Hot

الخميس، 15 مايو 2014

جيوستراتيجيا ما قبل الربيع العربي

abou-yaareb

أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2014.05.15

هذا نص كتب سنة 2009 استأذنا الدكتور أبا يعرب في نشره لمناسبته الظرف الذي يبين تحالف الطوابير الخامسة على أغلبية الأمة وكيف تحول هذا التحالف إلى حقيقته المتمثلة في كونه في الحقيقة يصب لصالح العدوين الإسرائيلي والأمريكي كما يتبين من الانقلابين في مصر وتونس.
وفي هذا النص وصف لحال الوضع الجيوستراتيجي لمحاولات تشويه سعي الأمة لاستئناف دورها من نخب تدعي التحليل الاستراتيجي(ورمزها حسنين هيكل) وتهدف لتثبيت العزم وترسيخ دعاية الطوابير الخامسة (ورمزها حزب ا لله) : وكلاهما يزعم أن الأمة ممثلة بأغلبيتها السنية عليها أن تختار بين واحدة من تبعيتين أمريكية أو إيرانية ولا يحق لها أن تكون ذات طموح يخصها.
وهو تشخيص لوضعها الاستراتيجي المعد لما اصبح يسمى الربيع العربي ليس في الأذهان فحسب وعيا به بل وكذلك في الأعيان سعيا لتحرير المكان المفتت والزمان المشتت شرطين للقوة المادية والروحية المؤسسين لعودة الأمة لدورها الكوني عودة أومن يقين الإيمان بأنها آتية لا ريب فيها.
النص مقترح على القراءة المتمهلة
المشرف على حساب الدكتور أبي يعرب
مهما حاول المرء أن يفهم فلن يفهم كلام المعلقين الاستراتيجيين العرب من الأحزاب الثلاثة التي تواطأت على الدور العربي في لحظة التاريخ العالمي الحالية ممثلا بالمقاومة العربية خاصة أي نواة الإسلام الصلبة. فالمتكلمون باسم حزب العلمانيين وباسم حزب الطائفيين سواء كانوا من المسلمين أو من المسيحيين وباسم حزب الاستعماريين سواء كانوا من إسرائيل أو من أمريكا يجمعون على استبدال المسهمين الحقيقيين في هذا التاريخ بأشباه منهم هم في الحقيقة عين أعداء الإسلام والإنسانية. ويمكن أن نضيف إليهم الحزبين الآخرين اللذين سبق لي أن علقت على كلام ممثليهما بما اعتبره كافيا أعني الناطقين بمنطق المعادلات التي كانت سائدة زمن الحرب الباردة والناطقين بثرثرة القارئين في الفناجيل التي تمدهم بها مخابرات أمريكا وإسرائيل – أو ما يسمونه بالثنك تنك أو خزان الفكر لعديمي الذكر- من سيناريوهات للتغيير الطفيف على خارطة سايكس بيكو طمعا في تجنب الزلزال الإسلامي القادم لا محالة.
ومهما حاول المرء أن يصابر فإن صبره لا بد معال مما تردت إليه نخب العرب والمسلمين المسيطرين على الساحة الإعلامية من استسلام لسطوح الأشياء وقشورها وغفلة عن أعماقها وألبابها إلى حد جعل بصرهم دون أنوفهم مدى فضلا عما عليه البصائر ! ولعل من أهم أسباب عول الصبر خلط هذه النخب بين المنطق الذي يحكم علاقات الأمم بعضها بالبعض أعني منطق تنافس الرشداء (طلب المصلحة بالحد من الأخطار) والمنطق الذي يحكم علاقات الأفراد بعضهم بالبعض أعني منطق تعاند السفهاء (طلب التنفيس عن الغيظ والانتقام ولو بالانتحار) : ولا عجب فالفكر السياسي والإستراتيجي لا يخضعان لعمل مؤسسي بل هما نهبة النزوات الفردية ونتيجة حتمية للاستبداد الحكم والفساد اللذين قضيا على الروية والتشاور الضروري في العمل الجماعي.
فكلام هذه الأصناف من محللي الوضعية الإستراتيجية الحالية ليس له من تعليل مقنع ما لم نفترض وراء تحليلاتهم تعمية إعلامية قصدية هدفها تغييب دور المسلمين السنة عامة (المتهمين بالإرهاب) والعرب منهم خاصة (المتهمين بالإرهاب بقيادته وتمويله). أليس من العجيب أن يجمع كل هؤلاء على رد المرحلة التاريخية الحالية التي تعيشها دار الإسلام (مرحلة الزلزال الذي يشبه في زخم الاستئنافة الحالية زلزال النبضة الأولى التي ولت نزول القرآن) بوصفها بؤرة التأزم العالمي حتى قبل نهاية الحرب الباردة بل ومنذ بداية النهضة التي تجذرت بفضل الصحوة ردها إلى أمر عرضي هو الاستقطاب الإقليمي بين الولايات المتحدة وإيران وما يتصل به من مناورات يضخمونها للتعمية على دور المقاومة الحقيقية التي قضت على إمبراطوريات أوروبا الاستعمارية الخمس (الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والبرتغالية والهولندية) سابقا ونراها الآن تقعد الآلة الأمريكية في العراق والإسرائيلية في فلسطين؟
هل تكون الدعاية والحماية اللتين تسيطر على النخب الصانعة للرأي العام العربي في لبنان كافيتين لإفهامنا نسيان بطولات الحرب العالمية الجارية في كل العالم الإسلامي والتي بؤرتها العراق فضلا عن حرب 73 فلا يتكلم الناس إلا على تموز الذي صارت النخب تعتبره المفصل التاريخي الوحيد في تاريخ العرب الحديث؟ أم إن هذه النخب كما هي في العادة لسان حال من يدفع أكثـر؟ هل باتت أمريكا وإيران بطلي اللحظة حقا أم إن ما يدفعانه أكثر إغراء بعد إفلاس الأنظمة القومية العربية عامة وبعد سقوط أفول نجم صدام خاصة؟ لما كنت ممن لا يخشى في الحق لومة لائم فإني سأصف الأمور كما أتصور أنها ينبغي أن تكون لو كانت النخب العربية متحررة من الدعاية (المسيطر على وعيهم) والرعاية (المسيطر على جيوبهم) والحماية (المحجور تنقلهم) قادرة على رؤية ما يجري فعلا وقول ما تعتقد فعلا.
كيف نفهم أن يجمع كل المحللين من أدعياء الإستراتيجيين على اعتبار الحرب المحدودة لغرض محدود (أمن شمال إسرائيل ونزع ورقة بيد إيران) في جنوب لبنان مع حركة لا تتحمل مسؤولية الدولة اعتبارها أهم استراتيجيا من حرب أكتوبر التي حررت العرب والمسلمين من الخوف من الخوف (بعد بلغ السخف بالتنافس بين مصر والعراق وغباء دروايش الأصلانية إلى تخوين مبادرات قائدها) وأهم من المقاومة العربية السنية في العراق المقاومة التي تزداد قوة منذ أربعة سنوات حتى زلزلت جيش الولايات المتحدة (بعد أن وسموها بالتكفيرية وهو التسمية الثانية لوصف الإرهاب) فيهملون حسبان هذه المقاومة ذات البعد الكوني في تحليلاتهم بل ولا يتكلمون إلا على التقاطب بين إيران وأمريكا.
كيف يمكن أن نفهم ميلهم إلى تقديم مناورات لا يتجاوز دورها خدمة الطموح القومي لأقل شعوب المسلمين قدرة على تمثيل الإسلام وجدارة بها إلا إذا انتظرنا إدخاله 90 في المائة في مذهبه لتوحيد المسلمين من حوله بدءا بتطبيق وصية والد الشاه الذي ضم الضفة الغربية من الشط وأوصى بضم الضفة الغربية؟ كيف يمكن لأحداث يحكمها الحرص على عدم المس بحلف سيد إسرائيل مع راعية محركيها أن تكون أهم من أحداث حرب سيد إسرائيل حربه الجارية على العروبة والسنة في العراق؟ أليس هو يحارب بمن هم من حزبهم في العراق ويقاسمهم السلطان فيه للسيطرة على كل الوطن العربي وبه على كل دار الإسلام؟
لما كان من العسير أن نقتنع بأن العمى الاستراتيجي قد أصاب هذه الأطراف الثلاثة (الطائفيين بصنفيهم أي بين فرق الملة وبين المسيحيين والعلمانيين بصنفيهم أي التقليديين والليبراليين والاستعمار بصنفيه الإسرائيلي الأمريكي) فإنه يجب أن نطلب القصد من وراء التعمية الإعلامية والتمويه الإستراتيجي. فلا يمكن أن يكون كل هؤلاء المعلقين يتكلمون على جهل. وإذن فهم يخادعون المستمعين لغاية محددة نريد أن نستخرجها من القرائن الدالة على التمويه القصدي. وحتى أعلل عجبي من هذه التعمية الإعلامية التي لا يمكن أن تكون بريئة فإنه لا بد من طرح الأسئلة التالية:
1-هل يعقل أن يكون قابلا لأن يحمل محمل الجد المحلل الذي يزعم أن إيران بحجم يجعلها في وضعية تمكنها من أن ينسب إليها ما كان الإستراتيجيون ينسبونه إلى الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة؟
2-وهل يعقل أن تنسب تعثرات المشروع الأمريكي في المنطقة العربية الإسلامية إلى ما يسمى بجبهة التصدي قاصدين بها إيران وسورية وحزب الله وليس إلى من ركع الجيش الأمريكي فعلا فيكون الحليف للغزو الأمريكي هو المتصدي وينسى المتصدون الحقيقيون ؟
3-ويتولد عن السؤال الأول سؤال ثالث يحاول المحللون للوضعية الدولية تجبنه بما ينسبونه إلى إيران في المعادلة الدولية: سؤال الغوص في طبيعة المعركة الجارية غوصا يمكن العرب من اختيار صف من ينبغي أن ينتصروا له في المعركة الحقيقية لارتباط مصالحهم المقبلة معه وخطر البدائل عليهم لأن الأمم لا تخطار حلفاءها بمعيار الحب والكراهية بل بمعيار النافع والضار في قيامها الذاتي أو إستراتيجية البقاء والنماء المستقلين.
4-ويتولد عن السؤال الثاني سؤال رابع يحاول المحللون للوضعية الإسلامية تجنبه بما ينسبونه لجبهة التصدي الكاذبة في المعادلة الإسلامية: سؤال العامل الأكثر فاعلية في مجريات المنطقة العربية خاصة والإسلامية عامة للحد من دور المقاومة السنية أو ثورة التحرير الثانية في العالم الإسلامي.
5-ويجمع بين كل هذه الأسئلة سؤال جذري هو علة التعمية الإعلامية أو إخفاء التواطؤ الحقيقي بين العلمانيين والطائفيين والاستعمار الصهيوني والأمريكي على الدور العربي في الاستئناف الثوري للرسالة الإسلامية لأنه يخيف الجميع فلا يعترفون بالأمر الجوهري الذي له علامة لا تكذب: كل المقاومات في العالم الإسلامي ضد الطغيان العالمي قياداتها الأساسية عربية وسنية من الفيلبين إلى الشيشان فضلا عن كون القائد الرمزي الأول هو محمد ومضمون المشروع الثوري هو القرآن الكريم نفسه.
السؤال الأول: الهر الذي يحكي انتفاخا صولة الأسد
فهبنا سلمنا بان الإقليم ليس فيه من هو أولى بدور التصدي لأمريكا من ايران بعد تحييد كل القوى الإقليمية القابلة لأداء هذا الدور (مصر التي أخرجوها بزعم خيانة أول قائد مكن العرب من هزيمة سبب كل هزائمهم اعني الخوف وعدم المبادرة بالحرب وتركيا التي أخرجها غباء القوميين العرب من المعادلة) وهبنا سلمنا بأن القوة أمر نسبي فلا تقاس بمطلقها بل بتناسبها بين طرفي النزاع فهل يوجد أي حظ مهما صغر يمكن أن يبين قابلية إيران لأداء هذا الدور ؟ 
لا شك أنه يمكن للأصغر أن يناطح الأكبر إذا كانت النسبة بين قوتيهما بإطلاق أو بإضافة إلى ظرف معين قابلة للمقارنة بحد معقول وكان التناطح بينهما يعمل بتفاضل في تناسب متعاكس بين قوتين مختلفتين تتقاسم التفاضل في أصناف القوة المختلفة فلا تكون إحداهما مفضولة وأخراهما فاضلة فيها جميعا. فيمكن مثلا أن تكون إيران قادرة على مناطحة أمريكا إذا كانت النسب بينهما في مجالات المقارنة المحددة للقدرة والقوة ممكنة منها على الأقل في البعض منها. وهذه المجالات معلومة. فهي:
1-إما القوة المادية بصنفيها أعني القوة الاقتصادية (المقارنة في هذا المجال من السخف البين) والقوة العسكرية (والمقارنة في هذا المجال أسخف)
2-أو القوة الإبداعية بصنفيها أعني القوة العلمية وتطبيقاتها في المجال الطبيعي (المقارنة غنية عن التعليق) والقوة العلمية وتطبيقاتها في المجال الإنساني (نفس الملاحظة)
3-أو أخيرا القوة الشارطة لهما كليهما أعني القوة الروحية بصنفيها: قوة الروحانية الدينية (الشعب الأمريكي لا يقل تدينا عن الشعب الإيراني) وقوة الروحانية الثقافية (ولا وجه للمقارنة بين الشعبين في هذا المجال الذي ينبغي أن يقاس بالإبداع الرمزي والجمالي وليس بمجرد التعبد).
وإذن فليست إيران هي في كل هذه المجالات دون أمريكا فحسب بل هي دون أدنى ولاياتها بل ودون متوسط شركاتها. فكيف لها أن تتخذ موقف الهر الذي يحكي انتفاخا صولة الأسد ويصدقها المحللون إذا لم يكونوا مغفَلين (بفتح الفاء) أو مغفلين (بكسرها) ؟ ولما كان قادة إيران ليسوا من الغفلة بحيث يراهنون على اللامبالاة والتضحية المطلقة بكل شيء من أجل لاشيء -وهو أمر لا يقبل به عاقل خاصة إذا كان لا يضحي بذاته بل بغيره ووظيفته تقتضي رعاية غيره وسوسه في حدود التحديات المعقولة والحسابات المفهومة- فإن مجرد حصول ذلك دليل قاطعمنهم على أنهم إيران صاروا بوعي أو بغير وعي لعبة في استراتيجية تتجاوزهم هدفها زعزعة الصف الإسلامي والتصدي للصحوة الحقيقية التي هي ثورة الإصلاح في الإسلام السني التي بدأت تؤتي أكلها وخاصة بعد أن عاد للأمة طموح الدور الكوني واستئناف رسالة الإسلام.
فما يمكن أن يقبل المقارنة مع قوة أمريكا في كل هذه المجالات هو المسلمون مجتمعين. وهو أمر لا يمكن لأي قائد إيراني صادق في تحليلاته وإسلامه أن يجهله. عندئذ وعندئذ فقط تكون المقارنة ممكنة على الأقل بما هو موجود بالقوة لدى المسلمين حتى وإن وقع التشكيك في ما لهم بالفعل. ولذلك فهم ليسوا طالبين للمناطحة مع أحد لعلمهم أن ما لهم لم يتعد بعد مرحلة ما هو بالقوة ليصبح بالفعل: ومدار الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية كله هو حول منع النقلة. وما حصل الصدام الآن إلا لأن أمريكا تحارب بدارا بعد أن أدركت في توقعها ما سيكون عليه العالم في منتصف القرن الحالي وأنها لن تبقى قادرة على سيادة العالم من دون الاستحواذ على العالم الإسلامي قبل أن يقاسمها العماليق الصاعدون ما فيه وقبل أن يصبح أهله قادرين على حمايته.
وإذا كان لإيران من وهم قوة فمأتاه الإيهام بأنها صارت الناطقة باسم هذا العالم الإسلامي وخاصة منذ أن بلغ السخف بالأحزاب والنخب العربية المتعلمنة منذ نصف قرن إلى التنصل من أساس قوة العرب الوحيد وشرط دورهم الكوني لكي تتلقفه منهم إيران أو حركات التطرف الديني التي يمكن أن تفسد حركة الإصلاح فتأفغن الوطن وتصومله ظنا منها أنها تحارب أمريكا في حين أنها تمد قادتها ونخبها بما تحتاج إليه لكي تقنع رأيها العام بالتضحيات الضرورية التي يقتضيها غزو العالم الإسلامي واستعماره نهائيا بعد إرجاعه إلى القرون الوسطى بسلوك أهله الخالطين بين النهوض والنكوص. فنخب أمريكا وقياداتها يلعمون أن استعمار العالم الإسلامي لن يكون يسيرا بل هو يقتضي حربا عالمية رابعة كما أعلن أصدق الناطقين منهم بأعماق إستراتيجية المافيا الأمريكية ومن ثم فلا بد من محفزات لقابلية التضحية في رأيهم العام: وذلك هو مدلول المعركة على الإرهاب الذي يخلقونه ليبرروا به الحرب على النهضة والصحوة قبل أن تؤتيا أكلهما.
السؤال الثاني: بين المقاومة الزائفة والمقاومة الحقيقية
وبذلك نصل إلى العلة الدفينة في نهج التعمية: فلا بد من بديل زائف من المقاومة الحقيقية يحول دون المسلمين وإدراك النهج الصحيح للتصدي الفعلي فيشتت جهدهم ويعمي الرؤية الإستراتيجية وذلك هو أهم جزء في الحرب النفسية. لا بد من جعل المسلمين عاجزين عن مواصلة المقاومة الفعلية بمقاومة وهمية بديل تحول دونهم وشرط الندية مع أمريكا حربا عليها أو حلفا معها إن لزم الأمر استعدادا لعماليق القرن القادمين بعد عشرين سنة أعني العماليق الأربعة المحيطين بدار الإسلام إحاطة حبل المشنقة بعنق المحكوم بالإعدام إذا ظل عقله في ظلام بسبب نخبه التي لم تخرج من الهيام ومن ثم فهم العماليق الأخطر على المسلمين بكل مقاييس أي تخطيط إستراتيجي لا يحتكم إلى منطق العلاقات بين الأفراد بل إلى منطقها بين الجماعات: أوروبا المتحدة وروسيا المنبعثة غربا والصين الهند شرقا.
وما أعجب له هو أن المحللين يغفلون أمرا لا يمكن ألا يكونوا مدركيه: فدور إيران في لعبة الاستعداد الأمريكي للصراع مع هؤلاء الأقطاب الأربعة هو بالضبط دور الأقطار التوابع التي استعملتها الصين والاتحاد السوفياتي في صراعهما مع أمريكا خلال الحرب الباردة. مجرد ملهية عن الصراع الحقيقي مع استنزاف العدو قدر المستطاع. ولتيسير الأمر يمكن القول إن نسبة إيران إلى الهند والصين وأوروبا وروسيا في استنزافهم الفعلي لأمريكا هي عينها نسبة حزب الله وشيعة العراق في استنزاف إيران الوهمي لأمريكا لظنها أنها قوة عظمى يمكن أن تناطع القوى العظمى ودون أن تدري أنها لعبة مرتين:
فالأقطاب المقبلون يستعملونها لاستنزاف أمريكا تماما كما استعملوا الفياتنام وكل ما حصل في ما يسمى بثورات العالم الثالث التي صارت ملهيات روسية وصينية في حربهما مع أمريكا سابقا.
وأمريكا أيضا تستعملها لاستنزاف المسلمين وتشتيت صفهم لئلا يستعدوا للمعركة أو بصورة أدق لكيلا تؤول القيادة لأهلها أعني العرب خاصة والسنة عامة.
فمجرد سند مربع الأقطاب المقبلين لإيران يعني أنهم يرون فيها وسيلة لاستنزاف أمريكا ومجرد سكوت أمريكا على مناوراتها في العراق يعني أنها تستعملها لإضعاف الفريسة المقبلة أي العالم الإسلامي الذي ينبغي أن يستعمر من جديد لأنه هو المخزن الوحيد الذي لا يزال بكرا فضلا عن كونه الممر الواجب بين هذه القوى بمقتضى موقعه الجغرافي. ومجرد ترشيح أمريكا إيران لوهم القيادة يعني إلغاء القيادة الفعلية وجعلها بؤرة حرب أهلية تعيد المسلمين إلى حربهم التقليدية أعني الطائفية والشعوبية وحربهم الحديثة أعني القومية والشوفينية وبدلا من توحيد شعوب الإسلام الخمسة المؤسسة (العرب والفرس والترك والكرد والبربر) والخمسة الباعثة (الهنود والمالويون والصقالبة والزنوج وكل الجاليات الإسلامية في الغرب)
وتوحيد المسلمين لا يكون حسب رأيي إلا بقيادة تشاورية بين كل هذه الشعوب مع تقديم دور أول الشعوب المؤسسة (الشعب العربي) وأول الشعوب الباعثة (الشعب الباكستاني). فلا يمكن لأي شعب من شعوب الأمة الإسلامية أن يكون القائد بمفرده. لكن إذا كان ولا بد فإن القيادة ينبغي أن تؤول للبعض دون الكل ولتكن لأكبر شعبين هما أول المؤسسين وأول الباعثين قصدت عرب المسلمين وهنودهم. فهما أكثر شعوب الإسلام عددا وعدة وأكثرهم ثروة مادية ورمزية وتقدما علميا وحضاريا: الشعب العربي والشعب المسلم من الهنود يمثلان بالعديد نصف المسلمين وبالثروة المادية والرمزية قمة اللحظة الحالية فضلا عن دورهما التأسيسي والبعثي.
ثم لا ننسى أن العرب هم منبع الرسالة وأرضهم هي موطن المقدسات ومقصد كل الأعداء وخاصة أعدى الأعداء فضلا عن كون ذلك يحرر الشعوب الإسلامية الأخرى من التنافس على القيادة التي تكون قد اختيرت بعلل موضوعية: القرآن والمشاعر ووصية الرسول بجعل القيادة منهم رمزا إلى ذلك بقريش وأن مسلمي الهند هم آخر نبضات الإسلام قبل أن تفتك منه القيادة والريادة وأولهم عودة إليها على الأقل لأن علامتي الحداثة وفكر الصحوة وجدا فيها النبضة الأولى التي أعادت للمسلمين الثقة بالنفس بعد طول يأس: جائزة نوبل (رمز عبد السلام) والردع الذري (رمز القنبلة الإسلامية) والفكر الديني للصحوة (المودودي) فضلا عن انبعاث الفكر عامة (إقبال).
لذلك فتنصيب إيران للقيادة لا يعني التخلي عن كل هذه المزايا فحسب بل هو يعني جعلها بيد شعب قد يعيد الأمة إلى الطائفية والشعوبية الموروثتين عن تاريخنا الوسيط وإلى القومية والشوفينية الموورثتين عن الغرب الحديث أعني إلى أهم الأدواء الحضارية التي يعاد حقنها في جسد الأمة لئلا تقوم لها قائمة: ذانك هما الهدفان الاستراتيجيان لأعداء الأمة الثلاثة الذين نسبنا إليهم التعمية الإعلامية والتمويه الاستراتيجي.
السؤال الثالث: المعادلة الدولية الحقيقية
وحتى نفهم هذا التحليل فلننظر في المعادلة الدولية الحالية كيف هي. فمن لم يكن فاقدا للبصر فضلا عن البصيرة يمكن أن يرى بوضوح تام من خارطة الكرة الأرضية أن العالم الإسلامي يمتد من اندونيسيا إلى المغرب ليشمل أهم مناطق آسيا وإفريقيا وبعض مناطق أوروبا مع أهم البحار السخنة وجل طاقة العالم العضوية والشمسية وجل مشاعر الأديان المعلومة في المعمورة. لكن الأهم من ذلك كله أن الأمة التي تحيا فيه وبه تؤمن بأن لها رسالة كونية وأنها لا يمكن أن تقبل نكوص البشرية إلى قانون التاريخ الطبيعي بل هي تعتبر العولمة الثقافية (خاصة) الاقتصادية (بقدر أقل) حربا على قيمها لكون رسالتها ليست شيئا آخر غير السعي إلى تحرير الإنسانية من سلطان القانون الطبيعي الذي يعيد الإنسانية إلى قانون الغاب وتعديله بقانون التاريخ الخلقي للمستعمر في الأرض والمستخلف عليها أعني أبناء آدم المشتركين في الأخوة والمتساويين في الحقوق وأهمها حرية العبادة كما دعا إلى ذلك القرآن الكريم.
وإذا كانت الأقطاب المحيطة بالعالم الإسلامي لا يهتمون بهذا العامل وليسوا مدفوعين به في المقام الأول خلال صراعهم على الفريسة التي هي عندهم العالم الإسلامي الفاقد لشروط الدفاع عن الذات المادية (دار الإسلام) والروحية (رسالة الإسلام) فإن ما في دار الإسلام من مغريات يمكن القول إنهم هم الأكثر حاجة إليها لأنها شرط وصولهم إلى القطبية في حين أن القطب الأوحد الحالي ليس أن يصبح قطبا ولا أن يبقى قطبا بل أن يبقى القطب الأوحد فضلا عن كونه من حيث الجوار الجغرافي هو أبعد الطامعين في ما عندنا. فيكون المشكل الإستراتيجي الحالي في المعمورة هو علاقتنا نحن بالولايات المتحدة منظورا إليه من سوء التحليل عند كلا الطرفين على حد سواء: فأمريكا تظن أن صعود المارد الإسلامي خطر عليها وليس حليفا ممكنا ضد الأخطار الفعلية أعني الأقطاب الأربعة المقبلة والمسلمون يظنون أن المارد الأمريكي لا يمكن أن يقبل بالحلف حتى بعد أن يتأكد من أن استعمار العالم الإسلامي مستحيل.
لكن الأخطار التي تمثلها الأقطاب الأربعة المقبلة يجعل كلا الطرفين بحاجة إلى الآخر: فالفدرالية الإسلامية والولايات المتحدة يمكن أن يصبحا حليفين ضد الأخطار الفعلية التي تمثلها الأقطاب المحيطين بالعالم الإسلامي والذين هم أخطر علينا من أمريكا وعلى أمريكا منا. فهي أخطر علينا من أمريكا لأنها محيطة بنا مباشرة وأكثر حاجة منها إلى ما عندنا. وهي أخطر على أمريكا منا لأننا لسنا بعد قوة يمكن أن تخيف أمريكا: بل نسبتنا إلى أمريكا في الحروب المقبلة يمكن أن تكون من جنس نسبة أوروبا إليها في الحرب الباردة. وأمريكا تريد حاليا الاستعداد لهؤلاء الأقطاب بإلغاء ما تتصوره عائقا سهل التنحية: استقلال المسلمين. فإذا عاجزناها وتبين لها استحالة ذلك خضعت لشروط الحلف المحقق لمصالحنا ومصالحها. والمسلمون يريدون استئناف التاريحي وشرط ذلك أن يرهنوه بمهمة شبه مستحيلة: محاربة جميع في نفس الوقت وعدم ترتيب الأعداء لاختيار الحلفاء من بينهم.
لا بد للمسلمين من الاختيار استعدادا لمجريات تاريخ المعمورة في هذا القرن الحادي والعشرين. وليس القصد من المعادلة الدولية شيئا آخر غير الخارطة التي تصنف الأعداء فتجعل أقلهم خطرا على وجود الأمة المادي والروحي أقربهم للحلف معه. فلننظر الآن إلى خريطة العالم بهذه العين وسنرى ما يلي:
أوروبا المتحدة عادت إلى ما كانت عليه روما. وهي كما يعلم الجميع قطعة صغيرة من الأرض ليس لها شروط البقاء من دون استعادة مستعمرات روما. فهل للعرب المحيطين بالبحر الأبيض المتوسط القدرة على الصمود أمام هذا الخطر الآتي لا ريب فيه خاصة إذا ظلوا كالنعامة غارسين رؤوسهم في الرمال الطائفية ؟
روسيا المنبعثة عادت إلى ما كانت عليه روسيا القيصرية. وهي كما يعلم الجميع تحلم دائما بالبحار السخنة. فهل يمكنها الوصول إليها من دون المرور بما كان يحاول أن يمر به القيصر فضلا عن المستعمرات الإسلامية التي كانت تحت الاتحاد السوفياتي ولا يحميها الآن إلا ضعف روسيا المؤقت ؟
الهند المستقوية بالعبودية الجديدة أي بنقل الصناعات الغربية التي كانت تستورد العبيد في قرني الثورة الصناعية قبل القرن الماضي ثم صارت تذهب إلى العبيد في بلدهم لتسخيرهم بأتفه الأسعار هل يمكنها ألا تطمع في الخليج العربي وفي الهند المسلمة فضاء حيويا للتوسع وهي لا تكاد تكفي لسد رمق أهلها فضلا عن الحاجة إلى الطاقة ؟ أليس الخليج بعد مستعمرة سكانية وهو سيصبح هنديا بمجرد أن يصبح للهند القدرة على فرض ذلك باساطيلها ؟
والصين "الرأسمالية" وما أدراك ما الصين ؟ من يرى أثرها في العالم المالاوي واستدارتها حول افريقيا لا يحتاج إلى كبير تدليل على ما ينتظر من لا يستعد لهذا العملاق الذي قد يسبق العملاق الأوحد الحالي في كل شيء. فأين نحن من قدرة الصين على بلع العالم المالاوي أي ربع الأمة والإحاطة بنا في إفريقيا ؟
ولما كنت طبعا لا أتصور الاستراتيجيين أغبياء بحيث لا يرون كل هذا فإنه لا يمكن إلا أن اعتقد جازم الاعتقاد بأنهم يعمون الحقائق للتمويه الاستراتيجي ومنع الأمة من تحديد إستراتيجية فعالة تمكنها من تحقيق الحلم الذي يمكن أن يصبح مستحيلا إذا بزغت هذه الأقطاب وصارت فاعلة حقا قبل أن نكون قد حزمنا أمرنا في اختيار الحليف الممكن من تحييد كل هذه الأخطار ليس علينا فحسب بل عليه كذلك.
لذلك فإني أرى أن الحليف الممكن الوحيد هو العدو الذي يبدو الآن أكثر الأعداء شراسة في حربه علينا فضلا عن كونه مستعمرا لكل ارض الإسلام عندما لا يكون في حرب معها. فالولايات المتحدة تستعمر جل الأرض الإسلامية باتفاق مع حكامها وهي تحارب بقية الأرض الإسلامية مع معارضيهم: ومن ثم فوحدة أرض الإسلام السلبية حاصلة أمريكيا سلما أو حربا بعد نهاية الحرب الباردة تماما كما كان الشأن في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. فكيف تحل نفهم المفارقة بين هذه الحال واعتبار أمريكا الحليف الوحيد الممكن ؟ ذلك هو هدف هذه المحاولة التي بدأتها منذ علقت على مقالات الأستاذ هيكل الذي انتهى في تعامقاته الأخيرة إلى دعوتنا للدخول من جديد في لعبة الحل الوحيد الذي هو الخيار بين الإستراتيجيتين الموجودتين على الساحة حسب رأيه مع ترجيح الخيار الذي سجعلنا في الصف الخاسر تماما كما حصل لما كان المستشار الأول في الخيار السابق خيار الصف السوفياتي: فهو يحصر الخيار أمريكا وإيران وسهم في التعمية الإعلامية بجعل إيران ندا لأمريكا ثم يطلب من العرب خاصة ومن المسلمين عامة أن يكونوا توابع لإيران باسم مقاومة أمريكا (مضمرا أن أمريكا لا يمكن أن تفضل الحلف معنا على الحلف مع إسرائيل) !
وحتى لا يسيء البعض الفهم فيخلط بين الدعوة إلى الحلف مع أمريكا مفروضا عليها بعد أن يتبين لها من عجزها في إيقاف المقاومة أنها لا يمكن أن تبقى القوة العظمى الأولى بإخضاعنا لأخذ ما تحتاجه لذلك منا عنوة وأنه من الأفضل لها الحلف معنا والخلط والدعوة إلى تبعية الأنظمة العربية للولايات المتحدة: فهذا ليس حلفا مع أمريكا بل هو حماية أمريكية للأنظمة يأسا من شعوبها وعدم إيمان بما ندعو إليه أعني تأسيس القطب الإسلامي الذي سيعدل السياسة الدولية. ما نتكلم عليه هو الحلف الذي يكون فيه المسلمون أندادا لأمريكا لأن المصلحة الإسلامية والمصلحة الأمريكية في عالم الأقطاب المقبلة يفرض علينا جميعا هم ونحن أن نتحالف لنبقى أحرارا في عالم يكاد يعود إلى قانون التاريخ الطبيعي في الصراع أساسا علينا نحن وما بقي من العالم المستضعف.
ولا يقتضي الحلف في هذه الحالة أمرا هو بالضرورة حرب على الأنظمة إلا إذا بقيت معادية لشعوبها. لكنها يمكن أن تتصالح مع المعارضة التي تمثل الشعوب بحق لأنها إن لم تفعل فسترميها أمريكا رمي الجيف حتما.ذلك أن استراتيجي أمريكا سيتبين لهم أن حلفها المفيد ليس مع الأنظمة غير الشرعية بل مع المعارضات إذا أدركت أهمية بهذه الإستراتيجية ولم ترهن مستقبل المسلمين بسقوط الولايات المتحدة ليصبح العالم الإسلامي فريسة تتقاسهما الأقطاب الأربعة التي بدأت في التكشير على أنيابها: مساعدة العالم الإسلامي على التوحد كما حصل ذلك مع أوروبا مقابل الحلف معها. وليس الهدف من الحلف محاربة الأقطاب المقبلة بل هو من أجل عالم يسود فيه التوازن بدل عالم يعود إلى الصراع بين الأقطاب الأربعة التي تريد أن تتقاسم الغنيمة الإسلامية بعد أن تهزم أمريكا وتخرج منه. والمعلوم أنه لن يهزم أمريكا أحد غيرنا ولن يساعدها أحد على أداء دور معنا في تعديل التوازن الدولي المقبل غيرها كذلك: أعني العرب قادة للمسلمين الصادقين كما نرى ذلك يحصل فعلا في البؤر العشر التي حللنا منها منطق المقاومة (انظر المستقبل العربي شهر أبريل).
السؤال الرابع: المعادلة الإسلامية الحقيقية
فما هي المعادلة الإسلامية التي يراد التعمية عليها بكل هذه الأفانين من التحيل المزعوم تحليلا استراتيجيا ؟ فشل حركات النهوض العلمانية في العالم الإسلامي لم يعد بحاجة للإثبات. ولعل آخرتها في السقوط هي أولاها في الظهور: العلمانية التركية التي عادت إلى جوهر الموقف السني من العلاقة بين الدين والسياسة من حيث هو معبر عن ثقافتها وتلك هي طبيعة العلاقة بين السياسة وثقافة أي أمة إذا كانت حقا سوية وتريد للمؤسسات الشرعية المغنية عن استبداد النخب والدكتاتورية المزعومة تنويرية. أما ما عداها فقد سبقها في السقوط النهائي مع نهاية الحرب الباردة حتى وإن كانت علامات السقوط متقدمة لأنها بدأت بمجرد أن تبين للشعوب أن من استبد بالحكم مباشرة بعد حرب التحرير الأولى لم يكن المؤمنون برسالة الأمة بل مواصلو ما يزعمه الغرب رسالة التحضير التشويهية: تغريب العالم وتمسيحه.
لذلك فالحلف بين بقايا اليسار الذي صار ليبراليا بعد أن كان اشتراكيا للمحافظة على ما يتصوره حريات حصرا إياها في القطع النخبوي مع القيم العامة لثقافة الشعب الذي يريد تحديثه بالحديد والنار والهجمة الأمريكية ذات الميول المسيحية الصهيونية ليس أمرا اتفاقيا بل هو من جوهر الظاهرة الكونية التي تسمى عولمة: لا فرق في ذلك بين قتل النبات والحيوان وقتل اللغات والثقافات أمام جرافة التحضير والتصحير. فاليسار استسلم للوجه السلبي من نبوءات ماركس أعني عموم الامبريالية الرأسمالية العالم مع اليأس النهائي من وجهها الموجب فلم يعد العموم مرحلة معدة لتحقيق الاشتراكية بل صار نهاية التاريخ المتغرب على النمط البرجوازي الأسوأ أعني النمط الأمريكي.
لكن الصمود الإسلامي عامة والعربي خاصة –الذي يعتبر اليوم حجر العثرة الوحيد أمام هذا المشروع- كان النذير بهذا الخطر وأصبح البشير بشروط التحرر منه. فكل شباب العالم بما في ذلك جل شباب الغرب الأوروبي وبعض شباب الغرب الأمريكي باتوا يؤمنون بما نؤمن به من ضرورة الثورة على الطاغوت العالمي رافع شعار السوق والسوقة حماية للكون قبل الإنسان إذ إن التلوث المادي أكثر بينونة للعامة من التلوث الروحي: ما حدث للبيئة الطبيعية رغم بينوته لكل بصر ليس هو أقل خطرا مما حدث للبيئة الثقافية التي لا تراها إلا أصحاب البصائر لخفائها على الأبصار.
المعادلة الإسلامية التي تحدد منطق القيادة المؤثرة كيف يكون بينة المعالم لمن يريد أن يحسن القراءة. فأولا لا يمكن أن تخرج القيادة من السنة عامة ( أعني 90 في المائة من المسلمين) ومن السنة العربية خاصة (أعني من مصر والسعودية) لسببين رمزي ومادي. فرمزيا لا يمكن للإيراني الشيعي أن يدعي القيادة الإسلامية إلا ببديل من العروبة والتسنن: وكلاهما ممتنع. وهو حتى في تشيعه لا بد له من التبعية للتسنن ضرورة: فمبدأ الوصية لأن الوصية لا تصح لمن يرفض السنة إذ هي سنة إذا صدقت وهي بدعة إذا كذبت وكلا المفهومين سني. وهو لا يستطيع أن يلغي دور العروبة لأن الوارث الموصى له ينبغي أن يكون من آل البيت أي من ذرية علي. وعلي عربي. وهو سني. ولم نسمع أنه ادعى التشيع. وأما ماديا فالمسألة قابلة للتحديد الرياضي: فلا يمكن أن تكون القيادة بيد دولة من طائفة لا تمثل بكل تلاوينها إلا عشر الأمة فضلا عن كون الجماعة القائدة منها لا تمثل بالمساحة والثروة والمستوى الحضاري أفضل ما يتوفر للمسلمين.
فتكون المعادلة الإسلامية في مجال القيادة مترددة بين الفوضى الحالية والسعي إلى العمل الإجماعي مع تقديم ذوي الأغلبية وهم بحسب التقريب العرب أولا (حوالي 300 مليون) والهنود ثانيا (حوالي 250 مليون دون حسبان من هم في دولة الهند) والمالويين ثالثا (حوالي 250 مليون) والأتراك رابعا (حوالي 200 مليون) والزنوج خامسا (حوالي 200 مليون) والفرس أخيرا (أقل من 50 مليون).ويبقى حوالي 250 مليون من الأقوام الأخرى كالأكراد والبربر والصقالبة إلخ.... 
لكن ما يجري على أرض المقاومة المادية والرمزية هو المحدد الفعلي لمن تؤول إليه القيادة: فمن يشرف اليوم على نشر الرسالة ومن يقاوم في العالم ؟ أليس هذا الفضل يعود بالأساس إلى العرب ؟
كل المقاومات في العالم الإسلامي (هي عشر كما أحصيناها في مقالنا المشار إليه) قياداتها عربية وتمويلها كذلك. وقائد قوادها عربي بالجوهر كما تأكدت من ذلك بنفسي عند طلبتي من الجزر المقاومة في جنوب شرق آسيا سواء في فطاني أو في مورو: إنه القرآن الكريم مرجعا مجردا ومحمد مرجعا مشخصا. ولذلك يركز الثالوث المتواطئ حربه عليه. وكل التعليم الديني ونشر المنشآت الدينية والتصدي للتبشير كل ذلك عربي وهو لوجه الله لأن القائمين به أفراد وحتى الدول عندما تفعل فهي عديمة الطموح السياسي الأمبريالي إما بسبب ضآلة الحجم أو بسبب غفلة القيادات.
فعندما كانت الزيتونة تشع على كل إفريقيا قبل عملية التهديم الغبية التي ماثلت تهديم المدينة العتيقة من أجل التحديث العلماني الاستبدادي لم تكن تونس ذات طموحات امبريالية. وإشعاع الأزهر ليس حاملا لإمبريالية مصرية لأن مصر يكفيها ما بيها. وتعميم تعليم القرآن وعمارة بيوت الله التي يمولها أهل الخير والبر بالزكاة والصدقات ليس وراءها سياسة دولة كما هي الحال في إيران التي تشبه سياستها الدينية سياسة التبشير الكاثوليكي: استغلال الفقر والمرض لفرض توجه سياسي واستعماري.
ولن يغير من الأمر محاولة تدارك الأمر في العراق بسعي الذين سهلوا الغزو الأمريكي بل واعتمدوا عليه للاستبداد بالسلطان السياسي والاقتصادي والديني سعيهم للالتحاق بالركب وافتكاك مجد النصر على الجيش الأمريكي الذي بشرت بانهياره من اليوم الأول لدخوله بغداد في مقال "النصر آت لا ريب فيه". فهذه اللعبة لن تنطلي على أحد: لا يمكن أن تتحالف مع الجيش الغازي أربع سنوات ثم تدعي مقاومته في اليوم الأخير الذي بدأ فيه الانسحاب. كما أن محاولات إدامة معاناة الشعب العراقي بتغذية الإرهاب والحرب الأهلية من جهة لتلهية الوحش الأمريكي على إيران والمفاوضة على مساعدته في حربه لتحقيق لترضية أمريكا لن يجدي ذلك كله نفعا. فأمريكا يعلم استراتيجيوها أنها لا يمكن أن تخرج من الخليج لأهمية الرهان بالنسبة إليها. وهي لا تحتاج إلا إلى حل وسط مع المقاومة العربية السنية دون سواها: فهم لا يجهلون أن المنطقة لا يمكن أن تستقر بصفقة مع إيران وأن العرب ليسوا شعبا يرضى بالصفقات بل هم شعب لا يرضي بدون الندية والمساواة. ذلك أن المقاومة ليست عراقية فحسب بل هي عربية: شهداؤها دماؤهم تموج وزهورها تروج من حدود بلد الخوارق (العراق) إلى مضيق جبل طارق (المغرب الأقصى)!
السؤال الأخير: ثورة الاستئناف الإسلامية 
وهكذا نصل إلى جوهر القضية: ما طبيعة الاستئناف الإسلامي؟ وهل يحق للمسملين أن يكون لهم حلم تحرير الإنسانية من الطاغوت الناسوتي في الاستئنافة بعد تحريرها من الطاغوت اللاهوتي في نهضتهم الأولى لتحقيق مضمون الرسالة الخاتمة: الأخوة والمساواة بين البشر ورعاية العالم الطبيعي بدل تهديمه بالتلوث المادي والعالم الخلقي بدل تهديمه بالتلوث الروحي ؟ ألا يبدو ذلك طموحا مثاليا ليس للمسلمين وعي بشروطه فضلا عن امتلاك أدواته ؟ لذلك اعتبرت وضع المسلمين الحالي شبيها بوضعهم عند نزول القرآن: فليس من شك في أن ملوك بيزنطة وفارس قد سخرا من رسل محمد لما دعاهم إلى الإسلام. لكن سخريتهم تلك تبين في ما بعد أنهم كانوا سخفاء لم يفهموا طبيعة الثورة الجارية من حولهم فلم يستفيدوا فكان أن أبادهم التاريخ الذي يحكم في غالب الأحيان لصالح الحق فيزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.
ويخطئ الغربي اليوم إذ تصور أنه يمكن إيقاف الاستئنافة الإسلامية: فهي فاعلة في الضمير الغربي نفسه ممثلا بشبابه الذي سأم الطاغوت الناسوتي وحكم السوقة بقانون السوق. فهي ستحقق ما عجزت عنه في النبضة الأولى بمقتضى ثمراتها أعني ما توفر لها خلال تاريخ الإسلام الماضي من إمكانات مادية ورمزية ولم تكن موجودا عندها سابقا: سنحرر العالم الطبيعي من التهديم المادي (تلويث البيئة الطبيعية) والعالم الخلقي من التهديم الروحي (تلويث البيئة الثقافية). ونحرر الإنسانية المستضعفة ليس خيارا فسحب بل هو اضطرار لأن التهديمين يريدان أن يعاملانا معاملتهم للهنود الحمر فيزيلا وجودنا ليستمرا في استعمار العالم وتهديمه طبيعيا وثقافيا: فالأول تمثله أمريكا والثاني تمثله إسرائيل وكلاهما رشح العرب والسنة لهذه المهمة لمجرد انهما ركزا عليهما في حربهما فكان ذلك سلبا من علامات أوان الدور الكوني للأمة فضلا عن أن المسلمين يعتقدون إيجابا بأن القيام برعاية العالم والشهادة على العالمين هما جوهر رسالتهم الخاتمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق