أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2014.06.03
قدم من يسمون أنفسهم بالعلمانيين والليبراليين صراع الخيارات الحضارية مع الإسلاميين على صراع الخيارات السياسية مع الاستبداد والفساد مفضلين الحرب على ما يسمونه الفاشية الممكنة (حكم الأحزاب الإسلامية) على الفاشية الحاصلة بالفعل (حكم العسكر والقبيلة). وترتيب الخيارات هذا يعني أمرين :
الأول-وقد كان يعتبر مجرد تهمة تشيطن الليبراليين والعلمانيين- يقتضي أن الشعب ليس مؤهلا لحكم نفسه بنفسه وأن المعركة السياسية الساعية إلى تحقيق الديموقراطية ينبغي أن تؤجل وأن بدايتها مشروطة بـ"تحرير" الشعب من تاريخه كله وتغريبه قبل تمكينه من حكم نفسه بنفسه مهما طالت مدة تحقيق هذا الشرط.
والثاني بين بما لا يدع مجالا للشك وخاصة منذ الانقلابات الحاصلة في بلاد الربيع العربي أن العلمانيين والليبراليين بالفعل وليس بمجرد الفرض الاتهامي حلفاء بنيويا للاستبداد والفساد ولحماته من الاستعماريين. ومن ثم فخيارهم هذا خيار وجودي لعلمهم باستحالة أن يقبل الشعب بهم ممثلين لخياراته.
وإذن فالعلمانيون والليبراليون يائسون من المعركة السياسية ولذلك فهم يقدمون عليها المعركة الحضارية ليقينهم بأن الشعب لن يعطيهم الوزن السياسي الكافي لتحقي رؤاهم سلما. لذلك فلا بد من فرضها حربا : وتلك هي على الحلف مع العسكر والاستعمار. لكن الأدهى هو أن الاستعمار الذي كان خلال الحرب الباردة ومنذ بداية ما يسمى باستقلال الأقطار العربية والإسلامية يستعمل عملاء متنكرين. أما اليوم فإنه هو وعملاؤه لم يعودوا يخفون ذلك بل ويباهون به : بدليل عدة ظاهرات لعل أهمها: تدخله في تكوين ما يسمى بالمجتمع المدني (الحركات التي يسميها ثورية) أو ما يسمى بالتعاون العسكري (السيسي وحفتر) أو ما يسمى بالتعاون الفني أو ما يسمى بالمبعوثين للدراسة أو بالمتعاملين مع شركاته (ما يسمى بالتكنوقراط) أو بالذين هاجروا إليه وتحصلوا جنسيته ثم يردهم إلينا ليحكمونا : أغلب ما جاء على ظهر الدبابة في العراق مثلا.
وينتج عن هاتين الحقيقتين أن التاريخ الحالي يثبت بما لا مجال للشك فيه أن السعي إلى تحقيق الديموقراطية والدولة المدنية مستحيل ما لم يصبح خيار القوة الوحيدة القادرة على مجابهة قوى الفساد والاستبداد بصنفيها في الأنظمة العسكرية والقبلية العربية ومن ثم فقوة التأصيل هي التي اصبحت بحكم التاريخ والضرورة فضلا عن حكم الفكر والاختيار مكلفة بتحقيق هذا الصلح التاريخي بين قيم القرآن الكريم وقيم العصر. وذلك يعني أنها في وضع المكلف التاريخي بتحرير قيم القرآن مما شابها من تحريف بسبب الانحطاط الذاتي وتحرير قيم الحداثة مما شابهها من تحريف بسبب الانحطاط الاستعماري.
ومن ثم فالمعركة الحضارية التي فرضت علينا ليست صداما مع الليبراليين والعلمانيين بما هم علمانيون وليبراليون والإسلاميين بصنفيهم بما هم إسلاميون بحق بل هي صدام بين ممثلي الانحطاطين منهم : الانحطاط الذاتي الذي يجعل نهضة المسلمين مشروطة بإسقاط كل الحضارة الحديثة والانحطاط الاستعماري الذي يجعل حقوق المواطنين مشروطة بإسقاط كل الحضارة الإسلامية. ومعنى ذلك أن المعركة هي ضد النزعة الاستئصالية من الجانبين.
ولما كانت الحركات الإسلامية هي الحركات الممثلة حقا لإرادة الشعب ليس لخاصيات قيادية يتميز بها ممثلوها بل بسبب قربها من معتقداته فإنها هي المؤهلة دون سواها للقيام أولا بالنقد الذاتي حتى تتحرر من جعل معركة النهوض حربا على الحضارة الحديثة ثم بنقد الحركات المقابلة حتى تحررها من جعل معركة النهوض حربا على الإسلام : النهوض صلح بين الماضي والحاضر المتخلصين مما شابهما من انحطاط. فالحركات الإسلامية بكل أصنافها بما في ذلك حديها الأقصيين :
اللطيف إلى حد الاستسلام للواقع مهما ابتعد عن المثال
والعنيف إلى حد الاستسلام للخيال مهما ابتعد عن الواقع
هي القوة الوحيدة القادرة على الوقوف أمام الاستبداد والفساد بصنفي مصدره العسكري والقبلي : وأنها بمقتضى هذا الوضع مطالبة بتحقيق شروطه الاستراتيجية والعلمياتية. وذلك هو مطلوب هذه المحاولات لاستكشاف إمكانات تحقيق ذلك :
فالحد الأقصى اللطيف تعبير فاسد عن مبدأ صحيح هو أن الحفاظ على وجود الدولة واجب ديني.
والحد الأقصى العنيف تعبير فاسد عن مبدأ صحيح هو أن الثورة على فساد الدولة واجب ديني.
ومن ثم فالمشكل يصبح بالنسبة إلى الإسلاميين تحقيق الملاءمة بين هذين الواجبين : فهل الحفاظ على الدولة يعني القبول بالحاكم الموجود رغم كونه فاسدا ومستبدا؟ وهل الثورة على الفساد تعني المطالبة بالحاكم المثالي المطلق رغم كونه معدوما؟ أم إن العقل والنقل يجعل المبدأين أداتين لتحقيق الحكم المناسب بمبدأين آخرين أعلى منهما وبأصل للمبادئ الأربعة التي يتألف منها فكر الدولة الإسلامية :
1-لا بد من حفظ الدولة لأنها صورة الكيان الجمعي : وإذن فلا بد من تحديد صورة الصورة الحافظة لكيان الجماعة. وهذا هو دور التربية التي ينبغي أن تتحرر من سلطان الحكم.
2-لا بد من الثورة على الفساد والاستبداد لئلا يفسد الكيان : وإذن فلا بد من تحديد مفهوم الإصلاح المتصل الذي يحرر من الحاجة إلى الثورة. وهذا هو دور الثقافة التي ينبغي أن تكون مراقبة الجماعة الدائمة لشروط حقوقها وقيمها وواجباتها. وذلك هو معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس البوليس الديني.
3-حفظ الدولة يكون بتحقيق شروط الشرعية القوية : وهذا يعني تحقيق المبدأ الذي لسوء الحظ لم يعد يحققه إلا عدونا الأول أعني إسرائيل : أن يكون الشعب كله هو جيش ذاته وحاميها لئلا يتحول الجيش من أداة حماية إلى أداة استعباد للجماعة لكونه يصبح دولة في الدولة.
4-الثورة على الدولة تكون بشروط القوة الشرعية : أعني أن الأحزاب التي تمثل إرادة الشعب تغير الحكم وتحفظ كيان الدولة الذي هو المؤسسات التي لا تحددها إرادة الأحزاب الحاكمة بل قيم الأمة كما يعرفها العقل والنقل في آن.
5-والأصل هو : الآية 38 من الشورى:"والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون". إنها الآية التي تجعل الجماعة ذات المرجعية المتعالية على تحكم الأفراد والفئات والنزوات تحكم نفسها بنفسها: ( والذين استجابوا لربهم) كما يرمز إلى ذلك العلامة الأولى على الاستجابة (وأقاموا الصلاة) فاعتبروا سياستهم أمرهم هم لا أمر حكام مفروضين عليهم (وأمر+ هم : أي راس+ بوبليكا+جمهورية) يديرونه بالتشاور بينهم (شورى بيـ+هم أي : ديموقراطية) وذلك حتى يعالجوا أهم القضايا التي لأجها وجدت الجماعة بما هي جماعة ذات قدرة على تحقيق شروط العيش المشترك أعني المسألة الاقتصادية (ومما رزقناهم ينفقون). وذلك ما كان علينا بيانه:ِC.Q.F.D.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق