أبو يعرب المرزوقي - منزل بورقيبة في 2013.06.06
بلغ النقاش حول المسائل الدستورية وحول المنهجية الأقدر على تحقيق أهداف الثورية حدا جعل النخبة السياسية والثقافية والإعلامية خاصة تتحول إلى مجرد منبرين بصبيانيات يخجل منها كل من يحترم نفسه ولا يريد لها الابتذال فيقبل بالجدل سيء النية حول شكليات قوانين يحتكم إليها في حين أن الثورة قامت عليها وعلى كل ما ترتب عليها من ظلم و حتى كادت الثورة تتحول إلى سجينة إرادة المجالس النيابية المزيفة والتي وضعتها الإرادة التي تحولت إلى مقدسات عند يساريي عقاب الزمان وتقدمييه.
لذلك فإني سأترك هذه المهاترات لأربابها لأبحث في المشترك بين الأصوليتين اللتين تعاني منهما الثورة في تونس ومصر واللتين تتمعشان من كاريكاتورين أحدهما صار بديلا من الإسلام الكوني عند الأصولي الديني والثاني بديلا من الحداثة السوية عند الأصولي العلماني. وما كنت لأعلق على هذا المناخ المرضي لو لم يسقط فيه حتى من كنا نتصورهم رجال دولة تهمهم مصلحة الوطن ولا يغترون بالشكليات البيزنطية التي لا تهدف إلى تحصين حقوق الإنسان لأنهم يعلمون أن النصوص لا تحمي شيئا وأن الحامي بعد الله هو الشعب الذي لم يعد ينطلي عليه بهتان الدجالين من بقايا نظام الفساد والاستبداد وخدمه الطيعين.
فما نراه يدور في الأعلام سواء في وسائله الرسمية أو ما يسمى بالتواصل الاجتماعي ليس بحثا عن شروط تحقيق التحرر من التبعية السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية وحتى الروحية التبعية المطلقة التي غرقت فيها بلداننا بعد الاستقلال بنسب تفوق آلاف المرات ما كانت عليه خلال الاستعمار المباشر. وما لم تتأكد النخب المستبدة والفاسدة أن الشعب مستعد إن اضطروه إلى مقاومتهم مقاومته للمستعمر الذي كان يعامل التونسيين معاملة "انديجان" فإنها لن تعود إلى رشدها فتترك البلاد تخرج من مآزقها:
كل الاعتراضات على الدستور وعلى كل شيء ليست إلا تعلات لتركيع الشعب لإرادة الأقلية الفاسدة والمستبدة.
أما مطلبي في هذه المحاولة فهو الجواب عن هذا السؤال:
ما المشترك بين هذين الانحرافين في الفكر السياسي للنخب العربية خاصة ولنخب الربيع العربي بصورة أخص؟
فقدان البصيرة بسبب الإخلاد إلى الأرض
تشترك الأصوليتان الدينية والعلمانية في فقدان للبصيرة ليس له مثيل لعل سببه الأبرز هو التنافس المقيت على المصالح العاجلة حتى ولو أدى ذلك إلى إفلاس البلاد أعني تونس ومصر خاصة:
فكلتا الأصوليتين تحصر مسائل الأمة كلها في مسألة واحدة تغطي بها عن مرضها السلطاني رغم أنهما يبدوان في علاجها مختلفين
إذ يوجبه أحدهما ويسلبه الثاني:
كلاهما يجعل قضايا الأمة كلها تدور حول تدين المسلمين عقدا وممارسة سواء اقتصر الأمر:
على ما يُزعم من سعي لإعادة المسلمين إلى الدين بعنف الحكم (الأصلانية الدينية)
أو على ما يُدعى إليه من تخل عن الدين عقدا وممارسة بعنف الحكم (الأصلانية العلمانية).
ذلك أن ما ينسب إلى علاقة الخطاب السياسي بعد الثورة وحتى قبلها عند المتقدمين لحكم المسلمين بالدين إيجابا (الموقف الأول) أو سلبا (الموقف الثاني) ليس هو إلا أحد أعراض طغيان صورة العمران التي رضي أصحابها بالتبعية على مادته التي هي مصدر التبعية التي رضوا بها. فالحكم (السلطان الفعلي) والتربية (السلطان الرمزي) هما اللذان يفسدان بفسادهما وتبعيتهما مادة العمران أعني الاقتصاد (أداة السلطان الفعلي الرئيسية) والثقافة (أداة السلطان الرمزي الرئيسية) أو العكس كالحال عند كل من يعتبر الحكم مرقاة للإثراء السريع بديلا من العمل الجاد لتكوين الثروة بالإبداع المنتج. فينتهي المطاف إلى إفساد علاقة الإنسان بكل ما يتعالى على الإخلاد إلى الأرض بل وقد يفسدان الدين ذاته: لذلك عللت سورة آل عمران تحريف الأديان بالتواطؤ بين رجال الدين سواء كانوا من الأصولية الدينية التقليدية أو من الأصولية اللادينية الحديثة ورجال الحكم الذين يستغلون صنفي العنف الروحي من أجل المصالح المادية.
وبذلك يتبين أن فساد علاقة الإنسان بالدين سلبا (سبب الانحطاط) أو إيجابا (سبب التقدم) عند الأصولية الدينية أو عكس هاتين القيمتين للعلاقة عند الأصولية العلمانية ليس هو إلا نتيجة لطبيعة استعمال صورة العمران (الحكم والتربية) الاستعمال السيء المؤدي إلى سوء استعمال مادته (الاقتصاد والثقافة) من أجل استعباد الإنسان بهما واستغلاله. ولما كانت الثورة قد حررت بعض الشيء صورة العمران على الأقل ما ظلت جذوتها لم تصل إلى مرحلة الترمد فإن أداة الثورة المضادة لم تستعد بعد الحكم والتربية المفقودتين لكنها تستعمل الاقتصاد والثقافة اللتين ما زالتا تحت سلطان نخبها وبصورة أدق تحت سلطان من يستعملهم ممن جعلوا البلد رهين إرادته بمقتضى التبعية المطلقة فيهما.
ومن ثم فمقدار التدين زيادة أو نقصانا ليس هو المشكل وليس هو خاصة علة للتقدم أو للتخلف رغم أن قصر النظر العلماني يذهب إلى أكثر من ذلك فيزعم الدين نفسه علة للانحطاط ومن ثم فموقفه في الحقيقة موقف ديني وإن بالسب محولا معركته السياسية إلى حرب صليبية ضد الدين وليس الدين عامة بل الدين الإسلامي لأنه لا أحد منهم يجرؤ على مناقشة دور المسيحية في أمريكا أو اليهودية في إسرائيل. ولعل أفضل دليل هو أن كل البيزنطيات والصبيانيات المزعومة نقاشا حول الدستور تدور حول "تطهير" الدستور من كل إحالة إلى الدين الإسلامي الذي صار العدو الأول والأخير لقيم الثورة عند نخب الثورة المضادة. ولم نورد كلمة الدولة في كلامنا على قضايا الثورة ولا على مهابتها المزعومة ولا على من يزعم ماسا بها في حين أن كل هذه الصبيانيات وكل الاهانات التي يظنوها لاحقة بمن لا يرونهم أهلا للحكم هي في الحقيقة المس المطلق بهيبة الدولة وبمهابتها. ولو كانوا يدركون الدولة ما هي لعلموا أن تتضمن حتما إحالة إلى الدين عامة وإلى دين الجماعة التي هو دستورها خاصة الدولة حتما تتضمن صورة العمران ببعديها ومادته ببعديها أعني الحكم والتربية والاقتصاد والثقافة وتؤسسها جميعا على ما تؤمن به الجماعة من قيم مشتركة غير مفروضة عليها من نخب مغتربة: فالدين موجود فيها جميعا بقيمه وخاصة بالرضا والقبول اللذين من دونهما تصبح الدولة دكتاتورية محضة كالحال في كل الفاشيات التي عرفها تاريخنا الحديث. وبهذا المعنى فدين الجماعة هو من أهم مقوماتها بل هو أساس جميع المقومات إذا كنا نؤمن بأن كل الحلول التي تتعلق بالحكم والتربية والاقتصاد والثقافة مخيرة بين خليتين:
فهي إما تكون حاصلة على القبول والرضا من الجماعة فتكون حتما مطابقة لمعتقداتها ومن ثم فالعلاقات في الجماعة تكون علاقات أحرار لكونهم لا يعبدون غير أصل القيم التي يؤمنون بها أعني ما يقوم في دينهم مقام رب العالمين.
أو تكون غير حاصلة عليهما فتكون الجماعة خاضعة لغير ما تقبله سلميا ومن ثم فالعلاقات فيها علاقات عبيد لكونها جعلتهم خاضعين لإرادة تفرض عليهم قيما لا يؤمنون بها ومن ثم فهم ليسوا مواطنين بل عبيد لمن فرض عليهم هذه القيم.
لذلك فقيم الدين التي يؤمن بها غالبية شعب من الشعوب ينبغي أن يكون وجودها وفعلها في هذه الأبعاد جميعا أي في الحكم والتربية والاقتصاد والثقافة كما يقتضيه اعتقاد أصحابه لأن ذلك من حقوق الإنسان الأولية حرية تطبيقا لمبدأ حرية الضمير وحرية المعتقد للجماعة (بخلاف ما يرى الأصولي العلماني) دون أن فرض على الأفراد ما تؤمن به الجماعة (بخلاف ما يرى الأصولي الدين). ولكن إذا قبلنا بموقف الأصلانية الدينية من الحل بما يسمونه العودة إلى الدين أو بموقف الأصلانية العلمانية الداعي إلى التخلي عن الدين فإننا سنقبل بما يزيد الطين بلة لأن الموقفين يشتركان في الظن بأن الإصلاح يتم بواسطة حكم وتربية مستبدتين وتعسفيتين تتدخل بمقتضاهما الحكام والمربون بقيم مناقضة لما تعتقده الجماعة تتدخل في حياة الناس الروحية بفرض التدين أو عدمه على نحو تحدده هي فتكون كنيسة أو سلطة روحية إيجابية (تفرض رؤيتها للعبادة) أو بفرض عدمه وهي كذلك كنيسة أو سلطة روحية سلبية (تفرض رؤيتها لعدم العبادة) وهو أمر يشترك أصحاب الأصوليتين في مسلمته المؤسسة:
فالموقف الأول يعتبر من واجب الحكم أن يفرض تصوره للدين والتعبد بالقوة عقدا وممارسة في حياتهم الخاصة والعامة.
والموقف الثاني يعتبر من واجب الحكم أن ينزع بالقوة من صدور الناس عقائدهم المتعلقة بتنظيم حياتهم الخاصة والعامة فضلا عن الممارسة.
وبذلك فهما يشتركان في تكليف الحكم والتربية بالدور التعسفي والعنيف لتتدخلا بمقتضاه في العقائد والسلوك الديني إيجابا عند أصحاب الموقف الأول (فرض تربية دينية بعينها) وسلبا عند أصحاب الموقف الثاني (الحرب على الثقافة الدينية) رغم كونها ركن ثقافة الأمة الركين.
الأصلاني العلماني والأصلاني الديني كلاهما يقول بضرورة لطاغوت الحكم والتربية إكراها في اللادين عند الأول وإكراها في الدين عند الثاني ويكلف بهذا الإكراه صورة العمران (الحكم والتربية) حتى تطغى على مادته: فالحكم يطغى على الإنسان بالسلطان على رزقه المادي (الاقتصاد) والتربية تطغى عليه بالسلطان على ذوقه الروحي (الثقافة) فتقتلان فيه ما يسميه ابن خلدون معاني الإنسانية. وبذلك يكون الدواء الذي تقدمه الأصوليتان هو عين الداء. وليس ذلك منهم إلا ثمرة اللاوعي بما يضمره السؤال الفاسد الذي طرحه مفكروا النهضة في نهاية القرن التاسع عشر أعني سؤال لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم. وما نراه من حرب لا تبقي ولا تذر بين الأصوليتين ليس هو إلا الثمرة المرة لهذا السؤال الخاطئ الذي يشترك في الجواب عليه بالحل الديني الأصولي الديني إيجابا والأصولي العلماني سلبا.
الحل السليم ما هو ؟
المسألة كلها تدور حول فساد العلاقة بين العوامل المحددة لتاريخ الإنسان الطبيعي والعوامل المحددة لتاريخه الحضاري في ظرف تطابق فيه الصراع الخاص في حضارة بعينها (هي الحضارة الإسلامية) والصراع العام لكل البشرية (تغريب العالم بالعولمة الاقتصادية والثقافية) بعد أن توحدت المعمورة قسرا وراغم أهلها بمقتضى التكاثر السكاني ونهب الموارد من قبل مافيات العالم ومن تنوبه عنها لحكم البقية ومنهم خاصة أعداء الثورة الساعين للإبقاء على شروط هذا النوع من علاقات التبعية:
المحافظة على تقسيم أرض المسلمين بتوطيد الحدود التي رسمها الاستعمار.
المحافظة على تقسيم زمان المسلمين بجعل الشعوب الإسلامية أمما متناحرة.
المحافظة على الدورة الاقتصادية الموطدة للتبعية المادية من خلال حصر التبادل مع التبادل مع المستعمر.
المحافظة على الدورة الثقافية المودة للتبعية الروحية من خلال حصر النماذج الثقافية في ثقافة المستعمر,
وأخيرا إعلان الحرب الصليبية على قيم الإسلام وعقائد الجماعة وممارساتها الروحية والخلقية باسم الحداثة المسيخة.
وبذلك فهم ساعون إلى جعل الإنسان خاضعا لقوانين الصراع من أجل الحياة بمنطق عالم الحيوان مفسدين بذلك معاني الإنسانية لديه كما قال ابن خلدون في كلامه عن صورة العمران ببعدها السياسي (وتتبعها مادتها أو الإنتاج المادي للرزق أي الاقتصاد) وبعدها التربوي (وتتبعها مادتها أو الإنتاج الرمزي للذوق أي الثقافة) التعسفيتين والعنيفتين في حين أن الواجب يقتضي أن تعمل مؤسسات الدولة والتربية بصورة تحفز مؤسسات الإبداع المادي والإبداع الرمزي إنتاجا وحفظا وتوزيعا ورعاية فيكون العمران البشري سائرا بحسب منطق التعاون والتعارف لا بمنطق الصراع والتناكر.
وعندئذ يمكن الكلام على دور الدين الذي يمكن أن يقرأ قراءة تجعله مشجعا للتقدم والعدل والمساواة والحرية الفكرية والفنية ويمكن أن يقرأ قراءة تجعله محبطا لهذا الخيار بحسب تصرف صورة العمران أعني الحكم والتربية دون أن يكون الدين في ذاته محددا لفعاليته إيجابا أو سلبا لأن المشكل كله هو في فساد الآليات الطبيعية لصورة العمران وليس في دور المحفزات الشرعية التي لا تتدخل لا إيجابا ولا سلبا إلا بشرط كون العمل الذي تؤديه الآليات الطبيعية للكائن البشري فردا وجماعة إيجابية أو سلبية. وقد طبق ابن خلدون هذه العلاقة بين محددات الجوهر ومحددات الكيف في الظاهرات التاريخية على السلطة السياسية عندما ربط بين العصبية والدين في تأويل التاريخ السياسي الإسلامي مبينا أن الرسل أنفسهم لا يمكن أن تنجح دعوتهم من غير عصبية فكيف بغيرهم. لكنه يبين أن الدين يضفي على العصبية شرعية خلقية تزيدها قوة في قلوب المواطنين فيعطي للدولة كيفا وجوديا قد تقوم بدونه لكنها تؤول إلى الفساد السريع.
ويمكن أن نثبت ذلك بالعلاقة بين ممارسة الشعائر الدينية وأخلاق الجماعة. فممارسة الشعائر الدينية لا تضمن حصول التخلق إلا إذا كانت ممارسة حرة وعن قناعة شخصية كما أن التدين ليس معارضا للتقدم المادي بل هو عند فهمه الفهم الصحيح مضف للمعنى على كل تقدم مادي ومن ثم فهو مشجع عليه بشروط ترفع الإنسان لئلا يبقى مجرد حيوان. وكل كلام على الفصل بين السياسي والديني لئلا ينحط الثاني يعني أن الأول في تصور أصحاب هذا الرأي منحط بالجوهر وليس منحطا بالذات بسبب هذا الفصل بين الخلقي والسياسي.
أما إذا كانت الممارسة التعبدية مجرد عادة كما هو الشأن في الغالب وخاصة عند موظفيها سياسيا فإنها تكاد تكون عديمة الأثر على الخلق بدليل أن أصحابها يؤمنون بمنطق: اعمل الفرض وانقب الأرض (أي تصرف كغيرك إفسادا فيها وعملا بما تقتضيه الضرورة لا الأخلاق !) أو بمنطق "حج وزمزم وعاد للبلاء متحزم". فتراهم يكذبون ويغشون وينافقون لكأن ممارسة الشعائر مجرد تخلص من فرض وليست قياما به من أجل الوصول إلى ثمراته. ولو لم يكن التدين الصادق ثمرة للتخلق لما قال الرسول الكريم إنما أتيت لأتمم مكارم الأخلاق. ولهذه العلة أكد الغزالي على ضرورة الجمع بين الفقهين: فقه الباطن وهو مكارم الأخلاق وفقه الظاهر وهو احترام القانون. الدين ليس فاعلا بذاته بل بالكيف الذي يجعله فاعلا إيجابا أو سلبا ومثله كل ما يراد تعويضه به: والكيف الذي يعطيه الفاعلية هو طبيعة استعمال صورة العمران ببعديها السياسي والتربوي في مجالي مادته ببعديها الاقتصادي (الحقوق المادية) والثقافي (الحقوق المعنوية) للذات الإنسانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق