Hot

الأحد، 19 أكتوبر 2014

من طرائف العلمانية العربية

أبو يعرب المرزوقي

كلما ازددت اطلاعا على ما يسمى بفكر العلمانيين العرب وجدتهم جميعا بمضمون فكرهم وخياراته الأساسية نسخة مطابقة لأصل باهت من الفكر الماركسي في صورته البدائية بحيث لم يبق للمرء من معيار للمفاضلة بينهم إلا تمكنهم من العربية أو من شكليات البحث الخارجية. والمعلوم أننا من المحظوظين في تونس لوجود عينة منهم لعلها أكثرها فقدانا لهاتين الصفتين اللغوية والبحثية وأبلغها تجسيدا للصفتين الغالبتين على من يمكن وصفه بالداعية رغم تصوره نفسه مفكرا لأن هاتين الصفتين تنفيان كل صلة بالفكر العلمي أو الفلسفي:
فأما الصفة الأولى فهي ما يمكن وصفه تجملا بالموقف النضالي أو الحزبي تبشيرا بما يعتقدونه حقيقة نهائية خلال نفيهم أن يكون ما يقوله غيرهم حقيقة نهائية: فينطبق عليهم النهي عن خلق ويأتون مثله.
وأما الصفة الثانية فهي مضغ الشعارت الموميائية التي كان لها معنى في نشأتها الأولى والتي باتت بعد ما شبعت به من مخض كليشهات لاصلة لها بـالمعرفة أصلا: فيستبدلون السلفية الأهلية بالسلفية الأجنبية.
إنهم يكتفون بالالتزام الغفل مثلهم مثل الدعاة الدينيين الذين يردون عليهم وبمضغون شعارات أكل عليها الدهر وشرب للوكهم أمورا تجاوزها من يحاكون منذ أكثر من قرن فضلا عن كونهم يهملون لبها وينشغلون بقشورها: يفتحون الأبواب المخلوعة ويتصورون أنفسهم قد أمسكوا بالأسد من أذنه. وقد شاءت الصدف أن حالت دوني التزامات سابقة الاستمتاع بالمحاضرة التي قدمها الأستاذ عزيز العظمة في الكلية التي كنت أستاذا فيها قبل تقاعدي منذ سنتين محاضرته "تاريخ الله" التي قدمه فيها للحضور داعي دعاة الحدَاثة التي صارت "حِدَّاثة=حَدُّوثة" في تونس.
ويؤسفني أن نظام وقتي لم يسمح لي بالحضور لأني لم أعلم بالمحاضرة إلا صبيحة اليوم الذي قدمت فيه. ورغم أن كلامي لن يتعلق بهذه المحاضرة لعدم حضوري إياها فقد تصفحت ما انتخبه منها بالنص الأستاذ النابه زهير الخويلدي -وهو من طلبتي السابقين- عينات بنصها الذي يعرض جوهر ما جاء في المحاضرة فضلا عما يتوفر لدي من سابق الاطلاع على بعض ما للرجل من أفكار وكتابات حول الإسلام. 
وقد لا يصدقني من يظن اختلاف العناوين كافيا لإفادة تعدد المضامين لو قلت إن زبدة هذه الكتابات مثلها مثل كل كتابات العلمانيين العرب لم تتجاوز فكرة واحدة لا يكاد يخلو منها مصنف من مصنفاتهم أعني ما لخصته السيدة أنجيليكا نوفرت الباحثة في الدراسات القرآنية بهذه الجملة الوجيزة: "إذا اتبعنا (=أخذنا برأي) عزيز العظمة المؤرخ والناقد الثقافي فإن النص الرسمي[1] (=المصحف العثماني والسنة) لا يدعي الصحة الأبدية فحسب بل هو ينتظم انتظاما غير تاريخي"[2].
كل الأمر عندهم يدور حول النقد الذي اقتصر على المجادلة في دلالة دعويين واحدهة ينسبونها للصف المقابل والأخرى يتبنونها. وكلتا الدعويين ليس لهم عليها دليل:
1-ما ينسبونه دون دليل إلى النص بصورته الرسمية من دعوى التعالي على التاريخ تعاليا يستثنيه أو حتى للفكر الفقهي والكلامي.
2-وما يدعونه ويتبنونه دون تأسيس من أن بنية الرسمي تفرض ذهنية إسلامية لاتاريخية فتنفي التاريخية مطلقا.
وهو نقد ليس له إلا في الظاهر الطابع الماركسي لأنه يبقى في كل الأحوال دون دلالته الماركسية العميقة. فالنقد الماركسي للدين يعترف بالطابع المتعالي لمطالبه حتى وإن حصر أثرها في مستوى الخيال بحيث صار فعل الماركسية الثوري في الغاية تحقيقا لما يحلم به هذا الخيال ولا يكون الفرق بين النظرتين إلا في عدم التأجيل إلى يوم الدين وعدم اللجوء إلى العنف الثوري للتغيير: وكلاهما لا ينطبق على الدين الإسلامي لكونه ملتصق بالفعل التاريخي الثوري لملازمته الجهاد السياسي من أجل تحقيق قيمه[3] حتى إن أهم ما ينكره العلمانيون العرب هو هذا الدور السياسي للإسلام ومن ثم تدخله في التاريخي إلى الأذقان.
لكن أصحاب هذا النقد الأعرج-بسبب الجمع المتناقض بين العلموية والتاريخية - لا يهمهم ما للجميع من علم بأن الهم التاريخي والتغيير الفعلي هو جوهر الفكر الديني في جميع الأديان بأساليب مختلفة-ومن بينها العنف الثوري الشرعي- وهو في الإسلام أكثرها بروزا إذ هو عين مفهوم الجهاد بل هو جوهر المضمون القرآني بما هو حركة تحقيق القيم في التاريخ الفعي فضلا أن المصنفات الإسلامية أي كان مجال بحثها لا يكاد أي منها يخلو من البعد التاريخي شرطا في علمه.
فليس من الصدفة أن ول محاولة جدية في البحث في شروط علمية التاريخ تكون من ثمرات الحضارة الإسلامية بحيث إن هذه الحضارة ليست تاريخية بمعنى طغيان الحدثية عليها بل هي تاريخية كذلك بمعنى الوعي بالحدثية ومحاولة الارتقاء بهذا الوعي إلى مستوى المعرفة العلمية. لكنهم لا يعنيهم أن يكون التفكير في ما بعد التاريخ المؤسس لعلم التاريخ لم يكد التفكير فيه يبلغ ذروته إلا عند المسلمين وما كان في بداية الثورة القرآنية موضوع هم ديني وجودي دون أن يكون مقصورا عليه –بدليل تأسيس بداية جديدة للتحديد التاريخي-صار في مرحلة نضوجها هما إبستمولوجيا رغم استثناء الفكر الفلسفي اليوناني إياه من المعرفة العلمية لتعلقه بالعرضي من أعراض الوجود[4].
ومن ثم فالمشكل مع هؤلاء النقاد- الذين لا ينقدون النقد لأنهم لم يسمعوا بما بعده عند هردر Herder وبقوا سجناء أدنى درجات فلسفة الوعي الغفل-ليس في وجود التاريخية في الفكر العربي الإسلامي أو عدم وجودها -إذ يمكن ألا يجد البعض منهم بد من التسليم بهذه الحقيقة ولعل في أهم مقاصد كلام الأستاذ العظمة في ما كتبه عن أحد أهم أعلام الفكر الإسلامي وعن علاقة السياسي بالديني في كل الأديان دليلا على ذلك[5]-بل هو يكمن في ظنهم -خلافا لأي مفكر علماني غربي جدي- المسألة التي تخص طبيعة العلاقة بين التاريخي والمتعالي عليه[6] مسألة محسومة بمستويي قيام الموضوعات التي يدور حولها الخطاب عامة والخطاب الديني خاصة.
ذلك أننا سنرى أن المسألة غير مسحومة بل هي لا تقبل الحسم أصلا-وفي ذلك يكمن جوهر الإنساني المتعالي على دائما على التعين الكياني-وأن مستويي القيام اللذين سنحدد طبيعتهما لا يتقوم بهما الخطاب الديني وحده بل هما يقومان كل خطاب بما في ذلك الخطاب الإبداعي الشعري والروائي فضلا عن الخطاب العلمي حتى وإن جهل العلمانيون ذلك أو تجاهلوه[7]. لكننا سنكتفي بالمسألة في الخطابين الديني والعلمي-إذ سبق فعالجناها في الخطاب الإبداعي في كتابنا الشعر المطلق والإعجاز القرآني-لكون موقف هؤلاء المتعالمين يجعل الخطاب الثاني معين حججهم ضد الخطاب الأول:
1-مستوى القيام الأول هو ضرب الوجود في المتن التعليمي سواء تعلق بالعقائد الدينية (الأديان) أو بالنظريات العلمية (العلوم): فلا يمكن المفاضلة بين الضربين المعهودين والمتلازمين ضرب القيام التاريخي وضرب القيام الأكسيومي مع ما بينهما من تفاعل في الاتجاهين ينتج ضربين مزيجين أحدهما يغلب عليه التاريخي وينحو إلى الأكسيومي طلبا لنظام الصيرورة والثاني عكسه طلبا لصيرورة النظام وأصل ذلك كله هو السعي اللامتناهي للمطابقة بين الترتيب الوجودي الذي لا ندري ما طبيعة معقوليته والترتيب المنطقي الذي تبدو لنا معقوليته عين نظام عقلنا الذي نسقطه على الوجود فنعتره عين عقلانية الموضوعات التي يدركها العقل الإنساني مع العلم المطابقة وإلا لكان مجرد التأمل العقلي في الشيء هو عين الشيء: بحيث إن العلم ببعد التاريخية الذي له يبقى خارج ذاته لمجرد كونه لا يقتصر على بنائه الأكسيومي.
2-ومستوى القيام الثاني هو ضرب الوجود في قيام الحقائق الذاتي سواء كان قياما في الذهن أو قياما في العين بصرف النظر عن كونها موضوع عقائد أو موضوع علوم: ولا يمكن المفاضلة بين الضربين الممكنين عقلا والحاصلين فعلا أعني الوجود الذهني والوجود العيني وما بينهما من تفاعل في الاتجاهين ينتج ضربين مزيجين بنفس المعنى المشار إليها في المستوى الأول وأصل ذلك كله هو السعي اللامتناهي للتحرر من فضالة تعالي العيني على الذهني مع العلم باستحالته ما يجعل غاية التعالي هو العينية المطلقة أو موضوعية الغيرية المطلقة (وذلك هو المقصود بشخص الله أو بالذات المطلقة في الأديان) والتحايث هو التجريد المطلق ذاتية الأنائية المطلقة (وهو القصدية المبدعة لموضوعها أو الوهم).
ورغم ما سيبدو عليه كلامي في هذه المحاولة من طابع المفارقة فإن الموقف التاريخاني المطلق يمتنع القول به على غير المؤمنين بنظرية الخلق المستمر والعرضية المطلقة للأحداث وهو قول يحررهم من تواليه لتسليم القائل به لصاحب الأمر وذلك هو معنى الإسلام. ذلك أن افتراض كل لحظة من لحظات التاريخ فريدة نوعها يقتضي أن تكون سلسلة اللحظات خالية من قانون ذاتي يجعلها تكون على الحال التي هي عليها فتكون نتيجة لفعل خارجي هو المحدد لمجرى تواليها فيكون المرء بين خيارين:
إما القول بأن الأمر يرجع إلى الإرادة الإلهية الخيرة وذلك هو موقف المؤمنين. 
أو القول بأنه يرجع إلى محض الضرورة والصدفة وذلك هو موقف الملحدين.
والمفروض أن تكون الأمور في مجراها خلال الحالتين خالية من كل منطق داخلي ذاتي فيكون المؤمن أكثر منطقية من الملحد: فالأول يمكن أن يتصور للإرادة الخيرة مشروعا وهدفا يضفي على المجرى بعض النظام أما الثاني فلست أدري من أين له التسليم بقابلية الصدفة والضرورة العمياء للعلم. إن التاريخية عند الإطلاق تقتضي حتما الإيمان بمؤثر مفارق فتتنافي مع القول بقانون محايث: لا يمكن الجمع بين التاريخانية والمعرفة العلمية. لكن التاريخانيين من علمانيينا العرب لا يفهمون ذلك. ومن ثم فلا عجب إذا غاب عنهم قصد هيدجر من الكلام عن الحدث المطلق أو الآرآيجنس Ereignis والمصير والقضاء والحاجة إلى المنقذ الربوبي.
ولما كنت لا أنوي مناقشة الأستاذ العظمة لذاته ولا خاصة مناقشة ما جاء في محاضرته ليس لأني لم أحضر المحاضرة فحسب بل لأن قصارى ما ينطوي عليه فكره بحسب ما أعلم منه ومن فكر غيره من علمانيينا العلمويين -ورغم تميزه عن غيره من العلمويين العرب بالاتزان والمعرفة بالتراث والتمكن من اللغة العربية وفنيات البحث-لا يتعدى ردهم الذي لا علة له إلا انطلاقه من صورة للحداثة شوهوها جهلا حينا وتجاهلا آخر على صورة للإسلام بالغوا في تشويهها غفلة حينا واستغفالا آخر. 
والمعلوم أنه لا علاقة لصورتهم عن الإسلام به ولا بالفكر الإسلامي عند كبار علمائه (الغزالي وابن رشد وابن تيمية وابن خلدون مثلا) فضلا عنه في القرآن والسنة حتى في شكلهما المدون الذي يتهمونه ولا لصورتهم عن الحداثة بها أو بالفكر الحديث عند كبار فلاسفته (كنط وهيجل وبيرس وهيدجر مثلا). فجل كلامهم لا يمكن أن يفهم إن لم يكن كله إلا برده إلى الصورة الماركسية البدائية المشوهة عن الحداثة الغربية وإلى صورة فقه الانحطاط المشوهة عن الإسلام[8]. لذلك فالمحاضرة ليست موضوع كلامي بل هي مناسبته لأحلل مسلمات العلمانيين العرب بصورة عامة.
ورغم قناعتي بأن فكرهم لا يستأهل المناقشة جملة ولا تفصيلا بعد ما قرأت للبعض وحاورت البعض وجها لوجه-لأيام كان فيها اللقاء وليد مصادفة علتها ندوة جمعتنا وعثرة سببتها حال الطرقات العربية-فإني سأقدم على ذلك هنا مكتفيا بمناقشة ما يؤسسها من مسلمات دون التوقف عند عرضياتها الثانوية التي لا تتجاوز كونها مجرد فتح لأبواب لم تبق أبوابا بعد أن خلعت فصارت مبدلات طريق سيارة وحيدة منذ أكثر من قرن في الغرب وهي من المبتذلات في الثقافة العربية قبل الانحطاط منذ نزول القرآن أي منذ ما يقرب من ألفية ونصف[9].
غاية المحاولة
إن ما أريد الكلام عليه يقبل الرد إلى موضوعة واحدة رئيسية يلخصها بصورة ضمنية عنوان هذه المحاضرة عنوانها الذي يظنه صاحبه اكتشافا رغم أن ما فيه استفزاز مجاني لخصمائه المفروضين يغلب عليه دور العلامة حاسمة الدلالة على قصور الفكر العلماني العربي بصورة عامة. فهذا العنوان يلخص كل فكره في الإسلام الذي لخصه هو نفسه في بحثه "الخطاب الملتهم للزمان" والذي بنت عليه السيدة أنجيليكا نويفرت وعلى التصور المثيل لسمير قصير في مقال لها بعنوان:"أن ندرس القرآن في أوروبا كنص أوروبي Den Koran in Europa lehren – als europäischen Text " الكثير من النتائج العرية عن التعليل المقنع: إنها مسألة الصلة بين التاريخ والمدونة الدينية في بنيتها العقدية.
وليس من شك في أني بعدم حضوري الدرس قد أضعت فرصة ثمينة لأني كما أسلفت اعتبر الأستاذ العظم من خيرة المفكرين العرب لأن الاختلاف في الخيارات الفكرية لا يفسد للود قضية. لكن ضياعها ليس بذي ضرر كبير على ما أنا بصدده. فكل ما أسعي إليه لا يهدف إلى مناقشة آرائه ومواقفه أو آراء غيره من العلمانيين العرب ومواقفهم بل تحديد المسلمات التي تستند إليها آراؤهم ومواقفهم الأساسية وفحصها لبيان ما تتصف به من وهاء خاصة وهم يعتبرونها فوق المساءلة والفحص النقدي: فهم يشكون في كل شيء عدا شكهم كما قال هيجل أعني أن نقدهم لا ينعكس على ذاته ومن ثم فهو عديم التفكر.
وما أريده هو الجواب عن الأسئلة التالية التي يغفلونها بسبب عدم التفكر جوابا ستكون حصيلته إثبات أنهم لا يتكلمون على الحداثة والإسلام بل على صورتين مشوهتين منهما ينفيها التاريخ الذي يتكلمون باسمه والمنهج العقلاني الذي يزعمون انتهاجه: 
السؤال الأول: 
ما دلالة عنوان من جنس "تاريخ الله" –إذا تجاوزنا مجرد الاستفزاز-بخصوص فكر العلمانيين العرب خلال كلامهم على الظاهرات الدينية؟
السؤال الثاني:
هل طابع الحدث العرضي Kontingent في التاريخي هو المحدد لدلالة الأمور في الشؤون البشرية دينية كانت أو علمية؟ 
السؤال الثالث: 
هل صحيح أن البناء العقدي –الذي هو أكسيومية تعليمية في باب المعتقدات-يلغي البعد التاريخي من الحدث الديني؟ 
السؤال الرابع: 
هل اعتبار القرآن بداية جديدة يعني أنه ينفي التاريخ المتقدم في ما ليس هو فيه بداية جديدة بمعنى التحول في مجاله؟ 
السؤال الأخير: 
(وهو يعيدنا إلى السؤال الأول من حيث هو أساس كل الأسئلة وليس بوصفه أحدها فحسب) أليس المنطلق الأساسي في كل هذه الأحكام المسبقة العلمانية علته التسلم المجاني بالإلحاد المؤسس للمادية التاريخية كما يدل على ذلك رد الظاهرات الدينية إلى ما في الوعي الإنساني عنها من تصورات لا تتعداه إلى حقيقة واحدة ذات قيام ذاتي خارج تصوراتنا مهما تعددت الأسماء في غالب الأديان والفلسفات؟
المسألة الأولى
ما كنا لنتكلم على مناسبة العنوان "تاريخ الله" -بتجاوز مجرد الاستفزاز- للمقصود من محاولة صاحبه. ما يعنينا هو ما يفيده من تحديد للمنزلة الوجودية التي يضفيها متكلمونا الجدد على المسألة الدينية. فتصوروا يرعاكم الله أن أحدا تلكم في تاريخ الطبيعة وحصر قصده بـ"التاريخ" في تاريخ ما دار حولها من تصورات وليس في تاريخها هي من حيث هي ظاهرة ذات صيرورة فعلية وراء صيرورة تمثلات الإنسان لها. ألا يكون بذلك قد خلط بين أمرين خاصة وقد بات الإنسان قادرا على التاريخ للطبيعة ذاتها منذ أن اكتشف التقنيات العلمية لقيس أعمار المواد والتحولات الطبيعية والكسمولوجية؟ 
بهذا المعنى الاختزالي للعنوان يكون ما يفيده: المعاني الدينية مقصورا وجودها على ما للإنسان عليها من تمثلات ولا شيء وراء تلك التمثلات. فيكون تاريخ الله لا يقتضي تاريخ أمر حقيقي هو الله وراء ما للإنسان من تصورات عليه بل تاريخ هذه التصورات حصرا فيها. وليس من شك في أن المقارنة مع الطبيعة فيها شيء من عدم الدقة: فالأمر الحقيقي وراء التصورات بات الآن قابلا للتمييز عن تصوراته لأنه مدرك بأدوات علمية تبين تاريخيته المختلفة عن تاريخية تصوراته. لكن الله ليس معلوما الآن بأي طريقة معلومة وقد لا يصبح معلوما أصلا إذا حصرنا المعلومية في الحصول الفعلي بالأدوات المادية. لكن كونه ليس معلوما وكونه قد لا يصبح معلوما لا يعني أنه لا يقبل أن يكون موضوع فكر متعال على مجرد التمثلات المتعلقة به. فكل من درس كنط مهما قل فهمه يعلم أن مجال الفكر يتجاوز مجال العلم وهو تمييز كان السباق إليه ديكارت فضلا عما يقرب منه في المعرفة الدينية أو ما يسمى بتفكير العقل بما وراءه من طور.
"تاريخ الله" في تصور المحاضر يدور حول تصورات الإنسان لله فحسب تصوراته بمعنى مبتذل لم يدرك شيئا مما حصل مثلا في دروس فلسفة الدين الهيجلية التي تجعل هذا التاريخ هو عين تكون مفهوم الله بما اكتشاف لتماهيه مع الإنسان أو الذاتية الجامعة بين اللامتناهي والمتناهي في نظرية بديلة من وحدة الوجود السبينوزية. لكن صاحبنا لا يفكر في المفهوم الذي حصر في تاريخ تعيناته التمثلية بمعنى لم يصل حتى إلى معنى القضيةا لتأملية الهيجلية ولم يتجاوز مجرد الاسترياء. 
فيكون تصوره للإله خاليا من البعد المفهومي العقلي. يتكلم العلماني العربي في تطور تصورات الإله وتمثلاته Vorstellungen ويظنها بديلا مغنيا عن الكلام على مفهوم الإله ذاته Begriff . وإذن فالمفهوم يرد عندهم بالاختزال الساذج إلى تمثلاته المتوالية في التاريخ ولا شيء سواها فتكون الطبيعة كذلك مثلا هي دكسوغرافيا تمثلاتها العامية ولا وجود لمفهومها فضلا عن تعينها الفعلي وراء هذه التمثلات حتى وإن سلمنا بأن هذا الوجود ليس مما يدرك بالتمثل. والنزعة الانطوائية أو السوليبسيسموس ظاهرة فكرية معلومة في الفلسفة والتصوف: 
ففي الفلسفة يوجد ما يسمى بـالفينومينوسموس أعني ما يتراءى من الوجود للوعي الإنساني بحيث يكون العلم هو نظام هذه المترائيات الإدراكية رفعا للحكم في عدا ذلك لكونه غير قابل للعلم. 
وفي التصوف يوجد ما يسمى بـالوحدة المطلقة أعني نفس الأمر الذي تتكلم عليه تلك الفلسفة مع فارق يضع واء هذا الترائي الادراكي مفهوم التوحد بين الذاتين الآلهة والمألوهة. 
لكن المعلوم أن هاتين النزعتين تقتضيان أصلا يفترض دحضهما من الأساس. فإذا الوجود مقصورا على مدارك الإنسان وكانت هذه المدارك مقصورة على ما في الأذهان أصبح السؤال الواجب هو ما حقيقة الذهن الذي تحل فيه هذه المدارك هل هو في الذهن أيضا أم لا؟ وإذا سلم المجادل بأن للذهن وجودا غير ذهني فهل الوجود غير الذهني مقصور على وجود الذهن فنكون قد ألهنا الذهن الإنساني بمعنى وحدة وجود إنسوية ؟ لذلك فإنه ينبغي أن نفهم الـسوليبسيسموس بمعنيين:
بالمعنى العلمي حيث يكون إطلاقا لنظرية الظواهر الكنطية في مقابل البواطن عنده. وهو من ثم عكس الوحدة المطلقة الصوفية لأنه ينم عن تواضع المعرفة العلمية التي لا تدعي تجاوز الظاهرات.
بالمعنى الصوفي حيث يكون إطلاقا لنظرية الفناء الصوفية في مقابل البقاء عندهم. وهو من ثم عكس التواضع الكنطي لأنه يعني أن القطب الصوفي هو الله الذي ليس كل ماعداه إلا من مفاعيل إدراكه.
لكن العلماني العربي لا هو من هؤلاء ولا هو من أولئك لأنه ماركسي النزعة بالأساس وماركسيته مقصورة على أدنى مستوياتها الإيديولوجية لأنها لم تغص إلى علاقتها بالجدل الدائر حول الأبعاد الدينية والتحول الجوهري في المنطق بوصفه عين الميتافيزيقا الجدلية الهيجلة: فالواقع المادي عنده حقيقة لا ريب فيها وهو قائم خارج الذهن بدليل ردود إنجلز على فيلسوف المثالية الإنجليزي. فيكون ما لا وجود له إلا في الذهن هو عكس الموقفين السابقين أعني المفاهيم والتصورات العقلية التي هي مجرد انعكاس لذلك الواقع المادي الواقع الخارج عن كل شك وتشكيك لأنه عين الواقعية الغفل لهؤلاء المتكلمين باسم العقل دون عقل. 
ولما كان هذا الواقع الغفل والعامي لكونه خاليا من الفحص النقدي خاليا كذلك مما يناظر الأفكار والتصورات التي يقول بها الدين فإن القائلين به يعتبرونها مجرد توهمات إيديولوجية تاريخيتها هي تاريخية المواقف المصلحية في الصراع المادي على تقاسم الثروة والسلطة اللتين هما الحقيقة الوحيدة في الجدلية المزعومة علمية. وبعبارة وجيزة: إنهم يمثلون السلفية المادية المناظرة للسلفية الروحية ولا معنى لما تدعيه الأولى من زعم النقد والتفلسف. إنها مثل أختها تزمت عقدي مقيت.
المسألة الثانية
إذا كان التاريخي متقدما على المفهومي في العلاج الفلسفي فينبغي أن تكون دلالة الحدث العرضي Kontingent من التاريخي متقدمة على دلالة القانون الذي يمثله منطق الأحداث أو نظامها فتكون هي المحددة لدلالة الأمور في الشؤون البشرية دينية كانت أو علمية. وليس من شك في أن الطابع العرضي واللامحدد من السمات الأساسية للمسائل التي تجعل الموقف الديني ذا معنى. كما أنه ليس من شك في أن ما حصل من تقدم في الفكر الفلسفي كان في ما توصل إليه أخيرا من فهم لهذا الأمر بالذات فهما حرره من مركزية اللوغوس وقربه من فهم دلالة الوصل بين الجوهري والعرضي. لكن أن ينقلب الأمر ليصبح العرضي هو الجوهري أو حتى لينتفي الجوهري أصلا فذلك هو المحير خاصة إذا جاء من منطلق موقف علموي قائل بالمتافيزيقا الماركسية. 
لكننا من هذا المنطلق يمكن أن نفهم غياب الفرق بين الترتيب التاريخي العرضي والبنية المفهومية للشيء الذي يعالجه الفكر ولا نفهم التدرق وراء السؤال العلمي في المسائل الدينية. فهي ما كانت لتوجد لو كان العلاج العلمي كافيا لفهم "ما ليس بمضمون ولا بمعقول" من الوجود عامة ومن المصير الإنساني خاصة : فالمقابلة بين الفهم والتفسير وبين التأويل والتحليل ما كانتا لتكونا لو لم يكن الديني متجاوزا للطبيعي والتجريبي. ومع ذلك فلنقبل ولنناقش الجماعة من منطلقاتهم المزعومة علمية لنحدد بدقة موطن الخلاف أو لنحرر موطن الإشكال مكتفين بمستوى الإشكال الإبستمولوجي (شروط المعلومية الممكنة) لئلا نتهم بالإغراق في الأنطولوجيا والميتافيزيقا (شروط الموجودية الممكنة).
فلنفرض أحدا أراد أن يتكلم في علم الفيزياء وقصر كلامه على الحصول التاريخي الخارجي لاكتشاف النظريات الفيزيائية (بحسب السياقات التاريخية لشروط البحث العلمي وعرضيات توزيع العباقرة المبدعين من العلماء في المكان والزمان) فهل يكون كلامه علما فيزيائيا أم هو مجرد تاريخ لأحداث الاكتشافات النظرية في الفيزياء؟ هل يميز الجماعة بين الأمرين أم هم لا يفعلون؟ وهذا العيب نفسه تجده عند الكثير من المتكليمن في علوم الملة التي لم تعد علوما بل مادة لتاريخ العلم لكنهم يخلطون بين هذا التاريخ والعلم بموضوعه الذي تجاوز المعرفة فيه كل تلك المحاولات التي لم يعد لها إلا دلالة تاريخية في تطور الفكر العلمي. فهل يجهلون الفرق بين ترتيبي المتن العلمي أعني الترتيب التاريخي والترتيب الدغمائي (بالمعنى الكنطي الإيجابي) أو النسقي (بالمعنى الكونتي) أو الأكسيومي (بالمعنى المنطقي الرياضي)؟
ما الذي يجعلهم يتصورون الترتيب التاريخي أكثر دلالة من الترتيب الأكسيومي للعقائد وكلاهما لا ينفيه الترتيب الرسمي لنص القرآن في المصحف العثماني لكون الأول سابقا عليه والثاني لاحقا وكلاهما حصولا ومعرفة يبقيان تاريخيين إلى غير غاية؟ لا يمكن أن يكون الداعي نفي التاريخية المزعوم في الثاني فضلا عنه في المصحف الذي هو ترتيب محايد بالنسبة إلى هذين الترتيبين.
ذلك أن الترتيب الأكسيومي هو بدوره ذو تاريخ حتى وإن اختلفت تاريخيته عن تاريخية النزول التي لم يتجاهلها علماء القرآن عندنا بل حاولوا قدر الإمكان التعريف بها وجعلها مادة لمزيد التدقيق المعرفي. فإذا افترضنا هذا الترتيب في تعليم العقائد ليس هو شيئا آخر غير موضوع علم الكلام أو علم اللاهوت فهل ينفي الجماعة أن النظريات الكلامية رغم كونها أنساقا أكسيومية للمضمون العقدي ذات تاريخ هي بدورها؟ ما الذي يجعلهم يتصورون العودة إلى التاريخي المحض المتقدم على التاريخي المدون أكثر دلالة على الحقيقة التي يريدون بيانها؟ وبين أن الجواب مضاعف:
فسلبا لأن تاريخ الأنساق الكلامية أقل قابلية للربط المباشر مع ما يسمونه واقعا: فمن الصعب مهما تعسفنا أن نفسر بنفس التحديد المنسوب إلى البنية التحتية في البنية الفوقية إذا تعددت هذه البنية الفوقية بصورة لا تكاد تصدق فيصعب ردها إلى التعبير عن نفس المصلحة الطبقية: مدارس الكلام المتساوقة والمتوالية لا تكاد تتناهي.
وإيجابا لأن تاريخ الأحداث المزعومة حاصلة قبل التدوين أيسر ربطا الربط المباشر مع ما يسمونه واقعا: يكفي أن يجعلوا الناس صفين: البرجوازية واللابرجوازية أو ما ناظر ذلك من الثنائيات قبل اللحظة البرجوازية كالإقطاع والقنانة أو ربما بعدها مما لا أدري كيف يسمونها.
لكني لن أطيل الكلام في ذلك بل يكفيني أن أسأل عن العلة في عدم وعي الجماعة بأن ما يدعون إليه فضلا عن استحالته هو عين ما يستند إليه الموقف الأصولي في أشد جماعاته تطرفا: العودة إلى الأصل بتجاوز مستحيل لما حصل بينه وبيننا عودة إلى أحداث بكر لم يؤثر في معانيها ودلالاتها كل ما للتاريخ من وقع ليس عليها هي وحدها بل علينا نحن كناظرين إليها ؟ أما قرأوا هيجل الذي استوحة منه جدامر نظريته في دور ما بين الحاضر والحدث الماضي من تأثير على قراءته أم إن حداثتهم توقفت عند شعارات القرن التاسع عشر؟ كيف لنا أن نقفز على وقع التاريخ باسم التاريخانية ذلك هو ما يحيرني ولم أفهمه في موقف هذه الجماعة التي شوهت كل شيء بما لها من عجلة تتنافي مع معنى الفكر الفلسفي مطلق التنافي لفرط ما استطابوا من لوك الشعارات. 
المسألة الثالثة
هل صحيح أن البناء العقدي -الذي هو أكسيومية تعليمية في باب المعتقدات-يلغي البعد التاريخي من الحدث الديني فيفسد عليه معناه أم هو محرر منه دون إلغاء له كما يحصل الأمر في المعرفة العلمية التي تقدم الأكسمة إلى الأرخنة ؟ فسواء أحذنا نص القرآن نفسه في شكله الذي له خلال تلقيه أم كما صار بعد التدوين المتهم-تسليما جدليا بالفرق بين الحالين- والصوغ العقدي المتهم بكل التهم هل يوجد ما يفيد نفي الترتيب العقدي للترتيب التاريخي ؟
ألسنا نجد القرآن نفسه متضمنا لكلا الترتيبين الترتيب التاريخي والترتيب التعليمي حتى في المصحف نفسه الذي يتصوره البعض مخالفا بمضمونه لما نزل من القرآن ؟ ثم ألم يحاول علماؤنا البحث عن نظام وراء التاريخ وعن تاريخ للنظام بنظرية صريحة هي نظرية المجدد على رأس كل قرن؟ فيكون علاج مسألة الترتيب التاريخي وعلاقتها بالترتيب التعليمي في الصيغ العقدية شديد التعقيد لكون قد تفرع إلى الفروع التالية:
1-الترتيب التاريخي الذي يمثله ولو بصورة جملية التمييز بين القرآن المكي والقرآن المدني مع ما تسمح به دقة المعرفة التاريخية في بحوث علماء القرآن المسلمين وهي دقة لم يتجاوزها البحث الحديث بأمر يستحق الذكر.
2-ترتيب المصحف الذي يتهم بكل ما لذ وطاب من التهم تتردد بين حدين مذهبي يشكك في أمانة الخلفاء الثلاثة الأول ومزعوم علمي ذهب إلى حد ادعاء أن القرآن نفسه مثله مثل السنة لم يدون إلا في القرن الثالث.
3-محاولة فهم تأثير النظر إلى الترتيب الثاني بمنظور الترتيب الأول: فلا يمكن لمؤصل الفقه مثلا أن ينسى الترتيب التاريخي للقرآن والسنة لأن معرفة ذلك من شروط العلم بالناسخ والمنسوخ ومن ثم فهو يمثل بعدا ضروريا في بناء الانساق المؤصلة للفقه والعقائد.
4-محاولة فهم تأثير النظر إلى الترتيب الأول بمنظور الترتيب الثاني: لا يمكن للمفسر أيا كان مذهبه أن يكتفي بالترتيب الزماني لأسباب النزول وللنزول إذا كان يريد أن يصل النجوم القرآنية بوحدة موضوعية أو مقصدية في تفسيره فيصبح بناء الوحدات الموضوعية والمقصدية شرطا في فهم دلالة توالي النجوم ويصبح التاريخ خاضعا لترتيب نسقي يكون الخالف من النجوم غاية والسالف منها بداية كلتاهما تفهم بمتضايفتها.
5-وأخير فإن نظام القرآن من الداخل تحدده نظرته للتاريخية الإنسانية كما يمثلها القصص القرآني: فلا يمكن أن تفهم الرسالة القرآنية إلا بوصفها الاستعراض النقدي للمحاولات السابقة التي هي بمقتضى نظرة القرآن محاولات لتحقيق نفس الرسالة حتى وإن اختلفت أشكالها إما بسبب الظرف الخارجي أو بسبب التدرج في تحقيق الرسالة نفسها. فيكون الإسلام كمثال أعلى في البداية غاية للتحقيق ثم يصبح كحركة تاريخية سعيا متدرجا لتحقيق تلك الغاية وهو من ثم إستراتيجية عمل سياسي تربوي وليس مجرد منظومة عقائد أو أحداث تاريخ لا تحكمها خطة وإستراتيجية نظرية وعملية.
المسألة الرابعة
هل اعتبار القرآن بداية جديدة يعني أنه ينفي التاريخ المتقدم في ما ليس هو فيه بداية جديدة بمعنى التحول النوعي في مجاله ؟ ولنقس الأمر على المنعرجات النموذجيه في علم من العلوم (وهنا يمكن الإشارة إلى سمير قصير الذي كان أكثر صراحة في سوء الفهم هذا) أو ما يسمى بتغير البارادايم. فلست أدري لأي العلل يزعم الكثير من المشنعين على المسلمين من مسيحيي الشرق الذين يريدون أن ينصعوا ساحة الاستعمار الروماني والبيزنطي قبل الثورة القرآنية فيتهمونهم بالتنكر للحضارة السابقة ويزعمون أنهم –نتيجة لنفي التاريخ- يدعون أن الحضارة بدأت مع الإسلام وأن ما تقدم عليه ليس إلا جاهلية جهلاء.
ولعل أفضل من عبر عن هذه الإشكالية بكامل الوضوح هو الأستاذ سمير قصير الذي يحاول الكثير تحميل الحركة الإسلامية دمه وهي منه براء لأنه كان ضحية المعركة بين شقي العلمانية الليبرالية والعلمانية الشمولية التي كان من دعاة التحرر منها ومن طغيانها على مقدرات لبنان وحتى الثيوقراطية الشيعية التي هي يد الاستبداد والفساد في جل أقطار الوطن.
"ولا يبقى من العصور المتقدمة-يقول قصير-إلا صورة فوضوية تصاغ بمفهوم الجاهلية الذي يفهم كزمن للجهل مختزل"[10]. 
إن صورة الجاهلية الفوضوية التي تفهم هذا الفهم "لا يمكنها أن تقوم عندما ينظر المرء إلى ما تم توثيقه من حصائل البحث في التاريخ الهلنستي والروماني الحصائل المستمدة من وثائق الحفريات وما يوجد على العمارة من تواريخ تشييدها وعلى العملات من تاريخ صكها. فقد كانت المدن العربية في شمال الحجاز تامة الرومنة إلى حد جعل قيصر الروم يمكن أن يكون من أبنائها. وهكذا فالبداوة الحربية التي طبعت عالم التصورات العربية لاحقا سيتم تنسيبها بصورة دائمة ويمكن لنا أن نتصور المنعرج الكوبرنيكي التي يمكن أن يقدمه الاعتراف بعصر ذهبي يكون متقدما على العصر الذهبي الإسلامي المزعوم"[11].
„Von den vorhergehenden Zeiten bleibt nur ein chaotisches Bild zurück, das sich in dem Begriff jāhiliyya, verstanden als ‚Zeit der Unwissenheit‘, verdichtet.“[12] 
« lässt sich aber nicht aufrechterhalten, wenn man Forschungsergebnisse über die hellenistische und römische Geschichte berücksichtigt, die von Archäologie, Epigraphik und Numismatik dokumentiert werden. So waren arabische Städte im Nordhijaz vollständig romanisiert, was dermaßen weit ging, dass aus ihnen römische Kaiser hervorgehen konnten. Das kriegerische Nomadentum, das die arabische Vorstellungswelt später geprägt hat, wird so nachdrücklich relativiert, und man kann sich ausmalen, welche kopernikanische Wende die Anerkennung eines Goldenen Zeitalters einleiten würde, das dem vermeintlich islamischen Goldenen Zeitalter vorangegangen wäre.“[13]
المسالة الأخيرة
السؤال الأخير: (وهو يعيدنا إلى السؤال الأول من حيث هو أساس كل الأسئلة وليس بوصفه أحدها فحسب : ولذلك لن نطيل القول فيه) أليس المنطلق الأساسي في كل هذه المواقف العلمانية ذات الإيديولوجية الماركسية علته التسيلم المجاني بالإلحاد المؤسس للمادية التاريخية كما يدل على ذلك رد الظاهرات الدينية إلى ما في الوعي الإنساني عنها من تصورات لا تتعداه إلى حقيقة ذات قيام ذاتي اسمها الله ؟ أليس هذا الفكر متخلفا معرفيا وفلسفيا:
معرفيا: عما يسمى بالمنعرج اللساني فضلا عن التحرر من التاريخانية الفجة وسوء الفهم لما يسمى بالفهم الأنثروبولوجي للظاهرة الدينية ومثلها الظاهرة العلمية ؟ فهل ينفي القرآن مثلا التعدد الديني حتى يزعم المحاضر أن المسلمين لهم تصور تاريخي خطي ينطلق من الوحدة ويعود إليها ؟
فلسفيا: ما الدليل على أن الموقف الملحد بين بنفسه ؟ ما الذي يجعل التفسير المادي بالصدفة والضرورة أولى بالقبول عقلا من التفسير المثالي بالقصد والحرية ؟ كيف يكون خروج النظام من الفوضى قابلا للتفسير بالصدفة والضرورة ؟
الهوامش والتعليقات
[1] وفي الحقيقة فإن أطروحة العظمة تتعلق بالخطاب الفقهي الكلامي أكثر من تعلقها بنص القرآن لئلا نتابع رأي الباحثة التي عممت فنقلت هذا الحكم من الحكم على الفقه إلى الحكم على النص الرسمي أعني القرآن والسنة.
[2] Wenn wir dem Historiker und Kulturkritiker Aziz al-Azmeh folgen, so erhebt der kanonische Text nicht nur Anspruch auf ewige Gültigkeit, sondern ist auch ahistorisch strukturiert 
Al-Azmeh, Chronophagous Discourse. A Study of the Clerico-Legal Appropriation of the World in Islamic Tradition, in: Frank E. Reynolds/David Tracy (Hg.), Religion and Practical Reason. New Essays in the Comparative Philosophy of Religions, Albany, N.Y., 1994, 163ff. 
عزيز العظمة الخطاب الملتهم للزمان. دراسة تملك الفقهاء ورجال الدين العالم في التقاليد الإسلامية ورد ضمن: الدين والعقل العملي محاولات جديدة في فلسفة الدين المقارنة: نشر فرنك أ. راينولدس وداود تراسية, ألباني نيويورك 1994 ص. 163 والمواليات.
[3] التلازم بين السياسي والديني في الإسلام لا يعني إخضاع الدين للواقع السياسي بل هو يعني جعل السياسي أداة من أجل تحقيق القيم التي يبشر بها القرآن لأنها ليست أمرا ينتظر اليوم الآخر ليتحقق بل هي ما كلف الإنسان بتحقيقة وهو معنى استعمار الأرض والاستخلاف فيها ومعنى تأسيسه في القول إن الأرض يرثها العباد الصالحون.
[4] أرسطو كتاب الشعر. وابن خلدون: باطن التاريخ فلسفي بخلاف ظاهره الذي هو أدبي ومراجعة طبيعة المعلوم الفلسفي: فالتاريخي صار عنده معلوما والعلم صار عنده تاريخيا.
[5] عزيز العظمة كتاب ابن تيمية وكتاب السياسي والديني.
[6] وذلك هو قصدي بكون فكرهم نسخة باهتة من الماركسية البدائية: فالظن أن التاريخي الحضاري هو المحدد وأن المحدد فيه هو المادي هو الحسم الذي أنسبه إليهم. لم يدر في خلدهم أن التاريخي الطبيعي هو المحدد وأن المحدد فيه ما أمد به الإنسان من خصائص وقدرات ترميزية تجعل الأسطوري شرطا في التاريخ الحضاري والمادي مثلا : فقدرات الإنسان الرمزية محدد عضوي من حيث شكله وليس مكتسبا إلا من حيث مضمونه وهو قابل لأن يرد إلى ما اعتبره القرآن الكريم علة أهلية الإنسان للاستخلاف أعني القدرة على التسمية. وقد ناقشت هذا الأمر في مستوى نظرية القيمة (ردا على سمير أمين) وأريد أن أناقشها هنا بعد التذكير بالحجج ضد نظرية القيمة في مستوى نظرية الفاعلية التاريخية المحددة لصيرورة الإنسان الحضارية.
[7] أجناس الخطاب الأصلية لا تتعدى الخمسة التالية كما بينا في الكثير من بحوثنا السابقة وهي الخطاب الأصلي الذي يمكن القول إنه الفطرة أو المادة الخام أعني اللغة الرمزية العامة المشتركة بين البشر والشارطة لكل الرموز الأخرى. وهي خام كل خطاب عائد عليها ليكون منها ما نسميه بالخطاب الصناعي أعني الخطابات الفرعية التي هي بعدتها مع واحد والتي هي متنوعة بتنوع التجارب التاريخية بمعنى التاريخ الطبيعي لا التاريخ الثقافي. وطبعا فهذه الخطابات الصناعية تعود على الخام فتؤثر فيه وقد تفسده بحصره في التجربة التي صيغت صناعيا بأثر من الخطاب الصناعي. فأما الخطابات الأصلية أو لغات التواصل الأصلية غير اللسانية فهي:
1-خطاب الذوق (التجربة العاطفية المعيشة وهي مادة الحوادس التي تناظر الحواس والتي من دون تكون الحواس مجرد أدوات لاقطة تتوفر حتى في الآلات).
2-وخطاب سلطان الذوق (أثر التجربة العاطفية المعيشة في علاقة البشر بعضهم بالبعض).
3-وخطاب الرزق (التجربة الغذائية المعيشة وهي مادة الحواس)
4-وخطاب سلطان الرزق (أثر التجربة الغذائية المعيشة في علاقة البشر بعضهم بالبعض)
5-وخطاب السلطان المطلق أو الدين بمعنى الوعي بتناهي الإنسان وباستناد تناهيه وفنائه إلى لا متناه وسرمدي يتجاوزه في كل ما ليده من قدرات وخاصية من شعور بالعجز مسافة بين الإرادة والقدرة (معنى الخطابات السابقة ووعي الإنسان الغامض ومحاولات فهمها من حيث ما يحدد معنى تقويمها لكيانه وهي مادة جامعة للحدس والحس ومتعالية عليهما لكونها هي عين الحضور الواعي بذاته كحضور لذاته ولغيره سواء كان الغير من جنسه أو من غيره). 
وأما الفرعية فهي:
6-فمن خطاب الذوق وخطاب سلطانه يأتي النظر بمعنييه المادي والصوري أي الثقافي للانتاج الرمزي والتربوي لتنظيمه (فلا معرفة نظرية من دون صلة ذوقية بالسؤال المعرفي من حيث هو سؤال معرفي)
7-ومن خطاب الرزق وسلطانه يأتي العمل بمعنييه المادي والصوري أي الاقتصادي للإنتاج المادي والتعاون عليه والسياسي لتنظيمه (ولا عمل من دون صلة بالرزق مهما كانت غير مباشرة)
8-وتوظيف النظر من أجل حاجة العمل ببعديها المادي والصوري يعطينا الفنون العميلة (التقنية) (الفنون التقنية هي نظر موظف عمليا)
9-وتوظيف العمل في من أجل حاجة النظر ببعديها يعطينا الفنون الجميلة (الفن) (الفنون الجميلة عمل موظف نظريا)
10-ومن خطاب السلطان المطلق يـأتي بحطه الوظيفي لغير غاياته الخطاب الإيديولوجي (الخطاب الإيديولوجي هو توظيف خطاب السلطان المطلق الذي هو ديني حتما لغايات في خدمة الخطابات الفرعية الأربعة المتقدمة على خطاب السلطان المطلق). 
ويجمع بين الخطابات الخمسة الأصلية والثلاثة الفرعية الخطاب الأسطوري (وهو كل صوغ بأدوات العصر لخطاب السلطان المطلق في الممكن المطلق أو ما يشبه العالم الافتراضي) والخطاب التاريخي (هو كل صوغ يرد الممكن بمنظور الخطاب الديني إلى الحاصل بمنظور الخطاب الإيديولوجي أو التمييز بين الافتراضي والحصولي). فتكون الخطابات التي لا يخلو منها عمران عشرة.
والخطاب الفلسفي الذي يمثل بداية جديدة للخطاب في العمران البشري هو الوجه السلبي منها ومن الخطابين التاريخي والأسطوري خاصة ومن ثم فهو خطاب تابع لأنه عودة على الخطابات وليس خطابا أصليا (لكونه يرد إليهما كل ما تقدم عليهما من الخطابات في تحديدنا هذا) إذ هما يجمعان ما تقدم عليهما من الخطابات. هو بهذا المعنى لا يكون إلا خطابا نقديا لكونه بالجوهر مقارنة بين الحاصل والممكن أو بين الموجود والمنشود وإذن فهو مهما ادعى الواقعية يبقى مشدودا إلى عامل مثل يسميه عقلا. وبذلك فهذا الموقف النقدي من الخطابات العشرة بخلاف ما يتصوره سطحيوا العلمانية ليس إلا دينا نقديا حتى لو اقتصر على هذا الوجه السلبي الذي يجعله في نسبة القفا من نفس العملة التي وجهها الدين الموجب: فكل ما فيه متناظر ما كل ما في الدين والفرق هو وضع الدنيا بديلا من الآخرة ووضع الإنسان بديلا من الرب ووضع ما يسميه الفعل التاريخي بديلا مما يسميه الوهم الأسطوري. ولعل الماركسية هي أفضل صورة من هذا المعنى.
تلك هي الخطابات الأحد عشر التي يمكن للعقل الإنساني تصورها مع قابلية وجود نسخ منحطة منها لا تتناهي لأن الانحطاط ليس له قاع. والعلم بهذه الأجناس وبطبيعة دورها دون أن تلغي القراءة الماركسية للتاريخ الإنساني تجعلها إحدى العلاجات الممكنة للعلاقة بين التاريخي وما يتعالى عليه لكونها تبين أن الحسم في مسألة هذه العلاقة مستحيل ومن ثم فكل زعم بأن أحد الحلول يلغي الحسوم الأخرى التي هي كلها من حيث هي حسوم دعاوى ليس عليها دليل كاف من تحكم ووهم.
[8] ولعل أفضل مثال على ذلك مقايسة الأستاذ العظم الإصلاح الوهابي بالثورة الفرنسية حتى جعلني أظن أنه يتصور الحداثة مقصورة على صورتها في الثورة الفرنسية (مغفلا الصورة الإنجليزية من دون إرهاب سياسي وعلمانية والألمانية بفلسفة مؤسسة على الإصلاح الديني والأمريكية مؤسسة على فكرة الأرض الموعودة) ويتصور الإصلاح الوهابي مقصورا على عامل مؤثر وحيد هو ظروفه الاجتماعية الثقافية دون أن يكون لما يدعو إليه من تحرر من الاستسلام للخرافة والمحرر من تراث الانحطاط المتراكم بالعودة إلى البناة الأوائل وما لهم من فاعلية تاريخية تحقق استعمار الأرض والاستخلاف فيها بتحقيق قيم القرآن لم يعتبر ذلك لكه مؤشرا موجبا واقتصر على البعد السلوكي المقلد للأوائل.
وإني لأعجب من مؤرخ يتصور التوجه إلى المستقبل في الثورة الفرنسية ملغيا للتوجه إلى الماضي والعكس بالعكس في حالة عبد الوهاب\\ز وكل من له علم بالثورة الفرنسية يعلم أن توجهها إلى المستقبل كان مستندا إلى قراءة للماضي اليوناني فلسفيا والروماني حقوقيا. وكل من له علم بالثورة الوهابية يعمل أن توجهها إلى الماضي كان مستندا إلى قراءة للمستقبل العربي الإسلامي تاريخيا وخلقيا: كيف يستعيد المسلمون والعرب فاعليتهم التاريخية أو يكف يخرجون من الاستسلام للخرافة والقضاء والقدر. 
وفي هذا يكمن التأويل السيء لفكر ابن عبد الوهاب وابن تيمية: فهما يثوران على التصوف لكونه ينفي فاعلية الإنسان التاريخية وليس لأنهما ينفيان فاعليته التي هي من جنسين مختلفين: واحدة متممة لفاعلية الإنسان التاريخية والثانية نافية لها لتعوضها بسلطان السلطة الروحية التي يمثلها التحالف بين المتصوف والسلاطين عودة إلى النموذج الفرعوني للدولة. ومن ثم فنفيهما له من جنس نفيهما لفاعلية السحر والتنجيم والأولياء والخرافة هو من أجل تحقيق شروط التكليف أعني المسؤولية.
[9] ولنضرب مثالين مما لا يمكن طرحه من المشاكل في الكلام على الإسلام بتعميم ما يطرح عند الكلام على المسيحية مثلا. الأولى هي المقابلة السخيفة بين العلم والدين. والثانية هي المقابلة الأسخف منها بين العلمانية والسلطة الدينية. لم يحدث أن ادعى أحد من علماء الإسلام الكبار قبل الانحطاط أن القرآن يقدم حقائق علمية يقول به النص ينبغي أن يقاس بها العلم الإنساني في مجال ما يقبل العلم الإنساني (علم الشاهد) ويكفي قراءة ما يقول الغزالي في تهافت الفلاسفة (نص الغزالي حول الرمان والبصل). ولم يسبق لأحد من غير المذهب الشيعي والتصوف أن اعتقد أحد من كبار العلماء في الإسلام قبل الانحطاط أن السياسة التي لها مرجعية شرعية تعني أن الحكام رجال دين ومقدسين أو معصومين (نص ابن خلدون والغزالي). 
لذلك فالكلام على العلمانية في الإسلام كلام ممجوج لا معنى له إلا عند من يتصور أنه يمكن للحكم ألا يكون ذا مرجعية مقدسة سواء كانت القدسية فيها تسمى حقوقا طبيعية أو حقوقا شرعية لأن المعتبر في الأمر هو حاجة المرجعية لما يجعلها متعالية حتى لو اعتبرنا هذا التعالي فرضيا: لأن الإسلام يعتبرهما من طبيعة واحدة إذ الفطرة هي التطابق بين الخلقة والخلق. 
ولعل من أهم مميزات النظرة الإسلامية في المجالين النظري (العلم) والعملي (السياسة) مبدئين من ينكرهما لا يمكن أن يكون أمينا في عرض مضمون النص: فأما المبدأ الأول فهو حصر الوحدة في الله دون سواه وكل ما عداه متعدد المقومات والوجوه حتى إن الإسلام يقر بتعدد الأديان والشرائع ويعترف بها بل هو يذهب حتى إلى الإرجاء بخصوص المشركين ما يعني أن المعرفة لا تكون إلا اجتهادية ومن ثم فهي ثمرة تعاون (التواصي بالحق). وأما المبدأ الثاني فهو حصر عبودية الإنسان في خضوعه لله دون سواه ما يجعل السلطان بين الناس ثمرة التعاون كذلك (التواصي بالصبر). فيكون المبدأ الأول نافيا للعلم المطلق والمبدأ الثاني للسلطان المطلق لحصرهما في علم الله وسلطانه.
أما ما حصل في التاريخ الفعلي فلا يناقش أحد في كونه كان مخالفا لهذه المبادئ: ولكن فليقل هؤلاء المناقشون بأنهم لا يناقشون النظريات والنصوص بل الممارسات. وهذا يصح على كل الفلسفات: فيكفي مقارنة مبادئ حقوق الإنسان في النصوص وممارسات المتكلمين باسمها في العالم. فنحن قبل أي كان من الساعين لجعل الممارسة تقرب ما أمكن من النظرية وهو معنى حركة الصحوة عندما لا تكون مقصورة على فقهاء الانحطاط أو الحركات التي من جنس حركة طالبان. 
[10] سمير قصير الشقاء العربي في العظم التاريخي فقدان الذات والإحياء الثقافي ورد في الرسالة الدولية 71 شتاء 2005 ص.62-69 وبالتحديد ص.63. وكذلك في: قصير الشقاء العربي برلين 2006 ص.38 والموالية.
[11] نفس المرجع.
[12] Samir Kassir, Das arabische Unglück. Von historischer Größe, Selbstverlust und kultureller Wiedergeburt, in: Lettre Internationale 71, Winter 2005, 62–69, 63; ebenfalls in: Kassir, Das arabische Unglück, Berlin 2006, 38f.
[13] Ebd.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق