أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2015.04.24
هل يمكن أن يصلح التربية من كانوا ولا زالوا أهم سبب في انحطاطها وفي تحريف مهامها؟ قد يظن الكثير ممن يجهلون تاريخ الإصلاحات المتوالية المزعومة أني لا أسأل بل أتهم متصورا كلامي متحيزا وغير موضوعي. لكني لا أتكلم من موقع الملاحظ الخارجي بل من موقعين يلامسان المسألة التربوية ملامسة مباشرة. وكلتا التجربتين شخصت الدائين اللذين سأصف في هذه المحاولة:
1-فالموقع الأول هو الانتساب إلى القطاع لمدة أربعة عقود بين 1970-2007.
2-والموقع الثاني هو المشاركة في أول حكومة منتخبة بعد الثورة لمدة 14 شهرا بصفتي وزيرا مستشارا.
واعترف أني قد عجزت عن أقناع أصحاب القرار التحكمي في الإصلاحات بما كتبت ونشرت بصفتي الأولى ضد توظيف الشرفي وجماعته للمدرسة في معركتهم الإيديولوجية التي تسمى تجفيف المنابع (المقالات منشورة في جريدة الصباح حينها). كما اعترف أني بصفتي الثانية فهمت علل استحالة الإقناع لأن الأمر لا يتعلق بما يمكن الاقتصار على تفسيره بالجهل بل الغالب عليهلا هو التجاهل المتعمد من قبل المتحكمين في المسألة التربوية.
لكن ما يجري الآن هو عودة إلى سياسة الشرفي مع مزيد سلطان للقائلين بها ومنفذيها بسبب عنجهية الثورة المضادة وعجز الإسلاميين عن المقاومة طمعا خوفا منها وطمعا في مشاركة ولو شكلية في الحكم. وإذن فما يحصل هو ما اعتبره من نكبات تونس عامة ونكبات المنظومة التربوية خاصة. وهو مسار آل بعد عودة الثورة المضادة إلى وضعية أشبه ما تكون بما يحققه السيسي في مصر. والفرق الوحيد أن السيسي يحققه بقوة السلاح المستعملة فعليا وهم يحققونه بقوة السلاح المستعمل بالقوة تحديدا لمن يعارض وخاصة بالابتزاز للشعب في قوته وللإسلاميين في حريتهم.
فقد اجتمع على تونس وعلى مؤسساتها التربوية عاملان الواحد منهما كاف للقضاء على أي منظومة حتى في بلد مستقر وغني فضلا عن منظومة بلد غير مستقر وفقير:
1-سلطان القائلين بسياسة تجفيف المنابع الذين لا يرون في المدرسة إلا أداة صراع إيديولوجي حتى صارت فاقدة لأهم وظائفها العلمية والتقنية لتقتصر على مهمة تحضيرية هدفها تغيير قيم الجماعة بدعوى التحديث وتقليد مستعمر الأمس.
2-وسلطان القائلين بدور النقابات المتجاوز للدفاع عن المصالح المادية لمنظوريها والذين لا يرون في المدرسة إلى أداة للتدخل في أبعاد العملية التربوية كلها إلى حد لم يبق للسلطة السياسية دورا يذكر في تنظيم العملية وإدارتها.
فإذا أضفنا إلى ذلك ما عليه مؤسسات الدولة عامة والمؤسسة التربوية خاصة من فقدان لكل سلطان بسبب ما حل بها خلال خمس مراحل متوالية من الإفساد النسقي الذي أخضع كل المؤسسات السياسية والتربوية والاقتصادية والثقافية وخاصة المدرسة والجامعة إلى سلطان اليسار الاستئصالي مباشرة وبتوسط الاتحاد. ويمكن وصف هذه المراحل بخصوص التربية من أدنى مستوياتها إلى أسماها على النحو التالي:
1-المرحلة الأخيرة من نظام بورقيبة المرحلة التي كانت المدرسة التونسية قبلها من مفاخر تونس. وفيها توقفت المدرسة والجامعة عن العمل وتحولت إلى مسرح للصراع بين اليسار والإسلاميين.
2-مرحلة نظام ابن علي الذي أخضع المدرسة إلى دائين : الأول هو الشعبوية التي أزالت معايير الانتخاب المعرفي (السيزيام و25 في الباكالوريا والانتقال الآلي بين المراحل) والثاني هو التوظيف الإيديولوجي للمدرسة في ما يسمى بمعركة تجفيف المنابع.
3-السنة الأولى من الثورة التي عمت فيها الفوضى وخاصة السياسية التهديمية النسقية لوزارة البكوش وكاتب الدولة اللذين بدعوى تخليص المدرسة من التجمع مركساها فأصبح المشرفون على تسييرها مخربين لها.
4-مرحلة العجز التام والسلطان المطلق للنقابات في حكومتي الترويكا وحكومة الكفاءات المزعومة حيث سيطر العبث النقابي والجبن السياسي فأصبحت المدرسة تسير مباشرة من المافيات النقابية واليسارية.
5-لنصل أخيرا إلى انهيار الدولة بالكامل أعني المرحلة الحالية التي فقدت سلطتاها التشريعية التنفيذية كل فاعلية. فقد تشضت السلطة التشريعية وفقد رأسا السلطة التنفيذية كل قدرة على القرار بسبب العجز شبه التام عن الحسم في أي مسألة من مسائل رعاية الشأن العام بمسؤولية حقيقية (سن رئيس الدولة ومرضه وعدم انتساب رئيس الحكومة لأي من الأحزاب المتحالفة في الحكم) بات الوضع شديد الخطورة : ولعل أهم الأدلة على ذلك وضع مسؤولية الإصلاح بين يدي نفس أولئك الذين أفسدوا التعليم وخاصة منذ بداية عهد ابن علي إلى الآن.
لذلك فإن ما يمكن أن ينتج عن دعاوى الإصلاح لا يمكن إلا أن يكون إلى الأسوأ خاصة بعد أن كلفت نفس المدرسة الفكرية في الإشراف على الإصلاح فأصبحت إيديولوجية تجفيف المنابع في ظن هؤلاء المعاتيه سلاحا للتصدي لما يسمونه الإرهاب. ومعنى ذلك أنهم يريدون أن يحاربوا الإرهاب المسلح بالبنادق بالإرهاب المسلح بمقص الرقابة الإيديولوجية على معتقدات الشعب.
أساس الإصلاح الذي كنت أنصح به
لما قبلت بأن أكون مستشارا لرئيس أو حكومة منتخبة ديموقراطيا بعد الثورة في التربية والثقافة كنت أتصور أن المطلوب هو التفكير في الاصلاح التربوي والثقافي بصورة جذرية وديموقراطية تعود من فهم جوهري لوظيفتي لتربية والثقافة لتقويم الموجود ووضع استراتيجية لتحقيق شروط إصلاحه وتجاوزه إلى المنشود. فأما الوظيفتان فهما :
1- تكوين الإنسان :
البدن والنفس والتوازن الموحد بينهما في أداء وظائفهما : التربية البدنية بمعنى السلطان على البدن والعناية به بما يقوي الصحة البدنية والتعبير عن التوازن الحيوي والتربية الفكرية بمعنى السلطان على النفس والعناية بها بما يقوي الذوق تلقيا وإبداعا والعقل لغة ومنطقا.
2- تكوين المواطن :
الولاء والكفاءة والتوازن الموحد بينهما في أداء وظائفهما : التربية الوطنية بمعنى الولاء للوطن مكانه وزمانه وتراثه ومستقبله والتربية الوظيفية أداء للدور في تقاسم العمل المادي(الاقتصاد) والرمزي (الثقافة) مشاركة في حفظ الموجود وفي تحقيق المنشود.
لكن هاتين الوظيفتين بينهما صدام دائم. ومصدر الصدام يردن إلى الخلافات الفلسفية والدينية الصادرة عن الوظيفة الأولى. ويمكن رد هذه الخلافات إلى المسألة المعرفية والمسألة الخلقية : موذج الإنسان وكيفية تحقيقه بفنون التربية. كما يرد كذلك وفي آن إلى الخلافات الحضارية والسياسية الصادرة عن الوظيفة الثانية. وهي خلافات تقبل الرد إلى : نموذج الجماعة وكيفية تحقيقها بفنون التربية.
وعدم تحقيق التوازن بين التكوينين لعلل إيديولوجية يعد من أهم علامات الجماعات غير المستقرة قيميا أو التي تكون في صراع عقائدي حاد. ذلك أن هذا الصراع يحرف التربية فيفسد التوازن وظيفتيها المضاعفتين : المعرفية (سلطان الإنسان على الطبيعة والتاريخ) والعقدية (نموذج الحياة الجماعية).
وأما تقويم الموجود فهو قياس ما تحقق وما لم يتحقق من تكوين الإنسان والمواطن أي الوظائف الأربع التي ذكرنا تكوينا للبدن والنفس والولاء والكفاءة ووحدة التوازنين بين هذه الوظائف. وهذا التوازن يتمثل في أن يصبح خريج التربية إنسانا مشاركا في حياة جماعة قادة على حماية ذاتها ورعايتها بما تبدعه من أدوات ومناهج هي حصيلة عمل الجماعة وحرية أفرادها وقدرتهم على العمل المبدع.
وأما استراتيجية تجاوزه لتحقيق المنشود فهي تثبيت ما تحقق والسعي لتحقيق ما لم يتحقق من تكوين الإنسان والمواطن والتوازن بين مقوماتهما كما بينا في محاولة تقويم الموجود. وأهم قضية هي من يحدد هذه الاستراتيجية ليس بالمعنى الفني لوضع كيفية الانجاز الفعلي بل بمعنى من يحدد الغايات والادوات بمتقتضى شرعية تمثيله لإرادة الشعب المنتخبة ديموقراطيا والممثلة لتواصل مقومات هويتها ولمطالب مستقبلها. أما الإنجاز الفني فهذا يقوم به أصحاب الخبرة في فنون التربية والتعليم على أسس علمية تراعي الشروط المثلى لتحقيق أفضل نسبة بين الإرادة والقدرة.
ملخص التشخيص
ولا أريد الكلام على مقومات الإصلاح أهدافا ومضمونا وطرائق وأطرافا واسترايتيجة لأن ذلك كله سبق أن تكلمت عليه وكتبت فيه ولا حاجة للتكرار. ومن أراد أن ينظر في هذه العناصر فليعد إلى المشاركة الشفوية والمكتوبة قبل الثورة وبعدها. ولما كنت واثقا من أن الثورة المضادة ستنهزم حتما لأن الموجة الثانية من الثورة آتية لا ريب فيها وهي ستزيل مخلفات الانحطاطين :
الانحطاط الخاص بحضارتنا وهو الذي افقد المدرسة في حضارتنا دورها العلمي وغلب دورها الإيديولوجي فاقتصرت على التربية والمعارف الدينية غايات وأدوات فأصبح النشء في مجتمعاتنا عاجزا عن فهم أسرار الطبيعة والتاريخ وبتنا عزلا في مجال الفنيات التي تمكن من سد حاجات الجماعة رعاية وحماية.
الانحطاط المستورد من الفهم الاستعماري لوظيفة المدرسة التحضيرية أي قتل الحضارة المغزوة وتعويضها بالحضارة الغازية في نماذج العيش وليس في شروطها المتعلقة بنفس ما فقدته المدرسة الإسلامية : حصر التعليم في الإيديولوجيا العلمانية لمحاربة الإيديولوجيا الدينية.
وبذلك فإن المدرسة عندنا تعاني من الصراع بين هذين الانحطاطين اللذين أضاعا وظائف المدرسة الخمس :
1-تكوين الإنسان بدنيا ونفسيا : فتكون المدرسة معهد رياضة ومؤسسة تفكير.
2-تكوين المنتسب إلى حضارة بعينها ذوقيا وخلقيا : فتكون المدرسة حيوية حضارة.
3-تكوين المواطن المنتسب إلى دولة اجتماعيا وقانونيا : فتكون المدرسة مؤسسة ذات حياة ديموقراطية.
4-تكوين صاحب العمل المعين في منظومة سد حاجات الجماعة : فتكون المدرسة ورشة أعمال بحسب الحاجات الجماعية.
5-وفي ذلك كله جعل الإنسان مبدعا وليس مقلدا : فتكون المدرسة مجال تجريب للتنافس الإبداعيى بين النشء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق