (الرياضيات) والعائد على فعله (المنطق) هما الفاعلية النظرية الوحيدة للفكر الفلسفي والعمل الفاعل (السياسيات) والعائد على فعله (التاريخ) هما الفاعلية العملية الوحيدة للفكر الفلسفي. ومن دون ذلك تكون الفلسفة دروشة. والفاعلية التاريخية لا تكون إلا صيرورة معالم ومآثر هذه الأبعاد الأربعة ووحدتها وكلها صنيعة التراكم التاريخي المحدد للطموح الجماعي الذي بالإضافة إليه يتحدد كل فكر مهما تفردت منطلقاته. إنها فاعلية جماعية بالجوهر مضمونا وشكلا غايات وأدوات حتى عندما تتعين في الإبداعات الفردية حوامل لحدوثها ا لأنها تراث حضاري لا يختلف كثير عن الميراث العضوي الذي يمكن أن يكون فيه للأفراد دورالحوامل للقاعدة الشذود المنتجين للنقل النوعية. لكن الشذوذ لا يؤثر إلا نسبته إلى القاعدة وبتحوله إلى ما يشبه الخصائص المتحولة والمساعدة على التكيف فتحفظ في المسار الجماعي للنوع الحضاري قياسا على النوع العضوي. ومن ثم فهي مشروطة بمجالات فاعلية الجماعات أعني حجم المكان شرطا في القوة المادية ووزن الزمان شرطا في القوة الرمزية وطاقية هذه المجالات الأربعة شرطا في القيام الذاتي المستقل أو الهوية الحضارية التي يدعي البعض أن الفكر البشري قد تجاوزه.
الشباب مدرك لما يعتمل في اللحظة التاريخية
لكن الشباب فتيات وفتيانا ما زال الخبط الإعلامي والاستعلامي المسيطر على الساحة حول دور المؤامرة في مجريات الربيع العربي ومن يمثلها يحيرهم لأنه يجعل الفهم يتردد اتهام ممثلي الثورة واتهم ممثلي لثورة المضادة بالعمالة لنفس اللاعب في الساح الدولي ومن ثم بين الإلغاء المتبادل بين صفي المعركة الأساسيين فلا يمكن من إدراك المستهدف بالمؤامرة ما طبيعته. وبذلك يبقى هذا اللاعب محركا للجميع تحريك الدمى ما ظلت غير مدركة لهدف المؤامرة : المعارك الزائفة البديلة من المعركة الحقيقية التي يخشاها لكونها هي شرط توحيد الصفوف وتحررها من دور الدمى في لعبته.
فرغم أن القول بالمؤامرة متقدم على الثورة فإن بداهة كونها قد قامت عليها ليست كافية لإزالة هذه الحيرة عند الشباب خاصة وقد أصبح الخبراء المزعومون بعدد شعر الرأس ولكل تأويلاته وتفاقهاته تجعل الصفين ينفي عن الثاني صدقه ويعتبره أداة من أدوات المتآمر. لذلك فنسبة دور المؤامرة إلى الثورة المضادة في سعيها لاستعادة ما تحررت منه الأذهان بفضل الثورة علها تحول دون انتقال التحرير إلى الأعيان ليست من المفروغ منه ولا بالدليل الكافي.
وحتى كون الأنظمة الفاسدة والمستبدة والتابعة بنوعيها (القبلية والعسكرية) ونخبها بنوعيها (علماء السلطان وعملاء الشيطان) تبدو للعين المجردة أداة المؤامرة الرئيسية فإن ذلك لا يكفي لتحديد طبيعة هذا الدور فضلا عن بيان الخيوط الأساسية لاستراتيجية المتآمر المفترض. ورغم أن ما يجري في الساحتين المصرية والتونسية يبدو من قاطع الأدلة على الحلف المدنس بين هذه الأنواع الأربعة من المافيات الحاكمة للوطن العربي ماديا ورمزيا فإنه يمكن أن يكون من طبائع الأمور السياسية في المجتمعات غير المستقرة وغير المستقلة بصرف النظر عن وجود متآمرين من الخارج.
وحتى وإن كان ما تقدم على الثورة وما يحاول أن يتصدى لها فإنه قابل لأن يكون ذا صلة بما يتجاوز صفي الصراع بصورة تجعلهما كليهما موظفين في يتبادلان التهمة به. فالمؤامرة يمكن أن تكون هي عين الاستراتيجية التي ولدت الانحطاطين اللذين ينطلق منهما الصفان لأنهما يمثلان عين ما تعاني منه كل النخب العربية والإسلامية سواء كانت مدعية الأصالة أو مدعية الحداثة:
فالانحطاط الذاتي الموروث عن ماضينا تمثله الأنظمة القبلية والمتواطئ معها من النخب تقليدية كانت أو مدعية للحداثة. ومن ثم فتمثيلها هذا للانحطاط الذاتي عامل أساسي من مؤامرة تجعل ما يظن دفاعا عن ماضي الذات قتلا لما فيها من حي يمكن أن يؤسس للمستقبل القادر والمستقل.
والانحطاط المستورد الموروث عن الاستعمار وتمثله الأنظمة العسكرية والمتوطئ معها من النخب مدعية للحداثة كانت أو تقليدية. ومن ثم فتمثيلها للانحطاط المستور عامل أساس من مؤامرة تجعل ما يظن دفاعا عن مستقبل الذات قتلا لما فيها من حي يمكن أن يؤسس لبقاء مستقل.
منهج المحاولة وخطتها
ويقتضي بيان ذلك أن نقدم لتحليل المؤامرة بمعنى أعمق من مجرد كونها توظيفا لأحد الصفين الداخليين من قوة خارجية هو بيان حقيقتها المتمثلة في كونها جوهر إستراتيجية كل صراع بين شعوب متنافسة في نفس المجال على نفس الأخيار لكونها جزءا من منطق التاريخ الطبيعي للبشرية. فتكون الظاهرة التي يراد حصرها في أمر سطحي يسمى المؤامرة هي في الحقيقة ما تحاول الأديان والفلسفات تخليص البشرية منه أعني إخلاد الإنسان إلى منطق التاريخ الطبيعي ورفض السمو إلى منطق التاريخ الخلقي والإيمان بالأخوة البشرية ليس في نفس الجماعة فحسب بل بين كل الجماعات المعمرة للكون. وبلغة قرآنية فصيحة: المؤامرة الحقيقية هي نقيض ما استعمر الإنسان لأجله في الأرض واستخلافه عليها إنها الفساد في الأرض الذي اتخذ شكل الفصام الحضاري في نفس الجماعة أي ما يسمى بصدام الحضارات عندما يكون بين جماعات مختلفة. وتلك هي علة الحرب على الإسلام.
إن بيان ذلك يوجب أن نثبت قضيتين تلغيان الجدل حول نظرية المؤامرة في فهم أحداث التاريخ الإنساني تشنيعا على القول بها أو عن نفيها إذا أرجعناها إلى دور الحيل الاستراتيجية في الصراع الذي هو جوهر تاريخ المجموعات البشرية المتنافسة. وفضل هذا الفهم يتجاوز سطحية تبادل التهم بين الصفوف المنتسبة إلى نفس الجماعة لإدراك ما يعميها عن مصالحها المشتركة فيلجئها إلى الانتحار بجعل الصراع الداخلي متقدما على التنافس الخارجي.
وحينئذ فإن الحجة المستمدة من استعمال البعض لنظرية المؤامرة شماعة لإخفاء التقصير لا تبقى كافية لإلغاء أخذ المؤامرة بعين الاعتبار في فهم ما يجري بشرط تحديد طبيعتها وأبعادها لنتجاوز ردها إلى مجرد تبادل التهم المغفل عن إدراك ما وراء حدة الصراع الداخلي الملغي للبحث عن فهم خطط العدو الخارجي. فالمؤامرات السياسية من المقومات الأساسية في الصراع بين الأمم المتنافسة على الرزقين المادي والروحي في كل التاريخ البشري وليست بالأمر العرضي الذي يمكن القول به أو بعدمه.
وأول قاعدة منهجية هي القاعدة التي تنقلنا من مجرد تبادل التهم وضعا أو رفعا لنظرية المؤامرة إلى التحليل العلمي السوي الذي يعين هذا المبدأ العام في التاريخ السياسي الداخلي والدولي منطبقين على الثورة لتحديد طبيعة العدو المشترك ضد الجماعة بجعل صراعاتها الداخلية ملغية لوعيها بوحدتها التي عادة ما يضطر كبار القادة على تخليص الأمة منها بالحرب على أي عدو خارجي حتى يعيد للجماعة لحمتها. إنها قاعدة التمييز بين أمرين:
وجود دور للغير في أحداث الثورة ومجرياتها لا يكفي لردها إلى مجرد مؤامرة لأن جميع أحداث التاريخ السياسي يتشابك فيه دور الذات ودور الغير. وهو ما يقتضي تحديد ما للعدو الخارجي من دور في تأجيج العداوة بين أطراف المعادلة الداخلية لمنع وحدتها.
الحاجة إلى الفصل بين تدخل للغير يكون لمن نتهمه وليس عليه وعكسه لنعلم مدى استفادة الثورة من التدخل بالقصد الأول وليست متضررة منه به. وهو ما يقتضي العلم باستراتيجية العدو الحقيقي وتحويلها إلى نحره كالحال في الحروب التي لها قيادات ذكية.
تطبيق هذا الفهم على الثورة العربية الحالية
وحسم هذا الأمر يسير من البدء في حالة الثورة العربية الحالية لأن صفيها كلاهما أصبح من حيث لا يشعر أداة في خطة تتجاوز ما يختلفان فيه لتتوجه إلى أصل وجودهما نفسه وجعلهما أداة تهديمه. فبمجرد النظر في مآلات الموجة الأولى منها ندرك أن من ننسب إليه تحريك الثورة هو نفسه من ينبغي أن ننسب إليه تحريك الثورة المضادة: ولعل أكبر الأدلة هو حرب الاستنزاف لكلا الصفين في سوريا وفي مصر وفي تونس وفي اليمن وهلم جرا. فهو يعطل ويشجع في آن مغذيا دعاية أعداء الثورة وأدعياء المقاومة وكذلك أصحاب الثورة أدعياء الشرعية.
فبعد أن يئس المستعمر وعملاؤه من تطويع الثورة لتكون بديلا ممن كانوا قبلها وعادوا في شكل الثورة المضادة جاء دوره البين في الانقلابات التي بدات معها الموجة الثانية من الثورة فضلا عن مسعاه إلى إطالة الثورة السورية حتى يصيب الثوار بالإحباط فتأيس الشعوب من محاولات التحرر. لذلك فهذه المحاولة تهدف إلى إثبات الوجود الفعلي للمؤامرة دون أن تنسب إلى أي من الصفين تمثيلها لكونها متجاوزة لمطالبهما وممثلة لتوظيفهما في مطالبها إذ هي تستعمل الصفين بأقدار مختلفة:
فالأنظمة التي وقعت عليها الثورة كلها ومعها نخبها عميلة وتابعة لمن يزعم أعداء الثورة أنها مؤامرته ضدهم بدليل ما بقي لهم مما يحفظون به ماء الوجه فيحول دون العمالة المطلقة. وغالبا ما تقتصر هذه المحافظة على ماء الوجه على الخطاب. لكن حتى هذا فإنه يحتاج إلى بعض الأعمال الرمزية لإضفاء بعض المصداقية.
والثوار كذلك يستعملون لابتزاز أولئك حتى يزيدوا في مقدار العمالة فيحقق العدو أكثر ما يمكن من مصالحه بضرب صفي المعركة الداخلة أحدهما بالآخر: وليس من الصدفة أن تكون أوطان الاستعمار ملجأ لكلا الصفين بحسب الظروف لعلم المستعمر أنه يحتاج إلى توظيفهما كليهما بالتداول حتى يستفيد من صراعهما في مسعاه لتحقيق مآربه.
ومهما بلغت الأنظمة الفاسدة والمستبدة والتابعة من الصفاقة ومعها نخبها التي بلغت بها الدناءة إلى حد التصفيق للجرائم ضد الإنسانية تجويعا وتقتيلا للمدنيين بتبرير يعود إلى دعوى مقاومة المؤامرة الخارجية واتهام الثوار بكونهم مجرد أداة للمتآمر حتى لا يتم الاعتراف بعلل الثورة المشروعة فما لا يمكن أن تنكره هو أنها أهم عائق أمام نهوض الأمة بما أوصلت إليه وظائف الدولة الخمس إلى ما نرى من الحال ومثلها يكون الثوار إذا هم قبلوا ألا ينتبهوا إلى إمكانية توظيفهم من قبل نفس المستعمر الذي طوع الأنظمة السابقة: 1-ففي الحالتين يصبح الحكم نزواتيا 2-والتربية منحطة 3-والاقتصاد مافياويا 4-والثقافة تنويمية 5-والحصانة الروحية تصبح ما يضحى به تقربا من حاميهم بحربهم عليها:
الفصل الأول: حقيقة التآمر المتبادل بين القوى السياسية ما هي؟
الفصل الثاني: علام يتم التآمر بين الصفوف وفيم تتآمر؟
الفصل الثالث: مجال التآمر المتبادل هو أدوات الترادع المتبادل
الفصل الرابع: التحرر من منطق الترادع ومن قانون التاريخ الطبيعي
الفصل الأخير: البشائر الدالة على نجاح الثورة الحتمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق