Hot

السبت، 9 مايو 2015

التصدي لسياسة تجفيف المنابع من رد الفعل إلى الفعل


أبو يعرب المرزوقي

تنبيه مدير الصفحة :
استعجلنا الاستاذ في اتمام كلامه على الاستراتيجية كما وعد. فنصح أولا بالاطلاع على استراتيجية العدو الذي تصور المعركة مرحلة الحرب على الحصانة الروحية. فاستعمل استراتيجية ما يسمى بتجفيف المنابع بالطرق التي يصف الأستاذ هنا. وهو يبين كيفيات التصدي التي لجأت إليها الأمة ومدى نجاعتها وما ينبغي أجراؤه من إصلاحات. وسيأتي دور الكلام على استراتيجية المعارك القتالية وكيفية إدارتها. وأرجعنا إلى هذا النص القديم الذي كتبه لما كان مقيما في كوالالمبور نهاية 2004.

وهو لم يتعرض حينها لدور إيران في شكله الذي اتضحت معالمه بعد الثورة وخاصة بعد الثورة السورية حتى وإن كان قد كتب في ذلك من منطلق المبدأ التالي :

إسرائيل تحتل الأرض وهذا قابل للرجع.

لكن إيران تسعى لاحتلال الروح التي لا يقبل احتلالها الرجع ومع يكون احتلال البلاد والعباد.

نعيد نشر هذا النص مواصلة لنص الأمس لأنه جزء من محاولاته فهم شروط التحرر والنصر في الحروب التي تشن على الأمة. وهو ينقسم إلى أربعة أجزاء : عرض الإشكالية وبيان فروعها الثلاثة ثم الفروع الواحد بعد الآخر.

حرب التجفيف واستراتيجايتها
ليس منبع الخطر على الحضارة العربية الإسلامية القوى الرئيسية التي تصارعها وتسعى إلى تهديم أركانها (اثنتان أجنبيتان هما الاستعمار القديم والهيمنة الأمريكية الصهيونية واثنتان أهليتان هما دعاة العلمانية التبشيرية الفرنسية والتطبيع ) رغم كون زعيمة هذه القوى ( أمريكا ) صارت تعلن صراحة منذ الحادي عشر من سبتمبر عن توحيد كل قوى الظلم والعنجهية حول مطلب واحد هو مطلب يمكن رده إلى عنوان واحد هو سياسة تجفيف المنابع الشهيرة.

وإنما الخطر كل الخطر هو أن يبقى وجود الأمة كله منحصرا في رد الفعل والسلب لعدم تحديد طبيعة المعركة التي تخوضها مما يجعل عملها مقصورا على تكرار الماضي غايات وأدوات ولا يتعداه إلى الفعل والإيجاب بإبداع المقبل منهما.

فبمثل هذا الموقف هزمنا في التاريخ الوسيط. والغريب أننا ما زلنا لم نفهم هزيمتنا إلى حد تصورها انتصارا. لو لم ننهزم حقا في الحروب الصليبية لما آل أمرنا إلى الانحطاط بعدها ولما آل أمر العدو الذي تصورنا أنفسنا قد انتصرنا عليه إلى النهوض والسيادة على العالم سيادة جعلته يستعمرنا إلى الآن.

وكذلك تصور الفرنسيون والإنجليز أنفسهم قد هزموا ألمانيا, في الحرب العالمية الثانية. لكن الحقيقة هي أن ألمانيا أرجعتهم إلى حجمهم الطبيعي بما أفقدتهم مستعمراتهم التي أبوا مقاسمتها إياها وبما استعمرتهم تحت مظلة الوحدة الأوروبية التي فاق وزنها فيها وزنهما مجتمعين بل ووزن جملة الأعضاء الفاعلين الباقين. وليس خضوع الألمان للأمريكان إلا إلى حين. وكذلك اليابان : في الظاهر هزمته أمريكا لكنه في الواقع اكتشف الحيل التي تجعله يسترد قوته كلها وأكثر من دون حرب.

وكذلك تصور دعاة الاشتراكية والعالم الثالث أنفسهم منتصرين على الأمبريالية بردود الفعل ولم ينتبهوا إلا بعد أن انهارت المنظومتان. فالفياتناميون الذين خالوا أنفسهم منتصرين صاروا يشحذون ود من ظنوه منهزما. وكل المستعمرات التي تصور ثوارها أنفسهم قد حرروها آل سلوكهم بالبلاد والعباد إلى وضع جعل التبعية أدهى وأمر من الاستعمار المباشر.

والعلة في ذلك كله الفكر الساذج الذي يحصر المعركة في رد الفعل لعجز أصحابه عن فهم طبيعة الانتصار كيف تكون. تصوروا حيل العدو الذي غير طبيعة المعركة لكي لا يبقى في رد الفعل تصوروها هزيمة. لم يفهموا الفكر الاستراتيجي الذي اعتمدت عليه فلسفة ما يسمى بتصفية الاستعمار الذي صار مكلفا.

فالعدو لا يقيس ربح المعارك بمنطق الفروسية والغلبة في ساحة القتال البدائي. إنما هو يقيسها بمنطق التاجر الذي يحارب أعداءه بمن يجعله لهم من أعداء. ويبدع ساحات قتال جديدة جاعلا منطق الحرب أقرب إلى منطق التنافس في تطور الظاهرات الإحيائية طويل المدى أعني منطق التكيف والغلبة في مجال التمكن من الأدوات والغايات واختراع الحلول المستندة إلى العقل والذكاء بدلا من طرق الصدام المباشر.

ولعل الصدام العربي الإسرائيلي أفضل مثال على صحة هذه المعادلة. فقد أعاد بعض العرب مفهوم الجهاد إلى أدنى تصوراته إذ جعلوه أشبه بتناد القبائل في حروب الجاهلية متناسين كل معاني الثورة القرآنية, في حين أن العدو بحاربهم بأقوى أسحلته: تمزيق مقومات وحدتهم وتسليط بعضهم على بعضهم بمنطق حرب الحشرات بالحشرات.

حرب تجفيف المنابع واستراتيجيتها
لذلك فالمطلوب هو تحليل حرب تجفيف المنابع في مستوياتها الذاتية لها لتحديد التصدي الفاعل تجنبا لما نتج عن رد الفعل الذي جعل دار الإسلام أرضا منكوبة بفوضى التعفن المرضي والتخبط الاستراتيجي.

ذلك أن التصدي لحرب تجفيف المنابع يستوجب تحليل هذا المفهوم وتشريح تاريخه الذي يناظر سلبا تاريخ حرب التحرير العربية الإسلامية وحركة النهضة. ومن دون ذلك فقد يختلط علينا الأمر فلا نميز بين حرب تجفيف المنابع العدوانية ودعوة المصلحين الشرعية لإحياء الثورة المحمدية إحياء ليس منه بد, لكون أصحاب تلك السياسة قد يفسدون هذه الدعوة بادعاء الانتساب إليها كما يفعل أغلب المنبتين من علمانيي تونس مثلا.

ذلك أن تجفيف المنابع قد كان في المرحلة الأولى المحدد الرئيسي لأحداث تاريخنا الحديث ومعانيه مما جعل حرب التحرير حركة يغلب عليها رد الفعل حفاظا على الذات والهوية.

ورغم التعثر فإن حرب التحرير يمكن أن تتحول في مرحلة مقبلة – وخاصة منذ صيرورة إسرائيل قوة عظمى جعلت التحدي الحضاري والنهوض شرط بقاء الأمة فضلا عن كونه شرط تحريرها وتحررها– إلى حركة يغلب عليها الفعل كما نبين لاحقا.

وبذلك يكون البحث في المسألة مؤلفا من ثلاثة مستويات هي

تحليل مفهوم تجفيف المنابع

وتاريخه

وتاريخ التصدي له في حرب التحرير العربية الإسلامية.

مفهوم تجفيف المنابع
فالمستوى الأول هو مفهوم التجفيف ذاته الذي يعتمد على استعارة زراعية تبين منطق استناده إلى الحرب البايولوجية التي يعتمد أصحابه عليها في تحليل الصراع الحضاري بين الأمم.

وبين أن هذا العلاج يصاحبه ضرورة حملات يمكن, مواصلة لنفس الاستعارة, تسميتها برش المبيدات الحشرية لقتل ما لم يمت بالتجفيف أو ما عاود فبزغ من جديد.

لذلك تتلازم سياسة تجفيف المنابع مع التعقب الفكري والقمع البوليسي.

تاريخ سياسية التجفيف
والمستوى الثاني هو مستوى تاريخ سياسة التجفيف بمرحلتيها المضاعفتين (مرحلة الاستعمار المباشر والاستعمار بتوسط غلاة الحركة القومية) أعني ما حدد بفرعيه المرحلة السابقة من الصحوة أو المرحلة الإحيائية والمرحلة التي يمكن أن تحدد بفرعيها (مرحلة التدخل الأمريكي المباشر ومن سينصبهم التدخل الأمريكي من غلاة الحركة الإسلامية) الصورة الآتية من الصحوة أو المرحلة الإبداعية التي نسعى إليها كما يتبين من المرحلة الحالية المخضرمة التي جمعت بين خصائص المرحلة السابقة والمرحلة اللاحقة, أعني عين السؤال عن شروط النقلة من الصحوة الأولى إلى الصحوة الثانية.

مفهوم تجفيف المنابع مفهوم مجازي مستمد بالاستعارة من الميدان الزراعي. وهو مفهوم سلبي إذ إن هدفه هو القتل بمنع الماء الذي هو سبب الحياة. فهو يعمل بسلب قوله تعالى: ” وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ” أي إنه يجعل من شيء ميتا بمنع سبب الحياة أو الماء. إنه يعني قطع الماء على النبات ليموت من ذاته دون حاجة إلى اقتلاعه.
ومن ثم فهذا المفهوم السلبي مستمد من منطق الحرب البايولوجية في شكلها البدائي. لذلك فهو يعتمد على تصورين قاصرين يعللان النتائج العكسية التي يؤول إليها في الأغلب وخاصة عندما ينتقل استعماله إلى النخب الغبية التي يورثها إياه الاستعمار فتستعمله آليا وببلاهة.
لم يفهم هؤلاء السخفاء أن المستهدفين بهذه السياسة يمكن بمجرد إدراكهم لمقاصدها أن يقلبوا مفعولها فيجعلوه عكسيا تماما, خاصة وقد حصل ذلك الاستعمال دون علم حقيقي بالمنابع ودون علم حقيقي بكيفيات التجفيف تخيلا منهم أن المدرسة العلمانية والثقافة المبتذلة بوصفهما أداتين للتحديث القصري كافيتان لتحقيقه كما حصل في التجربتين التركية والتونسية (خلافا لشرط فاعليتهما العقلية أعني الإقناع والخيار الحر).
وقد ذهب البعض في تونس إلى المطالبة بدور شبيه بما تسعى إليه أمريكا في ما تسميه الآن حربها على الإرهاب فاقترح خدمته على أمريكا بعد فشله في اقتراحها على النظام وعلى فرنسا ( انظر رسالة أحد دعاة التجفيف في تونس إلى نيويورك تاميز بتاريخ الثالث من كانون الثاني 2002: بعنوان Reaching the Next Muslim Generation).
فأما التصور الأول فهو ظن أصحاب هذه الحرب الظاهرات الإنسانية خاضعة للعلية الآلية مثل الظاهرات الحية عامة.
وأما التصور الثاني فهو قياسهم حياة الحضارات على حياة النبات ومن ثم تطبيق علية الزراعة على الحضارات.

لكن الإنسان غير النبات. فالنبات لا ينبط الآبار ولا يذرو الرمال عن العيون عندما تجف المنابع بخلاف الإنسان. بل النبات نفسه لا يخلو من عناد للرد على المجففين: فهو يمد العروق ويستأنف الحياة ببذوره التي تربو بها الأرض بمجرد أي قطر.
ثم إن المنابع الروحية لا تجف لكون انبجاس الماء منها يكون دائما بحسب طاقة واردها على النفاذ إلى أعماقها ولا يمكن لأي مجفف أن يجفف دوافع الورود خاصة إذا تصور نفسه قادرا على تحقيق ما عجز عنه الاستعمار الفرنسي. ففي المغرب الغربي جربت فرنسا كل فنيات التجفيف فكان ان حصل العكس ليس في المغرب العربي وحده بأن عادت جذوة القيم الإسلامية حتى وإن تبدى شكلها بل إني أتوقع أن يتعدى الأمر إلى فرنسا نفسها فيغزوها. فقد لا يمر أمد بعيد حتى تكون فرنسا بعده ذات أغلبية ترد نفس المنابع فتشرب من الماء التي كان هم فرنسا الأول والأخير تجفيفه.

ويعرف فن التجفيف القتالي بهدفه سلبا وإيجابا.
فهو سلبا يستهدف إزالة مقومات وجود الآخر المستقل وشروط المقاومة الذاتية عنده.
أما إيجابا فغايته تحقيق تبعية الآخر واستعباده ليصبح في خدمة أغراضه.

وقد يتنكر خداعه الاستراتيجي في شكل سياسة يدعو من يتصور نفسه الأقوى الأضعف إلى الاندماج في هويته بحجة الإيمان بالمساواة والعدل والأخوة.

كما يعرف بأدواته التي تنقسم إلى نوعين بحسب سلبية الهدف أو إيجابيته :
فسلبا تكون الأدوات إضافية إلى ما يراد حذفه بمجرد المنع مثل منع تعليم اللغة العربية في المغرب العربي أو مثل منع تدريس القرآن الكريم أو التاريخ الإسلامي في سياسة تجفيف المنابع عند العلمانيين من خريجي مدارس التبشير الفرنسية بنوعيها الكنسي والماركسي.
وتكون الأدوات إيجابا بفرض ما يراد بديلا مثل تعليم الفرنسية بديلا من العربية أو تعليم الإيديولوجية الماركسية بديلا من الدين. وقد جربت الطريقتان فأنتجت عقم المتفرنسين ولا تجد إبداعا حتى بالمعنى الحديث في المغرب العربي إلا بين ذوي الثقافة الأصيلة.

ولما كان النوعان من الأدوات يستهدف الحصانة الروحية فإن الأساس فيهما هو الحرب المعنوية والنفسية لتهديم مقومها الأساسي تشكيكا في الإيمان بالذات والهوية أو في عقيدة ” خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ” ذات الرسالة الكونية.
ذلك أن مقومات الهوية الحضارية (اللغة والتقاليد والتاريخ والدين بما هو شريعة وعقيدة) ليست بذات معنى من دون هذا الإيمان بالذات الحضارية التي هي منزلة وجودية تتصور الذات نفسها بها فتعلل وجوب قيامها بدور كوني.

لذلك فمثلما يتنكر الهدف في شكل الدعوة إلى الاندماج تتنكر الأداة في هيأة الدعوة إلى النمط الحضاري الذي يريد العدو وعملاؤه فرضه باسم كونية زائفة بديلا من السعي إلى الكونية التي لا يمكن أن توجد إلا في المثال الأعلى (الذي هو بالطبع غير حاصل عند كلا الطرفين).
وهذا التنكر هو الذي ينتج المعركة الزائفة التي يخوض فيها أعشار المثقفين, أعني: معركة الخيار بين الاندماج وعدمه في حضارة الغازي بالثبات في حضارة الأهل الماضية بديلا من المعركة الحقيقية التي هي معركة الحل الوحيد الممكن للانبعاث الحق: إبداع البديل الكوني للإنسانية كلها, لكون الحد الأدنى للعظيم من الأمم هو السقف الذي حدده ماضيها.
ذلك أن فشل المستعمر في استيعاب المستعمَر وفشل المستعمَر في صد المستعمر للحفاظ على استقلاله دليل على وجود كلي أسمى من حضارتي المتصارعين.
ثم إن المغلوب الحالي قد يصبح غالب الغد بخلاف نظرية ابن خلدون, خاصة إذا كانت المغلوبية نفسها حيلة لخداع العدو. وهذه الحيلة هي التي أنصح بها كل العرب والمسلمين المهاجرين الذين يمكن أن يجعلوا من الاندماج القصدي في الشكليات مع المحافظة على الجوهر ( تعلم اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم ودراسة التاريخ الإسلامي وتنظيم الجماعة الإسلامية المهاجرة في فعل الاندماج ظاهرا وفي فعل الصمود باطنا ) أكبر خطة غزو بايولوجي حضاري طويل المدى, خاصة والغرب كله يشكو من غلبة الشيخوخة وقلة النسل.
ويعني ذلك أن الخطة لا تتمثل في الاندماج أو في عدمه بالحفاظ على شكله المغلوب بل في إبداع شكل جديد ينتقل من رد الفعل الذي يخدم استراتيجية الغازي المتمثلة في معركة أنماط عيش حضاري لتعويضها باستراتيجية معركة القوة الحيوية للريادة الكونية.

مرت حرب تجفيف المنابع بحقبتين كلتاهما مضاعفة.

فأما الأولى فذات صلة باستراتيجية الاستعمار التقليدي. وهي حقبة لم يكن القصد فيها استيعاب المواطنين بل كان خطة حدها الأقصى هو غزو أوروبا البروتستنتينية لأمريكا الشمالية وكذلك في استراليا وبعض الجزر البدائية وحدها الأدنى هو غزو أوروبا الكاثوليكية لأمريكا الجنوبية وكذلك في الجزائر وافريقيا ما وراء الصحراء.

وأما الثانية فذات صلة باستراتيجية البعث التوراتي والصهيونية. وهي عاجزة عن كلا الحدين الأدنى والأقصى بمقتضى العائق الديموغرافي أولا وبمقتضى طابع الوجود التطفلي الذي يريد أخذ ثمرة عمل الآخرين الذين ينبغي الحفاظ عليهم للتطفل عليهم صنيع كل الفيروسات.

لذلك فهي لا تريدهما. إنما هي ميالة إلى نفس الخطة التي مكنتها من السيادة الخفية على الغرب كله وخاصة على نخبه بكل أصنافها من خلال التحكم في شروط تدرجهم المهني ووجودهم العمومي ومن خلال التحكم في أسرار وجودهم الخصوصي ثم السيطرة على رمزي عصب الحياة أعني رمزي الغذاء المادي والغذاء الروحي اللذين هما المال والاقتصاد للأول والفن والثقافة للثاني وفي أداتي السلطان المشرف على توزيعهما في المجتمع أعني القوة العسكرية والاستعلام والقوة السياسية والإعلام.

ومن السخف عند الكثير من استراتيجي العرب الاستهانة بهذا البعث وتصوره مجرد حلقة تابعة للاستعمار التقليدي أو للامبريالية الأمريكية. فهذان يعدان أمام هذا البعث مجرد لعب أطفال لكونه يمثل أرقى درجات الحروب البايولوجية أعني فنيات الفيروس. كلاهما من وسائله حتى وإن بدا لسطحيي الاستراتيجيين من مخرفي الهوائيات العربية وسيلة لهما : سلطان الصهيونية أقوى من سلطان الاستعمار لأنه إمساك بآليات القرار في الدول التي بيدها القرار الدولي.

وإذا كانت الحقبة الثانية متقدمة النشأة على حدث الحادي عشر من أيلول لكونها بدأت منذ الشروع في إعادة بناء الدولة الإسرائيلية وصيرورتها قوة عظمى – بالقياس إلى من حولها وبمقتضى سلطانها في قوى العصر العظمى – قوة تفرض إرادتها على العالم العربي والأوروبي فإنها قد اتضحت منذ حدث الحادي عشر من أيلول الذي مكن الصهيونية من فرصة العمر. فهي قد استطاعت أن تجعل قوة العصر الأعظم تتبنى استراتيجيا تصورها للعلاقة بين الغرب والإسلام الذي يتهم بكونه مصدر الإرهاب والتسليم بضرورة فرض حرب تجفيف المنابع التي اعتبرتها إسرائيل شرطا أولا في كل معاهدات السلم التي اقترحتها على الدول العربية. ولنحلل الحقبتين :

الحقبة الأولى بمرحلتيها وبروز علامات فشلها في الصحوة:
تجفيف المنابع في المرحلة الاستعمارية جمع بين خطتين. فالاستراتيجيون اختلفوا على خطة التجفيف. فبعضهم مال إلى التجفيف بالمنع. والبعض الآخر مال إلى التجفيف بالتعكير. والسلطة الاستعمارية جمعت بين الحلين :

فكلفت الجيوش والإدارات السياسية والمدنية بالمنع.

وكلفت بعض المستشرقين والإدارات العلمية والاستعلامية بالتعكير.

و كلما ثبت أن بعض الينابيع يستحيل إنضاب مائها بالمنع كان التعكير أفضل الحلول. فالماء يصبح بالتعكير غير مشروب أو يصبح شربه قاتلا. فإحياء بعض التراث هدف كيفيته قتل أصحابه به. وهذا أيضا من الحرب البايولوجية: تحارب إفراز بعض الحشرات بإفراز بعضها الآخر بشرط أن يكون من جنسها حتى تمكن مغالطتها به.

لذلك فالمعركة الفكرية التي قادها الاستشراق الصوفي والعسكري مثلا ردا على الصحوة التي كان شكلها الأول رباطيا صوفيا اعتمد على إحياء حروب الماضي وحزازاته قصدا مع تشجيع التصوف الشعبي الذي يعتمد الشعوذة والخرافات.

ولعل أفضل ممثل لهذه الحرب نجده في بحوث لوي ماسينيون(النصيرية) أو برنار لويس (الحشاشين) في الفرق المغالية. فلم يكن ذلك منهما حبا في العلم بل خدمة لغرض تشتيت المشرق العربي عامة والشام خاصة لعلمهما بأنه كان يسعى إلى بناء الدولة القومية التي من شروطها تجاوز حروب الفرق الدينية التي ورثها عن الماضي الوسيط. فماسينيون ضابط مخابرات ولويس معلوم التصهين.

لكن هذه الخطة التي يهديها الفكر الاستراتيجي الذكي للاستعمار بهدف التفتيت والتشتيت سرعان ما صارت حربا فجة بمجرد أن أصبحت بيد نواب المستعمر أعني النخب العلمانية والطائفية التي سلمها الحكم من بعده. ذلك أن جيش الاحتلال وإدارته السياسية والمدنية كانا أكثر كفاءة من شرطة الأنظمة المتخلفة ومافيات الأحزاب المتكلسة والإدارة الناعسة التابعة لها.

اكتفت النخب العلمانية والطائفية بمضغ ثمرات البحوث الاستشراقية حطا من الإسلام والمسلمين وتشكيكا في قيمة ثقافتهم وفي طموحهم التاريخي.

ولعل أبلغ الأمثلة نجده في تونس كذلك: فجل مزاعم ما يسمى حضارة في أقسام الآداب بالجامعة التونسية ليست إلا ممضوغات منحطة من أقل معارف الاستشراق عمقا.

لذلك فأنت تراهم يركبون مراكيب الاستعمار (المهمة التحضيرية) والصهيونية (التطبيع ) وأمريكا ( حقوق الإنسان ) ليواصلوا مهمة التجفيف متناسين أن التحضير والتطبيع وحقوق الإنسان كلها أمور لا تكون من فوق وبالقوة لكون شرط شروطها السيادة الشعبية التي تشرع أو إن شئنا الشرعية الديموقراطية التي لا يؤمنون بها ويريدون فرض وصايتهم على الشعوب لكونهم يمثلون نخبة التنوير الدكتاتوري.

لكن ذلك بأصنافه الأربعة يؤدي ضرورة إلى أثر عكسي (إضافة راهنة : وهو أثر بين في عودة تركيا لتراثها وبداية عودة تونس وسيأتي دور مصر قربيا). فما فشل فيه الاستعمار والصهيونية وأمريكا لن ينجح فيه بعض “جوكارات” الكنيسة القديمة والحديثة ( الاشتراكية الأوروبية التابعة للصهيونية).

لن يستطيعوا القضاء على الهوية الإسلامية وتذويب قلبها أو الأمة العربية خاصة بعد أن تبين التحالف التام بين هذه الميول الأربعة: 1-مهمة الاستعمار التحضيرية المزعومة2- وتطبيع الصهونية 3-ومزاعم الدفاع عن حقوق الإنسان الأمريكية 4-والجمع بين ذلك كله عند جوكارات العملاء الذين يتنكرون باسم الإصلاح الذي لا يمكن أن يحققه إلا المؤمنون بالرسالة الإسلامية بأنفسهم.

الحقبة الثانية بمرحلتيها و تعثر الصحوة وحاجتها إلى الإصلاح:
تعد الحقبة الثانية أخطر من الحقبة الأولى بكثير. فهي تضيف إلى ما فيها من أخطار حصيلة الأخطار التي نتجت عن الحقبة الأولى.

وأول هذه الأخطار هو ثمرة التجفيف الأول ثمرته المرة التي جعلت بناء الهوية يستند إلى مبدأين سطحيين: تصور الهوية الماضية في ضوء ما يستحسن من الغرب وتأسيس كل ما يؤخذ منه على ما يعد شبيها به من الماضي الذي صار لا يقرأ إلا في ضوء البحث عن مثيل لما يراد أخذه من الغرب.

أما الثاني منها فهو فشل سياسة التجفيف الأولى: فالنخب التي تولت الحكم بعد الاستعمار فشلت في تحقيق التحديث السوي. لذلك فلن يجد أصحاب حرب التجفيف في الحقبة الثانية هذين الضربين من التأييد الداخلي الذي وجده أصحاب التجفيف في الحقبة الأولى مما سيلجئهم ضرورة إلى الفرض بالقوة.

فلا وجود لقيادات من الجنس الأول (أصحاب قراءة الذات في ضوء الآخر) ولا من الجنس الثاني (تعويض الذات بالآخر مباشرة وصراحة) يمكن أن يكون لها رصيد يجعل الناس يثقون فيها بوصفها مصلحة كما تدعي. وهذا هو أكبر الأدواء. ذلك أن المنتسبين إلى الحركة الأصلانية تجاوزوا ذلك الفهم الأول. والقيادات العلمانية فقدت كل مصداقية خاصة بعد أن أدت الهزائم بها إلى استعمال الدين في أفسد استعمال ممكن: مجرد إيديولوجية لحماية أنظمتهم وأسرهم ومصالحهم.

وهذا هو المأزق الحقيقي: مع من ستتعامل أمريكا وإسرائيل في سياسة تجفيف المنابع؟ وكيف سيتعاملان ؟ هل سيجدان من قيادات الإسلام الثائر من يقبل الدخول في لعبتهما مثلما وجد الاستعمار القديم في القوميات الثائرة من دخل في لعبته؟ (إضافة راهنة : هذا هو التحدي الذي ينبغي لإسلاميي الثورة أن يكونوا شديدي الوعي به لتجنبه).

والمعلوم أن المرحلة الأولى من هذه الحقبة الثانية قد بدأت بدايتها الصريحة بعد حرب 73 وما انتهت إليه من صلح بين النظام المصري وإسرائيل. ذلك أن من شروط معاهدات السلم الإسرائيلية مع العرب أمران يجمع بينهما مفهوم التطبيع: العلاقات الكاملة وما يسمى بثقافة السلم :

وإذا كان الفرع الأول من التطبيع يمكن أن يعد أمرا غير منتسب إلى حرب التجفيف (العلاقات الكاملة)

فإن الفرع الثاني ( ما يسمى بثقافة السلم ) هو جوهرها. إذ ليس المقصود به غير عكسه أعني الحرب على كل شروط الصمود والحفاظ على الهوي.

وغاية الشرطين تمكين إسرائيل من تحقيق ما حققته في الغرب كله: أن تصبح لها القيادة الروحية العالمية التي لم يبق صامدا أمامها غير المسلمين لكون أي إنسان بسيط الثقافة يعلم أن ثقافة الحرب العدوانية والإبادية لا توجد في القرآن بل في التوراة.

ومع ذلك فهم يتصورون القرآن الكريم نصا عدوانيا لمجرد كونه يعلم المسلمين العزة وعدم الخضوع ويعطيهم مسؤولية كونية في الحفاظ على الحرية الروحية ومنع الفساد في الأرض أعني علتي الجهاد الوحيدتين في القرآن الكريم.

أما المرحلة الثانية من هذه الحقبة فهي قد بدأت عندما استطاعت الصهيونية إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بعد 11 سبتمبر بأن ما كان هدف إستراتيجتها الذاتية ينبغي أن يكون ثقافة الغرب كله واستراتيجيته المستقبلية. وطبعا فهي ما كانت لتنجح في ذلك لولا شرطين :

أحدهما يعود إلى أخطاء القيادات الناطقة باسم الإسلام بغير حق لجهلها به وبكيفية التعامل مع أعدائه

والثانية هي مطابقة ذلك لهدفي أمريكا: البحث عن البديل من علة مواصلة استعمار أوروبا بالحلف الأطلسي ومواصلة الاستحواذ على موارد الطاقة.

التصدي لحرب التجفيف المقومات والتاريخ
ومثلما كانت حرب التجفيف ذات حقبتين كان التصدي لها ذا حقبتين كذلك:

الصحوة الإحيائية التي تصدت لحقبة التجفيف الاستعماري والعلماني والطائفي إلى حادثة الحادي عشر من سبتمبر.

والصحوة الإبداعية التي نسعى إلى تحديد شروط شروعها في التصدي للتجفيف الصيهوني والأمريكي.

الصحوة الإحيائية
ولنبدأ بالحديث في الصحوة الإحيائية لتحديد موازين عملها. فلما كانت هذه الصحوة الإحيائية دفاعية فهي تمثل أفضل طريقة لحسبان موازينها الـمتمثلة في حسبان موازين حرب التجفيف. فكل فشل نال التجفيف يعد انتصارا لسياسة التصدي.

ولما كان الهدف جعل مآل الحضارة العربية الإسلامية من جنس مآل المسيحية اللاتينية بقتل اللغة العربية الحاملة للتراث الإسلامي ولهوية القومية المركزية في الأمة الإسلامية ( العربية والعرب) وفك عروة الوحدة الروحية الحاملة للطموح التاريخي في الدور الكوني والرسالة الإنسانية ( الإسلام والمسلمين), فإن عدم تحقيق هذين الهدفين يعد أكبر انتصارات حركة الصحوة الإحيائية :

فالعربية لم تمت بل بالعكس عادت إلى عنفوانها وصارت لغة عالمية بآدابها وبمعاملاتها المادية والرمزية في العالم الحالي فضلا عن كونها مرحلة ضرورية في تاريخ العلم والفلسفة الإنسانيين.

وأمة العرب لم تصبح أمما بعدد الدويلات العربية التي ولت حقبة الاستعمار ولن يتحقق إلا عكس ذلك خاصة بعد نشر التعليم ووسائل الاتصال الجماهيرية. بل إن حرب التحرير القومية الدينية قد أعادت إلى العربية كل الحظوظ لكي تصبح لغة الانبعاث. لم يحصل لها ما حصل للاتينية. وهذا في حد ذاته أكبر انتصار على حرب التجفيف.

أما بالنسبة إلى الإسلام فإن انتشاره لم يتوقف. والصراع من أجل إصلاحه ليس دالا على أزمة وجود وهبوط بل هو دال على أزمة نمو وصعود مثل المرور من مرحلة إلى مرحلة في أطوار النمو الطبيعي لكائن ما يزال في بداية الشباب. بل إن انتشار الإسلام في العالم منذ قرنين يكاد يعادل انتشاره في قرنيه الأولين.

وحتى مناصبة إسرائيل وأمريكا العداء للإسلام فليس من الدلائل إلا على العنفوان: فإذا كان من يعتبرهم الغرب ذروة السيادة على الروحانية الغربية كما وصفنا (إسرائيل) وإذا كانت قمة القوة المادية الغربية (الولايات المتحدة) تعتبران الإسلام عدوا أولا لهما فمعنى ذلك أن الإسلام يمثل أمل البشرية وهو على حق ألف في المائة في التصدي لعدوي الإنسانية هذين ومن ثم فهو يتضمن عناصر الانتصار.

لذلك فما يرهب هذين المتجبرين ليس بعض السلوك الشاذ الذي يمكن أن يوصف بالإرهاب بل هو هذا الأمل الذي يمثله الإسلام للبشرية الثائرة على الظلم والعبودية والساعية على الحق والحرية. وطبعا لما كان هدفا إسرائيل ( فرعا التطبيع ) وهدفا أمريكا ( مواصلة السيطرة على أوروبا بدعوى حمايتها من خطر بديل من الشيوعية والاستحواذ على مصادر الطاقة ) معلومين لنا فإن التغلب على كلتا الخطتين ممكن لكون الجمع بينهما في العلاج سهلا.

وبخلاف كل التحليلات الاسترايتيجة المتعالمة فإني اعتبر أمريكا الأداة بشرط تحقيق مصلحتها وإسرائيل الأصل. فتاريخ اليهود أشبه بتاريخ الفيروس لا يعيش إلا متطفلا على قوة العصر من نكبتهم الأولى مع الفراعنة إلى نكبتهم مع هتلر وقبلها مع بابل ومع الروس.

لذلك فإنه يكفي أن نعمل بصورة تجعل أمريكا أمام خيار وحيد للحفاظ على مصالحها في التعامل الندي معنا دون حاجة لشرطي إسرائيلي حتى ينقلب السحر على الساحر.

فإما أن تتحالف أمريكا معنا للبقاء قوة عظمى ( أعني لتحقيق هذين الهدفين اللذين لا يناقضان بذاتهما أهداف الأمة الإسلامية )

أو أن تفقد كل إمكانية لتحقيق مصلحتيها.

ويكون لنا ذلك بأن نغرقها في حرب معارك جانبية في الأحياز التي ليس فيها دول منظمة يمكن لأمريكا أن تضغط عليها وتفرض عليها حلولا وسطى أعني في أدغال جزر غرب آسيا وبقايا المستعمرات السوفياتية وفي أفغانستان والصومال الخ…هناك ينبغي أن نضطر أمريكا للوصول إلى حلول وسطى معنا.

وفي هذه الخطة بداية الانتقال من الدفاع إلى الهجوم. لكن الهجوم الحقيقي لا يتعلق بالصراع مع الأداة. بل مع الساحر. ومثلما كان النجاح الأول في الثورة المحمدية بتجاوز التوراة والإنجيل من خلال منطق التصديق والهيمنة لإصلاح التحريف فينبغي أن يكون النجاح الثاني في الصحوة المبدعة بقطع رأس الأفعى نهائيا وإصلاح انحرافات الحضارة العلمانية : فهم حرفوا رسالات السماء ورسالات الارض في آن.

ولن يتحقق ذلك إلا بإصلاح ما أفسد خلال التطبيق من قيم الإسلام ومبادئه ( التي هي القيم الروحية الأسمى) في القيم الأخرى التي هي بالإضافة إليها في نسبة التطبيق: أعني القيم الجمالية والخلقية والمعرفية والعلمية والدينية. وطبعا لا ينتظرن أحد مني أن أقدم هنا كيفية هذا الإصلاح. فهو ليس عملا يقوم به شخص مهما بلغ شأنه. بل المطلوب التساؤل عن شروط النقلة من الإحياء برد الفعل إلى الإحياء بالفعل.

والقرآن نفسه قد حدد هذه الشروط. فختم الوحي مع نفي السلطان الروحي واستبداله في الآية الأخيرة من سورة العصر بشروط الاستثناء من الخسر شروطه الخمسة : بمؤسسة الاجتهاد العام أو التواصي بالحق (الذي هو علامة البعد النظري من الإيمان الصادق) في النظر وبمؤسسة الجهاد العام أو التواصي بالصبر( الذي هو علامة البعد العملي من الإيمان الصادق ) والموقف الإيماني والعمل الصالح وبأصل ذلك كله التحرر من الخسر أو الإخلاد إلى الأرض تلك هي شروط النقلة من رد الفعل إلى الفعل في هذه المجالات الأربعة بهداية من المجال الخامس الذي لا يأتيه الباطل: قيم القرآن الروحية ومبادئه الوجودية.

وذلك هو عينه ما لم يتحقق من الثورة المحمدية لكونه بقي مجرد مشروع حال دون تنفيذه اقتصار الجدود على تبني ما فرضته السنن البيزنطية والفارسية واليونانية واللاتينية على الرقعة التي حاول الإسلام إخراجها من الجاهلية ( الإصلاح العملي ) والتحريف ( الإصلاح النظري ) .

فإذا علمنا أن الإصلاح المحمدي تمثل في تحرير المعرفة الإنسانية من وهم الإطلاق الذي يجعل الذوق عبادة هوى ومجرد إشهار لبيع السلع أو تخدير الإرادة الإنسانية وتحرير العمل من وهم الإطلاق الذي يجعل الأخلاق عبادة الدنيا وإغراء الحاجة البشرية. ومن ثم إفساد النوع الأول نوعين من القيم بتحريف نوعين آخرين.

فالمعرفة التي صارت خاضعة لمنطق القوة التقنية أنهت البعد الذوقي من المعرفة الإنسانية والسياسة التي صارت خاضعة لمنطق القوة الاقتصادية أنهت البعد الخلقي من العمل الإنساني. والعلة في ذلك كله تأليه الإنسان ونفي القيم الروحية المتعالية عليه: وهذا جوهر ما يسمى بالديموقراطية في آخر درجاتها أعني العولمة التي هي مطلق سلطة عبادة الهوى والدنيا بالمعنيين اللذين حللنا هنا.

الصحوة الإبداعية
لذلك فإنه لا ينبغي للصحوة الإبداعية أن تردف خطأ تبني الأنظمة العربية التي أجهضت الصحوة الإحيائية نظام الحكم السوفياتي بتبنيها هي نظام الحكم الأمريكي:

فالديموقراطية لن تكون إلا رعاية عامة مغشوشة. ذلك أن الديموقراطية البرجوازية ليست أفضل من الديموقراطية الشعبية. كلتاهما أكثر من آلية يمكن أخذها كما يذهب إلى ذلك بعض المتكلمين باسم الصحوة من غير علم. ليست الديموقراطية مجرد آلية بل هي نفي لكل حقيقة تتعالى على بعض من بيدهم القدرة على حكم الناس بعبادة الدنيا والهوى أعني مافيات السيطرة على الدنيا ( التأثير المادي على العقل الظاهر بحكم حاجات الجسد بالمضاربات الاقتصادية ) ومافيات السيطرة على الهوى ( التأثير الرمزي على العقل الباطن بحكم حاجات النفس بالمضاربات الثقافية ) مافياتهما التي تصبح عندنا مضاعفة المافيات المحلية والمافيات الأجنبية التي تنصبها وتحميها.

ما ينبغي أن يحكم صحوتنا هو الرعاية العامة.

فالكل ينبغي أن يسهم في الرعاية فيكون راعيا. والرعاية العامة – لا الشورى التي هي آلية من آليات الرعاية العامة – ليست ضربا في عماية مثل الديموقراطية العولمية التي يريدون فرضها ويتصور البعض أنها المخرج.

فهي ستزيف قبليا بآليات التلاعب بالهوى والدنيا وستزيف بعديا بآليات الغش والخداع. إنها ستكون عندنا الكذب المطلق والنسقي الذي تغطي بمقتضاه مافيات الشمال المتحالفة مع مافيات الجنوب ما ظلت في خدمتها. وحتى عند الصدق فإن الديموقراطية لا تعتمد إلا على منطق الصدفة والقمار خاصة منذ أن قررت أمريكا أن تجندها لكي تحقق غايات حرب التجفيف تفرض من تريد من الدمى وتمنع بها من تريد عندما لا يكون من الدمى الذين تعتمد عليهم.

الخاتمة :الرعاية العامة
فالرعاية العامة التي تناسب رفض الإسلام لتأليه بعض الناس أو حتى الإنسان بصورة كلية نظام يرفض الديموقراطية لكونها ليست إلا نظاما يؤله بعض الإنسان تعويضا لسلطان المافيات الظاهرة بسلطان المافيات الخفية في العولمة الحالية.

نظام الرعاية العامة ينبغي أن يكون نظاما يستند إلى منطق رياضي كما يصف القرآن الكريم قيام كل المخلوقات. وقد حاولنا وصف بعض مبادئه في كتابنا آفاق النهضة العربية.

فالتداول على الحكم ينبغي أن يكون مستندا إلى الكشف الرياضي العلمي عن نسب كل أفراد الأمة بحسب الجنس والسن والوظائف الرئيسية التي يتكون منها سلم توزيع العمل في المجتمع عملا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض عين تشريعا ومراقبة.

وبحسب هذا الكشف يتكون مجلس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يمثل إجماع قيم الأمة التي لا يعلو عليها شيء بعد ختم الوحي وفي ما سكت عنه خاصة وقد نفى القرآن الكريم كل سلطان روحي لوصي أو لدعي أو لفقيه.

ووظيفة هذا المجلس المبني على مراقبة تجنيب المسلمين ما وصفنا من تحريف للقيم بالاعتماد على السلطة المعنوية لا غير كما هو الشأن في حفظ قواعد اللغة أو قواعد السلوك التي ليس جزاؤها وعقابها إلا رمزيا ومعنويا. فهو المحافظ على شروط الإجماع العام رغم تعدد الأحزاب في السلطة التشريعية ( التي تحدد الحقوق والواجبات بالاجتهاد ).

أما السلطة التنفيذية فيعينها الحاصل (الحزب أو الأحزاب) على أغلبية في السلطة التشريعية وينتخب رئيسها نواب المجلس التشريعي (تنفذ الاجتهاد)

والسلطة القضائية التي ينتخبها تنظيمات المجتمع المدني (مراقبة الإنفاذ)

والسلطة التربوية التي ينتخبها أولياء الأسرة من الآباء والأمهات والجدود والجدات (تكوين الإنسان بحسب تلك القيم).

والسلطة الإعلامية ينتخبها مجلس الإعلام العام المؤلف من نواب يعينهم كل المنتخبين السابقين ولا يمكن عزل من ينتخب فيها خلال نيابته (تنبيه الرأي العام لكل خلل في الوظائف السابقة).

وتلك هي السلط الخمس الضرورية في كل عمران بشري. ليست السلط ثلاثا بل هي خمس. وهي في الحقيقة لم تصبح ثلاثا إلا بمقتضى ذلك التحريف الذي أشرنا إليه:

حيث استحوذت القيم السياسية المحرفة على القيم الخلقية بحصرها في خدمة الاقتصاد

واستحوذت القيم المعرفية المحرفة على القيم الجمالية بحصرها في القيم التقنية.

فكان أن قتلت القيم الروحية وزال الفارق بين القيم المتعالية وعبادة الإنسان لهواه ودنياه في نظام تدرج شيئا فشيئا إلى أن برزت طبيعته الحقيقة في نظام المافية العولمية: مافية المضاربات في القيم المادية ومافية المضاربات في القيم المعنوية لاستعباد الإنسان جسده بالأولى وروحه بالثانية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق