Hot

السبت، 11 نوفمبر 2017

نظام العالم الجديد وما وضعيتنا الاستراتيجية فيه؟


نظام العالم الجديد وما وضعيتنا الاستراتيجية فيه؟

كيف ينبغي أن نفهم الوضع الراهن في الشرق الأدنى؟ 
إذا بقينا نتصوره من منطلق علاقة أهله بعضهم بالبعض فنحن نخطأ خطا لا يغتفر: ليس لأي قوة من أهل الإقليم سيادة ورؤية شاملة يمكن أن تكون أصلا لاستراتيجية ذاتية لكنها شاملة بمشروعها أرضية مشتركة بينهم تأخذ بعين الاعتبار مصير كل أهله.
فمنذ أن فقدت الخلافة دورها الجامع المتعالي على الاختلاف العقدي والعرقي والطبقي -لأن الإسلام يشمل الكل صار الإقليم في حرب اهلية لم تتوقف لأنه عاد إلى ما قبل دولة الإسلام أو إلى ما بعدها بنظرية الدولة المزعومة وطنية وإلى الحضارة المزعومة قومية وصارت الشرعية لا تستمد منه.
لذلك فينبغي أن نقرأ ما يجري في الإقليم بهذا المنطق وليس بمنطق الرابطة الإسلامية بين العرب وغيرهم أو بمنطق القومية العربية بين العرب لأن مطالب الأقليات العرقية والدينية والطائفية والطبقية صارت هي المهيمنة على المحميات العربية حتى عندما تدعي أنها قومية كما في العراق وسوريا ومصر.
ورغم أن المحميات المغربية لم تدع القومية العربية فإنها محكومة بنفس المنطق لأن الأقليات العرقية والدينية والمذهبية ليس لها وعي بوحدة المصير بل هي تسعى إلى تفتيت وحدة الدويلات القطرية من منطلق العرق حتى صار الإسلام والعروبة عند بعض النخب ممثلين لاستعمار أجنبي.
وبهذا المعنى فالتحليل الذي يطابق منطق ما يجري هو الذي ينطلق من استبعاد الرابطة الإسلامية بخصوص علاقة الاقوام والرابطة القومية بالنسبة إلى العرب لأن هذين الرابطتين لا وجود في الفعاليات الحقيقية بل هي مجرد أقوال لا أحد يعمل بمقتضاها بل هم يعملون بمنطق التخلص الإسلام والعروبة.
ويمكن الآن أن نتكلم على تضافر العوامل التالية في إطار سعي القوى العظمى المحيطة بالإقليم وتسابقها للسيطرة النهائية عليه شرطا في وضع النظام العالمي الجديد الذي سيبنى على التوازنات التي تلت سقوط النظام الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى واكتمل بعد الثانية وانتهى بعد سقوط السوفيات.
وفي استراتيجية هذا هدفها الجيوسياسي يعود الدور الأول والاخير في الإقليم إلى قوة الغرب الأقصى أو أمريكا وما يتبعها في العالم وإلى قوة الشرق الأقصى أو الصين وما يتبعها في العالم. والدور الثاني والأساسي الذي يخصنا مباشرة يعود إلى ذراعي أمريكا الأداتي والغائي.
فالذراع الأداتية هي إيران وظيفتها بوهم استرداد الامبراطورية الفارسية تفتيت العرب عامة والسنة خاصة والذراع الغائية ه ي إسرائيل وظيفتها بخطة الجمع بين الأرضين الموعودتين القديمة (فلسطين من النهر إلى النهر) والحديثة (الولايات المتحدة) للسيطرة على العالم في نظامه الجديد.
وينبغي أن أضيف أن التفتيت لا يتوقف على العرب بوصفهم ممثلي ما ينبغي إزاحته من الإقليم لتحقق إيران حلمها الذي به يستغلها القطب الأمريكي الإسرائيلي بل لا بد أن يضم إليهم الأتراك: فالسنة هي الغالبية الكبرى في الإقليم وتتألف من العرب منشئ دولة الإسلام والأتراك الذين حافظوا عليها
والوضعية الحالية يمكن تعريفها بخاصيتين: الأولى أن أمريكا تمكنت بالبعبع الإيراني وعنتريات حرس ثورتها نجحت في جعل العرب يحتمون بصورة علنية بإسرائيل طريقهم إليها. والثانية نتيجة لذلك هي أن أمريكا وإسرائيل لم تبقيا بحاجة لدور إيران كجرافة توهمت السيطرة على أربع عواصم عربية.
لذلك فهما الآن أمام ضرورة استراتيجية هي اساس الدور الذي يريدان حيازته في نظام العالم الجديد: إرجاع إيران إلى حجمها الطبيعي باخراجها مما تسيطر عليه وتحويل الأمر الواقع الحالي إلى أمر واجب بدويلات أصغر من الحالية على أساس عرقي وديني وطائفي في كل دوله الحالية بما فيها إيران وتركيا.
حتى تكون كلها محميات لا قدرة لها على طموح الاستئناف عربيا كان أو تركيا أو فارسيا. والهدف ليس التفتيت بل هو أداة: الهدف هو استعادة ما به يمكن لأمريكا وإسرائيل أن تسيطرا على العالم بالسيطرة على قوتين محلهما الاكبر هو الشرق الأوسط: الطاقة والموقع الجغرافي السياسي بين الشرق والغرب
وبذلك يبدو أن الخطة تتألف من المراحل التالية: 
1. إيهام إيران بأنها قوة عظمى قادرة على استرداد امبراطورية فارس مرحلة فاعلية البعبع التي تنتهي إلى الاحتماء الصريح للأنظمة العربية عديمة الرؤية الاستراتيجية 
2. استعمالهم للصدام بين الطائفتين السنية والشيعية 
3. جر السوفيات للمعركة
فتكون الخطة مؤلفة من المراحل التالية: 
1. إيهام إيران بأنها قوة عظمى قادرة على استرداد امبراطورية فارس مرحلة فاعلية البعبع التي تنتهي إلى:
2. الاحتماء الصريح للأنظمة العربية عديمة الرؤية الاستراتيجية 
3. استعمالهم للصدام بين الطائفتين السنية والشيعية وجر السوفيات إلى المعركة
ثم:
4. إيصال المرحلة إلى ضرورة القيام بالضربة القاضية على كل القوى التي بيدها أهم مواطن الطاقة والممرات بين الشرق والغرب. 
5. وبذلك تصبح أوروبا والشرق الأقصى تحت رحمة أصحاب هذه الضربة القاضية أي أمريكا وإسرائيل. 
وإذن فنحن وصلنا إلى المرحلة الرابعة التي ربما تبدأ في بداية 2018.
ولما كانت هذه المرحلة التي نرى الاستعداد إليها جاريا أمامنا محتومة النتيجة سلفا لأنه باستثناء السذج لا أحد يصدق أن إيران وحتى روسيا يمكن أن يعتبرا قوتين قابلتين للنزال مع اسرائيل وأمريكا حتى وإن اكتفيا بإسناد اغبياء العرب لمحاربتهما عددا وعديدا كما فعلوا مع السوفيات.
خطة أمريكا وإسرائيل استعملت إيران بعبعا وأوهمتها بأنها قوة تستطيع احتلال أربعة عواصم وتسترد امبراطوريتها وأغرقت روسيا الهزيلة في معركة ليست قادرة عليها حتى يلجأ اغبياء العرب لإسرائيل وأمريكا فتستعملهم كما فعلت مع السوفيات: وهو ما بدأ حاليا.
ولا أعتقد أن تركيا وقطر يقدران على شيء في هذه الاستراتيجية فهم مثل أوروبا أعجز من أن يستطيعوا للأمر تغييرا. وأخطر وضعية يمكن أن يقعا فيها هي التحالف مع إيران وروسيا. فهذا إن حصل دليل عدم الانتباه إلى الأبعاد العالمية للمعركة. الصين نفسها لن تستطيع شيئا الآن.
سيسألني سائل: هل تقول بالاستسلام للأمر المتوقع وكأنه واقع؟
طبعا لا وألف لا. وما كنت لأن لأحلل ما أتوقعه لو كنت اعتبره قضاء وقدرا لا مرد له. وما كنت لأبين مراحل خطة عدو الإسلام -نظرية الارضين الموعودتين-لو لم تكن لي فكرة على كيفية التصدي لها بنقض غزلها.
وأول مراحل التصدي شرطا في الانتقال إلى الفعل هو تحديد المستهدفين في هذه الاستراتيجية: وهم على نوعين. النوع الاول هو المستضعفين حاليا (وهم الشرق الأدنى والغرب الأدنى) والنوع الثاني هم من يستعد لهم العدو لمنع من الوصول إلى شروط الندية (وهم الشرق الأقصى).
فالشرق الأدنى أي العرب والأتراك والفرس والكرد ومعهم روسيا ومستعمراتها الاسلامية أي من بيدهم طاقة العالم وممراته بين الغرب الأقصى والشرق الأقصى والغرب الادنى هو أوروبا القديمة التي صارت محميات أمريكية اسرائيلية وستصبح مستعمرات بالسيطرة على الشرق الأدنى.
صحيح أن توحيد هذه الجبهة التي تمثل الحضارة الإنسانية إلى حدود نهاية نظام العالم الأخير لأن نظام العالم الجديد سيبنى على ثقافة الغرب الأقصى والشرق الأقصى وهو نظام تلتقي فيه أقدم حضارة وأحدث حضارة ويجمعهما المخرب الأوسط لكل حضارة روحية: ورثة دين العجل الذهبي.
فسذج المفكرين من الحضارتين المحيطتين بالأبيض المتوسط ما يزالون متلفتين إلى الماضي ويتكلمون على حروب صليبية بين الغرب والشرق وهم غافلون على أن الغرب والشرق بهذا المعنى تجاوزهم التاريخ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية: كلاهما أصبح محمية للغرب الأقصى.
إسرائيل ليست من الغرب الأدنى هي من الغرب الاقصى هي ثمرة عقيدة استعمارية مبنية على استعادة الارض الموعودة القديمة بالطريقة التي أنشأت الأرض الموعودة الجديدة: إسرائيل انشئت بنفس الطريقة التي أنشئت بها الولايات المتحدة الامريكية بنفس العقيدة.
وهي إذن تنتسب إلى تاريخ مختلف تماما عن التاريخ الذي كان فيه الصراع بين المسلمين والمسيحيين مستثنيا لليهود باعتبارهم اعداء للملتين المتصارعتين وعملاء لكل منها ضد الاخرى. فالحروب الصليبية كلها وقعت قبل تهويد المسيحية بما يسمى الإصلاح الذي أعادة ثقافة التلمود والتوراة إلى الواجهة.
وطبعا فإعادة هذه الثقافة التوراتية لبس لبوسا جديدا هو عين تحريف الدين الإبراهيمي على لسان موسى كما حدث في "دين العجل الذهبي" أي نقيض دين موسى وغلفته بنقيض نظرية الشعب المختار أي العبودية الخفية بما يرمز إليه العجل الذهبي: سلطان المال والخداع الإيديولوجي. فالعجل من ذهب وهو خوار.
صار السلطان للبنك وللإعلام. وهما البديلان من الكنسية والاستبداد الظاهرين بما يؤدي نفس الوظيفة بمظهر عكسي. فمن عبودية البعض إلى عبودية الكل بدعوى أن حرية الجميع: فالنظام الجديد كل الناس فيه عبيدا في الأعيان للبنوك وعبيدا في الأذهان للدعاوى الإيديولوجية والدعاية الاقتصادية.
وهذا هو المشترك بين قطبي نظام العالم المقبل: فالشرق الأقصى نظام عبودي عام جلي والغرب الأقصى نظام عبودي عام خفي. سيلتقي الجلي والخفي من استعباد البشر بثقافة الكاوبوي والنمل. وهي ثقافة لا تقول بما تقول به الثقافة المشتركة في محيط الأبيض المتوسط التي مضت: فلسفة ودينا.
الاستراتيجية الوحيدة لحماية هذه الثقافة وإحيائها مشروط بالتفاتنا والتفات أوروبا إلى المستقبل والاستعداد للخطر الداهم علينا وعليهم والتحرر من الكلام على تاريخ مضى وقد يخرج أهله من التاريخ إذا ظلوا يفكرون بعقلية القرون الوسطى التي كانت صراعا بين الإسلام والمسيحية.
واضح أن هذه الاستراتيجية عسيرة التحقيق بسبب عائقين: 
1. فالغرب الأدنى (أوروبا) انطلى عليها أن استئناف الحضارة الإسلامية يهددها في المستقبل كما هددتها نشأتها في الماضي. 
2. والشرق الأدنى (نحن) انطلى عليه فكرة أن ما تقوم به أمريكا يواصل الاستعمار الأوروبي في حين أنه هو الذي قضى عليه.
فأمريكا هي التي أرجعت أوروبا إلى حجمها الطبيعي وساعدت على اخراجها من كل مستعمراتها لتؤسس لنوع جديد من الاستعمار الذي هو في نسبة ثقافة دين العجل الذهبي بالمقارنة مع ثقافة الاديان المسيانية. فالغرب الأقصى جنيس ثقافة الشرق الاقصى لا ثقافة الأبيض المتوسط.
فالغرب الأقصى لا يختلف عن الشرق الأقصى إلى بقلب دلالة الألفاظ: ذلك أنه لا فرق بين أن تكون عبدا للبنك والاعلام (وكل الإبداع الفني الأمريكي اساسه دعاية إيديولوجية عنصرية) وعبدا لأسرة حاكمة أو حزب: ذلك أن البنك هو ملك أسر حاكمة في الخفاء بمنطق العجل الذهبي.
أرباب البنوك وارباب الإعلام يسيطرون بمنطق القبيلة العالمية (قبيلة دين العجل الذهبي) على الاقتصاد والثقافة والسياسة بتوسط تجمعات الأعمال والأحزاب ومراكز البحث العلمي والاستراتيجية لبسط سلطانهم على العالم في حرب دائمة على ما يتكلمون باسمه: الحرية والكرامة للجميع.
وهنا ليست نظرية الشعب المختار مجرد كلام بل هي واقع فعلي: من بيده السلطان الاقتصادي والثقافي والعلمي والسياسي ليس إلا دمى لسلطان خفي بيده البنك والأعلام والاستعلام السلطان الفعلي الخفي وليس ظاهر السلطان الذي نراه كجياد السباق في لعبة الديموقراطية كما في اللوبيات بالحكم في أمريكا.
أكاد أسمع ادعياء الحداثة يهزؤون من قراءة التاريخ قراءة لا تستثني ما يعتبرونه من الأوهام الإنسانية أي الأديان وتأثيرها لظنهم أن ما عداه ليس هو بدوره من أوهام الإنسان ولكأن حجة التمييز بين الوهمي والحقيقي في التاريخ الإنساني يمكن أن تقنع ذا عقل يعلم دور الوهم في مجراه الفعلي.
يسقطون سذاجة فهمهم للتاريخ على غيرهم فيهملون اعتبار أهم مقومات التاريخ أعني المعتقدات سواء كانت مبنية على الأديان أو على الفلسفات: فهي جميعا مشروعات تبدأ أحلاما في الأذهان فتجعها الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود حقائق في الأعيان يندهش لها كسالى الأذهان.
ملاحظة واحدة تفحم هؤلاء السذج: كيف يفهمون الفرق بين أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة؟ 
أليست هذه في نسبتها إلى الغرب الأدنى الكاثوليكي مثل نسبة المسلمين من غير العرب إلى الشرق الأدنى السني؟ 
فمستعمرات اسبانيا والبرتغال في أمريكا اللاتينية ثقافتها من ثقافة الغرب والشرق الأدنيين
قرابتهم مع الغرب الأدنى تفسر اختلافهم عن الولايات المتحدة وهي من جنس قرابتنا مع الغرب الأدنى وامريكا اللاتينية: وكلنا توابع للغرب الأقصى أي الولايات المتحدة. الثقافة المشتركة بين الغرب الأدنى والشرق الأدنى وأمريكا اللاتينية هي ما تجاوزه التاريخ ببديل هو ثقافة الغرب الاقصى.
لكن هذه القرابة تحول دون جعلها أساسا لقطب يستأنف دوره التاريخي بحجم قوى العصر المقبل أو نظام العالم الجديد الذي هو علاقة بين الشرق الاقصى والغرب الاقصى من جنس علاقة الشيء مع نفسه في تعينها الجلي والخلقي اللذين يبدوان متناقضين وهما نفس الحضارة اللاإنسانية.
والحائل دون ذلك هو التفاتهم جميعا لماض درس: لم يعد أحد لا هم ولا نحن قادرين على تمثيل الحضارة المقبلة بسبب شرطي الحجم والقوة ومع ذلك فما زالت دمانا من النخب تتوهم أن دولها قوى عالمية لها دور فيما يجري وهم في الحقيقة توابع لسلطان جلي (الولايات المتحدة) وخفي (لوبي البنك والإعلام).
وكل استراتيجية تخطط لمستقبل الدور العالمي المشترك بين الشرق الادنى والغرب الادنى أو لا يكون شرطها الاول الوعي بهذه الوضعية وبالخطة الأمريكية الإسرائيلية التي ستجعله حقيقة فاقعة أمام الاوروبيين بمجرد السيطرة على الشرق الادنى بطاقته وموقعه الجيواستراتيجي.
فتكون أوروبا قد مرت بالمرحلة الأخيرة من وقوعها فيما وقعنا نحن قبلها فيه: اخرجت من مستعمراتها وردت إلى حجمها ثم احتلت فصارت مستعمراتها لصالح نفس من تتوهمه منها. وذلك ما حصل لنا قبلها عندما أخرجنا من دار الإسلام وعدنا إلى حجمنا قبل الإسلام ومستعمرات لنفس السيد.
إذا لم نفهم ذلك هم ونحن فلن تقوم لنا قائمة. ويكذب من يتصور أن أوروبا يمكن أن تستعيد قوتها العالمية من جديد لأنها بحجمها وثرواتها لم تعد كافية للعصر الحالي فضلا عن المقبل: ما كانت تتميز به من تفوق فقدته والحضارة المقبلة مبينة على قيم انتاجية ومنزلة إنسانية منافية تماما لثقافتها.
كل اقتصادها سينهار في التنافس العالمي لان ثقافة شعوبها ومنزلة الإنسان فيها مخيرة بين أحد حلين: إما أن تنزل إلى ثقافة شعوب الشرق الأقصى والغرب الأقصى أو أن تنهار اقتصاديا. الانهيار الاقتصادي بداية التبعية ومن ثم العبودية لصاحب القوة في العالم: امريكا والصين.
لكن إذا تعاون الغرب الأدنى والشرق الادنى ومن يشاركهم ثقافتهم في امريكا اللاتينية وبعض مستعمرات اروبا السابقة فسيتحقق عامل الحجم الذي يحمي الثقافة المشتركة فلسفة ودينا لتستأنف دورها فلا تبقى ملتفتة إلى ماض درس هو حروب القرون الوسطى إلى نهاية دور أوروبا.
ولا بد هنا من الإشارة إلى حقيقة ضمنية أكاد أجزم بأنها من أهم أهداف إسرائيل في الغرب الأدنى فضلا عن أهدافها في الشرق الأدنى: الانتقام مما عانى منه يهود أوروبا من القرون الوسطى إلى الهولوكوست. ومن ثم فتجريد ألمانيا من السلاح النووي وحيازة إسرائيل له مؤشر خطير عليهم تدبره.
وصداقة ألمانيا مع فرس إيران لسبب عرقي وثقافي (عرق الجرمان وتقارب اللسان) تفسر ما يجري حاليا من حضور رمزي في كل قضايا إيران الدولية مع الكبار ومن سند لأوهام إيران ضد سنة الاقليم وهم لا يدرون أنها مجرد جرافة لجعل إسرائيل سيدة الاقليم بسبب جبن قادة العرب.
ولكن قبل الكلام على توحيد استراتيجية جناحي الإقليم الواحد المحيط بالأبيض المتوسط أي الغرب الادنى والشرق الأدنى لا من تعاونين بين منشئ دولة الإسلام والمحافظين عليها إلى بداية نظام العالم الاخير الذي انتهى بسقوط السوفيات ثم بين المحميات من كلا القومين العرب والأتراك.
فإقليم الشرق الأدنى غالبيته عرب وأتراك: وهم تقريبا بنفس الحجم إذا اعتبرنا الأتراك الذين فقدتهم الدولة العثمانية لصالح القيصرية الروسية والتي ما تزال توابع لروسيا. القومين يقربن من المليار. واقليم الغرب الأدنى يقرب من نصف المليار فيكون الحجم قريبا من قطبي العالم المقبلين.
ذلك أن امريكا وتوابعها في الغرب وفي الشرق تقرب من هذا الحجم ومثلها الصين. فيكون القطب الثالث المؤلف من الشرق الأدنى والغرب الأدنى في ملتقى قارات أوروبا وآسيا وافريقيا من حجم نظام العالم الجديد. ومن دون ذلك سيتقاسم آسيا وأوروبا وافريقيا العملاقان الأمريكي والصيني.
ونبقى نحن وأوروبا نتغنى بأمجاد الماضي وبحروب تجاوزها التاريخ لأننا فقدنا دورها في حاضره ولم نستعد بتحقيق شروط الاستئناف لدورنا في المستقبل. اعتقد جازما أننا في هذه المرحلة لا يمكن أن نتجاوز الرد الفكري والعقدي لبناء هذا القطب وتحرير شعوب محيط المتوسط من الدونكيخوتية.
فرضية "الأيدي الخفية" في لعبة الديموقراطية (سياسيا: حرية الإرادة) والاقتصاد الرأسمالي (حرية السوق: حرية القدرة) تنبني في مجرى الطبائع العقلية على ما يشبه مفهوم العناية في القول بالقضاء والقدر مجرى الشرائع الدينية: كلا التصورين يفترض غائية خفية في مجرى أحداث التاريخ الإنساني.
لكنها في الحقيقة ليست مجرد فرضية لان فيها وجها خفيا حقيقيا هو ما وراء اللعبتين السياسية والاقتصادية: فوراء المسرحية السياسية والمسرحية الاقتصادية لحرية الإرادة والقدرة والممثلين اللاعبين على ركح السياسة والاقتصاد الجلي مؤلفون خفيون يضعون سيناريو لعبة ظاهرة لإخفاء لعبة باطنة.
وهؤلاء المؤلفون هم من بيدهم السلطان الفعلي على الرمزين: رمز الفعل أو العملة وفعل الرمز أو الكلمة. فأصحاب البنوك وأصحاب الإعلام (وكل الإبداع الرمزي يوظف إعلاميا للسياسة والاقتصاد) هم المؤلفون الحقيقيون من أصحاب الإرادة والقدرة للعبتين السياسية والاقتصادية الظاهرتين.
ومهما أحكم التخطيط الاستراتيجي يبقى فيه ما لا يقبل التحديد المطلق ومن ثم فغالب اللامتوقع من أحداث التاريخ يفلت من بين أصابعهم فيصبحون هم بدورهم منفعلين لما لا يستطيعون الإحاطة به ومن ثم فنسبة استراتيجية التوقع إلى الأحداث الفعلية هي عين نسبة المعرفة إلى موضوعها: استحالة الإحاطة.
وهذه الفضالة هي التي ينطبق عليها مفهوم الأيدي الخفية كفرضية تفاؤلية في السياسة والاقتصاد وحتى في نظرية المعرفة المبنية على أن العلم يصل إلى الحقيقة في "المدى البعيد=نظرة اللونج روان عند بيرس). وثلاثتها شبيهة بالقول بالقضاء والقدر والعناية الربانية في الاطمئنان لمجرى الأحداث.
سلطان رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة) هما بعدا دين العجل الذهبي: فالذهب فيه هو رمز الفعل أو العملة والخوار فيه هو فعل الرمز أو الكلمة. والأول سلطان مادي والثاني سلطان رمزي وبهما يتحكم المعنى الأول للأيدي الخفية فيما يقبل التوقع ويخضع للخطط الاستراتيجية من تاريخ الإنسان.
أما الوجه الثاني من "الأيدي الخفية" عند العلمانيين فهو ما ينسبه اصحاب الرؤى الدينية إلى العناية الربانية شرط الاطمئنان في كل عمل لأن مجرى العمل أي عمل بالقياس إلى مجرى النظر هو في نسبة المتناهي إلى اللامتناهي: كل علم مؤلف من بنى نظرية متناهية العناصر والعمل عناصره لامتناهية.
فالعلم يرد لامتناهي الوجود إلى متناهي إدراكه. لكن العمل رغم كونه مبنيا على النظر فهو لا يمكن أن يكتفي بما في النظر من عوامل بل لا بد من العودة من المجرد إلى العيني والعيني هو بالطبع لامتناهي العناصر في نسبة التحدد المفهوم للعين الموجودي. كلما كثرت عناصر المفهوم قلت عناصر الماصدق.
والعين المفردة من المفروض أن تكون ماصدقا لمفهوم لامتناهي. ولما كان العلم لا يمكن أن يدرك اللامتناهي المفهومي الذي له عين واحدة يصدق عليها استحال أن يرد العمل في الأعيان إلى النظر في الأذهان. وتلك هي علة عسر السياسة والاقتصاد وكل عمل خاضع لخطة استراتيجية نظرية دائما.
ذلك فلا تخلو سياسية واقتصاد من جزء كبير من المغامرة التي تقاس بمقدار ما يقبل منها من صوغ نظري دقيق يقرب مفهومه بعناصره إلى ماصدقه بعناصره المؤثرة فعلا في تحقيقه الفعلي سياسيا واقتصاديا. وهذان الشرطان يتضاعفان فيهما لأنهما يتعلقان بأطراف التنافس فيهما وعليهما.
وعندما يدور الكلام على استراتيجية عالمية للعوامل المتدخلة في الاستعداد لنظام عالمي جديد فإن المسألة تكاد تكون متعذرة على الصوغ النظري. لكن ضرورتها تقتضي القيام بها مع العلم بأن مقدار المغامرة فيها كبير جدا. وهو مع ذلك أفضل من الرماية في عماية التي تسيطر على فكر نخب العرب.
ونحن في هذه المحاولة نبحث في الاستراتيجية العالمية لبناء نظام العالم الجديد. وهو مطلب شرطه بيان عناصر الجدة فيه بالمقارنة مع النظام الذي هو بصدد مغادرة ركح التاريخ ليترك مكانه للنظام الذي هو بصدد احتلاله: وهنا نجد أنفسنا أمام أبعاد الزمان التاريخي الخمسة.
اضطررت لوضع نظرية الأبعاد الخمسة للزمان التاريخي لتمييزه عن الزمان الطبيعي: فهو ليس زمان الاحداث وحدها بل هو زمان الأحاديث المصاحبة لها والواصلة بين فعلية الأحداث ورمزية الأحاديث. فالماضي مضاعف أحداث تمضي وأحاديث حولها تبقى بعدها والمستقبل بعكسه أحاديث تمضي وأحداث تبقى بعدها.
أما الحاضر هو صراع التحول في الأحاديث المحول للأحداث قيميا ودلاليا. فتكون أبعاد الزمان التاريخي بذلك خمسة وليست ثلاثة مثل الزمان الطبيعي. وأهم ما في الأحاديث حول الماضي والمستقبل وصراعها في الحاضر هو تأويلاتها لما تذكره من الاحداث الماضية ولما تتوقعه من الاحداث المقبلة.
وفي هذه الحالة التي تتعلق بالنقلة من نظام للعالم قديم إلى نظام للعالم جديد لا يمكن الاقتصار على الفاعلين الأساسيين في عملية الانتقال ودورهم في أحداث الماضي وأحاديثه وفي أحاديث المستقبل وأحداثه كما يتجلى الدوران المضاعفان في راهن التاريخ الذي هو غليان حدثي وحديثي.
وأول شيء يثبت عمى ادعياء الحداثة من العرب أنهم لم يفهموا علة كون الإسلام في راهن هذه المعركة التاريخية الكونية في النظام الماضي وفي النظام الذي يراد بديلا منه من عناصر المعركة الجوهرية وإن بحضور سلبي منذ فجر التاريخ الحديث: صراع مع الغرب الأدنى تلاه الآن مع الغرب الأقصى.
فلا يمكن فهم العصور الوسطى والنقلة منها إلى العصور الحديثة من دون دور حضور الإسلام في التاريخ الفعلي بأحداثه وأحاديثه ولا يمكن الآن الكلام على النقلة من هذين النظامين إلى النظام البديل الذي نراه بصدد البناء والابتناء بالعين المجردة ونحن فيه فريسة من يستعد إليه متوهما يسر صيدنا.
نحن الآن بؤرة هي المسعى لبناء النظام الجديد ومن ثم فليس من المصادفة أن تكون حروب الاستعداد له كلها جارية في دار الإسلام التي هي ما بدون حيازته يمتنع على المتنافسين تحقيق شروط السيادة فيه. وما لم نع ذلك ولم يع الغرب الأدنى أننا في نفس الوضع لن يعتدل نظام العالم.
كل من يتصور من الأوروبيين أن التفتيت مقصور على دار الإسلام لم يدرك أنهم دور أوروبا مثل دور المسلمين لن يكون بحجم العصر المقبل إذا ظلوا دونكوجوتيين يحاربون نواعير الماضي: فالحضارة المقبلة في قطيعة مطلقة مع الحضارة التي نمثلها رؤيتها معا فلسفيا ودينيا.
وما يرونها حاليا من تفتيت لدار الإسلام قريبا سنرى مثله لدار الغرب الادنى الذي عاد إلى حجمه الطبيعي بفقدان مستعمراته وسلطانه على العالم ولن يستطيع استئناف دوره العالمي ونحن مثله إلا بتجاوز ما بين ضفتي المتوسط من تاريخ مضى وانتهى لنبني معا قطبا معدلا لنظام العالم.
الغرب الادنى مهدد مثلنا بأن يعود إلى الصراعات العرقية والطائفية والتفتيت الجغرافي والتشتيت التاريخي وقد بدأ بعد وسيتم بمجرد أن يستفرد الأمريكان الإسرائيليون بالسلطان على الشرق الأدنى طاقاته ومواقعه الجغرافية السياسية لأن أوروبا عندئذ ستكون رهينة تبعيتهما الأبدية لهما.
لذلك فما يسمى بالإرهاب والحرب عليه لا يستهدفنا وحدنا بل يستهدف أوروبا كذلك حتى لا تدرك هذه الضرورة الاستراتيجية وتعيس على ما يحيي فيها استعادة التاريخ الذي مضى فتعتبر الإسلام هو العدو. ومن ثم فالذين يدعون الجهاد باسم الإسلام لا يدركون أنهم مثل إيران يخدمون إسرائيل وأمريكا.
فمن يضرب أوروبا حاليا من هؤلاء الأغبياء ما زالوا مثل اليمين الأوروبي يعيشون في ماضي حروب الفتح وحروب الصليب وحروب الاسترداد وحروب الاستعمار الأوروبي وكلها من الماضي الدارس. اليوم الحروب لاخراج المسلمين من الجغرافيا والتاريخ بعقيدة صهيونية مسيحية وباستراتيجية السيطرة على العالم
وهذه الحرب التي إلغاؤنا هو رهانها ليست إلا استعدادا للتنافس على سيادة العالم بين الغرب الأقصى والشرق الأقصى وهي سيادة مشروطة باستعمار الغرب الادنى والشرق الادنى. وهما محميتان للغرب الأقصى وذراعه الإسرائيلية وجرافته الفارسية والأنظمة العربية العميلة وميلشياتهما والنخب المغتربة.
قد يعجب القارئ إذا سمعني اقول إن أعسر المراحل في بناء هذا القطب في نسبة متعاكسة مع مكوناته: فايسر المراحل هو توحيد الرؤية بين الشرق الأدنى والغرب الادنى وأصعبها هو توحيد الرؤية في الشرق الأدنى وفي الغرب الادنى. ولكل مهمة مرحلتان: كيف توحد رؤية أي قوم في الإقليمين؟ ثم بين أقوامه؟
ومعنى ذلك أن وحدة العرب هي الاعسر على الاطلاق. وليس ذلك لأنهم نكصوا إلى الجاهلية فحسب بل لأنهم أكثر شعوب الإقليم تبعية حكامهم ونخبهم وأقلهم عقلانية وقدرة على التخطيط الاستراتيجي إذ لا يزال الفكر عندهم لم يتجاوز المستوى المباشر وقليل منهم يستطيع أن يصبر على البحث النظري.
ما تزال ثقافة الذاكرة النفسية والحفظ وعشو الدماغ بالخرافات سواء كان أصحابها يدعون التأصيل أو التحديث للخلط بين تاريخ الأفكار والفكر وبين ميت التراث والإبداع الفكري ولو حاولت فهم من يدعون التجديد منهم لوجدتهم أكثر تقليدا حتى من مفكري عصر الانحطاط الإسلامي.
وفي الحقيقة فإن أكبر عائق أمام الاستئناف الإسلامي هو هذه الحالة التي جعلت قلب الإسلام -العرب-وخاصة الذين من الله عليهم بثروة زائفة في المشرق والمغرب. فهم مثل الورثة العاقين الذين يأكلون التركة ولا يعملون شيئا لتعويضها بما ينتجونه لأنهم لا ينتجون شيئا: كل شيء مستورد.
لعل شعوب أمة الإسلام الأخرى في حال أفضل من العرب حتى من كان منهم من أفقر دول العالم. ويكفي أن تقارن ما استفاد به الهند حتى باكستان في نصف القرن الماضي من تنافس القطبين وما خسره العرب خلال نفس التنافس. فالهند وباكستان رغم فقرهما حازا على شرط الحماية في عصر الذرة.
أقصى ما بلغته أكبر دولة عربية هو صناعة الخراطيش وكذبة الصواريخ الناصرية. واقصى ما حققه من يزعمون أغنياء العرب هو نطح السحاب وتجارة الكعاب. فالجزائر تزدادا فقرا والاستثمار العربي لا يتجاوز الفنادق والبيادق لكنهم عزل يمولون مستعمرهم بدعوى حمايتهم من بعضهم البعض.
فكيف يمكن في هذه الحالة إحياء الطموح لدور عالمي مثل المؤسسين الذين أسسوا أكبر امبراطورية في تاريخ العالم لا تضاهيها إلا امبراطورية الولايات المتحدة الحالية؟ 
لعل الأتراك أفضل حال لكنهم ليسوا قابلين للقيس بشروط السيادة الحالية في عالم العماليق: لن يسمح لهم بالسلاح الحاسم.
ولا سيادة في أي عصر من دون السلاح الحاسم وهو نوعان: 
1. شرط الرعاية وهو علمي تقني وعملي اقتصادي.
2. وشرط الحماية وهو أخلاق السياسة وسلاح الدفاع الحاسمين. والرعاية تكوينية (التربية والمجتمع) وتموينية (الثقافة والاقتصاد) وأصلها جميعا البحث العلمي
والحماية هي أخلاق السياسة وسلاح الدفاع. وأخلاق السياسية الداخلية الحاسمة هي القضاء العادل والأمن الجمهوري وهي في السياسة الخارجية الدبلوماسية والدفاع الحاسم. واصلها جميعا هو الاستعلام في خدمة أمن الأمة والدفاع عن سيادتها بعكس الجاري حاليا.
حصيلة القول إن أصعب قضية في هذه الاستراتيجية هي استعادة العرب للهمة والذمة حتى يكونوا جديرين بما ورثوه ويحسدون عليه: كما تجولت في قطر عربي أسأل نفسي كيف للأقوياء ألا يغريهم افتكاكه من شعوب بلهاء ليس لها أدنى وعي بأن غيرها يمكن أن ينزعها منها لكونه عزلاء؟
وكلما اطلعت على الرسائل الجامعية التي يتخرج بها دكاترة العرب وخاصة في التعليم التقليدي (الأزهر أو الزيتونة والشرق في وضع أسوأ) أعجب مما يجري: محفوظات في علوم ميتة لم يعد لها أدنى دور لا في سياسة الدنيا ولا في أخلاق الآخرة. كلام أجوف لا معنى له في بناء الحضارات.
وفضلا عن كونه ليس علما فإن ليس حتى تاريخ علم. هو من جنس ما آل إليه التأليف بعد القرن التاسع للهجرة: محفوظات لا فائدة منها لا في العلم ولا في العمل لأن العلم من جيل آخر من الفكر ولأن العلم في الدول كلها لم يعد له أدنى صلة عدا النفاق الديني للحكام بما يجري في عملها.
ولهذه العلة فلا شيء من وظائف الدولة الحديثة يمكن أن تنجز عملها بالمواصفات التي تمدها بالفعالية التي تحققه بها المطلوب منها لسد الحاجات المنتظر منها وهي إذن مؤسسات عقيمة لا يستفيد منها البناء الفعلي لقوة الامة المادية والروحية. فصار الاعتماد على الخبراء الاجانب تبعية دائمة.
وذلك يتبين في أهم وظيفة للحماية من الامراض ومن الأعداء: ففي الامراض التخلف في الصحة والغذاء يجعل تعليمنا الحديث منذ قرن في أدنى المستويات في الطبابة لأن الأغنياء كلهم يتعالجون في الخارج فلا يجهزون كليات الطب والمستشفيات بما يمكن من تكوين سليم.
أما الفاضحة الكبرى فهي منجزات جيوشنا: فهي لم تربح حربا خلال قرن وهي مجرد مافية لنهب البلاد والعدوان على العباد. وكلما رأيت جنرالا عربيا يزين صدره بالنياشين لا أرى فيهم إلا دونكيخوت على ظهر جواده يحارب النواعير لكن نواعيرهم هي شعوبهم.
أما عندما أرى طراطير العرب يزينون صدورهم بالنياشين وما أكثرهم فإني أعجب ممن هم لدى الحماة مجرد غوافير على محميات اتفقوا على معاملة سكانها معاملة الانعام يحلبونهم وأرضهم لملء خزائن العدو والاستمتاع كما يفعل المخلدون إلى الأرض لا يتوقفون عن لهيث الكلاب السائبة.
فحتى أخلاق الجاهلية لم تسقط إلى هذا الحضيض: والدليل أن الرسول وجد فيها من الرجال والنساء ما مكنه من أن يؤسس لأكبر امبراطورية في العلم في أقل من نصف قرن. أما أخلاق العرب الحاليين فقد جعلت أقصى طموحهم ولاية في محمية لسيد الامس الذي حاربه آباؤهم لاستعادة المجد.
كيف بهؤلاء ونخبهم أن يستعيد العرب قيادة الامة حتى يكونوا طرفا في استراتيجية تمكن الغرب الأدنى والشرق الأدنى أن يؤسسا لدور في التاريخ الكوني بالحجوم التي يفرضها وبشروط الرعاية والحماية التي وصفت؟ العرب هم الذين قتلوا في شبابهم هذا الطموح إذ أسسوا شرعياتهم على ما قبل الإسلام.
كل محمية تدعي أنها أمة وتبحث لها عن شرعية متقدمة على الاسلام فكانوا هم أول محاربيه قبل أعدائه من داخله أو من خارجه: عندما يصبح العراقي بابليا والسوري فينقيا والمصري فرعونيا والتونسي قرطاجنيا وهلم جرا فذلك يعني أنهم يؤسسون المحميات على نفس وحدة المشتركات.
ولما كان ما أسسوه لا يمكن أن تتوفر فيه شروط السيادة رعاية وحماية فهم قد أسسوا محميات الجوهر: خذ لكل كل الإمارات والمشيخات والملكيات والجمهوريات العربية وستجدهما اسماء لمحميات من استعمر دار الإسلام استعمارا زاد عمقا بعد ما يسمى بالاستقلالات مادية روحيا.
أعلم أن الفكر المباشر لا يرى علاقة بين هذه الامور وما أبحث فيه من بناء استراتيجي يمكن من الاستئناف أو على الأقل من عدم البقاء فريسة لكل من هب ودب حتى صرنا أحقر الامم في عصر العماليق أقصى ما يحلم به اغنياؤها هو الاكل أكل الأنعام وبناء المواخير ظنا أن ذلك هو غاية الوجود الإنساني.
فهل يمكن بعد ما وصفنا أن يصبح أكبر دولتين عربيتين أحداهما تدعي الحداثة والقومية والثانية الأصالة والإسلامية مجرد محميتين لناتن ياهو خوفا من مليشيات إيران وأملا في إيقاف ثورة شعبيهما حتى يبقيا على المافيات التي حكمت لنصف قرن نتيجته هذا الوضع المخزي؟
ولما كان البدء المضطر -والمضطر منه نظرا للغاية من البدء هو إما عربي بداية صراع الإسلام والغرب الأدنى أو تركي غايته-هو تكوين ولايات متحدة عربية. وما يلاحظه أي مطلع على تاريخ بدايات النهضة في القرنين الماضيين هو أن هذا الهدف يبتعد ولا يتقدم: كان قريبا من الغاية وصار أبعد بكثير.
ففي القرن التاسع عشر لم يكن العرب متفتتين ومشتتين كما هم اليوم رغم أن الدويلات المنفصلة كانت قائمة لكن انفصالها كان أمرا واقعا وليس امرا واجبا: لم تكن أي منها تعتبر نفسها أمة بل الشعور العام كان الانتساب إلى نفس الامة لكأن الانفصال كان إداريا فحسب.
وبقي ذلك حتى وهم تحت سيطرة الاستعمار الذي قسم الارض قسمة أولى قبل الحرب العالمية الاولى ثم بعدها عندم عم الانتداب على جل بلاد المشرق والمغرب سبقه في تقاسم فرنسا وإيطاليا لجغرافيته. لكن الاستعمارين لم يفرضا حدودا حديدية كما فرضته الدويلات المزعومة وطنية.
ولما تكونت المجموعات الإقليمية حصل ما يلي: 
1. مجموعة مغربية 
2. ومجموعة خليجية 
3. وانفرط عقد النيلية باستقلال السودان على مصر 
4. ولم تتكون مجموعة القرنين (بين افريقيا والجزيرة العربية) 
5. ومجموعة الهلال (بدولها الخمسة العراق وسوريا ولبينان والاردن وفلسطين).
فكان ما تكون اثنتان من خمسة ممكنة وكانتا هشتين ومنافيتين للهدف الأسمى الذي يمكن أن يكون غاية الجامعة العربية. لكنها كانت في الحقيقة من جنسها بوحي من المستعمر لتيسير تعامله مع مستعمراته وليست مرحلة في بناء ولايات متحدة عربية كما كان ينبغي أن يكون عليه الأمر.
ولذلك علامات في المجموعات الخمس التي كان يمكن أن تتكون وليس ما تكون منها فحسب: فاستثناء العراق واليمن من المجموعة الخليجية ذو دلالة. واستثناء مصر ومعها السودان من مجموعة شمال أفريقيا ذو دلالة. وللمنعنين نفس الدلالة: منع الوصل بين الهلال والقرنين ووصل المغرب بالنيل ووصل عرب القارتين.
فتفككت مجموعة النيل و مجموعة المغرب والآن تتفكك مجموعة الخليج وتبينت علل عدم تكون مجموعة الهلال ومجموعة القرنين الأفريقي والآسيوي من فوق ومن تحت: من فوق بين افريقيا وآسيا عن طريق مصر ومن فوق بينما عن طريق اليمن: وغاية الانظمة التي نصبها الاستعمار واحدة.
وهي بينة من نظام الجامعة العربية. فهي جامعة أنظمة لا جامعة أمة. وهو نظام الاجماع الذي يعني استحالة انجاز ما يمكن أن يكون ذا أهمية لأن أي واحد من أعضائها يمكن أن يوقف عملها. وفي ذلك فرصة سلطان المستعمر على الجميع لأنه لا بد أن يجد واحد أو أكثر يرفض ما يطلب منه رفضه.
وقد وصل الأمر إلى أن المستعمر وذراعه في أرض العرب يمكن أن يطلع على كل شاردة وواردة من أي خطة سرية يمكن للعرب أن يخطر في بالهم التفكير فيها بل إن لقاءات الجماعة تنقل نقلا حيا في حينه مهما كانت جلساتها مغلقة. فالجواسيس يوجدون حتى بين رؤوس "الدول" المحميات.
وقد وصلنا في مهزلة المهازل الجارية حاليا في الخليج إلى أن صارت الأنظمة العربية وظيفتها الأساسية فضح بعضها البعض وإمداد العدو بالتهم والأسرار التي يحتاج إليها لكي يبتزهم جميعا بما يبلغه كل منهم حول أخيه الذي صار يعتبره أعدى أعدائه.
يكفي أن نعلم أن من كان يساعد محتل جزره لكي ينقذه من الحصار المالي هو من يريد محاصرة واعلان الحرب المالية على أخيه حتى يمنعه من تنظيم أول عمل يمكن أن يعيد للعرب بعضا من دور كوني على الاقل في الألعاب لأنهم أعجز من أن يكون لهم دور في الأمور السيادية.
وما ينفقه العرب للكيد لبعضهم البعض كان يمكن أن يحقق معجزة في الإقليم العربي شبيهة بمعجزة مارشال الذي أخرج أوروبا من مخلفات الحرب الثانية ومكنها من اعادة البناء والاستئناف التنموي العلمي والاقتصادي بسرعة مذهلة وما كنا لنكون في هذا الوضع لو بقي للعرب شيء من الكرامة والشهامة.
وفي الحقيقة ليس الأمر متعلقا بالكرامة والشهامة فحسب لئلا يظن أن كلامي عاطفي أو إنشائي. الأمر ذو صلة باستراتيجية تحقيق شروط الرعاية والحماية. لو كان للعرب ذرة من الفكر الاستراتيجية لفهموا أنه لا توجد دولة عربية لها القدرة عليهما مهما ضخت من بترول فضلا عن التي لا بترول لها.
ومن ثم فكون الدول العربية محميات ليس من فعل الاستعمار بل من فعل حكامها ونخبها الذين يفضلون محمية فاقدة للسيادة تماما على ولاية سيدة نسبيا من أمة ذات سيادة كونية لأنها تكون قادرة على الرعاية وعلى الحماية شرطيها في كل عصر وخاصة في عصر العماليق.
هي دول وهمية أدنى منزلة من أي ولاية من ولايات أمريكا أو حتى من أقاليم سويسرا التي لا تكاد ترى إلا بالمجهر: ألمهم أن يكون الحكما حاملا لاسم امير أو شيخ أو ملك أو رئيس وهم جميعا مرؤوسين من أدنى موظف في وزارتي الدفاع والخارجية لمستعمر الأمس ثم لذراعيه إسرائيل وإيران.
وتقريبا منذ أكثر من عشرين سنة نسمع وخاصة بعد أن صارت القمم سنوية عن السعي لتعديل نصوص الجامعة العربية حتى تصبح مؤسسة ساهرة على التكامل العربي لكنها كانت في الحقيقة بصدد التحول إلى شاهدة على التنافر العربي حتى تحولت إلى مكتب صغير في خارجية أكبر عميل لإسرائيل.
وطبيعي أن يكون الامر كما هو عليه لأن الحكام العرب في المحميات التي يسمونها دولا وطنية لا يتنافسون بمنطق التسابق في الخيرات بل بمنطق التحاسد في المنجزات على ضآلتها فيكون المنطق هو تهديم زيد لما ينجزه عمرو وكان ذلك بين مصر والعراق وبين المغرب والجزائر ثم عم الجميع.
ولما كان هذا المنطق صار تعاونهم الوحيد على الاثم والعدوان فيما بينهم أو فيما يتفقون عليه من تهديم لعربي آخر يشتركون في محو أي عمل يمكن أن يفخر به العرب: فالذي كذب على العراق في قضية السلاح النووي رئيس مصر بشهاد رئيس أمريكا. والذي يريد إسكات الجزيرة وافشال الألعاب في قطر اعراب.
وفي هذه الحالة لا تحتاج إيران ولا إسرائيل لإنفاق مال من اجل التجسس على عربي يعمل بجد لتحقيق شيء ما: كلاهما تأتيه المعلومات من كل صوب وحدب في عربي ولو كان واحدا. وهنا لا بد لي من إشارة مؤلمة: لما صار العرب الذين تعلموا قبل غيرهم يتحولون إلى شياطين فتنة في الإعلام والخبرة؟
ما السرطان الذي اصاب أهل الهلال وفلسطين إلى أبواق صحفية ودينية وخبروية وظيفتها "التحميش" والاستشارة الخبيثة التي تعمق الحقد بين سذج العرب من حكام ونخب لمجرد أنهم سبقوهم في التعلم إما بفضل الإرساليات الدينية أو بفضل الاستعمار الإسرائيلي ومدارس الأونروا؟
هل هذا الدور التخريبي طلائعية عند مثقفي العرب؟ 
لماذا كان الجيل الأول في القرن التاسع يسهم بحق في إحياء العربية وآدابها وتراثها العلمي والحضاري واصبحت الأجيال المتأخرة لا وظيفة لها إلا الارتزاق الاعلامي والخبروي في صحافة وظيفتها تأجيج الفتن بين أنظمة عربية محكومة بأحوال النفس؟
كيف صار العرب لا طموح له إلا أن يعمي أخاه حتى لو كان أدى إلى ان يصبح أعور؟ 
هل يمكن للمغرب أو للجزائر أو للسعودية أو لقطر أو لمصر أن تستفيد بشيء إيجابي إذا حارب حكامها بلدا عربيا آخر لمنعه من يسبقه بإنجاز من المفروض أن يتعاونوا عليه أو يتنافسوا في تنويعه؟
هل يوجد بلد عربي له من الثأر والانتقام مع بلد عربي آخر بدرجة ما بين ألمانيا وفرنسا؟ 
كيف يلتقي الألماني والفرنسي ولا يلتقي السعودي والقطري أو الجزائري والمغربي أو العراقي والسوري أو التونسي والليبي أو أي عربي مع أي عربي ليس بنهم عداوة من يحرضهم بعض على بعض لهم جميعا؟
وطبعا فالعلة بينة: لو لم يكن ما يحكم السلوك أحوال النفس عند الحكام والنخب وكان ما يحكم السلوك الفكر الاستراتيجي الذي يفهم معنى المصلحة المشتركة وشروط السيادة رعاية وحماية لما كان ما يجري جاريا خاصة وكل بلد عربي ليس بمنأى عن طمع الأعداء الذين يحتمي بهم.
مالهم يخلطون بين السياسة ولعب الأطفال الذين يتنافسون بصبيانية معارك الأطفال في الأحياء القصديرية حول ما يشبه الكرة من الخرق التي يتقاذفونها بأرجلهم الحافية؟ 
ما الذي يمكن لأي دولة عربية أن يدعوهم للتحاسد وهم جميعا توابع حتى في قوت يومهم المستورد بثورة ورثوها عن آباء هم عاقوهم؟
كيف يعقل أن تكون الجزائر التي كان مستعمرها في بداية التاسع عشرا مدينا لها بما استورده من غذاء تستورد اليوم قوتها اليوم وهي مساحيا أكبر من فرنسا مرات ومرات؟ ما الذي يجعلها لا تكون قلب المغرب العربي وقاطرة وحدته حتى تصبح أقطاره ذات سيادة بدلا من الاستعداد لمحاربة بعضهم بعضا؟
وما قلته عن الجزائر يصح على بقية العرب. لكني ضربت مثال الجزائر لأنها من المفروض أن تكون طليعة هذه الاستراتيجية نظرا إلى أنها تمثل عودة الشجاعة التي عرفت بها الأمة في جهاد طويل أدخل الامة إلى التاريخ الحديث في ثورة ألإنسانية المقاومة للاستعمار والاستبداد والفساد.
من له نزر من كرامة وحرية وشرف لا يمكن ألا يمرض بمجرد تأمل ما يجري في إقليمنا الذي كان متجانس الطموح ومعترف بتنوعه العرقي والديني بدليل نجاحه في مقاوم الاستعماري وكيف انقلبت فيه الأمور إلى عكسها بسبب نخب جديدة تتصور نفسها متحررة وهي تعمل كل شيء لتفقد سيادتها وحريتها وكرامتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق