أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2016.03.22
مقدمة:
تونس إلى أين؟ من عادتي الكلام على الثورة من منطلق يهدف إلى التحرر من القطرية لأن أهم ما حققته هوهذا التحرر إذ جعلت مطالبها واحدة لكل الأمة.
لكني اليوم أريد تخصيص الكلام لما يحيرني في تونس بل ويخيفني عليها. وسيكون كلامي نسقيا لأني سأبنيه على نظرية الدولة كما بينت بنيتها الكونية.
نظرية الدولة اساس التحليل
فالدولة كائن معنوي ذو تعين تكنولوجي بايولوجي. وتعين الدولة تكنولوجيا هو المؤسسات التي تعمل بها والقوانين التي تحدد قواعد عملها وهي تقينات
وتعين الدولة بايولوجيا علته أن المؤسسات لا تعمل بذاتها بل بالبشر القائمين عليها وبإراداة مشرعة لها تحل وتربط.
ومن ثم فعمل الدولة يكون دائما حصيلة بالمعنى الفيزيائي للقوى المتفاعلة : أي أولا لما بين القائمين عليها من صراعات ولما بينهم وبين الآليات التكنولوجية لجهاز الدولة من انتظام وعدم انتظام.
فما هي القوى المتفاعلة والتي يمكن تسميتها بالقوى السياسية؟ وما هي المؤسسات التي تمثل مسارب فعلها؟ وما القوانين المتحكمة فيها ليمكن الكلام على دولة؟
ولنخرج من المجردات فنتكلم بالتعيين على الحالة التونسية لنجيب عن هذه الأسئلة التي تطلب في كل كلام على أي دولة إذا كانت دولة بحق.
وظائف الدولة المنفعلة ووظائفها الفاعلة
يقولون إن الثورة أطاحت بالنظام وأبقت على الدولة بل ويدعون أنها قد أصلحتها بوضع دستور جديد. ولعل عذر أصحاب هذا الرأي أنهم لا يميزون بين الدولة المنفعلة والدولة الفاعلة.
فالكثير من الخدمات في الدولة التونسية ما زالت على حال قريبة مما اعتادت عليه في الماضي ما يجعلها قاردة على أداء الأدنى مما ينتسب منها إلى وظيفة الرعاية: الماء والغذاء والصحة والإدارة العامة.
ولكن حتى هذه الوظائف العادية فإنها قد تردت ولعل أهم علامات ترديها هو حال النظافة في البلديات وتعثر المشروعات القليلية التي بادرت إليها الحكومات المتعاقبة دون أن نرى لها أثرا يذكر.
وإذن فنحن أمام أعراض في هذه الوظائف تعبر عن داء وراءها أعني عن تحلل القوى السياسية التي من المفروض أن تكون صاحبة الحل والربط بحيث لا يكاد يوجد ما يمكن أن نسميه سلطة بهذا المعنى يطمئن لها.
ومن ثم فحتى وظائف الدولة المنفعلة بدأت تنخرم وتنحط. أما الدولة الفاعلة التي تمثلها وظائف الحكم والحماية الخمس فإنها شبه منعدمة: العدل والأمن والدبلوماسية والدفاع والاستعلام الإعلام السياسي لفرط ما يعمها من فوضى وعدم وضوح رؤية.
هذه هي الوظائف التي تحيرني وتخيفني في ما يجري في تونس الآن.فهذه الوظائف مشروطة بصلابة القوى السياسية التي بيدها الحل والربط إرادة وتدبيرا.
وحتى أكون منصفا فإن غياب سلطة الحل والربط في تونس-ولعل ذلك عام في كل بلاد العرب-لم تكن حقيقية بل كانت سلطة نزوات أفراد تابعين لسيد خارجي.
فهذه السلطة التي ينبغي أن تكون شوكة شرعية أو قوة شرعية لم تكن موجودة لأن الشوكة الشرعية ليست الاستبداد والفساد الخاضع لقيادة خفية: مافية.
تعليل الفوضى السائدة
وإذن فالثورة لم تزل شيئا كان موجودا بل أزالت الغطاء الذي كان يخفي سيطرة مافية غالبة على مافيات فرعية أصبحت الآن بلا سلطان فبرزت صراعاتها إلى العلن.
وصراعها يرتدي اليوم الطابع السياسي العلني في شكل احزاب ذات تمويل مجهول المصدر وعددها ينيف على المائة. وإذن فقد سيطرت الفوضى على الإرادة الجماعية.
فجل الأحزاب جيش مكسيكي جنرالاتها أكثرمن أنفارها مايجعلها سرعان ما تتفرع بما يشيه القسمة الخلوية.كل حزب يصبح أحزابا بلا حصر بعدة الزعامات المتدافعة.
صارت الساحة السياسة حضيرة دجاج كل ديك يطرد الديكة من حوله فتتعدد حضائر الدجاج بعدد الديكة ثم يأتي الإعلام ليعرض تناقرها أمام شعب مندهش ومحتار.
ولما ضاقت بهم مساحة العناوين السياسية التقليدية عادوا إلى الكسور الاجتماعية (الطبقية) والمناطقية (القبلية) وحتى المقابلة بين الجنسين (الجناسة).
فآخر بدعة هي حزب دون جوان صاحب المفتاح وكثرة النواح. ولا عجب أن تكاثر اللجوء إلى "حركة" و"حراك" وجميعها في الحقيقة تحيل إلى "الحركية".
فوضى سياسية "حركية"
والجميع يعلم معنى هذا المفهوم منذ حرب التحرير الجزائرية : أنها حركة مشهورة بالتبعية والعمالة لمستعمر الأمس إن لم يكن بالقصد الحر فبالأمر المضطر.
اجمع كذبة المرأة مع تحية العلم الأمريكي بقبضة اليد اليمنى على القلب مع كذبة الدون جوان مع سيجار المافيوزي المائل= ستعلم إلى أي حضيض نزلت الحياة السياسية في تونس التي نادى شبابها بالحرية والكرامة.
أضف إلى حصيلة الجمع: غطرسة اليسار مع تخريف الزوايا مع النسب الشعاري لبورقيبة دون أي علاقة تاريخية معلومة وستفهم أكثر.
ولأساعد الجاهل بالساحة التونسية : فالنسب إلى بورقيبة يكون إما إلى أطفاله إو إلى حزبه. فإذا غاب أحدهما فكرنا في الثاني. بذلك تعلم طبيعة آخر مواليد الساحة السياسية.
ثم اجمع ما بقي من حزب النداء وما يتململ من الحزب الدستوري وما يصمد من الحزب الإسلامي وما ذهب إليه محرفو الإسلام من رافضي العمل السياسي السلمي ومحرفو الحداثة من رافضي ثقافة الشعب.
البركة الآسنة والتعفين القصدي
عندئذ ستحصل على البركة الآسنة التي تبدو في غليان لا يدل على الحيوية بل على بخار التعفن الذي يعد للانفجار. ينبغي أن ندرك حقيقة البركة الاسنة.
خوفي هو أن هذه البركة الآسنة بحركية مرضية الناتجة عن فوضى القوى السياسية لا مآل لها في النهاية إلاما تعد له المافيات الخفية أعني الانقلاب البطيء.
وغياب الإرادة التي تحل وتربط بصورة ذات شوكة شرعية ليس لاستحالة موضوعية بل لأن الرؤية لم تتضح بعد لدى القوتين السياسيتين ذاتي المصداقية.
ففرعا حركة الإصلاح والتحرير أي الحركة الأصلية والتفرع البورقيبي عنها يمكنهما بحق أن ينقذا تونس لو صدقت النوايا وصفوا حساب الماضي الأليم.
وفي غياب هذا الحل فإن ما يجري ليس إلا السعي البطيء لتحقيق الفراغ الذي تطلبه المافيات الخفية لتبرر الفعل العلني بكذبة الإنقاذ الضروري.
ما يحيرني هو الاطمئنان الساذج والنوع على خرافة التوافق المغشوش.فهو لا يعبرعن ثقة في النفس وفي السيطرة على الأوضاع بل على نظرية "دعها حتى تقع"وهي من علامات اللاوعي السياسي.
إذا طال الفراغ في السلطة التي تحل وتربط بشوكة شرعية وتعرضت أدوات فعل الدولة إلى التفكك فضلا عما تتعرض له من الضربات فالحسم لن يكون سياسيا وقد لا يكون لطيفا.
سيكون كما هي السنن المعلومة في تاريخ الأنظمة: أن"يهجم"الأجرأعلى الدولة ويبرر هجومه بالحاجة إلى الإنقاذ من الفوضى وخطرالوضع: بمنطق التعفين المتواصل.
التعفين المعد لإنقاذ مغشوش
ما أخشاه هو أننا نعيش الآن منطق التعفين المتواصل والهادف إلى جعل الحاجة إلى الإنقاذ مطلبا شعبيا يكون مبررا للانقلاب الذي جربنا منه ابن علي الأول.
وما أظن الجبهة تخرف عندما تقول نحن مستعدون للحكم: فهي تعني انها تسهم في هذا التعفين وتعد لهذا الانقلاب بما يجعله في قالب الإنقاذ المطلوب.
فإذا جمعت ذلك وأضفت إليها دور النقابات في أجهزة الدولة ومحاولات السيطرة على الإدارة وعلى الإعلام والثقافة والجامعات فإن الصورة تصبح واضحة لكل ذي عينين.
أدوات فعل الدولة معطلة
لا أدعي التنبوء بل اعتمد على تحليل المعطيات الموضوعية. وهذا المستوى الاول يخص القوى السياسية. فلنمرالآن إلى أدوات فعل الدولة المبنية عليها.
فما يسمى بالسلط الثلاث كلها معطلة. أولا لأن الدستور الذي يفاخرون به أعتبره فاسدا وعقيما. لايحكم بلد دون تقاليد ديموقراطية بنظام برلماني.
فالسلطة التشريعية معطلة. والسلطة التنفيذية لا تثمل ارادة واضحة. والسلطة القضائية لم يتغير فيها شيء يذكر. ومن ثم فلا وجود لسلطة سياسية بحق.
فأدوات وظيفة الحماية (القضاء والأمن داخليا والدبلوماسية والدفاع خارجيا وجهازالاستعلام والإعلام السياسي)فهي لا يمكن أن تعمل من دون حل وربط.
وأدوات وظيفة الرعاية (التربية والمجتمع المدني تكوينا والثقافة والاقتصاد تموينا والاستعلام والإعلام العلمي) فلا تتجاوز حد عطالة الماضي.
الخاتمة
وإذن وختاما فعندي أن تونس تشبه سفينة بلا ربان أو بصورة أدق بربابنة لا تحصى ولا تعد وكلها تنتظر التعليمات من السفارات والمافيات التي تمولها.
فالقوى السياسية أغلبها بقيادات مراهقة يمكنها نظام الانتخاب المعمول به للوصول إلى السلطة التشريعية وقد تصل إلى السلطة التنفيذية فتصبح البلاد ملعب مراهقين.
وادوات عمل الدولة أدوات اللطف (العدل والدبلوماسية) وأدوات العنف (الأمن والدفاع) والمزاوجة بينهما لتكوين العنف الشرعي ليست خاضعة لسلطة سياسية ذات قدرة على الحل والربط الشرعيين.
وأدوات عمل الدولة أدوات التكوين والتموين الرمزيين (التربية والثقافة) والتكوين والتموين الفعلي (المجتمع المدني والاقتصاد) ليس لها استراتيجية بناء دولة ذات سيادة بل هي تحولت إلى مصنع البطالة والتسول.
لذلك فكل عاقل ينبغي أن يتوجس خيفة مما يجري وأن يعبر عن ذلك. فتونس اليوم في وضع أشبه بالوضع الذي انتهى به عهد بورقيبة: تعفين متزايد وإعداد لتبرير كذبة ثانية باسم الانقاذ (أي تكرار87 ثانية).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق