Hot

الاثنين، 11 أغسطس 2014

دور مصر بين الوهم الشكلي والمضمون الفعلي

abou-yaareb

يزعم البعض أن مصر قد فقدت دورها القيادي في العالم عامة وفي الوطن العربي والإسلامي خاصة لأسباب موضوعية أربعة يصعب التغاضي عنها والتخلص من آثارها:
1 ـ اولها وأصلها جميعا هو الوضع الاقتصادي الصعب الذي يوجد فيه الشعب المصري وهو وضع يتفاقم لعلتين: ثبات امكانات مصر الطبيعية والتكاثر غير المحكوم بخطة تخضعه للامكانات الاقتصادية المحدودة. (عرضناه أمس).
2- والسبب الثاني هو استغناء القطب الواحد عن تدليل الحلفاء المحليين بعد زوال التنافس بين القطبين في العالم الثالث ووجود البدائل الكثيرة لدي أمريكا في منطقة الشرق العربي وخاصة اسرائيل. (نعرضه اليوم).
3 ـ والسبب الثالث هو تضاؤل دور الإيديولوجيات عامة وفقدان الإيديولوجية القومية لجذوتها وقدرتها التحريكية في شعوب جعلتها الوعود الكاذبة من الشكاكين وقتلت فيها الهموم اليومية كل نزوع مثالي للعمل العالي.
4 ـ والسبب الرابع هو الصلح مع اسرائيل الصلح الذي قيد مصر فحال دونها ببنود المعاهدات السرية وشروط الفعل المؤثر أعني اللجوء لاستعمال القوة أو مساعدة من يستعملها في العلاقة العربية الإسرائيلية.
مناقشة السبب الثاني
أما اللعب على التنافس بين القطبين الذي وجدت فيه دمي العالم الثالث وهم القوة فهو عملية ضررها كان دائما فوق ربحها لمن يعلم أن التنافس بين القطبين لم يكن أبدا في شروط التبعية وطبيعتها بل في مداها ومجالها.
فسواء كنت تابعا لأمريكا أو روسيا فأنت تابع ولعبك علي الحبلين يجعلك في النهاية تابعا لكلا القطبين:
ألأول يوهمك بأنه يحميك عسكريا بعد أن يبيع أسرارك لعدوك ويمدك بأسلحة لا تضاهي أسلحة العدو حتي يهزمك فتزداد تبعيتك العسكرية والأمنية وتتحول إلي دمية في استراتيجية الحامي الخفية.
والثاني يوهمك بأنه يغذيك قمحيا بعد أن يقتل زراعتك ويمدك ببذور مغشوشة تفسد أرضك وتقتل صبر فلاحيك فتزداد تبعيتك الغذائية وتصبح تابعا إلي ابد الآبدين.
وفي كلتا الحالتين لم يبق فيك من النوازع إلا الاعتماد علي الغير والكسل فلا تبدع ولا تعمل. فيصبح شعبك من المقتاتين علي الصدقات مما قد يفقدهم كل شعور بالعزة والأنفة أمام الصلف الأمريكي الذي يمن عليهم بفضلات مزارعيه.
وتفقد كل قدرة علي الخروج من التبعيتين خاصة إذا كان أحد مستتبعيك هو بدوره تابعا في المجال الغذائي. اللعبة نفسها من البداية خاسرة. وزوالها من المفروض أن يكون فرصة للتخلص من الأسباب التي أوصلت إليها وليس سببا في فقدان الدور الذي من شروط مؤديه أن يكون غير تابع. ومن ثم فهي السانحة الحقيقية لزيادة القدرة علي التأثير القدرة التي تقاس بدرجة التخلص من التبعية.
أما التأثير الإيديولوجي فكذبة أخري، زالت بزوال الاعتقاد في وهم التأثير الإيديولوجي لفرط استعماله الغبي. ذلك أن الافراط الأيديولوجي الذي لعبت عليه الأنظمة القومية والاشتراكية هو في الحقيقة أفضل الطرق لفقدان التأثير الفاعل. فهو لم يكن تأثيرا بالمعرفة ولا الأفكار أو بالمعاني والقيم بل كان في الحقيقة جوهر الفعل الارهابي وأصله.
فمخاطبة الشعوب العربية من فوق رؤوس نخبها الذاتية بأدوات الاتصال الجماهيرية ونسج المؤامرات الانقلابية والتدخل في الشؤون الداخلية والتصرف تصرف المستعمر عند حصول الوحدة أو التعاون مباشرة أو بالمعارين الذين يتحولون إلي دعاة بدلا من القيام بالمهام المطلوبة ليست إلا عين السلوك الارهابي.
لذلك كان من نتائجه لجوء حكام الأقطار الصغيرة للحماة الأجانب وفقدان الشعوب لكل ثقة في الخطاب العقدي الذي قتل كل امكانية للتأثير المتين الذي من شروطه بناء الثقة والتعامل المتكافئ وعدم الكذب علي الشعوب واحترام الخصوصيات التي تثري الحضارة العربية بدلا من التنميط القاتل الذي يولده استنبات عقد النقص في الشعوب التي تستعين بالمبعوثين وهي عقد تتحول لاحقا إلي كراهية تبعد الشعوب بعضها عن البعض.
التأثير الإيديولوجي وخاصة إذا كانت الأيديولوجيا من النوع الديني او القومي وإذا بولغ في استعماله إلي حد التبليد الجماعي فإنه ينتهي دائما إلي التغييب الكامل للفعل المتروي فيحول الشعوب إلي مواشي تتبع كل ناعق بحماس اقرب إلي نار الهشيم التي تلتهب ثواني ثم تموت دون تأثير حقيقي علي مجري الأمور: لاغرابة إذا باتت الشعوب كالأموات لا يحركها الوخز بالكلام والهمز بالأوهام.
وفي كل الأحوال فإن هذا النوع من التأثير لا يمكن أن يفعل إلا بالتهديم: لذلك فليس من العجيب أن يكون مجرد زرع للنبت المر الذي هو المصدر الأساسي للارهاب الذي تعاني منه الأمة في الداخل وتعاني منه سمعة الاسلام والمسلمين في الخارج.
أما البناء فهو محتاج إلى الروية والفعل المديد والرأي السديد وبعبارة واحدة هو محتاج للتواصي بالحق وللتواصي بالصبر: أي العمل الدائب طويل النفس العمل الذي يقتضي الحرب علي الإيديولوجيا وليس العمل بواسطتها.
مناقشة السبب الرابع
أما الصلح مع اسرائيل فمن العبث اعتباره سببا في تقييد أيادي مصر أو أي كان إذا كان فعلا سياسيا مترويا وراءه ما ينبغي أن يكون وراءه في الأمم التي يتناوب عندها الحرب والسلم في تواصل فعلها التاريخي الحي. هذا تجن علي سياسة النظر البعيد -إذا كان بحق ناتجا عن مثله وليس خداعا للذات-لكل قائد محنك ابتليت دهماؤنا بتربية تتهم بعيد النظر من قياداتها بالخيانة.
فقد خون ابو عمار رغم أنه بالعودة إلي فلسطين قد جعل الثورة الشعبية تصبح أمرا ممكنا وخون بورقيبة ومن بعده السادات رغم أنه كان أول من هزم الغول الوهمي الذي كان يكبل الإرادة العربية: الخوف من الخوف. فهو الوحيد الذي تحدي اسرائيل بشروط التحدي التي لا تنسب النتيجة لغير العرب لكونه حقق ذلك بعد طرد أهم أسباب الهزائم العربية: المستشارين السوفيات.
وحتى نعلم دلالة هذا الموقف الذي قد يعجب له من لا يميز بين القومية والإسلام الحقيقيين وما تحاول فرضه المزايدات التي تحول دون العرب وجعل فعلهم السياسي يكون سياسيا بحق، يكفي أن نسأل طبيعة الصلح بين المتحاربين ما معناها. فالتكبيل ليست علته في الصلح بل في السلوك الذي ينتج عنه عندما يساء فهمه فلا يتعامل معه علي حقيقته بوصفه هدنة تعد للشوط الموالي.
فكل الأمم تعلم أن العلاقات الدولية ليس لها قانون غير شريعة الغاب وتعلم أن الصلح هو دائما هدنة تحكمها موازين القوي السابقة أصلا لها والسعي لموازين القوي اللاحقة غاية لها. ما حصل بعد الصلح هو أن اسرائيل التي يفهم قادتها ذلك عملوا بهذين المبدأين: هزمنا العرب بأن قضوا علي علة الهزيمة النفسية التي كانت لنا عليهم. فلنهادنهم بحثا عن فرصة استرداد هذه العلة قبل الشروع في الحرب الموالية التي هي مستحيلة ما ظل العرب منتصرين نفسيا.
وتلك هي علة الطابع المحدود لعملياتهم بعد اكتوبر حتي في ما يسمي بحرب لبنان. وتلك هي علة قبول اسرائيل باستراتيجية العرب السلمية: لو كانت قادرة علي الحرب لرفضت هذه الاستراتيجية لانها تعلم أن أقوي سلاح عربي ضد هذه الاستراتيجية تأليبها العالم الغربي عليهم بزعم محاربة مئات الملايين للباقي من أبناء ضحايا النازية كما يروجون.
كل الأمم تعلم أن المعاهدات مجرد أوراق لا تثبت إلا بثبات التوازن الذي أنتجها تماما كما هو الشأن بالنسبة إلي القوانين الوطنية التي تتبدل بمجرد تبدل توازن القوي الذي انتجها. بمجرد حصول توازن جديد تصبح تلك الأوراق لاغية بالقوة إن ليس بالفعل ولن يعدم المرء التعلة لإعلان الالغاء. لكن عامل الإيديولوجيا المشار إليه سابقا اعتبر أصحاب هذا الفكر عندنا خونة فأدي إلي قتل كل مشروع يسعي إلي هدف رئيسي عميق هو علاج الهزيمة النفسية العربية مع الاستعداد للشوط الموالي في حرب الوجود.
والدليل الأكيد السعي لاسترداد العربي علاقاته السوية بالعالم. وأول مراحل السلوك السوي هو استرداد العلاقة بأمريكا تسليما بأمرين أساسيين:
لا معني للعداوة أو الصداقة المطلقتين بين الدول ولا يمكن الفعل المؤثر من دون التعامل مع أصحاب التأثير الفعلي حتي لا يتركوا للعدو يستعملهم كما يعن له. الاعتراف بهذا ليس انهزاما وإنما هو تأسيس لشروط تغييره. وإذن فنحن نعلم أنه لا يمكن تحقيق النصر النفسي التام من دون مدة كافية تحول دون العدو وأي نصر عسكري حاسم جديد قد يلغي ثمرات بداية اندمال الجرح النفسي الناتج عن الهزائم المتوالية فضلا عن التخلف المزمن.
وأول الشروط التخلص من استراتيجية الكذب علي الشعوب وادعاء قوة غير موجودة كان ادعاؤها سبب كل الهزائم علما وأن الوضع كان يتطلب تجنب كل نصر للعدو مهما كان محدودا ليبقي في هزيمته النفسية وحتي لا يفسد النصر النفسي العربي. لا بد من مرور الوقت الكافي لتحقيق التأثير العميق أعني جعل الجروح تندمل عندنا وتبقي دامية عندهم بالحيلولة دون الحرب وبتجريدهم من سلاح التظاهر بمظهر الضحية.
لذلك فخيار استراتيجية السلم ليس بسبب الخوف ولا للانهزامية إذا كان حقا استراتيجية مصحوبة بالاستعداد للشوط المقبل: بل معناه أن العرب قد فهموا أن أقوي سلاح يمكنهم من غلبة اسرائيل هو جعل سلاحها الذي تتفوق به مستحيل الاستعمال سياسيا إلي حين جعله مستحيلا عسكريا. 
بعبارة واحدة فإن أفضل طريقة للحرب علي اسرائيل قلب أسلحتها عليها: فهي تدعي السلم وتستعد للحرب والعرب يدعون الحرب ولا يعملون شيئا استعدادا للحرب ومن ثم يستعدون للاستسلام. وينبغي قلب هذه العلاقة. لكن ما كل ما يتمني المرء يدركه: لآن الدجالين ألبوا أصحاب البترول لا حبا في المصلحة العربية بل خوفا من عودة مصر لدورها الرائد بعد النصر النفسي الذي حققه جيشها. وكانت النتيجة إخراج مصر من الصف العربي فأصبح هذا الصف أوهي من بيت العنكبوت.
الدور المضموني للسببين الأخيرين
لقد أشرنا في الحقيقة إلي هذه المقومات في خلال تحليلنا للأسباب الوهمية. لكن العودة إليها من أجل التحليل الصريح واجبة. ولنبدأ بالعلاقة بين السببين الأخيرين أعني العامل الإيديولوجي والصلح مع اسرائيل: فقد أفسد استعمال الأيديولوجيا قدرة العرب علي التفكير السوي في المسائل السياسية والاستراتيجية. فبات كل قائد راشد عندهم خائنا وكل ديماغوجي دجال بطلا. لم يفهم العرب بمن فيهم من يدعون الانتساب إلي النخب وخاصة الثورية منها علمانية كانت أو دينية شروط الخروج من المأزق الذي وضعتنا فيه الصهيونية العالمية: كانت تريد أن توحد بين مصالحها ومصالح الغرب وأن تحيي العداء التاريخي بيننا وبينه فيصبح الغرب كله يتعامل معها ليس فقط علي أنها أداة له في العهد الاستعماري بل ممثل قيمه الحقيقي في بحر من الهمجية البدائية. 
لذلك فإن سخافات فكر القاعدة التي تتكلم على الحروب الصليبية وعلى الغرب في سلة واحدة للجهل بالجغرافيا السياسية العالمية يعد أفضل أدوات الدعاية الصهيونية واليمين الامريكي ضد الإسلام والمسلمين. وكل من يحسن القراءة بين السطور يعلم أن ضمنيات كلام بلار ليس إلا عبارة واحدة: المسلمون والعرب كلهم قاعدة أو مزرعة لمجندي القاعدة. ومن ثم فهو يتصور نفسه قلب الأسد. كما أن عنتريات بعض الدول والأحزاب التابعة لها بينت أحداث العراق وما تلاها تواطؤها مع الاحتلال الأمريكي والإنكليزي فاتضحت أهدافها الحقيقية: ما زالوا يبحثون في ماضي التشفي والانتقام من معاوية ويزيد سعيا إلي استعادة المجد التليد لمن كان يتصور العرب من جنس العبيد. 
لم يفهموا أن خطة الخيار السلمي كاستراتيجية هي أمضي سلاح ضد الصهيونية إذا كان ذلك مصحوبا بالاستعداد الحقيقي للحرب العميقة معها: اعني شروط النهضة والقوة وعدم تمكينها من جعل قضاياها عين قضايا الغرب في علاقته بنا. هي إذن استراتيجية ناتجة عن تحليل عميق لطبيعة الداء وتحديد دقيق لطبيعة العلاج وبحث وثيق عن خطة للتطويق بمنطق سد الطريق إلي أن تتحقق شروط الضربة الحاسمة كما يقتضي كل فكر استراتيجي بعيد المدي. خطة تثبيت السرطان الاسرائيلي في الحدود التي وصل إليها وتطويقه بعد النصر النفسي الذي حصل في حرب اكتوبر تستند إلي العلاج الوحيد للسرطان: ينبغي تثبيته أولا لضربه بحيوات مضادة تبث في الجسم الذي يحتله (فلسطين) من خلال تحقيق بذرة الدولة الفلسطينية التي بدأ اجماع الرأي العام الدولي يحصل حولها بعد هذا النصر النفسي الذي أعاد للعرب توازنهم فجعلهم قادرين علي التمييز بين الممكن والمستحيل بحسب الظرف. تلك هي خطة الصلح التي سعي إليها السادات. 
ليس صحيحا أن أيا من يفكر بهذه الطريقة يعد خائنا وعميلا لاسرائيل. وليس صحيحا أن ذلك يعبر عن نزعة قطرية ضيقة كما يزعم المتحاملون علي بعض القادة ممن حاول تحليل مثل هذه الأفكار. ومن الكذب الفاضح اعتبار السادات أو بورقيبة مضيعا لفلسطين كما يزعم متطرف القوميين والإسلاميين خاصة. فلو قبل الفلسطينيون ما كان يمكن أن يعطي لهم قبل بناء المستوطنات لكانوا اليوم أصحاب دولة أكبر مما صاروا ميالين إليه الآن. ومن التجني تصوير السادات مصابا بداء التضخم الذاتي كما يزعم موتور المحللين الذين أبعدهم لعلمه بفساد رأيهم في نصح من تقدم عليه في حكم مصر أعني الخرف حسنين هيكل: فمن السخف جعل العرب وقود الحرب العالمية مع القطب الواحد في حين أن الدول المستعدة لكي تصبح أقطابا تبقي متفرجة.
خيار السلم الاستراتيجي ليس انهزاما بل هو خيار حربي كذلك لكون السلم بين الدول ليس إلا هدنة وهي أقوي الأسلحة ضد العدو إذا لم ينم صاحبها واستعد لما بعدها. علامة وحيدة تبين ذلك: لا بد أن يكون سلوك المهادن مؤلفا من وجهين ادعاء للسلم في القول واستعداد للحرب في الفعل, تماما كما تفعل كل الأمم ذات السلوك السوي في التاريخ الفعلي للبشرية وليس في الكلام الخلقي حوله.
كل ما تتمناه اسرائيل هو إذكاء نار الكراهية في الدهماء تعبيرا عن العجز وتنفسيا عن الغضب غير مشفوع بالعمل الاعدادي لما بعد الهدنة حتي تتمكن من المبرر الخلقي لاقناع الغرب بما تسميه دفاعا عن النفس ضد من يجعلهم السلوك البدائي كما تصورهم ملايين من الأهماج الذين تمثلهم بالوحوش الضارية المحيطة بمن تقدمهم علي أنهم مساكين اليهود ممن أبقت عليه النازية، خاصة والانتفاخ الكاذب للاستعراضات العسكرية العربية والخردة التسليحية تؤيد دعوي الخطر المحدق باسرائيل المسكينة. فتسارع إلي الحروب الخاطفة والرأي العام كله معها لتوسيع رقعتها والقضاء علي الوجود الفلسطيني مطلبها الأول. 
ولو سمعنا لمقولات الثوريين الذين تعج بهم حانات العالم في دعواهم ضرورة المرور إلي تل أبيب عن طريق عمان لكان مشروع شارون قد تحقق منذ عقود ولصارت الأردن وطنا بديلا فابتلعت اسرائيل كامل فلسطين. ذلك هو مفعول التأثير الإيديولوجي الذي يفقد أصحابه البصيرة فيفعلون بأنفسهم ما لا يستطيع العدو له فعلا. ولكن من تخاطب والإيديولوجيا قد أعمت البصائر ! خاتمة القول في السبب الرابع أن الصلح لم يكن بذاته شرطا كافيا لتقييد مصر بل كان الشرط الضروري لتمكينها من فرصة الاستعداد الفعلي للمجابهة إذا حصلت بعد توطيد ثمرات النصر النفسي الذي عادت به الندية قبل تجاوزها إذ لا يمكن لمصر فضلا عن الأمة العربية أن تعتبر اسرائيل ندا لها في التاريخ الكوني: طموحنا ليس سلبيا فحسب أعني مجرد تحرير فلسطين بل هو طموح امة تريد أن تستأنف دورها التاريخي الكوني في تحديد آفاق البشرية في كل المجالات التي يمكن للعقل البشري أن يبدع فيها ما يوسع هذه الآفاق. 
ثم إن بؤرة المعركة انتقلت: لم تعد فلسطين بل أصبحت العراق. إذا هزمنا الإرادة الأمريكية في العراق فإن كل شيء يصبح ممكنا في فلسطين. أما إذا حصل العكس فلا جدوي من اي شيء يحصل في فلسطين علما وأن الكفاح المسلح ينبغي أن يكون ملازما للتفاوض وليس لأي منهما أن يكون بديلا من الأخر بل هما الأداتان الضروريتان لتحقيق الأهداف السياسية. لم يعد بوسع الفلسطينيين الآن أن يوقفوا الكفاح المسلح, وإلا فإن كل الخطة من عودة السلطة تفقد معناها: فهي كانت خطة حكيمة لجعل الثورة الفلسطينية تصبح ثورة علي الأرض وليست عن بعد كما كانت. وهي الآن علي الأرض وينبغي ألا تتوقف حتي تعيد ما أعطاه التقسيم للفلسطينين: ليس لدولة فلسطين من حدود إلا الحدود التي حددتها الأمم المتحدة عندما قسمت فلسطين. بعد ذلك يمكن الحديث عن المستقبل البعيد.
مقوما الدور المضموني الأولان
ومثلما أن العلاقة بين السببين الأخيرين (الإيديولوجيا والصلح ) هي التي تفسر تعطيل القدرة المصرية علي التصور الاستراتيجي فإن العلاقة بين السببين الأولين ( الفقر وانعدام الحليف ) هي التي تفسر تعطيل القدرة المصرية علي الانجاز الاستراتيجي. وقد تبدو هذه العلاقة متكلفة لعمق طبيعتها وطبيعة أثرها. ولكن فلنحلل الأمر: أليس ما حل بالاقتصاد المصري من تأميم ومن محاولات خصصة بعد ذلك كلاهما متصل بطبيعة الحليف الذي تم اختيار الاستراتيجية الاقتصادية بمنطق إيديولوجته دون تحليل حقيقي لطبيعة النظام المناسب للاقتصاد المصري وتقاليد المصريين؟ وقس علي ذلك كل البلاد العربية التي أفسدت كل شروط النمو بافراط الإقبال غير العقلاني علي الإيديولوجيا الاشتراكية وهي تقدم حاليا بنفس العجلة في افراط الإقبال علي الايديولوجيا الرأسمالية كما هي حال الجزائر مثلا؟ وقس عليه كذلك هوس المثقفين العرب وهيامهم بالديمقراطية البرجوازية حاليا بعد نفس الهيام بالديموقراطية الشعبية سابقا؟ اليس للهيامين علاقة بفكر الحليف السابق والراهن وفي الحقيقة بغياب الفكر المستقل؟ 
العلاقة الجوهرية بين المقومات الأربعة
من أين أتت الفكرة القائلة: إن الحل الوحيد هو الخيار بين الحلين الموجودين في النظام الاقتصادي والسياسي السابق وليس في تكوين الحل المناسب لما يقتضيه الوضع في المجالين؟ الجواب عن هذا السؤال يجمع الأسباب الاربعة بترتيبها المعكوس: من الصلح إلي الإيديولوجيا إلي الحليف إلي الفقر. سبب الأسباب هو في الحقيقة عدم الأخذ بالأسباب. فقد مرت مصر نموذجا لغيرها من الأقطار العربــــية بمرحلتين: 
ما تقدم علي تدخل هذه الأسباب أعني قبل ما يسمي بالثورة. 
وماتأخر عن تدخلها أعني ما تلا ما يســــمي بالثورة. 
فمصر قبل 52 كان لها نوع من الدور وبعد 52 صار لها نوع مختلف تمام الاختلاف عن الدور السابق: انتقلنا من الدور المستند إلي المنزلة الرمزية والمعنوية في كل مجالات الحياة العربية إلي الدور المستند إلي الإيديولوجي والعسكري في الحياة السياسية العربية. فما هو سبب النقلة؟ 
يمكن أن نقيس ذلك بما يجري لأمريكا حاليا مع حفظ الفوارق: فقدت أمريكا بريقها الرمزي ولم تعد أوروبا محتاجة إلي حمايتها من الغول السوفييتي. فنشأ منافسون لها ولم يبق لها إلإ الوزن العسكري. وهذا الوزن بمجرد ان يفرط صاحبه في استعماله يهترئ فيفقد تأثيره ويستبدل بغيره إما ذاتيا أو خارجيا. ما حصل في الوضع العربي هو أن زوال الحرب الباردة ألغي الخوف من القومية عند الدول العربية التقليدية وبات الخوف من اسلام الصحوة أكثر فاعلية: وهذا يكاد لسوء الحظ يصبح حكرا علي القاعدة وكل الحركات الارهابية والغرب الذي يحاربها ليحميهم منها. وفي هذا مصر لا يمكن أن تؤدي أي دور. لان القومية في مصر ألغت وزنها الإسلامي الايجابي وقوت وزن طريدي هذه المعركة الخاسرة إذ منهم ومن الوهابية تكون فكر القاعدة. زال عامل التأثير القومي وعامل التأثير الأسلامي وازدادت التبعية الاقتصادية فلم يكد أحد يبقي بحاجة لدور مصر.
لكن ذلك ما كان ليحصل لو لم يكن العهد السابق قد ألغي عوامل التأثير المصري الفعلية: فساد النظام الجامعي الذي لم يعد قادرا علي تخريج أعلام من مستوي ما اشتهر من أعلام مصر في العهد الملكي حيث لم يكن أحد من كبار المستـــــشرقين يمكن أن يتصور نفسه مستشرقا من دون أن يمر بفــــترة تكوين في مدارس مصر التقليدية والحديثة. ومــــن نتائج ذلك أن الجامعة المصرية لم تعد وجهة الطلبة العرب: إذا كانت هذه الجامعة تقدم نسخـــة مشــوهة من الثــقافة الغربية بعد سيطرة الإيديولوجيا فلم لا نرد المنبع الأصلي؟ وانحلال المجتمع المدني المصري الذي قتله العهد السابق في حين كان نموذجا في العهد الملكي فلم يعد نموذج الحركات الأهلية العربية. وتأخر الوسط الفني والابداعي المصري حيث يكاد أعلام كل الفنون أن يأخذهم المنون فلم يبق إلا الحفتريش: لم تبق مصر ملجأ المبدعين العرب.
يكفي أن تعود مصر وجهة الطلبة العرب والمسلمين ونموذج المجتمع المدني وملجأ كل طالب للجوار من العرب والمسلمين ومثال الوسط الفني والابداعي وقبلة كل من يريد أن يختص في الشرقيات حتي يعود إليها البريق الذي كان لها عندما كانت كذلك قبل ما يسمي بالثورة فتنافس عواصم الغرب في سلب عقول نخب العرب بارجاعها إلي رشدها الحضاري ويصبح القلب العربي يخفق من المركز إلي آفاق الوطن كله من المحيط إلي الخليج. 
لا يمكن لمصر أن تكون مركز الوطن وهي تتصرف بعقلية قطرية وأحيانا شوفينية مرضية بحيث إن النخب المصرية مهما كان مستواها ضحلا تعتبرها أبواق دعايتها عظيمة فيطبل لها ويزمر لخلق بطولات زائفة لا تثري الثقافة العربية وتفسد الثقافة المصرية ومع ذلك تقدم علي أنها الممثل الوحيد لمبدعي العصر: فتصبح الآلة الثقافية المصرية مجرد آلة دعاية للضحالة. 
مصر ينبغي أن تعود كما كانت بؤرة لكل ابداع عربي. ينبغي أن تصبح ملتقي كل المبدعين العرب لقاءهم في وطنهم الروحي. عندئذ سنري مصر كما كانت وكما ينبغي ان تكون اهراما لا يزحزحها مزحزح أيا كانت قوته الزلزالية. عندئذ سيخطب ودها البعيد والقريب ولن يخرج عن تأثيرها الرمزي والمعنوي البعيد عن الهرج الايديولوجي الذي بات بعد سقوط القومية والاشتراكية عدمية محض أدت إلي الحركات التي يتصور أصحابها الارهاب حلا يمكن أن يحقق النصر للمسلمين: نسي متبنوه من الغرب تجربة من تبني منه قبلهم استراتيجية القرصنة البحرية فانتهت بالانتصارات الوهمية وكانت عاقبتها التخلي عن شروط النهضة الحقيقية ومن ثم التمهيد للاستعمار القديم.
الخاتمة
يأسف المرء عندما يري بريق السعادة في أعين المسؤولين العرب كلما رضي عنهم شارون أو بوش نفسيهما أو حتي شارونبوش (=رامسفيلد إذا أخذنا كلمة بوش بمعناها الإنكليزي كناية عن مصدر الحرائق عادة واستعملنا الإضافة العربية ) أو بوشّارون (=غنداليزا رايس إذا أخذنا كلمة بوش بمعناها الفرنسي كناية عن الماوثبيس أو الناطق بلسانه مستعملين الاضافة العربية) أو شار ـ اون ـ بوس (=وزير الخارجية في لقائه وزراء الخارجية العرب، نحتا من الفرنسية والانكليزية والمصرية والمعني معلوم للجميع). ويزداد الأسف في الحالات المقابلة. 
فوضع المسؤولين العرب يكاد يدمي له القلب امتقاع وجوه واسوداد سحن حتي لكأنهم يحتضرون بمجرد أن يغضب عنهم أحد ممن سبق ذكره أو قلاهم مصافحة وملاقاة أو حتي مهاتفة ومناجاة لكأنهم يؤمنون بأن وجودهم وقيامهم العصبي ودورات دمائهم رهينة برضي هؤلاء الأقزام، متناسين أن أمتهم فوق كل طواغيب العالم وأن حضارتهم أسمي من كل أقزام المافيات الدولية. من طلب منهم ارسترضاء أعدائنا باسمنا؟ أهو الحرص علي خبزنا اليومي المزعوم؟ ألا يعلمون أن المستأكل بالثديين يبقي علي الآكل بهما جائعا فلا يشبعه حتي يستأكله دائم الدهر؟ أم علي حمايتنا من العدوان، فتكون أمة الأبطال قد صارت سائلة الجوف خوفا من الخوف ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق