أما وقد زربت الثورة المضادة فظنت أنها قد انتصرت فإنه علينا أن نشعر بأن لحظة البدء الحقيقية للثورة تتجذر في موجتها الثانية بتحديد رسالتها وقياداتها المدركة لطبيعة المهمة. لذلك فقد بات المطلوب الجواب الواضح وضوحا لا لبس فيه عن هذا السؤال المضاعف. فالكثير يعتقدون أن سؤال "علام ثار الشباب؟ وعلى من؟" سؤال لا يستحق أن يوضع لأن جوابه عندهم بدهي. وعندهم أن جواب "علام؟" بيِّن: إنها ثورة على الاستبداد والفساد علة فاعلية من أجل الحرية وعليهما من أجل الكرامة علة غائية. أما "على من؟" فأكثر بينونة: إنهم القيادات التي كانت تحكم قبل الثورة. لكن أكبر مشكل البدهي هو أنه وهمُ علمٍ عند من يعتقده كافيا للاستغناء عن وضع الأسئلة التي تنقلنا من الأسماء إلى مسمياتها. وعندي أن علة تعثر الثورة سرها في كون هذه الأجوبة البدهية حالت دون تعميق البحث عن الجواب الذي يساعد على النجاح الأكيد باكتشاف طبيعة المهمة الحقيقية.
الخطأ في تحديد المهمة
وسر الأسرار في ذلك كله هو أن القيادات التي تصدرت المشهد متلهفة ومتعجلة لكأن مرض دول الطوائف وتأسيس الإمارات عاد من جديد ليكون عرض الانحطاط المدبر قاتلا لطموح الثورة في انبعاث الأمة المقبل. لذلك فهي لم تبحث في طبيعة القضية الأولى للثورة. لم تفهم أن الحرية والكرامة المطلوبتان من الشباب فتياته وفتيانه تحيلان إلى ضرورة البحث في علل فقدانهما ومن ثم إلى استراتيجية ثورية تحقق شروطهما القريبة والبعيدة ولا تكتفي بما فرضته العقود السابقة من التبعية الحائلة دون تحقيق الحرية والكرامة للمواطنين عامة وللشباب خاصة.
لكن هذه القيادات غاب عنها أن المهمة ليست باليسر الذي بدا لهم في بادئ رأيهم. ليست المهمة إيصالهم إلى حكم محميات تابعة في إعالتها وحمايتها بما فرض عليها من شروط تجعلها عاجزة عن القيام المستقل في غذائها ودوائها شرطي كرامتها وفي سلاحها وسلطانها شرطي حريتها بل هي تحقيق طموح الشباب في الانتساب إلى أمة لها القدرة على تحقيق الحرية والكرامة الجماعية والفردية. وبعبارة وجيزة فإنهم لم يدركوا أن الثورة فتحت معركة مضاعفة في ظرف دولي محكوم بقانون التاريخ الطبيعي. إنها معركة مضاعفة:
لأنها بصورة غير مباشرة مع كل من لا تناسب عودة المسلمين لركح التاريخ ثانية مصالحه خاصة وصاحب الأمر والنهي في المنطقة لا يزال محكوما في وعيه ولا وعيه بمنطق التاريخ الوسيط مع الأجوار.
ولأنها مباشرة مع أصحاب الاستبداد والفساد وأذيالهم أي مع كل الذين وجد فيهم صاحب المعركة المباشرة قابلية الاقتناع بهذه المهمة أعني مهمة محاصرة الثورة بفرض التسليم بما تقدم عليها من شروط السيطرة على أحياز الأمة الخمسة.
قضية الثورة الأولى: طموح الأمة التاريخي
وتلك هي قضية الثورة الأولى: شروط الحرية والكرامة هي شروط التحرر مما يحول دون تحقيقهما تحقيقا يخلص من العوامل الموضوعية التي تجعل شعوب الأمة عاجزة عن القيام المستقل أعني القدرة على حماية ذاتها وإعالتها ماديا وروحيا. وهذه العوامل الموضوعية هي ما يقبل الوصف بكونه أحياز وجود الكيانات ذات القدرة على القيام المستقل وغير التابع أعني ما به يسيطر الكيان على أدوات فعله القادر:
فالسيطرة على حيز الجماعة الجغرافي بتقطيع مكانها تقطيعا يحول دون التنمية المادية المستقلة أو الاقتصاد غير التابع يحول دونها وتحقيق شروط القدرة عليها بسبب صغر الحجم وقلة الإمكانات المادية إعالة وحماية ما يجعل من يتصورون أنفسهم أغنياء لمصادفة طبيعية أن يبقوا متكاسلين وبحاجة إلى الحماية الأجنبية ومن لم تتوفر لهم هذه المصادفة أن يبقوا متسولين وبحاجة إلى الإعالة الأجنبية.
والسيطرة على حيز الجماعة التاريخي يفتت زمانها تفتيتا يحول دون التنمية الروحية المستقلة أو الثقافة غير التابعة بما يحول دونها وتحقيق شروط القدرة عليها بسبب نفس العلل فيصبح دور الثقافة تبرير تلك التبعية المادية بتبعية أعمق هي التبعية الروحية للجماعة فيعتبر التهديم الذاتي للقيام المستقل عند النخب تحررا وثورة.
وبذلك تصبح الأمة بأحياز وجود مربعة أي الجغرافي والتاريخي والاقتصادي والثقافي فاقدة لأساسها جميعا أعني المناعة المادية والروحية للجماعة أو أصل قيامها الذاتي فيحصل فيها ما يشبه تحول الخلايا السرطاني بحيث تصبح نخبها حربا على الذات في خدمة التبعية المطلقة ويكون أهم دور تتكفل به ليس النقد البناء لتجاوز الانحطاط الماضي بل هي تستبدل انحطاطا ذاتيا بانحطاط مستورد فاقد للقدرة على الإبداع والقيام المستقل.
وذلك هو الاستعمار الروحي الذي لا يمكن التغلب عليه إلا بحرب ضروس تتجاوز مفهوم القتال المادي إلى الصراع من أجل البقاء بالمعنى المتعارف عليه في التاريخ الطبيعي: هل الحضارة العربية الإسلامية تستطيع استئناف دورها بتجديد ذاتي لا يلغيها أم إن مصيرها هو مصير ما فرض على الجماعات التي أفنتها الحضارة الغربية في أمريكا وأستراليا وإفريقيا وآسيا بأن فرنستها أو سكسنتها أو لتنتها إلخ...
نوعا الاستبداد و الفساد
فشعوبنا لا تعاني من الاستبداد والفساد بصورة عامة ودون تعيين بل إن الاستبداد والفساد يتصفان بشكل وبعلة خاصين بهما ومميزين للمجتمع السياسي وتوابعه فلا يقتصران على المجتمع السياسي بصفيه الحاكم والمعارض بل هما يشملان المجتمع المدني بأبعاده التربوية والثقافية معنويا والاقتصادية والسلطوية ماديا. لذلك فمن دون تحديد الشكل والعلة لا يمكن تعيين طبيعة الاستبداد والفساد اللذين تسعى الثورة إلى تحرير الإنسان المسلم منهما ولا الحرية والكرامة اللتين تسعى إليهما. وبالتالي فلا عجب إذا كان العلاج قاصرا عندما تصور البعض أن مجرد تغيير الطبقة الحاكمة سيحل المشكل.
فأكبر خطأ وقعت فيه الثورة وبعض قياداتها أو من صادف منها فكان في محل يبوئه هذه المنزلة هو الظن بأن الاستبداد والفساد من جنس واحد وأنه متمثل في سلوك الحكام أو في قيم من بيدهم الحل والعقد السياسيين لكأنه يوجد في الوطن العربي والعالم الإسلامي من له بحق القدرة على الحل والعقد متناسين أنهم جميعها ولاة تابعون في محميات مباشرة أو غير مباشرة بحكم ما أشرنا إليه من حاجة إلى الحماية أو إلى الإعالة أو إليهما معا. فهذا الظن يغفل جنسا ثانيا من الاستبداد والفساد لعله أخطر من هذا الجنس لأنه هو الذي يجعل ذينك الدائين يعمران طويلا: إنه الاستبداد والفساد الذي يحكم به من بيدهم الحل والعقد المجتمعيين معنويا كان أو ماديا. وما هؤلاء بأقل تبعية من أولئك: والفرق الوحيد هو أن تبعيتهم تتمثل في الاقتصار على الموقف السالب أو رد الفعل على التبعية الأولى بتمثيل لشروط التحرر من التبعية تمثيلا يتصور التشبث بالماضي الأعزل كافيا للخلاص. وإذن فالإنسان المسلم ضحية لتحالف عليه عقده ضربان من الطغيان:
أحدهما تمثله ثقافة الانحطاط الكامنة في المجتمع السياسي أو ما أصاب ثقافتنا السياسية والقانونية من انحطاط سيطر عليه فكران كلاهما يمثل جوهر الانحطاط: الفاشية التي ورثتها الأنظمة الحاكمة باسم الإسلام عن عصر الانحطاط الذاتي جعلها ترتد إلى أخلاق الجاهلية. والفاشية التي ورثتها الأحزاب القومية من انحطاط الفكر الحديث في أوروبا ما بين الحربين العالميتين جعلها ترتد إلى إيديولوجيات الاستبلاد الجمعي.
والثاني تمثله ثقافة الانحطاط الكامنة في المجتمع المدني أو ما أصاب ثقافتنا الروحية والخلقية من انحطاط ذاتي أعاد الأمة إلى استبدال قيم التقاليد الاستعبادية بقيم الدين التحريري ومن انحطاط مستورد تمثل في التقليد الغبي لقشور الحضارة الغربية وكلا الانحطاطين يفضل ثقافة التقليد والتبعية على ثقافة الإبداع والحرية وتجعل الإنسان المسلم خاضعا لمجرى الأحداث وكأنها مجرد متلق ومنفعل ولا دور له في مجراها.
ضرورة الثورة على الانحطاطين
لذلك فالثورة ثورة على الانحطاطين. وهي ثورة سياسية من أجل شروط الحرية وثقافية من أجل شروط الكرامة. والجامع بين نوعي الشروط هو الوعي بالطموح التاريخي لاستئناف الدور. وتلك هي علة التقاء الثورة بالمرجعية الإسلامية التي جمعت بين التأصيل الحي والتحديث ذاتي التشريع autonome . والثورة السياسية والثقافية لا تقتصران على الأحزاب الحاكمة قبل الثورة بل هما تشملان الأحزاب التي عارضتها لأنها كانت تعارضها بنفس الأخلاق والسلوك داخلها ومع غيرها بدليل أنها ظلت على نفس المسار حاكمة أو معارضة. ذلك أن السلوك السياسي والثقافي لنوعي النخب واحد ومن ثم فالثورة ينبغي أن تكون عليهما معا حتى تعود الثورة إلى من قاموا بها أعني الشباب فتياته وفتيانه: فكلا نوعي النخب من الجيل المتقدم على الثورة ذات نهج مستبد وفاسد في التنظيم السياسي وذات قيم تقليدية رافضة لمغامرة الإبداع والتجريب في الثقافة السياسية والاجتماعية والفكرية.
ولعل أقرب الأدلة للعيان على هذه الخاصية المشتركة هي أن الثورة التي قام بها الشباب أصبحت لعبة بيد الشيوخ الذين جلهم في مرحلة أرذل العمر وجلهم يدعي الخبرة رغم أن الثورة نفسها دليل على خلو وطابهم منها بدليل ما آلت إليه بلادنا. لكن الأدلة الأهم تتعلق بموقفهم المشترك من العلاقة بالحيزين المحددين لشروط التحرر من التبعية المادية سياسيا واقتصاديا ولشروط التحرر من التبعية الروحية تربويا وثقافيا أعني موانع عودة الأمة إلى دورها التاريخي الكوني:
فهم يشتركون في القبول بالحماية والرعاية الاستعمارية والمحافظة على الجغرافيا السياسية التي وضعها الاستعمار بحيث إنهم جميعا يحلمون بدولة قُطرية يكونون حكاما عليها رغم ما يترتب على ذلك من تبعية مادية سياسيا و اقتصاديا.
وهم يشتركون في المحافظة على التاريخ الحضاري الذي فرضه الاستعمار بحيث إنهم جميعا يبحثون عن شرعية حضارية للانفصال القطري حتى يؤسسوا للدولة القطرية على انقاض وحدة الأمة رغم ما يترتب على ذلك من تبعية روحية تربويا وثقافيا.
العلاج الوحيد الممكن
ولا حل لهذه المعضلة التي نتجت عن نخر الاستبداد والفساد للمجتمع السياسي والمجتمع المدني إلا بإدراك طبيعة الثورة على هذين المرضين وتولي الشباب فتياته وفتيانه مهمة قيادة الثورة. وهذا ليس بالأمر الجديد فكذلك ترى كبار فلاسفة العمل مثل أفلاطون أو كبرى الرسالات مثل الإسلام. ذلك أن الشباب لم تسر فيه بعد عدوى هذه العاهات وخاصة عدوى الفساد والاستبداد بصورة لا مرد لها حتى وإن كان قل من سلم منها في مجتمعاتنا. وهم ينبغي أن يكونوا من منبعين متكاملين:
المنبع الأول هو منبع الأصالة التي يدرك أصحابها أنها ليست تقليدا للماضي الذاتي بل بناء المستقبل على الحي في كل حضارة وهو مشترك بين كل الحضارات أعني أخلاق الإبداع الفكري النظري والعملي المتحرر من سلطان التقاليد وغير المتنكر لكليات الإنسانية حقوقها وواجباتها: وهو ما يعني أن الأصيل هو المتصالح مع غيره والمتسوعب للكلي في حضارته.
المنبع الثاني هو منح الحداثة التي يدرك أصحابها أنها ليست تقليدا لحاضر الغير بل بناء المستقبل على الكوني في كل حضارة وهو مشترك بين كل الحضارات أعني نفس ما ذكرنا مع عدم التنكر لخصوصيات الذات تعيينا للكليات الإنسانية حقوقا وواجبات:ما يعني أن الحداثي هو المتصالح مع ذاته والمستوعب للكلي في عصره.
واللقاء بين القادمين من هذين المنبعين أعني الأصيل الحداثي والحداثي الأصيل هو الشباب الممثل للمستقبل الذي يواصل الماضي مواصلة حية دون تقليد لما ورثه عن انحطاط حضارته ولا ما يفرض عليه من انحطاط حضارة الغير حتى ينفذ إلى الكليات الإنسانية التي تشمل الخصوصيات الحضارية شمولا يقبل التعدد الشكلي والوحدة المضمونية للقيم التي تحقق كرامة الإنساني وحريته.
ذلك هو شرط نجاح الثورة على ممثلي المجتمع السياسي الفاسد والمستبد والمجتمع المدني الفاسد والمستبد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق