في أواخر الخمسينات ظهرت الإعلانات بما فيها
الرسائل الخفية في الميدان الإعلامي.
صادف هذا الظهور أيضا ولادة علم النفس المعرفي
والذي اهتم بدراسة مستوى اللاوعي عند الإنسان
كما أولى اهتماما بالغا لدراسة الذاكرة.
تمخض عن هذه الدراسات النفسية عدد من النظريات الحديثة
حول الذاكرة...
فاستغلت في مجال الإعلان خصوصا والإعلام عموما.
وهذا المقال الهدف منه تسليط الضوء على بعض النتائج الخطيرة
التي تلحق بالإنسان بما فيه الإنسان العربي والمسلم
إثر التلاعب الخفي الذي مورس ويمارس عليه.
تعريف إجرائي : رسالة خفية Message subliminal
Subliminal" هي كلمة تتكون من جزأين
" Sub"ويعني بالفرنسية "en dessous" أي" تحت"
و"limen " أي" limite "وهي" الحدود" .
يصل إلى حواسنا( السمع والبصر والشم...)
دون أن يلتقطه الوعي، وهدفه التأثير.
هي إذن رسالة تدرك بحواسنا يلتقطها اللاوعي ويخزنها
ليتم تحليلها عن طريق الدماغ دون أن تصل إلى وعي الإنسان.
كراف وشاكتر باحثان عملا على
دراسة كيفية تأثير تجربة ما ماضية دون تذكرها..
هذا التأثير قد يسهم وييسر عملية التعلم بدون وعي .
مكتسبات وقدرات عديدة تظهر خلال نمو الطفل
بدون أن نعاين أو نكتشف سمته الإرادية والواعية أو المقصودة.
مثلا : الطفل قادر على إنتاج جمل صحيحة
من ناحية القواعد اللغوية قبل حتى أن يتعلم القواعد اللغوية ...
كيف تكونت هذه القدرات ؟؟
هل نستطيع طرح السؤال أن الطفل يتعلم بطريقة لاواعية ؟؟
الجواب أن هناك منظومة قواعد تتطابق مع معارف داخلية
والتي أخذها أو تعلمها بطريقة أوتوماتيكية أو تلقائية
من المحيط اللغوي الذي يغوص فيه.
في التسعينات اهتم علم النفس التجريبي بدراسة
المظاهر اللاواعية للذاكرة عند الإنسان وخاصة قياسها ،
وكان أول من استعمل المنهجية التجريبية هو ابنكوس .
فكان الاهتمام بالغا بإشكالية إمكان المعالجة التلقائية للمعلومة
خارج مستوى الوعي والإرادة...
كيف يتم الالتقاط اللاواعي للرسائل الخفية ؟
قد يرى الفرد منا إعلانا ما يضمن مثيرا فيدركه بشكل لاواعي
ويترك أثرا على الأفكار والشعور والسلوك.
صورة ملتقطة من العين تبقى مطبوعة لمدة1/10 من الثانية
عوض أن تختفي بشكل فوري في لحظة التقاطها
الشيء الذي يجعل من الصورة التي تلي تأخذ وقتا للعرض
والوصول إلى العين.
إذا أدرجنا صورة لا تمت بصلة مع أحداث الفيلم
( مثلا مشروب ما : رسالة مدرجة بشكل صغير وفي وقت قليل )
المشاهد لا يستطيع أن ينتبه لذلك بصفة واعية
لسرعة عرضها ،
لكن تلتقط بخلايا العين ، تمر بتحليلات من طرف الدماغ
الذي يعطي لها معنى ، فتخزن،
وتصبح قابلة للتأثير على أفكار ومشاعر وسلوك المشاهد
وذلك في المواقف التي تستدعي الرجوع إليها
وهنا دور الذاكرة الضمنية ، وكما نعلم أن اللاوعي هو
خزان الخيال والأحلام والمخاوف...
والاستجابات التي تأتي منه تكون أقل توقعا
وأقل سيطرة وتمكنا عند الإنسان
الرسائل الخفية استخدمت في مجالات عديدة
ومختلفة كالمجال السياسي للتأثير في الانتخابات
في الفن التشكيلي ومن اشتهر بها
هو الرسام سالفادور دالي ،
ومجال الإعلام في الأفلام والمسلسلات المصورة ،
وفي نشرات الأخبار و ألعاب الفيديو
وفي أيامنا هذه طالت حتى الانترنت...
الهدف منها هو التأثير على سلوكيات الفرد الاستهلاكية،
أي هدف تجاري واقتصادي وكثيرا ما كان أيضا عقائديا وإيديولوجيا.
حين ندرج إذن رسالة خفية في إعلان ما
يعمل الدماغ وبشكل لاواعي على الربط والتقريب
بين الإعلان والشيء الذي يروج له
النتيجة هو الربط بين مفهومين مثلا ساعة فاخرة تربط بقوة داخلية
أو إشهار لنوع من الهواتف المحمولة
تحمله امرأة جميلة وجذابة وجسدها نصف عاري
يربط لاوعي الإنسان الهاتف بالرسالة الخفية التي وجهت له
وهي الجمال والشباب والجاذبية و...و...
وقد يتأثر وينساق إلى ذلك النوع من الهواتف ليشتريه
وهو لا يدرك بصفة مباشرة وواعية لماذا اختار هذا الهاتف ولم يختر آخر.
هذا ما يسمى في علم النفس با" الإدراك الخفي "
perception subliminale "
والذي يعرف عموما على أنه الحالة أو الموقف الذي يمر به
الإنسان يتضمن مثيرات يدركها بدون الانتباه إليها.
دراسات عديدة تشير مثلا أن معالجة سميائية قديمة
مخزنة في مستوى اللاوعي أوتمثلا لاواعيا لكلمة
يطرأ عليه نوع من التداخل مع تمثل لكلمة قريبة من الأخرى
على المستوى السميائي ،
وهذا ما يفسر وصول الرسالة الخفية إلى لاوعي الإنسان
وإدراكه لها وتفاعله معها في مواقف كثيرة من حياته
بدون أدنى وعي وإرادة منه.
في ميدان علم النفس التجريبي أبحاث ويلسن كونست و زجونك
برهنت على أن التعرض البسيط لمثير يكفي
لأن ينتج تفضيلا لهذا المثير وخاصة إذا كان العرض لهذا المثير
خفيا بمعنى" sublimlinal "
لماذا؟؟ حسب رأيي لأن هذا المثير بتأثيره اللاواعي
لا يخلق فيك مقاومة ومقاومة الشيء لا تأتي في أغلب الأحيان
إلا حين تكون في كامل وعيك وإرادتك.
من هنا بدأت الأبحاث حول ما نسميه ب"المضخة الإدراكية "
والتي تقول بوجود تأثيرات لاشعورية لمثيرات تحدث لنا عموما
وليس فقط في مظاهر التلاعب بالإنسان
كما يحدث في ميدان الإعلان والإعلام.
المضخة الإدراكية ومستويات الذاكرة :
أبحاث علم النفس المعرفي تقول طبعا بإمكانية تأثير اللاشعور.
حدد الباحثان تولفين و شاكتر في دراستهما
لمستويات الذاكرة ما سميانه ب" منظومة المتمثلات الإدراكية "
système de représentations perceptives"
فصنفا بالتالي الذاكرة الضمنية والذاكرة العلنية.
1-الذاكرة الضمنية" mémoire implicite"
تشير إلى عملية تخزين المعلومات بدون وعي بعوامل تعلمها أو اكتسابها .
الذاكرة الضمنية تساعد على التحسن أو التقدم في
القدرة على القيام بعمل ما بعيدا عن الاسترجاع الواعي
والإرادي لهذا العمل " (كراف وشاكتر 1995)
( مثل الطفل في اكتسابه اللاواعي للقواعد اللغوية)
المضخة الإدراكية "l’amorçage perceptif "
هو نظام مستقل عن القدرة الواعية للتذكر
وهو ينطوي على نظام واحد أو أنظمة أخرى من الذاكرة الضمنية .
دورها ضخ المعلومة المخزنة في اللاوعي
يعني استرجاعها وتذكرها (دائما بصفة لا واعية) في مواقف التعلم.
2-الذاكرة العلنية mémoire explicite
تشير إلى التعبير عن تجربة شخصية وواعية.
الجديد في تصنيف تولفين وشاكتر للذاكرة
أنها عبارة عن محتوى لمعاني وليس فقط عمليات استرجاعية إرادية
أو لا إرادية لمعلومات مخزنة.
دراسة الفرق بين الذاكرة الضمنية والذاكرة العلنية
( أو التصريحية أو الإرادية )
ظهرت في الثمانينات إبان التجارب التي أجريت على
عدد من الأشخاص فاقدي الذاكرة
وهي تعد من الأبحاث الأساسية في علم النفس.
وقد خلصت هذه الأبحاث إلى النتائج التالية :
بعض الأفراد فاقدي الذاكرة أظهروا على أنهم غير قادرين على
تذكر الأحداث الحديثة أي أنه وقع الخلل لديهم
في الذاكرة العلنية،
بينما حفظت القدرات الذهنية الأخرى.
في دراسة لوارينتن وويسكرانز (1968-1977)
أجريت تجربة أخرى وهي تتمثل في قراءة بعض الكلمات
من طرف فاقدي الذاكرة ،
فلم تكن لهم القدرة على تذكرها ،
بينما كانت لهم القدرة على تذكر الكلمات التي عرضت عليهم
الحروف الأولى منها .وهذا الذي بين أن الذاكرة الضمنية
والمسئولة عن اللاوعي تبقى محفوظة.
هذا المستوى من الذاكرة المحفوظ عند فاقدي الذاكرة،
نجده أيضا عند أفراد سليمين ودراسته تشكل مجالا أساسيا
في أبحاث علم النفس.
وقد صنفت عدة اختبارات للذاكرة منها ما سمي بالاختبارات الضمنية
وهو ينبني على الذاكرة الضمنية أي الهدف منها
هو استرجاع المعلومات اللاواعية المخزنة أو المضمرة في الذاكرة ،
والروائز الضمنية لا تتطلب بالضرورة تذكرا واعيا وإراديا
لتجارب من الماضي.
( وهي روائز عرضية وغير مباشرة أو قد نسميها طارئة كالرائز
الذي يعرض أول حروف الكلمات )
دوره أنه يبني أثر التعلم أو يسهله ويأتي تبعا
لتعرض الفرد إلى المعلومة سابقا وبشكل لاواعي
ومن غير أن يدرك أنه تعرض لها.(ريشاردسون وبجورك 1988 )
أما الروائز المسماة بالعلنية ( أو المقصودة أو المباشرة )
من سماتها أنها تعمل على استرجاع الأحداث من الماضي بطريقة واعية ،
استثمار هذه النظريات حول اللاوعي والذاكرة في الإعلان والإعلام.
فيكاري الذي كان يشتغل في ميدان "الترويج والإعلان "
صرح أنه في ظرف 6 اسابيع أن 45.699 شخص أمريكي
تعرضوا لرسائل خفية في فيلم " بيكنيك "
تتعلق بمادتي الذرة المقلية وكوكا كولا .
هذه الرسائل كانت تظهر كل خمس ثواني لمدة 3/1000 ثانية
أي لمدة قصيرة جدا تجعل الشخص لا ينتبه للرسالة
على مستوى الوعي،
فيكاري ادعى أن في تلك المرحلة ارتفعت مبيعات الذرة المقلية ب 57
بالمائة وكوكاكولا ب18.1 بالمائة.
في السبعينات أصبحت الإعلانات تستعمل هذه الرسائل الخفية
للتأثير على الناس ،
فاستعملوها في إطار المشروبات الكحولية،
واستعملوا رسائل جنسية في كثير من الأفلام
ومن أشهرها الأفلام الكارتونية لديزني،
وفي ترويج بعض الأفكار الإيديولوجية:
دفع الناس إلى الانتحار في نوع من الأغاني أو الموسيقى
ونذكر منها موسيقى الروك التي كانت تتضمن عبارات مقلوبة
سميت بالرسائل الشيطانية..
من يقول أن المجموعة الموسيقية الشعبية المسماة ببيتلز
والتي كان عدد مبيعات بعض ألبوماتها بالملايين
لم تترك الأثر البالغ في الشباب العالمي من حيث إيديولوجيات التمرد
والتعاطي للمخدرات والتميز ببعض اللباس الخاص...
ويلسون براين كي في كتابه :
"خفايا الاستغلال الجنسي في وسائل الإعلام "
يعرض دراسته وتحليله لهذه المجموعة الموسيقية ويقول :
" البيتلز أصبحوا الأنبياء الممتازين في ثقافة المخدرات ،
وترويجها على مر العصور...
المجتمع الغربي (خصوصا إنجلترا وأمريكا الشمالية )
قد أشبع وأتخم باستخدام المخدرات الواسع الانتشار
عبر سنوات من التوجيه الإعلامي الدوائري والكحولي والسجائر.
أجهزة الإعلام منذ عهود أسست شرعية مقبولة ثقافيا
لاستعمال المحاليل الكيميائية للمشاكل العاطفية.
أما بالنسبة إلى صناعة الموسيقى ،
فقد توسعت خطوة إلى ما بعد المنتجات المنزلية النفسية المنشأ،
فقد توسعت إلى الاستخدام الجنوني للمخدرات من قبل المراهقين،
وكان ذلك واضحا ببساطة شديدة ،
بحيث يستطيع حتى الطفل تخمين وكشف ذلك.
وبالفعل، فالأطفال قد أدركوا ذلك لاشعوريا ،
أما بالنسبة لأولئك الذين خارج النطاق، فلم يستطع-
حتى أحكمهم- كشف ذلك، ولا حتى كان قادرا على تخمين أسلوب الترويج الذي تم استخدامه."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق