أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2014.06.04
تمهيد
هذا رد وجيز على الأستاذ السعيدي (صحفي سعودي معارض للربيع) الذي علق على رسالة سابقة شكرت فيها الأستاذ خاشقجي (صحفي سعودي يدعو إلى التوفيق) الذي دعا إلى دور تؤديه السعودية للمصالحة بين الاطراف المتصارعة في أقطار الربيع العربي حتى تتجنب الأمة الحرب الأهلية وتفرغ للتصدي لأعدائها. وكان رده متعلقا بجملة وردت في آخر كلامي ادعيت فيها أن كل اللذين اجتمعوا لمحاربة الثورة الفرنسية جرفتهم قيمها فباتت أوروبا كلها مؤمنة بحقوق الإنسان وكرامته وحريته على الاقل بما مثل يسعى إليها وليس هو بالضرورة قادرا على تحقيقها على الوجه الأمثل: وتلك هي حضارة الغرب الحالية التي تمثل أساس وحدتها وقدرتها على الجمع بين التنوع الثقافي والوحدة القيمية.
*********************
لم ينلني الشرف فيكون لي معرفة وثيقة بالأخ الفاضل المعلق على كلمتي. ويسعدني أنه أولى ملاحظاتي العابرة حول مقال الأستاذ خاشقجي هذا التعليق الذي مفاده في الغاية الظاهرة قلب الحجة علي بأن بين أن تاريخ الثورة الفرنسية لو احترمت أحداثه لكان علي أن أكون مع الثورة المضادة بدلا من الدفاع عن الثورة. وتقديرا لجهده المحترم أكتب هذه الكلمة وهي الأخيرة لئلا يصبح سجالا شخصيا بينه وبيني إذ ليس من عادتي الرد على المعلقين. وسيكون كلاما عاما وليس ردا على الحجج الجزئية بل أذهب إلى أساسها الوحيد: فالتعليق الذي تفضل به اللاستاذ السعيدي يستند إلى أحداث الثورة الفرنسية وليس إلى دلالاتها. وهذا الفهم يشبه معها في أعيان وجودها الحسي المعزول فيخلط بين خلب الظاهر وقوانين الظهور. وذلك هو الفرق بين معاني التاريخ وأحداثه.
ولنبدأ بوجوه الاتفاق
لو كان الأستاذ يعلم أني عندما أحلل الأحداث لا أنفي دور الثورة المضادة وأهميته في إنضاج شروط تحقيق قيم الثورة لاستغنى عن الكلام على دور نقائض ما طالبت به الثورة الفرنسية في أحداث تاريخها. فقد ذهبت في بعض تحليلاتي إلى تمني وقوع السيسي في فخ الدخول إلى ليبيا حتى تصبح الثورة شاملة لكل الوطن العربي لأنها عندئذ ستكون نزالا بين صفين أحدهما يسعى إلى تحرير الأمة والثاني إلى إبقائها في ربق العبودية. فكذلك فعل نابليون: ولولا تدخله في ألمانيا لما توحدت ولولا حروبه الأوروبية لما تحققت أوروبا الحالية التي أساسها القول بنفس القيم التي هي عين مطالب الثورة الفرنسية: الحرية والمساواة في المواطنة والكرامة والعدالة الاجتماعية وخاصة سيادة الشعب.
ذلك أني لا أنكر أن الثورة المضادة ذات فضل على الثورة بغير قصد إيجابي طبعا. فهي إلى حد الآن تعتبر متقدمة على الثورة لأنها في مقاومتها لها تخلصت من الحدود القطرية ونظرت إلى الأمر من حيث شموله للأمة كلها. ومن ثم فهي قد حققت وحدة الفضاء العربي ولو سلبيا أي محاولة تحقيق وحدة العبيد الخاضعين للاستبداد والفساد. لكن الثورة بينت أنهم لم يعد بالوسع استعبادهم: وهذا ما يسمى فلسفيا بمكر التاريخ ودينيا بمكر الله الخير. ثم إن المعلق يعلم ككل الناس أن الرأسمالية مثلا لم تحارب الاشتراكية بنفيها فسحب بل هي حاربتها بتبني أهم مبادئها حتى تصمد أمامها. فإذا كان ذلك قصده فلا خلاف بيننا.
وهنا تبدا الفروق الأساسية بين الموقفين
لكني لا أتصوره يقصد هذا المعنى بل هو إن صح فهمي يسعى إلى تبرير بقاء الحال على ما هي عليه بحجة الخوف من الفوضى والدفاع عن الاستقرار تأييدا لحجج الأنظمة المحافظة على الوضع دون أن أذهب إلى أنه من القائلين إن الثورة مؤامرة غربية وإن كانت هذه الحجة مكملة لتلك. وإذا صح ما صادف أن ما علمته منه أنه يمارس الصحافة فما أظنه يجهل أن الأنظمة العربية الحالية لا يمكنها أن تثبت أنها مستقلة عن الغرب حتى تدعي أنه يحتاج إلى مؤامرة للثورة عليها في حين أنها جميعا كما هو بين للعيان محميات له ضد شعوبها المقهورة والمسحوقة والتي كما قال العلامة ابن خلدون أصبحت "فاقدة لمعاني الإنسانية" ما دامت قد صارت عبيدا في محميات ليس حكامها إلا نوابا عنه.
ولست استثني احدا من الثوار-ولهذه العلة كان موقفي نقديا منهم أكثر مما هو مؤيد لهم وخاصة من تعجل في الهجوم على الحكم بدل تحقيق شروط نجاح الثورة- إذا كان يسعى إلى تكوين دويلة تكون من جنس ما تمت الثورة عليه: محمية بحكام جدد من جنس ما حصل في ثورة الخمسينات يوهمون الشعوب بأنهم جاءوا لتحريرهم فإذا هم أكثر استعبادا لهم ممن زعموا الثورة عليهم.
المشكل في تعليق الأستاذ السعيدي
ولنأت الآن إلى بيت القصيد. فلو كان الأمر متعلقا بمقارنة الأحداث بالأحداث لكان كل ما قاله الأستاذ السعيدي مقبولا. لكن دلالة كلامه عندئذ تكون كالحال في من يتصور أن قانون السقوط الحر تكذبه الوقائع لأن الحديد الساقط أثقل من القطن فيوجب على العلماء أن ينفوا صحة النظرية للمطابقة مع خلب الظاهر. ولست بحاجة إلى التذكير بان أحداث التاريخ لا تتكرر إذا لم نعتبر إلا ظاهرها. ما يتعلق به الأمر في كلامي هو سنن الأحداث لا الأحداث بأعيانها: فالقيم التي تسعى إليها الثورات هي التي تظهر في الغاية على كل ما عداها حتى عند الأشد ممن عاداها.
وبهذا المعنى فإن سؤالا وحيدا ينتظر الجواب من الأستاذ الذي يبرهن بكلامه أنه على علم بظاهر الأحداث: هل بقي بعد الثورة الفرنسية نظام أوروبي وحيد لم يصبح يحكم باسم قيم الثورة الفرنسية أعني الحرية والعدالة والمساواة أيا كان شكل النظام دون أن يجرفه التاريخ؟ فليذكر لنا مثالا واحدا. أما تعثر الثورة الفرنسية فمعلوم للجميع. ونحن لا ننتظر نجاح الثورة بين عشية وضحاها: نحن نؤمن راسخ الإيمان بأن المسلمين بفضل الربيع العربي بدأوا عودتهم إلى التاريخ الكوني فأصبحت حركة إحياء قيم القرآن هي عينها حركة تحقيق كرامة الإنسان مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها بمنطق الأخوة البشرية (الآية الأولى من النساء) وقيم حمايتها ورعايتها (الآية 13 من الحجرات).
وهذا المسار لن يتوقف حتى يصبح المسلمون شهودا بحق على العالمين وليسوا عبيدا للاستبداد والفساد لجبن قياداتهم الروحية التي اختارت السلامة الذاتية بديلا من الكرامة الإنسانية بمنطق عصر الانحطاط تفضيلا لاستقرار العبودية على حيوية الحرية. ويؤسفني أن أجد نفس الخلل المنهجي في الفكر الذي يخلط بين ظاهر الأشياء المخادع وسننها العميقة التي هي مدار الكلام. فسواء كان النظام ملكيا أو جمهوريا في أوروبا لا أحد يستطيع أن ينكر أنها أصبحت تعتبر السيادة للشعب فعلا أو على الأقل قولا: وهذا هو المدلول الحقيقي للثورة الفرنسية وكل ما عدى ذلك جزئيات ومراحل قابلة للتحقيق المتدرج.
لكن ما حيلتي إذا كان بعض المفكرين لا تعنيهم حقائق الأشياء بل المظاهر التي تساعد على تأييد الموجود خوفا من الكلفة التي قد تترتب على طلب المنشود إلى أن تنقرض الأمة تحت وطأة القوة الزائفة لأنظمة الاستبداد والفساد التي تعتبر نفسها صاحبة البلاد وسيدة العباد حتى بات الخوف منها مقدما على تقوى رب العباد. وطبعا لو كنت أطلب القوة الزائفة والراحة الشخصية لبقيت على الحياد هذا إذا لم اختر تأييد الاستبداد والفساد باي حجة تقبل الاستمداد. ولو كان هذا خياري لسلمت بالمطابقة بين الأحداث ولاكتفيت بمظاهرها بديلا من حقائقها دون اعتبار للتغير بسبب الفارق ولاعتبرت المفعول الخلقي للثورات ينبغي أن يرفض بمنطق فلسفة السياسة التي فرضها عصر الانحطاط: القبول بالظلم والاستبداد والفساد وتخريب البلاد تجنبا لما يسمى فوضى لكأنه توجد فوضى أكثر من التي يعيش عليها العرب في ما يسمى بالاستقرار أعني آسن البرك التي يختمر فيها الفساد والاستبداد ليقضي على ما سماه ابن خلدون معاني الإنسانية بسبب الأحكام السلطانية والتربية التعسفية.
طبيعة الظرفية الروحية للأمة
لذلك فإني لا يمكن أن أقول بما استنتجه المعلق: لن أؤيد السيسي ولا حفتر لعلمي أن كل الحفاتر والسواسي العربية من جنس هاتين الأداتين بما يعني أن اللجوء إليهما رفض للثورة المحررة ويأس من كل القيم القرآنية التي تجعل الإنسان حرا لا معبود له سوى الله: وحتى لو قبلت أنا بوصفي شيخا فإن شباب العرب والمسلمين إناثهم وذكورهم باتوا بمنآى عن هذا الخلق المنحط الذي ورثناه عن عصور الانحطاط وكرسه عصر الاستعمار وأذياله. ما يغفله المعلق في منطق القياس هو نسيان الفارق علما وأنه لا يتعلق بالتماثل بين الأحداث بل بوحدة المعنى القيمي الذي يحركها.
فشباب الشعوب العربية فتياته وفتيانه في القرن الحادي والعشرين على علم بتجربة الشعوب الأوروبية في القرن التاسع عشر. ومن ثم فللأولى وعي بما ليس للثانية وعي به أعني أنها أدركت بتجربة الغرب وقبلها بتجربة العصر الراشدي فضل التحرر من الاستبداد والفساد ولو بعد مخاض تاريخي طويل في جولته الأولى لكنه قابل للاختصار في الجولات الموالية لأن البشر يتعلمون. ثم إن عموم الثقافة التحررية واختلاف المناخين العالميين ليس بالفكر فحسب بل وكذلك بشروط التواصل وإمكانات التغيير يجعلان ما كان يتطلب نصف قرن ليحصل قابلا لأن يحصل في عقد مع تجنب مساوئه وتكثيف محاسنه.
وكل من تأخر من بلاد أوروبا وأجوارها في القبول بهذه المبادئ انتهى به الأمر إلى ما نعلم عندما نتكلم على روسيا التي هزمها اليابان في بداية القرن العشرين تباطأت في الإصلاح حتى انهارت خلال الحرب العالمية الأولى ومثلها الإمبراطورية العثمانية والنمساوية المجرية: وهذا هو المقصود بأن كل معارض للثورة ستجرفه حتما ليس بأعيان تمظهرها الأول بل بكلي قيمها المؤسسة لها منطلقا وغاية.
أما ألمانيا التي فهم فيها بسمارك منطق التاريخ فقد تمكنت من تحقيق وحدتها ومن نظام اجتماعي واقتصادي وتعليمي ما يزال إلى اليوم متقدما على أنظمة أوروبا كلها. لذلك أصبحت أقوى بلاد الغرب بعلمها ونظامها التربوي والاجتماعي وخاصة بحل المشكل الذي عطل الثورة الفرنسية أعني العلاقة بين الدين والسياسة أعني العلمانية السوية.
الخلاصة
والحقيقة التي لا يمكن أن ينازع فيها أي عالم بالتاريخ الأوروبي مغربيا كان أو مشرقيا هو أنه لم يبق اي نظام غربي أو حديث محكوم بغير ما وضعته الثورة الفرنسية من قيم طبعا بعد تخليصها من إفراط فورتها الأولى كالحال في كل تأسيس. ولا يقتضي ذلك أن يصبح النظام جمهوريا: فملكيات أوروبا أكثر ديموقراطية وعدل من جمهورياتها. المهم هو القيم التي تحكم النظام وعلاقته بأصل الشرعية التي هي القيم المتعالية بتوسط اعتقاد الشعب فيها. شرعية الأنظمة ليست سماوية في وضع الأمر الموضوعي الموجود في الأعيان بل هي السماوي في وضع الأمر الذاتي الموجود في الأذهان وجودا لا يكون ما في الأعيان ذا قيمة من دونه.
أما إذا كان الموجود في الأذهان مناقضا للموجود في الأعيان فمعنى ذلك أن النظام فاقد للشرعية وأنه باق بالعنف والقوة وبنفاق ممثلي القيم الذين يبحثون عما يبررون به الجبن العام تقديما لسلامة العبيد على كرامة الأحرار. وما أظن أحدا من علماء الأمة -ومنهم الشيخ المعلق دون شك-بغافل عن مفعول الانحطاطين الذاتي الذي ورثناه عن عصر الانحطاط والذي آل إلى الخلط بين قيم الجاهلية وقيم الإسلام والأجنبي الذي ورثناه عن عصر الاستعمار والذي آل إلى الخلط بين قيم الاستعمار وقيم الحداثة.
كما أني أعتقد أنهم يفهمون أن الربيع العربي وخاصة بعد الانقلابات أعني في موجته الثانية وفي مقاومة الشعب السوري يمثل التحرر من هذين الانحطاطين لأن المدافعين عن قيم الحرية والكرامة والعدالة -قيم حديثة-هم أنفسهم الممثلون للإسلام بمعناه الذي يرمز إليه العهد الراشدي حيث كان الشعب قادرا على مخاطبة الصديق والفاروق بما يعلمه علماء الأمة ولا يحتاجون لتذكيرهم به لأنهم حملته قبل غيرهم من أمثالي الذين يوصفون أحيانا بأنهم من ذوي الثقافة الغربية بسبب مصادفات التاريخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق