أبو يعرب المرزوقي
منزل بورقيبة في2013.07.13
تميهد:
لست أمزح: فلأعداء الربيع العربي من الضرورات ما يجعل مواقفهم قابلة للفهم مواقفهم التي تقبل التلخيص في قضية واحدة: التناقض المفضوح بين أقوالهم المدافعة عن الديموقراطية بمعنييها البرجوازي والشعبي وأفعالهم المعادية للحريات والحقوق والمحقرة من الشعب إلى حد اعتباره غير جدير باختيار حكامه. علينا أن نفهم طبيعة المأزق الذي يعانون منه. فلعلنا بذلك نساعدهم للخروج منه فيختارون نهجا قد يحقق لهم ما يتمنون ذات يوم.
فالمعلوم أن الكثير يعجب من تحالف دعاة التحديث بكل تقازيح قوسهم مع أصحاب القوة العنيفة (العسكر) ومموليهم (بعض أنظمة الخليج) بقيادة حماة الفريقين (الاستعمار) تحالفهم الذي لم يتجل تجليه الأتم إلا خلال ثورة الربيع العربي. فقد كان قبله يتخفى تحت مسميات كثيرة مثل القومية والمقاومة والمعارضة الشكلية. وعندي أن هذا العجب موقف ساذج لأنه لم يطلب السبب الذي يزيل العجب وخاصة في بيئة العرب.
براءة أطفال أم غباوة كهول
فعندي أنه بخلاف ما قد يتصور الكثير فإن وقوف دعاة التحديث والديموقراطية وحقوق الإنسان هذا الموقف دليل على صدقهم الذي من علاماته سذاجتهم حتى وإن كان ناتجا عن عجلتهم وسوء تدبيرهم في علاج العلاقة بين الغاية والوسيلة في العمل السياسي السلمي. فلجوؤهم إلى هذا الحلف دليل على أنه الوحيد الباقي لهم لفقدانهم الدهاء الذي يجعلهم قادرين الآن على تحقيق ما حققته نماذجهم في الغرب من إعداد للأرضية القيمية المخادعة (من هنا كلامي على صدقهم) والمخيال الشعبي المزيف (من هنا كلامي على سذاجتهم) ومن ثم عجزهم حتى على التزييف غير المباشر لآليات الديموقراطية التي تحقق نفس الهدف بالقوة اللطيفة.
وهم في ذلك لا يختلفون عن الصف الثاني ممن يحاولون تحقيق الدولة الدينية بالقوة العنيفة بمخيال لم يعد محركا للجماهير التي باتت تريد الجمع الحقيقي بين قيم القرآن الصحيحة وقيم العقل السليمة. فلا أحد من المسلمين اليوم حتى في الصومال يعتقد أن الإسلام ثورة عبادات فحسب بل هو ثورة معاملات تحقق قيم الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي. وهي لا تحققه إلا بوسائل العصر المناسبة للقضايا المطروحة والمناهج المجربة وليس بالشريعة في فهمها البدائي بل بها من حيث هي قيم سامية تتغير وسائل تحقيقها بحسب العصور.
والفرق الوحيد بين الفريقين بما هما ظاهرتان هامشيتان من تاريخنا الحالي عامة وبعد الربيع العربي خاصة هو أن هؤلاء يجدون حلفاؤهم في قوى مجتمعية لم تفهم العصر وأولئك يجدون حلفاءهم في قوى سياسية تريد العودة إلى ما قبل الربيع العربي. لكن كلا الفريقين ميال إلى العجلة والتحقيق العنيف لأهدافه ضد إرادة غالبية الشعب قبل أن يصبح ذلك مستحيلا وقد بلغنا هذه المرحلة من الاستحالة بفضل الربيع العربي الذي أوقف الهامشين هامش التحديث وهامش التأصيل المستبدين:
فالأولون يسعون لفرض كاريكاتور من قيم الحداثة يجعلها استعبادية لا تحريرية.
والثانون يسعون لفرض كاريكاتور من قيم الإسلام يجعلها استعبادية لا تحريرية.
إعجاب بما يحصل لا تعجب منه
ومعنى ذلك أني لست متعجبا مما يحصل. وقد أفاجئ القارئ إذا قلت إني معجب به في كلتا الحالتين وخاصة بالطابع الهامشي المميز لهما. فغالبية الشعب صارت تدرك معنى المصالحة الصادقة بين:
قيم القرآن الكريم أو جوهر الأصالة
وقيم العقل السليم أو جوهر الحداثة
وهي تسىعى لتحقيقها بآليات العصر أعني بالتمثيل الديموقراطي النزيه لإرادة الشعب دون تمييز على أساس آخر غير المواطنة الواحدة لكل فرد ذكرا كان أو أنثى غنيا كان أو فقيرا متعلما كان أو أميا. ولما أسمع العلماني والحداثي والاشتراكي والشيوعي والقومي والنسوي سواء كان من الرجال أو من النساء المتفلسفات والمتفيقهات لما أسمعهم يصرخون بملء أشداقهم وينبرون بأقلامهم في الفايس بوك أدرك طابعهم الهامشي والطفولي أحيانا في مجريات الربيع وفي أحداث الحركية الاجتماعية والحضارية ككل.
لكني أدرك كذلك أنهم يعبرون بصدق عن مأزق حقيقي يعيشه الوعي المستلب والساذج الذي يريد أن يحقق مطالبه حالا تماما كما يفعل الأطفال المدللون. وهم قد كانوا كذلك لأن الأنظمة الفاسدة والمستبدة دللتهم بنفس المنطق الذي يزين به التاجر الغشاش الفترينات لخداع الزبائن الذين يعلمون الخدعة فلا يخدع إلا نفسه لأن الغرب الذي يريدون مخادعته بـ"شوية" حداثة نسوية يعلم أنها مساحيق وهو يريد أن يضفي الشرعية على الاستبداد والفساد الذي يحافظ له على مصالحه ولا تعنيه لا حرية المرأة ولا حقوق الإنسان.
لذلك فإني أفهم دون أن أعذر أن تكون مطالبهم صادقة على الأقل من حيث التعبير عنها مباشرة ومن دون طرق ملتوية وأن يكون المآل في هذه الحالة المآل الأخير هو إرادة فرضها بالتحالف مع من بيده قوة السلاح وقوة المال بتبرير المبدأ المشهور: "أتحالف حتى مع الشيطان للإطاحة بمن يختارهم الشعب". وهكذا فعلينا أن نفهم اللقاء الحتمي بين:
السذاجة الصبيانية
والبداوة البترولية
والسفالة الاستعمارية
للتصدي لنجاح الثورة العربية بالانقلاب على الآليات الديموقراطية في طابعها الذي ما يزال متحررا من الثقافة المخيالية التي تزيف الوعي الشعبي بصورة تجعله خاضعا لدهاء المسيطرين على مخيال بديل من المخيال الذي ورثه والذي ما يزال في جوهره غير سماع لدعاواهم. لذلك فهذه النخب التي تعيش مرض الانطواء على الذات مقتنعة أنها من دون هذا الحلف يمتنع أن تصل إلى الحكم بالصندوق إلى يوم الدين لأنها تشترط المستحيل: تغيير الشعب ليكون مثلها بدلا من تحقيق شرط العمل السياسي أعني فهم الشعب ومحاولة التطوير المتدرج للوعي الجمعي الذي هو المبدأ الأساسي في الآليات الديموقراطية.
لذلك فهم معذورون حتى وإن كان سلوكهم واحتقارهم للشعب يجعلهم يبعدون بنفس القدر كل إمكانية للوصول إلى الحكم بمواقفهم هذه:
فهم لم يستطيعوا أن يحققوا ما حققته نخب أمريكا وأوروبا من تنظيم اللعبة الديموقراطية تنظيما يمكنهم من التزييف اللطيف. ولن يستطيعوا إلا إذا أزالوا كل قيم الإسلام. ذلك أن الإسلام بخلاف المسيحية يحول دون ذلك بسبب كونه ليس مجرد دين تعبد بل هو دين حياة شاملة.
وهم بعد الربيع العربي باتوا عاجزين عن التزييف العنيف بسبب يقظة الشعوب وتحركها الدال على أنها لم تعد تخشى أجهزة التزييف. وسيبقون عاجزين أبد الدهر لأن المسلمين استعادوا روحهم التي تحول دون أي قوة في العالم وفرض إرادتها عليهم.
حقيقة النفس الثاني من الربيع العربي
لم يبق لهم إذن إلا السطو السخيف على منوال ما يجربه السيسي في مصر السيسي الذي أوهمه أسخف مستشار عرفته الدنيا بأنه ناصر جديد في عصر عربي تجاوز الزعامات الانقلابية. لكن هذا السطو بخلاف سعيهم أصبح الدليل القاطع على فشلهم الذريع. فبفضله اتضحت حقائق ينبغي أن نشكر عليها الحظ السعيد الذي جعل النفس الثاني من الربيع العربي يحدث في قلب الوطن العربي والعالم الإسلامي وفي شهر الصمود رمضان المعظم (وكل ذلك من علامات غباوة المستشار والحلفاء) فيوصلنا إلى تحديد هويته الحقيقية هويته التي حاول الجميع التشغيب عليها لتزييف الوعي باسم شعبويات استعملها أكبر أعداء الشعب لظنهم أنه ما يزال غفلا:
1-فقد تبينت علل الحلف بين حماقات أصحاب الدولار وسخافات أصحاب الغدر بقيم القرآن والعقل والساعين إلى بيع الديار. فالأولون يعلمون أنهم لن يبقوا في الحكم إلا بإفشال الربيع العربي والديموقراطية. والثانون يعلمون أنهم لن يعودوا إلى الحكم إلا بنفس الشرط. ومن ثم فالفريقان متفقان على ضرورة عودة حليمة إلى عادتها القديمة في الوطن العربي: عود الأنظمة التي ثار عليها الشعب. وذلك بات مستحيلا وهو جوهر القفزة النوعية في الوعي العربي القفزة التي يمثلها الربيع العربي.
2-ومن ثم فقد تبين أن الربيع العربي لم يبق كما حاول البعض تمييع دلالاته. فليس هو حركة عفوية عديمة المشروع والقيادة. بل هو مشروع شديد التحديد والدقة. فأما المشروع فهو إدراك الشعب بعد قرنين من حركة النهوض أن تحقيق قيم الحداثة المتحررة من التوظيف الاستعماري والتزييف الخداعي هو عينه إنجاز المشروع الإسلامي المتمثل في تعمير الأرض بقيم الاستخلاف فيها. لذلك صار المدافعون عن قيم الحداثة التنويرية والمتحررة من السطوة الاستعمارية هم الإسلاميين ومن حالفهم من التحديثيين الصادقين.
3-وأخيرا فقد تبين إفلاس الحليفين المصارعين للثورة فكريا وقيميا. فالأول لا يعتمد على قيم القرآن كما يدعي بل هو قائم على تحريفها. وهو يخاف من عودة المسلمين لقيم العدل الاجتماعي والحرية السياسية وحقوق الإنسان. والثاني لا يعتمد قيم العقل التي يدعيها بل هو قائم على تحريفها. وهو يخاف من عودة الشباب المسلم لحقوق الإنسان الكونية باعتبارها حقا للجميع وليست مقصورة على المافيات التي نوبها الاستعمار في مواصلة مص دم الشعوب الاستعمار الذي يخادع الناس جميعا بمن فيهم شعبه بتسمية الالغارشية المافياوية ديموقراطية شعبية.
وإذن فالغلبة هي لإرادة الجماعة التي هي من إرادة الله وتلك هي خاصية لحظتنا الراهنة كما تتعين في المشروع الذي يحقق الصلح بين نوعي القيم القرآنية والعقلية المشروع الذي يدفع الجماهير بوازع ذاتي إلى حركة طوعية للدفاع عن هذه الثورة. أما أعداء الثورة ورغم ما ضخ في جيوب قياداتها المافياوية من مليارات الأنظمة الفاسدة فإنهم لم يستطيعوا الحشد إلا لبعض سويعات مع تجنيد كل الأجهزة والإعلام المزيف:
ولا غرابة في ذلك فقيمهم بذاتها وبما تحشرهم فيه من تناه ومحدودية غايتها الدنيا ومعبودها الهوى وبأسلوب عرضها التزييفي في الإعلام المأجور وإرادة فرضها بالعسكر والدولار كل ذلك حرك الجماهير المؤمنة بما يتجاوز الفاني للصمود ضدهم صمودا لا متناهيا حتى النصر.ذلك أن القيم التي يعرضها هؤلاء المزيفون ليست القيم المطلوبة من الشعوب بل هي قيم استفزاز لمشاعر الجماهير ليس بذاتها فحسب بل بأخلاق ممثليها من السفهاء الذين لا ذمة لهم بمجرد معرفة مع من يتحالفون وبماذا يؤمنون وماذا يعبدون.
لكنهم مع ذلك معذورون بحق: فهم لم يبق إلا اللقاء مع من يخافون أن تصبح منظومة القيم المحركة للجماهير الخطر الأكبر عليهم في بلاد البترول لكونهم جعلوها مسخا من ذاتها لتنويم الجماهير. نحن أمام حقيقتين دامغتين:
خوف الحاكمين باسم الإسلام الاستبدادي والمنوم من الثائرين باسم الإسلام الإيقاظي والتنويري.
وخوف من كانوا يحكمون باسم التحديث الاستبدادي والمفسد من الثائرين باسم التحديث الاصلاحي والترشيدي.
ذلك هو الحلف الذي فككت خيوطه المتشاجنة ميادين القاهرة وأرض الكنانة فتم للربيع العربي تحقيق الخطوة الثانية في توضيح المشروع والنهج: تحقيق المصالحة بين قيم القرآن وقيم العقل في التاريخ الفعلي بأدوات تحقيقها الحديثة أي بنظام سياسي واجتماعي مدني يحقق شروط الحرية والكرامة والمناعة بإرادة شعب يختار طوعا من يقود مسيرته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق