Hot

الخميس، 18 يوليو 2013

خيانة دارية بنفسها أم حمق سياسي؟



أبو يعرب المرزوقي

منزل بورقيبة في 2013.07.17




قد أفهم أن تخاف كل أنظمة الحكم التي استبدت وأفسدت بالاستناد إلى تجهيل الشعوب لمنعها من فهم التماهي الحقيقي بين قيم القرآن وقيم العقل فحرفت الإسلام الذي تعدي الحكم بشرعه مستعملة لذلك من يتبعها من نخب من جنسها لتحريف مفاهيمه التي لا تنتسب إلى الشعائر.

فهم يدركون أن الربيع العربي فجر حركة قادرة على تحقيق المصالحة الناجحة بين هذين المنبعين القيميين الروحي والعقلي فيستعيد الإسلام دوره التاريخي ببعده المتجاوز للشعائر سعيا إلى تعمير الأرض بشرط شروطها أعني العدل الاجتماعي وما يترجم عنه من قيم سامية أهمها الحرية والكرامة التي تجعل العبودية لله دون سواه.

الربيع العربي والمناخ الروحي الجديد

وهم محقون إذ يخافون. فنحن أمام مناخ روحي جديد يزلزل كل ما تنبني عليه هذه الأنظمة وكل ما تتمعش منه نخبها التي تتصف بأكثر فسادا واستبدادا منها. فأنظمة الاستبداد والفساد ونخبها تحتقر الشعوب بل وتعتبرها والأرض وثرواتها ملكية خاصة للحاكم المستبد. وحتى تضمن هذا النفع الغبي بفتات ثروة البلاد لأنهم يتقاسمونها مع حماتهم الأجانب فيجعلون أوطانهم مرتعا للقوات الأجنبية ويكونون جيوشا وظيفتها الوحيدة هي حماية الأنظمة وقهر الشعب. ومن كان هذا وضعه لا يمكنه إلا أن يخاف من مثل هذه النقلة النوعية في الوعي الشعبي الذي انتقل من تصور محرف للإيمان بالقضاء والقدر:

فهم يريدون أن يبقى هذا الإيمان استسلاما لمجريات التاريخ لكأن الله لم يكلف الإنسان بتعمير الأرض بأسبابها العلمية والعملية اجتهادا وجهادا أي بالاستخلاف فيها لتحقيق قيم القرآن وأسماها الحرية والمسؤولية شرطا كرامة الإنسان من حيث هو إنسان لا فرق في ذلك بين حاكم ومحكوم ولا بين رجل وامرأة ولا بين أبيض وأسود.

لكن شعار الثورة هو "إذا الشعب يوما أراد الحياة * فلا بد أن يتسجيب القدر" أعني الفهم غير المحرف للقضاء والقدر لكونه ترجمة شعرية جميلة وإن في ترتيب مقلوب لآية كريمة من القرآن الكريم هي ما كتبه الله على نفسه من شرط تغيير ما بقوم بإرادة هؤلاء تغيير ما بأنفسهم: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". فالتوكيد بـ"ـإن" و الحاصر بـ"ـلا.. حتى" للتغير الإلهي بتغيير القوم ما بأنفسهم يجعل فاعلية الإنسان في التاريخ حرية لأنها شرط الفاعلية الإلهية نصرة أو خذلانا: وذلك هو الفهم الثوري للقضاء والقدر.

المخلدون إلى الأرض يهزأون من المتعاليات

ولست أشك لحظة واحدة في أن الكثير من أدعياء الثقافة المخلدين إلى الأرض والآكلين أكل الأنعام لا يؤمنون بالعلاج المتجاوز لسطحيات فهمهم العامي الكافر بكل المتعاليات. لكن الخطاب ليس موجها إلى هؤلاء بل هو موجه لشباب الثورة الذين يفهمون هذا المعاني لأنها عين كونهم ثوارا. وهم يفهمون أن ما يقال في هذه الأنظمة العميلة ينبغي يقال مثله أو أكثر منه في النخب التي ترفض مثل هذا التحليل لثورتهم التي ستغير وجه التاريخ في الاستئناف الإسلامي تماما كما غير الإسلام التاريخ في لحظة النشأة الأولى: وهي لا يمكن أن تفعل من دون أن تكون في آن إيمانا بالمتعاليات وتحررا من الإخلاد إلى الأرض.

إن النخب المتحالفة مع الاستبداد والفساد من أجل منافع لا تتجاوز إرضاء النزوات الحيوانية لا يمكن وصفها إلا بكونها عميلة من الدرجة الثانية. فالأنظمة الفاسدة والمستبدة تستعملها في أوطانها في ما استعملت هي فيه في المنطقة:

فلها الحكم بالوكالة لجعل الشعوب خاضعة للاستبداد والفساد شرطين في تحقيق مصالح المستعمر وبقاء التبعية إلى ما لا نهاية له ومن ثم الحيلولة دون شروط الحرية والكرامة أعني التحرر من التبعية بأدوات التحرر العلمية والعملية.

ولهذه النخب التمعش من فتات الفتات لتزيين الاستبداد والفساد بما يتكلمون عليه من قيم هم أول من يدوسها بمجرد الحصول على ما يرضي نزواتهم كما نرى ذلك اليوم في مصر بؤرة الثورة مركز الربيع العربي.
وما من أحد له ذرة من عقل حتى لو كان بلا دين يمكن أن يتصور مواطنا حرا وكريما إذا كان الشعب الذي ينتمي إليها محكوما عليه بأن يبقى تابعا ومتسولا كالحال في الدويلات التي حقق فيها الاستعمار غير المباشر بالخونة من أبنائها أكثر مما استطاع تحقيقه الاستعمار المباشر رغم طول بقائه جاثما على صدورنا. لكن هذه النخب لا وزن لها والكلام عليها مضيعة للوقت لأن الكلام هو على أصل الداء: فمن يمول الانقلاب في مصر ومن ينتخب من النخب العربية والإسلامية من كان منها أحط نفسها وأقل أنفة لتقديمه الفاني على الباقي: العضاريت (=من يعمل ليأكل) الذين كثر أمثالهم منذ أن تكون في تونس ما يسمى بهيئة عماية الثورة حيث امتلأ المجلس بمن انتخبوهم منهم وهم إلى الآن عائشون ببيع ذممهم من أجل الشراب والأكل تسولا لدى أحزاب الثورة المضادة.

قلة الحيلة والحمق السياسي

لكن ما لا أفهمه هو قلة الحيلة عند هؤلاء الحمقى من قيادات الأنظمة التي مولت الانقلاب في مصر. فقد اختاروا الهروب إلى الأمام كما يقال فظلوا متشبثين بالحماية الأمريكية الإسرائيلية وبحل الانقلاب العسكري للعسكرية المتخلفة التي عطلت الثورة العربية نصف قرن لكنها ماتت مع هزائمها في النصف الثاني من القرن الماضي:

فقد فتحوا على أنفسهم أبواب جهنم: لأنهم شرعوا الانقلاب العسكري لدى أجوارهم على حكومات شرعية فكيف إذا كانت الحكومات غير شرعية وكان الاستبداد والفساد أكبر مما يوجد في البلاد التي شجعوا فيها الانقلابيين ومولوهم ؟

وكيف لعلماء السلاطين الذين شوهوا الإسلام والمسلمين بتخريفهم وجهلهم المدقع بقيم الإسلام وبقيم العصر وبالتماهي بين ما هو كلي من النوعين أن يواصلوا الكلام على طاعة أولي الأمر إذا سكتوا على ما فعل من تولوا ألأمر غصبا ضد من تولاه بصورة شرعية بمنطق الأرض وبمنطق السماء ؟

وكيف لم يدرك استرايتجيوهم بعد أن الحماية الأمريكية قد جف معينها وأن أمريكا وهي تستعد لمقاومة العماليق الجدد تفكر جديا في ترك المنطقة لمن يقبلون نيابتها في تسييرها عن بعد أعني إسرائيل وإيران مع استثناء تركيا التي لم تعد أنفة شعبها تقبل أن تكون مجرد أداة بل هي بدأت تشعر بأنه يحق لها أن تكون من السادة مع خيار الحلف مع الشعوب بدل الحلف مع الأنظمة التي ستتهاوى حتما مهما ناورت.

وكيف لم يفهموا بعد أن ما كان ممكنا قبل الربيع العربي أعني جنس الثورات التي سادت في النصف الثاني من القرن الماضي يمكن أن يخرجهم من المأزق الذي يخافونه بدلا من البحث في طرق أخرى يمكن أن تمكنهم على الأقل من التحول السلمي لما يشبه ملكيات أوروبا الدستورية دون فقدان ما نالوه من مزايا إلى حد الآن لأن مثل هذا الحل كان يمكن أن يجعل الشعوب تطبق قاعدة عفا الله عما سلف.

الحلف المقدس فاشل حتما

ليس من شك في أن كل أنظمة أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر تحالفت ضد الثورة الفرنسية. وليس من شك في أنها قد أجلت تحقيق أهداف الثورة إلى حين. وليس من شك في أنها هزمت نابليون عسكريا. لكنها لم تهزم الثورة وأفكارها. والأهم أنها لم تقدر على منع المناخ الروحي الجديد في أوروبا ما بعد الثورة الفرنسية. فقد صار حتميا أن تخضع كل أوروبا للمنطق الذي غير كل الدول الأوروبية. لم يشفع لها حلفها المقدس ضد الثورة. وذلك ما سيحدث حتما في ثورتنا. لكنه سيكون أعظم وأسرع: أعظم لأن الأمر لن يتعلق بقارة واحدة بل هو سيشمل المعمورة كلها حيثما وجد استبداد وفساد. وأسرع لأن وسائل التواصل وتضايق المسافات وتقاصر الأزمان باتت جميعها لصالح الثورة.

العلاقة الباطنة بين الثورة ووعي الإنسان بمنزلته الوجودية

فثورة الربيع العربي ليست ثورة إسلاميين بمعنى نسبتها إلى فصيل يتهم بأنه سيس الدين كما يزعم الكثير من حمقى المحللين والسياسيين والمأجور من النخب والإعلاميين بل هي ثورة شعب فهم أن إسلامه في حقيقته ليس مجرد عبادات وشعائر بل هو تحقيق قيم العدالة والحرية والكرامة في الوجود التاريخي الفعلي لأن مهمة الإنسان ورسالته بمقتضى هذا الدين هي تعمير الأرض بما تقتضيه هذه القيم وهو معنى الاستخلاف:

سيدرك كل المستضعفين طبيعة منزلتهم الوجودية وسيفهمون جوهر الوصل الإسلامي بين الديني والسياسي أعني لم هي تقتضي الاجتهاد (علما) والجهاد (عملا) وما هو شارط لهما شرط إمكان وتحقق أعني التحرر من الاستضعاف لأن التحرر منه هو عين الإيمان بالله والاستضعاف هو عين الخضوع للطاغوت كما حددت ذلك آية حرية العقيدة "فمن يكفر بالطاغوت (الثورة على الاستضعاف) ويؤمن بالله (الإسلام من حيث هو رسالة للعالمين وليس من حيث معناه التاريخي المقصور عمن يسمون مسلمين) فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها".

ولأن الأمر يتعلق بهذا المعنى من الثورة لم يعد مخيفا للأنظمة العميلة فحسب بل هو مخيف لكل مافيات العالم وخاصة لمستعملي هذه الأنظمة الفاسدة والمستبدة في إذلال الشعوب وإفقادها حريتها وكرامتها ولهذه النخب التي تزين أفعالها. لذلك كانت ثورتنا ثورة عالمية: فلن يهدأ العالم الإسلامي إلا بتحقيق دلالة الشهادة على العالمين وهو المقصود بتحقيق القيم في التاريخ الفعلي من حيث هي جوهر الفاعلية السياسية التي هي عين العبادة من حيث هي جعل الدنيا مطية الآخرة أي إن المرء يحاسب وهو مسؤول على هذه الشهادة تحقيقا للقيم ومقاومة للحائلين دون تحقيقها.

ذلك هو المشروع الذي سيزلزل الأرض حتى لو تحالف كل شياطين الكرة الأرضية ضده لأن كل الشعوب وكل النخب الصادقة تحلم به وستنضم إليه طال الزمان أو قصر. أما أعشار المثقفين من النخب التي ليست إلا عضاريت تسترزق لكل تشتري "دبيبزة" بيرة وكسكروت والتي تمثل القيادات الفكرية للثورة المضادة فإنها غثاء لا يعتد به إلا بما هو من علامات خواء الثورة المضادة التي لم يبق لها سواهم لتزيين ما يشين إذ إن كل من له بعض احترام لنفسه قد مثلت الثورة فرصة له يراجع فيها نفسه وقد يصبح ظهيرا للثوار.

ذلك أن التاريخ يعلمنا أن أكبر أعداء الإسلام في الجاهلية صاروا بعد فهمهم حقيقة الثورة التي يمثلها الدين المعتمد على الاجتهاد النظري والجهاد العملي في تحقيق سيادة الإنسان خليفة حرا كريما صاروا أكبر بناة دولته وحماة بيضته: فالثوار لا ييأسون من النخب ذات التكوين المتين التي حتما ستعيد النظر في الماضي وتستأنف العمل بأفضل ما تستطيع حتى يمحو خالف فعلها الجميل سالف ما قد تكون ندمت عليه من جهد ضئيل في خدمة الخير والجميل والحق وشرطها جميعا أي الحرية وأصلها كلها أي الإيمان بأن للإنسان مثال أعلى هو المعبود المطلق: الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق