أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2014.07.31
توالت الأحداث وتسارعت حتى لا يكاد الواحد يفهم منطق مجراها ولا يستطيع توقع مرساها. لكن الوصل بين نتوءاتها قد يساعد على الجواب عن المجرى وطبيعته والمرسى وحيزه
المجرى وطبيعته
الخيط الناظم الخارج: هو الجواب عن هذا السؤال: ماذا يمثل إنشاء إسرائيل في قلب قلب دار الإسلام؟ كل الأجوبة التي قدمت إلى حد ما أظهرته الحرب الأخيرة على غزة كانت فرضيات عمل حول نوايا الاستعمار الأوروبي إزاء أقلياته اليهودية للتخلص منها وإزاء مستعمراته التي يريد تعطيل نموها. وهي فرضيات ذات وجاهة للعلم بأمرين موروثين لديه في ثقافته الوسيطة استغلهما بخبثه الاستعماري لضرب عصفوين بحجر واحد: التخصل من يهوده في الداخل وجعلهم حربا على عدوه التاريخي في الخارج
ما لديهم من حقد على اليهود في ثقافتهم الدينية فضلا عن احتكار هؤلاء لعصب الاقتصاد في مجتمعاتهم الوسيطة التي لم تكن تسمح بالنشاط البنكي
ما لديهم من خوف من عودة المارد الإسلامي للمسرح التاريخي بعد أن تصوروا أنفسهم قد تمكنوا منه اقتساما لداره وتهديما لثقافته بما أنتجوه من نخب عملية فاقدة لكل حصانة روحية
الخيط الناظم الداخلي هو الجواب عن هذا السؤال: ما يقبل التوظيف من الانحطاط الذاتي بالانحطاط الاستعماري بحيث يصبح الانحطاط الذاتي الناتج عن توقف الإبداع العلمي والعملي في حضارتنا أهم أداة تعطيل للاستئناف المرهوب.والمكلف بإحياء الانحطاط الذاتي أعني العقم النظري المعرفي والتقني والعملي الفعلي والخلقي هم أصحاب الانحطاط الثاني أعني الانحطاط الموروث عن الاستعمار لدى النخب التي ولاها علينا لتواصل سياسته في معاملة أهل البلد معاملته لهم بوصفهم أنديجان ودرجة دنيا من البشرية البدائية التي ينبغي استعبادها واستغلالها
فتوظيف الصراع النظري بين الكلام والفلسفة أعني الصراع العقيم الناتح عن عدم فهم أساس تحويله إلى رافعة تقدم معرفي وتقني أعاد الأمة إلى نفس العقم ومن ثم أحيا علل العقم النظري من جديد
وتوظيف الصراع العملي بين الفقه والتصوف الصراع الأكثر من الصراع بين الكلام والفلسفة عقما لصدوره عن عدم فهم تحويله إلى رافعة تقدم عملي وخلقي أحيا علل العقم العملي من جديد
المرسى وحيزه
لكن الرياح لا تجري دائما بما تشتهي السفن سفن الاستعمار. ذلك أن إسرائيل لم تحقق مما سعى له الاستعمار إلا تحقيقا مؤقتا. لكن الحصيلة أنها بوجودها ذاته بينت للعرب خاصة وللمسلمين عامة أن النهوض والتدارك لم يعد قضية أنفة وطنية أو دينية بل هي صارت ضرورة وجودية وشرط بقاء فكان وجود إسرائيل الدافع الأساسي لفهم الأمرين التاليين
أن المعركة مع العدو هي في تجاوز الانحطاطين وتوظيفهما لإحياء تخريف الماضي بتخريف الحاضر في معركة ما يسمى بالتحديث وتهديم الماضي: شروط القيم الكلية التي من دونها لا يمكن لأي حضارة أن تكون حضارة أي العلم النظري وتطبيقاته والعلم العملي وتطبيقاته شرطين لحرية الإنسان وكرامته من منبعين ديني روحي ودنيوي عقلي
أن المعركة هي في التغلب على تقسيم المكان الحائل دون القوة المادية وتفتيت الزمان الحائل دون القوة الروحية وكل ذلك لا يمكن أن يحصل من دون إحياء لاحم المكان حتى نفكك الجغرافيا التي فرضها الاستعمار وعملاؤه لأنها العائق الأول للقدرة المستقلة أي للتنمية المادية غير التابعة وإحياء لاحم الزمان حتى نفكك التاريخ الذي فرضه الاستعمار وعملاؤه لأنها العائق الأول للإرادة المستقلة أي للتنمية الروحية غير التابعة
وبكلمة واحدة وجيزة: المرسى هي الثورة الحالية الثورة التي جمعت بين غاية ثورة التحرير ورمزها غزة وغاية ثورة التحرر ورمزها الربيع العربي.وبذلك فالنظام (بمعناها الفصيح الخيط الماسك بحبات العقد أو بحبات المسبحة) لم يعد مجرد فكرة بل هو تعين فعليا في المقاومة التحريرية (غزة) وفي المقاومة التحررية (الثورة) سواء كانت في مسرح المعارك القانونية والدستورية أو في مسرح معارك الإرادة على مسرح القتال الذي تحرر فيه الشعب من الحاميات التي تستعبده وأصبح حاميا لنفسه (الشعب المسلح وليس الأعزل أمام المافيات الحاكمة التي هي مجرد أدوات بيد المستعمر) وراعيا لها ( لم يعد معتمدا على الدولة المتسولة بل المجتمع ينتج بذاته ما يسد به حاجاته). ذلك هو المرسى وحيزه هو استعادة الشعب لمعاني الإنسانية بالمعنى الخلدوين أي: للإرادة الحرة وللعقل المستنير وللقدرة المؤثرة وللحياة المبدعة وللوجود المستقل وغير التابع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق