Hot

السبت، 3 فبراير 2018

شكوك على نظرية المقاصد، عقمها وخطرها


بدأت الفصل التاسع من الكلام على ” الدولة: مفهومها وبعداها البنيوي والتاريخي” ولم أتجاوز فيه التغريدة الثانية ووعدت بالعودة إليه. لكني مضطر لتأجيل ذلك حتى أذكر بموقفي من إشكالية “نظرية المقاصد” لأن رحلتي إلى المغرب كانت لتكريم أحد أكبر رجالاتها: الشيخ أحمد الريسوني حفظه الله.
لما كرمت بهذه الدعوة للمشاركة في التكريم عجبت شديد العجب.
صحيح أن الشيخ من أصدقائي الأعزاء، لكني أعلم أنه يعلم أني من معارضي هذه النظرية بشدة. فكيف دعيت لهذا التكريم؟: فهمت من الدعوة أنه ليس رمزا للعلم الديني فحسب في عصرنا بل أيضا للانفتاح الفكري الفريد.
فأن أدعى مع الكثير من الزملاء الكرام لتحية رجل جمع بين النظر في المقاصد والعمل بها مع العلم بموقفي منها اعتبره من علامات نضج البحث العلمي الذي يتعاون فيه الفكران الديني والفلسفي دون الحساسية التي كانت تعتبرهما عدوين ومتنافيين. لذلك أردت أن أحرر التكامل بين الموقفين من المقاصد.
لست بحاجة للتذكير بأن موقفي من المقاصد ليس جديدا فقد شرحته في الحوار الشيق الذي دار بين المرحوم الشيخ البوطي وبيني رغم ان عرضه فيه كان مجملا وليس مفصلا أو إن صح التعبير لم يعلل التعليل الوافي لأن القصد لم يكن التركيز عليه بل على شمول الأزمة لمجال اصول الفقه.
كان يكفيني حينها بيان “وفاة” أصول الفقه ما ظل مقصورا على إشكالية الصوغ الفني للأحكام وتوسيع مجال تطبيق النصوص المحدودة على النوازل غير المحدودة وخاصة بعد أن أصبح مجاله الأول خارجا عن سلطانه: فالدول الحديثة كلها بما فيها التي تبدو محافظة على الشريعة لا تعمل إلا بالقانون الوضعي.
ومعنى ذلك أن الفقه لم يبق له إلا دور إضفاء الشرعية البعدية والشكلية لأفعال الدولة التي تعمل حقيقة بالقانون الوضعي وليس بالفقه. وما لم نعترف بهذه الحقيقة فلا يمكن أن نستأنف تأصيل الفقه ووصل ما تعمل به الدول الحديثة بالمرجعية الإسلامية. وموقفي: حل المقاصد عقيم وخطير على الإسلام.
واكتفي بهذه الإشارة لأن الشيخ نفسه بدأ يشعر بأخطر استعمالاتها حتى وإن لم يحددها. ومن هذه الاستعمالات الخطيرة وتحديدها.
سأنطلق في هذه المحاولة التي اشعر بأنها ضرورية لاستكمال ما بدأته مع الشيخ البوطي رحمه الله. فما الذي ألجأ مؤصلي الفقه إلى نظرية المقاصد؟ ولم هي عقيم وخطيرة؟
فهذا العقم والخطر الذي توقعته من منطلق ما يترتب على علل لجوء الأصوليين إليها لا يتعين فعليا إلا عندما تصبح الحركات الإسلامية قائلة به ومستعملة إياه بعد وصولها إلى الحكم. وعندئذ يتبين الخطر الناتج عن الانتقال من علاج مسألة أصولية بالجوهر إلى مسألة سياسية بالجوهر.
فالمسألة الأصولية بينة للجميع ويمكن أن نحددها من جواب قاضي الرسول عن سؤاله:
بم ستحكم؟ فبعد جوابه بالقرآن
وإن لم تجد؟ وبعد جوابه: بسنة رسول الله
وإن لم تجد؟ وبعد جوابه: اجتهد رأيي ولا آلو
باركه الرسول ولم يعترض ولم يضف شيئا.
إشكالية أصول الفقه تحددت في هذه الأسئلة وأجوبتها وخاصة في تأييد الرسول لقاضيه وعدم الاعتراض عليه. وفي الحقيقة فهذه الإشكالية هي عينها إشكالية القانون الوضعي حتى وإن كانت المرجعية مختلفة. لكنها واحدة من حيث الوظيفة القانونية. فكل قاض يحكم بالرأي دون مدونة نصوص ليس قاضيا بل دجال.
وكل قاض يقتصر قضاؤه على ما فيه نص قانونيا كان أو قضاء ممن تقدم عليه من كبار القضاة لا يستأهل اسم القاضي: فواجبه أن يبحث كما فعل قاضي الرسول في المرجعية الأصلية (وهنا القرآن) ثم في من قضى قبله (وهنا السنة) وإن لم يجد أن يجتهد رأيه على منوالهما.
وهذان الشرطان في وظيفة القضاء ينتجان عن العلاقة غير المتناظرة بين النصوص والنوازل التي يحتكم فيها للقضاء. وإذن فأصول الفقه يعالج هذه القضية المضاعفة. فسؤال كيف نقضي مشروط بـ:
كيف نستعمل النصوص التشريعية في التطبيق.
وكيف نجتهد في حالة غياب النصوص والسوابق القضائية.
لذلك كان إشكالية تأصيل الفقه مضاعفة:
استعمال النصوص (عندنا القرآن) والسوابق القضائية (عندنا السنة خاصة).
استعمال الاجتهاد.
والمشكل أن قاضي الرسول لم يحدد القصد بأجتهد رأيي ولا آلو. لم يتكلم على القياس ولا على الاستحسان ولا حتى على الاجماع رغم أنها جميعا مضمرة في “أجتهد رأيي”.
كيف هي مضمرة؟
هي مضمرة وإلا لما اختاره الرسول للقضاء. فلا بد أن الرسول قد اختاره لعلمه بأنه فضلا عن حيازة العلم الكافي للتسليم بجوابيه الأولين (أقضي بكلام الله وبسنة رسوله) حاصل على ما يؤهله لهذه الوظائف الثلاث المضمرة:
القياس
الاستحسان
الاجماع بمعنى تمثيل رأي الجماعة.
رأي الجماعة هو ما تجمع عليه بأنه المعروف والمنكر ومن ثم فهي مصدر تشريع بهذا المعنى: ومعنى ذلك أن قاضي الرسول كان داريا بما تجمع عليه الجماعة من معروف ومنكر وهو حينها ما كان يسمى “ما تجمع عليه صحابة رسول الله” أو كل من ربي على سنته من الأمة الناشئة.
فإذا اعتبرنا هذه العناصر وجدنا مراحل تكوينية الفقه وتأصيله:
منطلق أبي حنيفة (وفيها العلاقة مباشرة بين المرجعية القرآنية واجتهاد الرأي)
منطلق مالك بن انس (إضافة المرجعية الثانية)
منطلق احمد بن حنبل (اكتمال المرجعية الثانية)
منطلق الشافعي (تأسيس علم الأصول).
فتكون المراحل:
أبو حنيفة: قرآن + رأي (دور الحديث قليل) والمضمر هو أخلاق الجماعة (المعروف والمنكر) والعلم بالمرجعية وصفات الحَكم الأمين والعادل). وذلك هو جواب قاضي الرسول. وما يبدو غيابا للحديث هو في الحقيقة حضور حي في أخلاق الجماعة متعينة الأحداث.
والمرحلة الثانية: مالك بن أنس: قرآن + مزيد من الحديث + حضور صريح وليس مضمرا لأخلاق الجماعة أو لإجماعها باعتبارها هي بدورها مصدر تشريع. وهو كذلك جواب قاضي الرسول. ومع ذلك بقيت مدونة النصوص قليلة وهو ما سيلجئ الفقهاء إلى الشرط الموضوعي للقضاء الأمين والعادل أي مدونة النصوص.
وتلك هي المرحلة الثالثة: احمد بن حنبل: كل ما تقدم مع التركيز على أهمية الحديث أي المدونة النصية التي تحد من الحكم بمجرد الرأي وتعيدنا إلى الحكم بالمرجعية وبأفضل الأحكام القضائية السابقة لأنها منسوبة إلى الرسول نفسه بوصفه قاضيا اساسا. (اقتصر على القضاء ولا أنشعل الآن بالإفتاء)
والجمع يعمل الفرق بين القضاء والافتاء: فالقضاء يقضي بين نزاع بين شخصين فأكثر. والافتاء يقضي في نزاع ضمير حول فعل إما فردي أو جماعي ويكون التردد فيه متعلقا بوصف الفعل وتكييفه شرعيا). وذلك هو جوهر الفرق بين الفقه والقانون الوضعي. فالقانون الوضعي ليس له هذه الوظيفة الثانية.
وحاصل القول إن المرحلة الرابعة-الشافعي-هي التي حاولت أن تستخرج من هذه التجارب الثلاث فلسفة الشريعة أو أصول الشريعة في كتاب الرسالة وعليها بني مذهبه وجمعه بين منجزات المراحل الثلاث السابقة مع إضافة ما خلت منه. فالنظرية الجامعة جعلت صاحب “اجتهد رأيي ولا آلو” يألو بشروط الاجتهاد.
لكن الغاية (التأسيس النظري لأصول الفقه في الرسالة) التي انتهت إليها هذه المراحل الثلاث (أبو حنيفة ومالك واحمد) تفترض مرحلتين متقدمتين عليها:
الرسول وينطلق من القرآن
الخلفاء الراشدون ينطلقون من القرآن ومنه وسطيا بينهم وبين القرآن وكأنهم في وضعية قاضي النبي كقضاة (الفارق مثلا)
وهنا تتعقد القضية: فالقرآن يجمع بين المرجعية التشريعية المرجعية القضائية. والسنة كذلك. والخلفاء الراشدون ليس لهم وظيفة تشريعية بل يقتصرون على بعدي الوظيفة القضائية: القضاء والافتاء وفي مجالين أكبر (الوصل بين العقيدة والشريعة) وأصغر (الوصل بين الشريعة والنوازل العقدية والشرعية).
والوصلان هما موضوع الفقه الاكبر بمعنى الوصل بين العقيدة والشريعة والوصل بين الشريعة والنوازل المتعلقة بالوصل الاول أي ما يناظر مدى مطابقة القانون لأساسه الدستوري (في القرآن والسنة) ولكن ليس بالمعنى القانوني فحسب بل بالمعنى العقدي كذلك. ولا علاقة للفقه الأكبر بعلم الكلام.
وكون القرآن والسنة جامعا كل منهما بين التشريعين الأكبر والأصغر يجعل حضورهما المرجعي للقانون عسير التحديد بمجرد المقارنة مع القانون الوضعي: إلا إذا وضعنا بديلا من التشريع الإلهي والنبوي التشريع الطبيعي والتاريخي أو ما ينسب إلى طبيعة الإنسان وإلى تاريخه السياسي.
وذلك ممكن شكلا إذا أردنا أن نفهم وحدة البينة بصرف النظر عن العناصر التي تتعين فيها البنية: فالقرآن تشريع قانوني دستوري وتشريع قانوني عادي. وكل مفت أو قاض وإن لم يكن واعيا بذلك يعمل بمقتضاه تماما كما يعمل أي قاض في القانون الوضعي بالقانون الدستوري والقانون العادي.
فبوسع أي قاض بالقانون الوضعي أن يرفض تطبيق قانون عادي إذا تبين له أنه معارض أو مناف لأحد مبادئ القانون الدستوري في دستور البلد الذي هو مطالب بتطبيق قوانينه في نوازل أهله فيكون القاضي دائما بالقوة جامعا بين القضاءين العادي والدستوري على الأقل في شكل الاعتراض على القانون العادي.
أعلم أن ذلك نادر الحصول وأن ذلك من مهام القضاء الدستوري. لكن القضاء الدستوري لا يتحرك إلا بطلب من سلطة إما قاعدية أو فوقية. والقاعدية عندنا هي الحسبة. والفوقية عندنا هي الفقهاء والقضاة منهم على وجه الخصوص فتشغيل القضاء الدستوري مصدره أخلاق الجماعة وحماتها: الجماعة والعلماء.
لكن الفقه الأكبر خرج من انشغال أصول الفقه بوصفه أحد عناصر موضوعه المباشر ولم يبق له دور إلا بهذا المعنى المضمر. والعلة بينة: التشريع منسوب إلى الله أو إلى النبي ولا يمكن الكلام على تناقض بينه وبين القرآن لأنه منه. والخلافات تتعلق بتأويل المصدرين وبالنقلة من “لا آلو” إلى “آلو”.
علينا إذن أن ندرس هذه النقلة من “أجتهد رأيي ولا آلو” إلى “أجتهد رأيي وآلو” أو من الاجتهاد النابع من أخلاق الجماعة وفكرها المطابقين لمعاييرها دون انفصام بين النظر والعمل (بفضل التربية النبوية) قبل التنظير إلى التنظير الأصولي الذي ساوق الانفصام بينهما وباتت المعايير موضوع خلاف.
وحتى نفهم القصد: فهذا الفصام حصل كذلك في اللغة. فالذي يتعلم لغته القومية مستغن عن النحو لكن البلوغ إلى الاتقان فيها يقتضي العودة على مهارته اللسانية ليعلم قوانينها فيصبح مقوما للسانه بعلمه. والدافع الثاني في الفقه هو التباعد بين الممارسة والمعايير القانونية والخلقية.
يمكن القول إذن أن كل تاريخ الفقه هو محاولة الحد من “اجتهد رأيي ولا آلو” أو محاولة تأسيس حل معضلة التشريع التي هي دائما علاقة النصوص القانونية المتناهية بالنوازل اللامتناهية وسعيها الدائم للوصل بين هذين الحدين وصلا لا يتناهى. فمهما أضفنا إلى والنسبة تبقى لامتناهية.
وفرضيتي النظرية هي أن نظرية المقاصد حتى لو سلمنا بها لن تمكن من تحقيق الحل لأنه أولا مستحيل ولأن حلها لن يكون مقبولا إلا بشرطين يجعلان الدين مجرد خدعة وظيفتها التغطية على الرؤية الباطنية للدين: مجرد إيديولوجيا للعامة تضفي الشرعية على إرادة المتحيلين باسم الدين.
وذلك هو جوهر التحريف الذي يتكلم عليه القرآن. وطبعا فأنا أنزه كل المنظرين للمقاصد من إمام الحرمين إلى الشاطبي وخاصة الصديق أحمد الريسوني-ودليلي كتابه مقاصد المقاصد الذي يحاول فيه منع هذا المآل الممكن وخاصة عندما تصبح الأحزاب الدينية حاكمة فتبرر كل شيء بما يسمونه إكراهات الواقع.
مفهوم “فقه الواقع” و”إكراهات الواقع” و”الفقه ابن زمانه” و “حيثما وجدت المصلحة كان الدين” كل هذه العبارات هي من التعليلات الصريحة لهذا الوصل بين التشريع والقانون وما يراد بهما ليكونا مجرد أداة إيديولوجية طيعة بيد من يتعلل بها ليضفي الشرعية على ما ليس له منها إلا شكلها اللفظي.
ولأعين بصورة جامعة مانعة توظيفات نظرية المقاصد في الجدل الحالي بدعوى المد في عمر الفقه بحلول زائفة منطلقها تعريف خاطئ للفقه ووظائفه. فالمقاصد تهدف إما إلى تعديل الأحكام التي يظن أنها لا تتفق مع العصر أي تغيير الموجود أو لسد حاجات لا وجود لما تسدها الشريعة أي لإيجاد المعدوم.
وتعديل الموجود من حدود الله وأحكامه أو حتى تعطيله يوجد عند العلماني والإسلامي: وغالبا ما ينافق الأول مدعيا حماية الدين وتحديثه والثاني يكون عادة في موقف دفاع فيفعل مثله دون سوء نيته. لكن عندما يصبح الإسلامي حاكما فإنه ليس من المستبعد أن يصبح مثل العلماني داعيا لتعديل الموجود.
أما إيجاد المعدوم فله نوعان يشبه ما كان يزاد بالقياس أو بالاستحسان إلخ.. أو بالمقاصد نفسها وهي تمد الفقهاء بفسحة أكبر في هذه الزيادة باسم التكيف مع التطور. وطبعا كل هذه المطالب مشروعة ولست ضد تطوير التشريع سماويا كان أو وضعيا. لكنه في الحالتين مبني على أسس خاطئة.
وينتج هذا التعديل للموجود باسم التحديث أو فقه الواقع أو الاكراهات إلخ.. وكذلك إيجاد المعدوم بنفس التبريرات عن موقف باطني غير واع حصل بالتدريج لما أصبح التشريع وسيلة من وسائل اضفاء الشرعية على ما ليس بشرعي توظيفا للدين في السياسة حتى في الأنظمة التي تدعي العلمانية.
والنتيجة أربعة:
تعديل الموجود
إيجاد المعدوم
الموقف الباطني باسم التحديث وفقه الواقع
التطابق مع الموقف الشيعي الذي يجعل الديني غطاء للسياسي عامة وبدلا من أن يكون الدين تحريريا وتنويريا يتحول إلى النقيض التام من ذلك. وهذا الاستغلال من نفس الطبيعة في الوهابية والتشيع.
ولست أعمم على أفراد الفقهاء بل كلامي يتصل بجلهم وخاصة بمن كان منهم في خدمة الأنظمة وهم الأغلبية حتى في البلاد التي يحكمها العسكر لأن الأمر ليس مقصورا على البلاد التي تحكمها تقاليد القبيلة أو العسكر بغطاء ديني للاستهلاك المحلي وحداثي للخارج.
وغالب الثرثرة حول الوسطية هي من هذا النوع. ذلك أنه لا توسط يمكن أن يغطي على الاستعمال الأيديولوجي للعقائد أو للعلوم حتى وإن اختلفت معايير التمييز بين الصدق والكذب في نوعي العقد الإيماني والعقد العلمي. الفرق الوحيد يكمن في يسر تبين ذلك في العلم عسره في الإيمان.
وما جعلني أستأنف الكلام في المسألة بعد حواري مع الشيخ البوطي هو أن استغلال نظرية المقاصد لتعديل الموجود وإيجاد المعدوم في الشرع لم يعد ذا دينامية عادية تنبع من الداخل بل هو صار مفروضا من الخارج كما يتبين من تدخل الغرب عامة وأمريكا خاصة في برامج تعليم المسلمين وعقائدهم وعبادتهم.
وتبرير هذا التدخل يحتاج إلى نظرية المقاصد أكثر من الحاجة الذاتية لأصول الفقه كما وضعها إمام الحرمين أو الغزالي أو كما نسقها ونظمها الشاطبي أو بالطريقة التي يحاول الشيخ الريسوني احاطتها بحروز تحول دون ما وصفت من انفلات يؤدي إلى جعل الفكر السني يصبح باطنيا.
قد يتصور العجلى أني ضد التطور الفقهي والقانوني. لكن الحقيقة هي أن المقاصد لا تطور الفقه بل تلغيه إذا ذهبنا بها إلى الغاية. وهي لا بد ذاهبة إلى الغاية. فهي تيسر التحيل الفقهي وتبرر كل شيء بالمقاصد خاصة إذا كان مستعملها ليس حريصا على ما من دونه يفقد التشريع شروط الشرعية.
فبصرف النظر عن المرجعية التي يستند إليها القانون-شرعيا كان أو وضعيا-يؤول الأمر قلب العلاقة بينها وبين السياسي الذي يوظفه لموقف إيديولوجي يدعي صاحبه تحديد مقاصد الشارع بمقتضى المصلحة إما بوهم معرفة مقاصد الله من التشريع (الشرعي) أو مقاصد الطبيعة (الوضعي) منه.
وسأقتصر على المقاصدية الشرعية لكن نظيرتها الوضعية ممكنة ولا فرق بينهما إلا بطبيعة المرجعية أو الأسس التي ينبني عليها شرعية الأمر والنهي القانونيين أو التعبير عن الإرادة التشريعية التي تتبناها جماعة من الجماعات. وسرعان ما ينقلب المقصد إلى مجال التقنين بدل وظيفته وشروط تحقيقها.
فمثلا عندما يحدد المقاصديون المقاصد الضرورية (خمسة أو أكثر وهو أمر ناقشناه في الحوار مع المرحوم البوطي) سرعان ما يهملون الأصل الجامع -فعل الحماية-ويمرون مباشرة المقاصد التي هي المجالات او ألموضوعات المحمية: حماية كذا.. يتكلمون في “كذا” وينسون “حماية”.
فعندما أقول “حماية” العقل مثلا مقصدا يضعون تحته منع المخدرات مثلا تكون الحماية فعلا سلبيا قد ينتهي إلى مفهوم سد الذرائع أو فعلا إيجابيا قد ينتهي إلى فتحها ويهملون بما مقتضاه يكون القانون الموضوع حائزا على تأسيس يتجاوز تحكم فهمهم لإرادة المشرع إلاهيا كان أو إنسانيا.
وبهذه الصورة يصبح فعل “حمى” غير محدد وشروط التعبير عن الإرادة الإلهية أو الإنسانية في التشريع غير محددة بل كلاهما مسلم تحدد تحديد طبيعته أو شروط أداء وظيفته وقيم الأداء فضلا عن كون الفقيه مفتيا أو قاضيا يصبح حائزا وإن إضمارا على وظيفتي التشريع والقضاء.
وينتقل القاضي من وظيفة الوصل بين سلطتي التشريع والتنفيذ بالحكم الذي ينزل التشريع بالوصل بين نص وحدث لوصفه القانوني -وهي عملية فنية خالصة-تقتضي الحصول على ثلاث مهارات (مهارة فهم النص الواصف للأفعال التي يتعلق بها وفهم الأحداث الموصوفة والوصل بين الواصف والموصوف): ولهذا الفعل حد.
فالوصل بين نص القانون الواصف والحدث الموصوف إدراج لجزئي وجودي (الحدث) في كلي معياري يعبر عن إرادة الشارع إلهيا كان أو إنسانيا. وإذن فهو فعل ذو بعدين: تقنيا هو إدراج لجزئي تحت كلي. ومعرفيا هو إدراج لجزئي إرادي تحت تعيير إرادي: وهو إذن من مجال معرفي تقينا لكن حقيقته تقييمية.
ومن ثم فمجرد العلم بالنصوص والعلم بالنوازل حتى لو فرضناهما حاصلين لا يكفيان ليكون المرء فقيها سواء كان بمعنى القضاء أو بمعنى الإفتاء. فلا بد من شرعية تؤسس لأداء هاتين الوظيفتين اللتين لا تتعلقان بمجرد المعرفة بل بالجمع بين نظام التعيير في الجماعة وشروط تطبيقه في الأعيان.
وهذا ينتسب إلى سلطتين تحيطان بالقضاء هما سلطة التشريع وسلطة التنفيذ لأن القاضي يصل بين السلطتين دون أن يكون سلطة من جنسهما بل هو سلطة معرفية في نظام التعيير الذي تبنته الجماعة (شرعيا كان أو وضعيا لا يهم) معين من نظام سياسي شرعي بمقتضى ذلك النظام الذي تبنته الجماعة.
وإذن فالقاضي والمفتي كلاهما وسيط “معرفي” في النظام التقييمي للأفعال بإدراج أعيان الاحداث في كليات المعايير ليتم الانتقال من الحكم التعييري إلى الفعل التنفيذي دون أن يكون له دور في وضع نظام التعيير النصي وفي نظام تنفيذه الفعلي. فهو مدين لسلطة التشريع بالنص ولسلطة التنفيذ بإنفاذه.
فيكون فعله الواصل بين كليات النص القانوني المعيرة للأفعال وأعيان الافعال في الوجود مشروطا بنوعين من الشروط: طبيعة علمه وشرعية وظيفته. وشرعية وظيفته مضاعفة: شرعية يمكن وصفها بالسياسية وشرعية يمكن وصفها بالخلقية. والأولى هي شرعية المعبر عن إرادة الشارع والثانية عن أخلاق القاضي.
وما نقوله عن القاضي نقوله عن المؤصل للفقه أو للقانون: ذلك أن للقانون أو الفقه ثلاث مستويات: التنظير والتشريع والقضاء (والافتاء الذي هو قضاء في مسائل الضمير الديني بوصفها نزاعا ذاتيا بين المرء ونفسه سواء كان فردا عاديا أو حاكما لدولة خلال التردد في وصف شرعي لما ينوي القيام به).
والتنظير في الشرائع غير التنظير في الطبائع وهو الأمر الذي يغفله القائلون بالتحسين والتقبيح لظنهم أن الأحكام المعيارية من جنس الأحكام العلمية خلطا بين الوجودي (الأنطولوجي) والقيمي (الأكسيولوجي) من الاحكام. لا بد من التمييز بين صفات الشيء الذاتية ووصفه المعياري في أنظمة التشريع.
والقائلون بالتحسين والتقبيح العقليين لا يميزون بينهما فيعتبرون الوصف المعياري في الشرائع من جنس الوصف المحايد في الطبائع من نفس الجنس. لذلك فهم يعتقدون أن العلم بالصفات وحده كافيا ولا يرون أصل دور “المعيار”: فأنظمة التشريع ليست علما بالطبائع بل هي عمل بنظام تعيير للأفعال الحرة.
الشرائع لا تنطبق على الطبائع من حيث هي طبائع بل على نظام معين من القيم التي تبنتها جماعة لتكون مرجعية قيمية تعير بمقتضاها أفعال الإنسان الحرة لا المضطرة. فالضرورة القانونية في الشرائع غير الضرورة القانونية في الطبائع. هذه يكفي فيها العلم وتلك لا بد فيها كذلك من شرعية للحكم فيها.
وشرعية من يقضي فيها مستمدة من شرعية من له شرعية تفويضه في القضاء باسم تلك الشرعية. وهنا نأتي إلى تحديد مفهوم “حماية” ومفهوم “كذا” ومفهوم “تعيير” قانوني ليتم الجمع بين الشروط الضرورية لوظيفة القاضي: أن يعلم نظام التعيير وأن يعلم نظام الاحداث بمقتضاه وأن يكون مفوضا لأداء هذا الدور.
والتفويض لهذا الدور يستمد شرعيته من أمرين:
من شرعية من له شرعية التفويض بمقتضى ذلك النظام التقييمي في تلك الجماعة.
والشروط الخلقية التي يحددها ذلك النظام في أهلية من يتولى تلك الوظيفة وهي بالإضافة إلى ما ذكرنا قيمتان خلقيتان حددهما القرآن: الأمانة والعدل.
لذلك فالكلام على المقاصد لتعديل الموجود من نظام التشريع الخاص بجماعة من الجماعات أو لتوسيعه بإيجاد المعدوم فيه ليس كلاما متعلقا بمستوى فعل التنظير ولا بمستوى فعل التشريع ولا بمستوى فعل القضاء والافتاء أي المستويات الثلاثة وكأنها من جنس فعل النظر المجرد والعلم والتطبيق.
فالأفعال الثلاثة في المجال الأكسيولوجي غيرها في المجال الابستيمولوجي. لا بد من هذا في ذاك. ولعل هذا نفسه مشروط بآخر شروط ذاك أي الأخلاق. إنها علاقة الفلسفة العملية بالفلسفة النظرية: فمن يقول بالتحسين والتقبيح يلغي الفرق بين الوجودي (مجال الابستمولوجيا) والقيمي (مجال الأكسيولوجيا).
ولولا هذه القضية الفلسفية لما تدخلت في القضية الفقهية. فلست فقيها ولست عالم دين. لذلك فقد حرصت على عدم إدخال الحجج النقلية وهي كثيرة وكلها تؤيد الفلسفي إذا طبقنا ما يأمر به القرآن (فصلت 53) وما ينهى عنه (آل عمران 7) بخصوص مجال علم الإنسان وحدوده إبستيمولوجيا.
إن مجرد العلم بهذه الشروط والمقدمات يجعل كلام أدعياء الحداثة والأصالة على حد سواء في مسألة المقاصد ذا صلة بالحرب على السنة والحديث. ذلك أنهم يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين سرا أو علانية خلطا بين الطبائع والشرائع وبين قانون الضرورة في الأولى وقانون الحرية في الثانية.
فحتى لو كان الحديث كله موضوعا-وهو أمر لا يصدقه عقل-فإنه يبقى أكبر دليل على أن ابن حنبل كان أدرى الفقهاء بطبيعة علوم الشرائع: فهي ليست علما لطبائع الأشياء وليس تنكرا لهذا العلم لكنها عمل بنظام تعيير تبنته جماعة أو وضعته لتنظم بها حياتها المعيارية التي تعدل من حياتها الطبيعية.
والحديث حتى لو سلمنا جدلا بأن الكثير منه منتحل دليل على أن بناء القضاء والافتاء أي التعيير المقبول من الجماعة بوصفه المعروف والمنكر عندها أعني القيم التي تعتقد حقا أو ظنا أنها تمثل ما كان يمكن أن يكون حكم الرسول فيها هو المرجعية الثانية بعد الأصل المؤسس لرؤيتها للوجود والتاريخ.
فيكون ابن حنبل قد استكمل شروط النظام الذي يمثل المرجعية القيمية للجماعة بوصفها ما تعتبره ممثلا لفهمها للأصل القرآني باعتبارها ترجع كل أحكامها إلى ما تنسبه إلى المعبر عن الإرادة في مرجعيتها الأصلية أو القرآن لكأن القرآن هو الدستور والسنة هي القانون عامه وخاصه مطبقا في التاريخ.
والقول إن ابن حنبل استكمل شروط النظام الذي يمثل المرجعية يعني الإيذان بنهاية العصر الأول من الفقه وبداية عصر ثان. ولهذا العصر الأول خمس مراحل هي:
مرحلة الفقه النبوي
مرحلة الفقه الراشدين
مرحلة فقه جيل التابعين الأول بعد الراشدين
المرحلة الأولى من تكون المذاهب الفقيه
وهذه المرحلة الأولى من تكون المذاهب تتكون من محاولة أبي حنيفة ومالك ابن أنس. والأول يكاد يقتصر على القرآن والرأي. ويمكن القول إن الثاني صاغ بصورة شبه تامة مقومات أي فقه أو أي قانون حقيقي لا يكتفي بمرجعية الجماعة الأولى بل يعتمد على مقومات أي قانون وضعيا كان أو شرعيا.
وبهذا المعنى ففقه أبي حنيفة على منزلة الرجل ليس إلا بداية الإدراك بأن القانون أو الوازع الأجنبي بلغة ابن خلدون لم يعد معتمدا على الوازع الذاتي بعد نهاية عصر التابعين الأول وأن الحاجة إلى صوغ قواعد نظام فقهي يعتمد على المرجعية الأولى خاصة واجتهاد الرأي أي “ولا آلو”.
وهو ما يعني أن المصدر الثاني (الحديث) والثالث أي اخلاق التابعين وعاداتهم (المعروف والمنكر كما تعينا في عصر الرسول). وهذا ما أضافه مالك الذي يمكن القول إن مصادر الفقه كلها قد اجتمعت لديه ويمكن اعتباره بلغ تمام المصادر لو لم يكن علم الحديث منقوصا.
وبين أن علم الحديث لا يمكن أن يكتمل لأنه في الحقيقة الوجه الثاني من الرسالة المنزلة: فأصحه هو تعليمها النبوي وبقية درجات الصحة دالة على ما بقي منه في أذهان الأمة من آثاره المحددة للمعروف والمنكر كما عرف من تربية الجماعة وأخلاقها بوصفها الجيل الذي عاصر الرسول (الصحابة) والتابعين.
أو لأقل بصورة واضحة: أن الحديث ليس مجرد مدونة من الأقوال بل هو مجموعة الأحكام التي كان الصحابة والتابعون يعتمدونه من قواعد ومبادئ يربون بها أبناءهم وبناتهم ويعملون بها في حياتهم باعتباره فقه الرسول نفسه الذي نزل القرآن في التاريخ الفعلي محددا للمعروف والمنكر أي أخلاق الجماعة.
والوعي بهذا التعريف كان شبه تام في فقه مالك لكن الوعي لا يكون تاما ما لم يصبح موضوعه مطلوبا لذاته بصورتين: الأولى تأسيسه كعلم والثانية تنزيله في نظرية تامة للفقه. وهذا هو دور المرحلة الخامسة والأخيرة من عصر الفقه الأول وتتضمن المذهبين الثانيين: ابن حنبل والشافعي.
والوعي بهذا التعريف كان شبه تام في فقه مالك لكن الوعي لا يكون تاما ما لم يصبح موضوعه مطلوبا لذاته بصورتين: الأولى تأسيسه كعلم والثانية تنزيله في نظرية تامة للفقه. وهذا هو دور المرحلة الخامسة والأخيرة من عصر الفقه الأول وتتضمن المذهبين الثانيين: ابن حنبل والشافعي.
فابن حنبل جعل الحديث مطلوبا لذاته وركنا ركينا من الفقه والشافعي وجد كل المقومات جاهزة فكان دوره وضع النظرية أو التأصيل النظري الأول للفقه بكل مقوماته. ويمكن القول إن كل ما أتى بعده إلى أن صيغت نظرية المقاصد شروحا للرسالة وتجويدا للمقومات واساليب الفقه وليس تنظيرا يعتد به.
وإذن فالعصر الثاني لم يتجاوز الفقه العصر الأول من بناء نظرية الفقه رغم أنه هو بدوره مر بخمس مراحل بدأت ترى التأسيس الثاني الذي أنسبه إلى ابن خلدون والذي حرر علوم الملة كلها من الخطأين اللذين حرفاها: قلب فصلت 53 والجرأة على آل عمران 7 فيها جميعا بما في ذلك الفقه.
وغاية هذين الخطأين نظرية المقاصد رغم أن الكثير يعتبر ابن خلدون قائلا بها لأنه يبرز وجه شبه بين عمله وبينها ويفسر بها علل صعود الحضارات وسقوطها خاصة. لكن ذلك كما سنبين من جنس استعماله مصطلح أرسطو بدلالات لا علاقة لها بعلم أرسطو. إنه استعمال للغة عصره بدلالات جديدة.
ونهاية العصر الثاني من الفقه وأصوله كانت غاية نظرية المقاصد أي الشاطبي وبداية العصر الثالث هي نظرية ابن خلدون التي جمعت بين الوزعين اللذين يجمع بينهما الفقه ومقومه الأول الوزع الذاتي ومنه تستمد شرعيته ومقومه الثاني الوزع الأجنبي أو الأحكام السلطانية التي تمثل شوكته.
لذلك كان الفقه مشروطا برؤية للحكم والتربية تختلف تماما عما كان حاصلا في الجماعة منذ أن حصل قلب العلاقة بين هذين العاملين فأصبحت الشوكة مقدمة على الشرعية بداية من الفتنة الكبرى والحروب الأهلية التي تلتها فعطل الدستور وأصبحت الامة في حالة طوارئ منذئذ إلى الآن.
فالشورى 38 تعتبر الأمر أمر الذين استجابوا لربهم (طبيعة النظام) وتعتبر إدارته بشوراهم (أسلوب الحكم) فيكون فهم التشريع المنزل أو وضعه عامة أو فيما ليس فيه تنزيل فعلا يرد إليهم لعلاج ما يحصل بينهم من حاجة إلى تحكيم وضربت مثال الانفاق من الرزق الذي هو علة النزاع الأول في اي جماعة.
والفرق بين القانون والفقه هو عامل الوزع الذاتي الذي هو شرط مقوم في الثاني وغير مقوم في الأول. لذلك كان القانون يردع ويجازي سلبا فحسب وكان الفقه يردع ويجازي إيجابا بمعنى أن فيه بعد الحسنات وليس السيئات فحسب. وطبعا عدم فهم هذا الوجه جعل الجزاء الموجب أخرويا وليس دنيويا أيضا.
والغريب أن القانون بدأ يحقق الجزاء للحسنات في الدنيا بعنوان تشجيع المبادرات الخيرة التي يقوم بها المواطنون في الإنتاجين المادي (الاقتصاد) والرمزي (العلوم) المشروطين في تحقيق شروط العمران والاجتماع وعلة تأخير الفقه في هذا الوجه تأصيل الفقه حصر في شكلياته المنطقية.
وتلك هي علة عدم تجاوز العصر الثاني العصر الأول الذي كان ضروريا كبداية وكان ينبغي تجاوز البداية إلى ما توصل إليه ابن خلدون من اعادة ترتيب ما تقتضيه فصلت 53 والتركيز على العمل بآل عمران 7 بمعنى النهي عن دعوى علم الغيب الذي يترتب على عطف فعل الراسخين على ما هو محصور في علم الله.
وتلك هي علة اعتراضي الأول على المقاصد: فمقاصد الشريعة يعني مقاصد الله. ومقاصده من الغيب وهو قد نهى عن تأويل المتشابه (آل عمران 7) وبين الطريق إلى معرفة حقيقة القرآن (فصلت 53) فاعتبر العلم الإنساني بما في القرآن من حقائق لا يرى في القرآن بل في آيات الله في الآفاق والأنفس.
وذلك ما فعل ابن خلدون: درس آيات الله في الآفاق والأنفس ليحدد علم العمران البشري والاجتماع الإنساني فيفهم شروط انتظامهما وضبطهما وبين أنها مطابقة لما حدد القرآن مبادئه التي تعود إلى المحكم فيه فتغني عن الخوض في المتشابه الذي هو دليل مرض القلوب وابتغاء الفتنة.
ما المراحل التي تحدد في العصر الثاني من الفقه وأصوله؟
خمس مراحل متعلقة بالعلوم الأدوات التي يحتاجها الأصولي ويمكن القول إن الإجماع حاصل على أن المرحلة الأولى استوفت البحث في الغايات. وهذه العلوم الأدوات هي:
علم الحديث
وعلم اللغة
وعلم المنطق
علم التفسير
والغاية المقاصد.
وكل هذه المقومات حاضرة في كل المراحل لكن بروز دورها ليست متساوقا بل هو متوال في الزمان: فالحديث أولا واللغة ثانيا والمنطق ثالثا والتفسير رابعا وغاية المرحلة كانت صوغ الشاطبي لنظرية المقاصد نسقيا رغم أنها ظهرت مع بروز دور التبني الضمني لنظرية أرسطو (مع الجويني والغزالي).
ويمكن القول-وهذا من المفارقات-أن تبني نظرية أرسطو وأفلاطون في القانون-سابقة لأنها هي أساس الموقف الظاهري لابن حزم: فهو يرفض كل محاولات القياس على ظاهر النص القرآني وكل ما عدا المنصوص عنه ينتسب إلى تشريع يمكن اعتباره وضعيا لأنه لم يكن غافلا عن محدودية ظاهر النصوص في تنظيم الحياة.
فما يخرج عن ظاهر النصوص غير محدود في حين أن ما يشمله قليل جدا. فيكون التشريع لما لا تشمله النصوص مجال التشريع الوضعي بلغتنا الحديثة ولا يمكن قيسه على مجال التشريع المنزل وهو الوحيد الثابت والمقدس وغير القابل للقيس عليه إلا إذا توهم الفقيه ما نهت عنه آل عمران 7.
وهذا التنظيم الثاني للوزع الخارجي بالقانون ليس وضعيا بالمعنى الحديث أعني أنه ليس مشروطا بنفي التشريع المنزل بل هو مطلوبه وشرطه عدم القول بمقاصد الشريعة التي إن قلنا بها فينبغي القول بأنها من الغيب الذي لا يعمله إلا الله ككل التكاليف. فلسنا نعلم من قصد الله إلا أنه خلقنا لعبادته.
وعبادته -الجنس والإنس-هي حقيقتنا التي يرينها في الآفاق والأنفس: أي استعمارنا في الأرض امتحانا لأهلية الاستخلاف التي وضع شروطها في فطره لنا بأن جعلنا أحرارا مكلفين بتعمير الأرض بقيم محددة بوضوح في القرآن ومشروطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حدا لحقيقة الإنسان المؤمن.
وقد حدد القرآن ذلك إنشاء (آل عمران 104) وخبرا (آل عمران110) وجعل الحد الأول شرطا والثاني جواب شرط: إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر كنا خير أمة أخرجت للناس. وهذا هو موضوع الفقه وتأصيله القرآني بمعنى أن موضوع الفقه هو عين التربية التي تحقق الغاية من الخلق وتعرفها: العبادة.
وهي تعرفها بكونها استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف. وهذا التعريف لا يجعل الفقه متحددا بالمقاصد التي لا يعلمها إلا الله بل بحقيقة الإنسان فردا وجماعة من حيث هو عابد لله بمقومات العبادة أو الإيمان كما حددتها البقرة 177.وفيها حقيقة علم الفقه ومنطلق تأصيله الوجودي.
أما حصر التأصيل في العلوم المساعدة التي تمكن من استخراج القوانين من النصوص فهي مهمة ثانوية وتقنية تتقدم بتقدم العلوم المساعدة ولا تعتبر من المقومات الجوهرية للفقه وتأصيله. وهذا هو جوهر الخلاف بين الشيخ البوطي رحمه الله وبيني. وهو كذلك علة رفضي لنظرية المقاصد.
العصر الثاني من الفقه وأصوله يتعلق بعلوم الآلة وليس بجوهر الفقه وتأصيله. فعلم الحديث وعلم اللغة وعلم المنطق وعلم التفسير ونظرية المقاصد كلها آلية وليست جوهرية للفقه وأصوله. ومعنى ذلك أن هذه الأعمال مهمة دون شك لكنها من شكليات الفقه وأصوله وليس من جوهره.
وجوهر الفقه وأصوله لا يمكن أن يعلما من دون العودة إلى ما أمرت به فصلت 53 ونهت عنه آل عمران 7 وهو ما يمكن نسبته إلى ابن خلدون في العمل (مجال الكلام في الفقه وأصوله). وما كان لثورة ابن خلدون في نظرية العمل أن تتحقق لو لم يسبقها ثورة في النظر أنسبها إلى ابن تيمية.
أبدأ الفصل الرابع من الشكوك بشرح كلمة شكوك. هي مصطلح استعمله الفلاسفة والعلوم النابعة منها مثل الشكوك على بطليموس للتعبير عن مفهوم يوناني شهير هو “ابوريا” ويعني الطريق المسدودة. فـ”أ” علامة النفي “وبرويا” النفاذ أو الممر. والمعنى المؤلف منهما يعني طريق العلاج النظري المسدودة.
في مقالة الدال من ما بعد الطبيعة عالج ارسطو 14 شكا أو ابوريا ليؤسس “علم” الميتافيزيقا. وما أحاوله هنا يماثل ما حاوله أرسطو لتأسيس ما بعد الطبيعة. مسعاي هو تأسيس ما بعد الفقه معتبرا ما فعله الشافعي تأسيسا يوحد بين المصادر ويبين كيفية استعمالها أصلا لهذا العلم.
ولما كان العصر الثاني لم يتجاوز هذا الفهم واكتفى بتجويده بتجويد علوم الآلة أي الحديث واللغة والمنطق والتفسير وتوقف عند المقاصد طريقا مسدودة كان من الواجب جعل الطريق سالكة بالعودة إلى ما لم يتحقق في محاولة الشافعي التي اقتصرت على توحيد المصادر كمعين للأحكام والحاجة إلى هذه الآلات.
ولكن ذلك كان بقلب فصلت 53 وإن بإضمار بالجرأة على آل عمران 7 جرأة لم تتبين إلا عندما أصبح مفهوم المقاصد سائدا: مقاصد الشرع ينطبق عليها آل عمران 7. شرطها أن يعتبر الراسخون في العلم قادرين على تأويل المتشابه واعتبار الـ”و” في الآية عطفية وليست استئنافية.
حل الشكوك أو الطرق المسدودة في الفقه وتأصيله جزء مقوم من نظرية الدولة في الإسلام: من دون بيان مفهوم الشرعية الفقهية لا يمكن تأصيل الفقه. وبلغة وضعية: لا يمكن تأسيس القانون من دون تحديد مفهوم الشرعية التي يستمد منها قوته الإلزامية. وهو ما يقرب من مفهوم السياسة الشرعية التيمية.
وكل مشكل الفقه أن الفقهاء تصوروا ان الفقه ممكن من دون السياسة الشرعية. ولأنه من دونها صار زجريا وليس تربية بالأساس في إطار السياسة الشرعية. ومعنى ذلك أن الفقه كله وتأصيله هو فقه حالة الطوارئ التي تلت تعطيل الدستور بلغة حديثة تحول إلى وازع أجني بإطلاق وفقد بعد الوزع الذاتي.
أزمة الفقه انعكست إلى تأصيله الذي اقتصر على شكليات التأصيل أو بصورة أدق على علوم الآلة فيه بدلا من جوهره كما تحدد في العصر الأول دون أن يطلب حقيقته لأنه اقتصر على كون الأصل هو معين الأحكام وليس ما يصبحه من طبيعة الشرعية التي تعود إلى وظيفته في نظرية السياسة الشرعية دون سواها.
ومعنى ذلك أن الفقه وتأصيله يعودان إلى وظيفة القضاء بمعنييه (حكما قضائيا وافتائيا) في نظام سياسي خاضع لشروط الشرعية في نظرية القرآن التي تعني بعدي السياسة: التربية والحكم على أساس الحريتين اللتين تلازم أولاهما التربية بل هي جوهرها أي حرية روحية تلغي كل وساطة بين المؤمن وربه.
وهي شارطة لمفهوم الوزع الذاتي أو حرية الضمير وعلى اساسها تنبني الحرية السياسية أو نفي الوصاية على إرادة المؤمن عدى الحرية الأولى أو العبادة التي لا وساطة فيها بين المؤمن وربه ليكون من المستجيبين لربهم فيكون الأمر أمرهم فيسوسوه بالشورى التي معيارها التواصيين بالحق والصبر.
فيكون دور القانون الأول الزجر بدل التربية التي تجعل الزجر اقل العوامل تحديدا للسلوك فلا يكون الوزع الأجنبي (القانون الزاجر) مقدما على الوزع الذاتي (سلطة الضمير الخلقي). أما السياسة المبنية على الوساطة الملغية للحرية الروحية والوصاية الملغية للحرية السياسية فالفقه.
وإذن الانتقال من الدستور إلى حالة الطوارئ بعد الفتنة جعلت الفقه قانون حالة الطوارئ ولم يبق من الفقه إلا اسمه بل إن العلماء صاروا وسطاء والحكام صاروا أوصياء ولم يعد الإنسان المسلم مؤمنا يعمل صالحا والجماعة جماعة متواصية بالحق ومتواصية بالصبر صار الحكم طبيعيا وليس شرعيا.
وهو معنى الانتقال من الخلافة النبوية إلى الملك العضوض. فالخلافة النبوية هي التي تعتبر كل المؤمنين خلفاء فرض عين والخليفة خليفة فرض كفاية بمعنى أنه مأمر من الجماعة بحضورها الدائم في دور الخلافة العامة التي تجعله خادما للجماعة نيابة عنهم في إدارة الأمر الذي هو أمرهم وليس أمره.
وهذا هو معنى السياسة الشرعية: المربي ليس وسيطا والحاكم ليس وصيا بل كلاهما ينوب الجماعة في جعل التنشئة الخلقية والسياسية تنشئة تحقق الحرية الروحية (المؤمن في علاقة مباشرة بربه في كل حياته ولا تقبل أي وساطة) والسياسية (المؤمن هو صاحب الأمر فرديا وجماعيا يدير الشأن العام بالشورى).
وهذا يقلب العلاقة بين الوزع الأجنبي (الآتي من خارج الذات) والوزع الذاتي (الصادر عن الضمير الخلقي والديني) فتكون الجماعة محققة لمضمون سورة العصر: فالخسر هو الجاهلية. والاستثناء منها هو مضمونها المخمس: الوعي بالخسر ثم فرديا الإيمان والعمل الصالح وجماعيا التواصيان بالحق وبالصبر.
وذلك هو جوهر السياسة الشرعية المشروطة غاية للفقه وأصلا لتأسيسه وتحديد وظائفه وقيمه. وهذه السياسة الشرعية لم تطبق إلى في المرحلتين الأوليين: سياسة النبي وسياسة الراشدين الثلاث الأول لأن الرابع لم يحكم بسبب الحروب الأهلية التي بدأت مباشرة بعد الفتنة.
وإذن فما حصل في التأصيل الأول كان متعلقا بالمصادر وما حدث في العصر الثاني كان متعلقا بالآلات. وإذن فكلاهما لم يصل إلى علل مصدرية المصادر وإلى علل آلية الآلات في الفقه الإسلامي. وهو ما يعني أن الفقه وأصوله لم يدرك حقيقته بمقتضى فصلت 53 وآل عمران 7. فغابت حقيقة ما في القرآن منه.
فما في القرآن من الفقه هو ما طلب القرآن تبين حقيقته في الآيات التي يرينها الله في الآفاق والأنفس وليس في شرح نص القرآن ولا في تعليم الرسول بل هو ما في هذه من قوانين نكتشف مطابقتها للسنن التي طبقها الرسول باعتباره طلبها من الآفاق والأنفس كما تبين سياسته ببعديها: تربية وحكما.
وقد أخذت سيد العلوم لأبين أنه قد صيغ بصورة منافية لما تقتضيه نظرية العلم ونظرية القيمة القرآنيتين بسبب قبل دلالة الآيتين فصلت 53 وآل عمران 7. وبدلا من جعل ما في القرآن مثالا أعلى يقاس عليه ما نكتشفه في الطبيعة والتاريخ من آيات الله لنعلم به حقيقة القرآن عكسوا دلالة الآيتين.
تركوا ما وجه إليه الله أمرا لفهم عالم الشهادة (فصلت 53) وانشغلوا بما دعا لتجنبه نهيا أعني وهم فهم عالم الغيب (آل عمران 7) فانعكست وظيفة الفقه وقيمه في تأصيله وأصبح بالجوهر قانون حالة الطوارئ وليس سياسة قرآنية متعينة في وظائف دول قائمة على السياسة الشرعية ببعديها: التربية والحكم.
وبهذا المعنى فإن عصر التأصيل المناسب لنظرية الدولة القرآنية لم يتحقق بعد وهو يبدأ عندما نفهم معنى القول إن الأمة بسبب الفتنة الكبرى والحرب الأهلية عطلت الدستور فوضعت فقها للطوارئ ولم تكتشف إلا طريق فقه شرعي يطبق ما أمر به القرآن (فصلت 53) وما نهى عنه (آل عمران 7).
وهذا الفقه الذي هو قرآني شكلا فاقد لشرعية المثال القرآني الأعلى لأنه اعتمد نظرية معاكسة لما أمر به القرآن لمعرفة حقيقته ولما نهى عنه حتى لا يخلط الإنسان بين حقيقته وأمراض القلب وابتغاء الفتنة: فالغيب لا يعلمه إلا الله ومن ثم فلا يمكن أن يبنى الفقه على مقاصد لا يعلمها إلا هو.
الغاية من وجودنا حددها القرآن الكريم. ولها وجهان: بالإضافة الى الله هي العبادة (خلق الجن والإنس لعبادة الله) وبالإضافة إلى الإنسان هي امتحان أهليته للاستخلاف خلال تعمير الأرض. وهما وجها الأمانة التي ظلم الإنسان نفسه بحملها وكلف بها مع تجهيز روحي (غاية) وعقلي (أداة).
والسياسة ببعديها تربية وحكما هي الفقه وأصوله أصغره وأكبره ولا يمكن الفصل بينهما إلا في حالة واحدة هي السياسة التي تعطل الدستور وتعمل بحالة الطوارئ: والأمة الإسلامية عاشت على حالة الطواري منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم. وكل محاولات تأسيس الفقه التي حصلت تنتسب إلى حالة الطوارئ.
ولا يمكن التشكيك فيها من حيث الدور الذي أدته فهي كانت مناسبة لظرفية الطوارئ ولم تكن مناسبة لشروط الخروج منها والعودة إلى الدستور الذي بقي مجهولا بسبب قلب فصلت 53 وآل عمران 7: إذا أعدنا دلالة الآيتين كما أمر القرآن ستصبح سياسته وفقهه ممكنين فتستأنف الامة الشاهدة دورها الكوني.
وإذن فالأمر لا يتعلق ببداية من عدم بل هي بداية ثانية ما كانت لتكون ممكنة من دون البداية الأولى التي كان تاريخنا بعد الفتنة الكبرى تحريفا لها بتعطيل الدستور وفرض حالة الطوارئ التي كانت ضرورية للخروج من الحروب الأهلية فلم يحقق إلا شروط الاستعمار واقتصرت شروط الاستخلاف على القشور.
وشروط الاستخلاف تنقسم إلى نوعين: شروط الحرية الروحية وشروط الحرية السياسية. والأولى هي شروط التحرر من الوساطة الروحية والثانية هي شروط التحرر من الوصاية السياسية. وليس بالصدفة أن كانت الوساطة والوصاية قد بلغت مبلغها وأن الأمة بدأت تعي علاقة انحطاطها بهما.
والفتنة الصغرى الحالية تناظر الفتنة الكبرى السابقة: فهي سياسية مدارها وظيفتي الدولة تربية وحكما في علاقة بالوساطة والوصاية. ومن المفارقات أن ما يبدو وكأنه داعيا لعكس ما عكس في الفتنة الأولى هو من نفس الطبيعة: فالعلماني لا يختلف عن الباطني إلا بالأقوال. لكن الأفعال واحدة.
الباطني يجعل الدين مجرد أداة إيديولوجية للحكم والعلماني باطني صريح لا يحتاج إلى الدين إيديولوجية للحكم بل يستبدله بإيديولوجيا طبعانية هي عين ما يخفيه الباطني بدين جوهرة تقية ولا تقوى. وهو يوهم أن السياسة مستقلة تماما عما يتعالى عليها وإن كانت بحاجه إلى توظيف غاياته إيديولوجيا.
فالماركسي يوظف كل غايات الدين ويتصورها ضده لأنه يخلص بين الدين وتوظيفاته الباطنية: فهو يدعي الكلام باسم الحريتين اللتين هما جوهر الإنسان كما يحدده القرآن بجعلهما إيديولوجيا وليس حقيقة بدليل أن تطبيق نظرياته حقق العكس تماما: فقد الإنسان تماما كلتى الحريتين.
فالحزب وساطة كنسية والدولة وصاية سياسية وكلاهما دنيوي. حصر الإنسان في الدنيوي يجعله لا يساس إلا بقوانين الطبائع أي بالقوتين المادية والرمزية أي اقتصاد الربا وثقافة الخداع المؤسسين لدين العجل عبادة لغير الله إذ هما مادة العجل وخواره: رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز(الكلمة).
ليست المماثلة بين الفتنتين الكبرى والصغرى حول السياسة ودور الدين أو بين التشيع والتسنن في الأولى وبين الاسلامية والعلمانية محض تناظر شكلي بين دين التقية (الباطنية) ودين العجل (العلمانية) بل علاقة بين تعينين لنفس الداء: ما الحائل دون الإنسان وحقيقته أي الحريتين الروحية والسياسية.
ذلك هو الداء الذي رمز إليه القرآن بدين العجل الذهبي ذي الخوار. فالذهب هنا رمز لفاعلية الاقتصاد والخوار رمز لفاعلية الثقافة الحائلة دون حرية الإنسان الروحية والسياسية لأن أصحابهما يستعبدان البشر فتصبح مادة العجل (الاقتصاد ورمزه العملة) وخواره (الثقافة ورمزها الكلمة) أداتين للاستعباد.
وهذا يعني أن القرآن لم يحكم المسلمين إلا أياما معدودات هي مدة حكم الرسول والراشدين الثلاث الأول: وفيهما تحرر الإنسان ليس عامة بل العينة التي حصلت في مدتهما وعند من كان ذا صلة مباشرة بتربيتهما وحكمهما أي ببعدي سياستهما لدولة الإسلام. وما عدى ذلك حالة طوارئ دائمة إلى اليوم.
وهي حالة أعادت العائقين دون الحريتين:
عائق الحرية الروحية حيث صارت التربية وساطة كنسية.
وعائق الحرية السياسية حيث صار الحكم وصاية استبدادية غاشمة أو ملكية عضوضة. وهذه الصيرورة المضاعفة هي ما أطلق عليه اسم حالة الطوارئ بالقياس إلى حكم الرسول والراشدين الثلاثة الأول.
ويمكن اعتبار حالة الطوارئ فقهيا وقانونيا حالة الضرورات التي تبيح المحظورات في نوعي التشريع الشرعي والوضعي. ومعنى ذلك أن كل حالة يتقدم فيها دور الشوكة على دور الشرعية سواء كان التشريع منزلا أو وضعيا هي حالة طوارئ يقل فيها دور القانون السوي يزداد دور اللاسوي منه.
وطبيعي أن يكون الحد من القانون السوي منزلا كان أو وضعيا نسبيا إلى دور الشوكة والشرعية: فكلما كانت الشوكة أكثر حضورا كان الحد أكبر بسبب دور الوساطة الكنسية في التربية ودور الوصاية الاستبدادية في الحكم. ونظام التربية ونظام الحكم هما الإطار الذي تتعين فيه هذه الخاصية.
وغاية هذا التغير أو نهايته هي عندما يصبحان محققين لما سماه ابن خلدون فساد معاني الإنسانية أي زوال ما يعبر عن الحريتين في كيانه التاريخي فرديا وجماعيا. فتنقلب الأمور إلى حد يصبح فيه دور القانون تثبيت هذا الفساد وليس التحرر منه لأن وظائف القانون تصبح أداة الدولة للقضاء على الحريتين.
وهذا يصح على نوعي القانون ذي المرجعية الوضعية وذي المرجعية المنزلة عندما تصبح المرجعية مجرد غطاء إيديولوجي لما يناقض المرجعية نفسها: فالوحي والعقل كلاهما قابل للتوظيف العجلي أي إنه يغطي على حقيقة الأفعال بخدعة الأقوال. ومربط الفرس هو التوظيف أو نقيض حقيقة الوظيفة.
ذلك أن الوحي (على الاقل ما لدينا منه في القرآن) والعقل (على الاقل ما نعلمه عن طريقه) كلاهما يعتبر الشرائع بخلاف الطبائع مصدرها مفهوم الحرية الروحية والحرية السياسية ومن ثم فهما متفقان على أن صلاح دور السياسة ببعديها التربية والحكم هو تنمية هذين الحريتين طلاحها في إعاقتهما.
والحريتان ليستا من مقاصد الشريعة التي لا يعلمها إلا الله بل هما حقيقة الإنسان أوالانثروبولوجيا القرآنية أي نظرية الإنسان في القرآن بوصفه خليفة ذا علاقة مباشرة مع الله وغير مباشرة معه مجهز بالقدرة على رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس شرطا في علم قوانينهما والعمل بها لتحقيق كيانه.
فهو مجهز بهذه القدرة التي تكتشف قوانين الطبيعة (الافاق) وسنن التاريخ (الأنفس) والأولى من طبيعة رياضية بنص القرآن والثانية من طبيعة سياسية بنص القرآن. فكل شيء خلق بمقدار (الطبيعي والتاريخ كذلك) لكن المخلوق الطبيعي ما يرى فيه من آيات هو قوانينه الرياضي والتاريخي قوانينه السياسية.
وكلا النوعين من القوانين لا يوجد في القرآن بل في آيات الله التي يرينها في الطبيعة وفي التاريخ. وعندما نكتشفها بما جهزنا به من قدرة على ذلك ندرك حينها حقيقة القرآن ما هي. هذا ما تقوله فصلت 53. وعندما نبحث عن حقيقة القرآن في التأويل اللغوي لنصه متجاوزين آل عمران 7 نصنع علوما زائفة.
ويستحيل أن نكتشف قوانين الطبيعة وقوانين التاريخ مباشرة بالاعتماد على التجربة الحسية بل لا بد من مقومي العلم: المقدرات الذهنية علما شارطا لصوغ التجارب العلمية المستمدة مباشرة من الطبيعة أو من التاريخ. فكل علم مؤلف من بعدين:
مقدرات ذهنية رياضية
أو سياسية حول موضوعات مجردة
وهذه المقدرات المجردة تتألف من خانات يمكن أن تملأ بمضمون وجودي يأتي من التجربة فتكون المقدرات القادرة على نظمها بصورة تعبر عنها وكأنها القالب الشكلي الذي يحول التجربة إلى علم يمكن بالاعتماد عليه تطوير التجربة التي تبقى الحكم النهائي لفرضيات المقدرات الذهنية.
وتلك هي الطريق الوحيدة لإبداع علوم الطبائع وعلوم الشرائع. والتاريخ مؤلف من الجنسين. والفقه وأصوله مقوم جوهري لعلوم الشرائع بوصفها علوم المواقف القيمية من الطبائع وأهمها ما في الإنسان من مقومات فطرية (دينيا) وطبيعية (عقليا). وهو ما يعني أن القرآن خال من القوانين العينية بنوعيها.
لكنه يشير إلى محلها وإلى كيفية الوصول إليها ويقدم بعض الأمثلة النموذجية من المحل ومن السعي. وذلك هو أساس استدلاله في المسائل التي يمثل بها لنظرية المعرفة ونظرية القيمة اللتين تحددان علاقة الإنسان بذاته وبمثله وبشروط قيامه التي هي علاقته غير المباشرة مع الله فضلا عن المباشر منها.
وتلك هي وظيفة المرجعية فهي لا تحدد الجزئيات بل:
المبادئ العامة المتعلقة بطبيعة المطلوب
ومحل وجوده
وطريق الوصول إليه أو منهج اكتشافه
قيمه الأساسية ووظائفه التي تتجلى أدواره في المبادئ والمحل والطريق والقيم. وذلك هو دور القرآن الكريم الذي كانت السنة أول فهومه اللامتناهية.
وما أخشاه هو أن يظن المتعجلون أني آت بما لم يأت به الاولين وكأني أشكك في قيمتها أو في عظمة رجالاتها مدعيا أني آت لما يأت به الأولون. وهذا طبعا مفهوم. لكني لم أدع شيئا وإنما أحاول فهم طبيعة الأزمة والشكوك لا تتعلق بأحد بل هي كشف عن المعضلات التي قللت من فاعلية الفقه واصوله.
وإذن فموقفي يتعارض تماما مع كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث: فالأول يتصور أن العودة إلى الأصل ممكنة بالعودة إلى قشوره والثاني يتصور أن الحداثة ممكنه بتقليد قشورها. كلاهما في الحقيقة. والأول يريد استعادة الماضي الذاتي والثاني استعارة الماضي الغربي.
والاستعادة استعارة والاستعارة استعادة والفرق بينهما هو في كون استعادة الأول استعارة من آباء الذات واستعارة الثاني استعادة من آباء الغير. فالحداثة ماض غربي. والأصالة ماض إسلامي. والجميع اليوم يعاني من إشكالية تحرير السياسة من دين العجل: مادته الذهبية وكلمته الخوارية.
الأزمة التي أتكلم عليها ليس خاصة بالمسلمين وحدهم بل بالغرب كذلك لأن ما نستعيره منه هو الذي قتل الفقه ومات معه في آن: لأن الصراع بين أصحاب الكاريكاتورين أعماهما عن الواحد في تحريف التشريعين المنزل والوضعي. كلاهما مبني على نفي الحريتين بالوساطة الروحية والوصاية السياسية.
والدليل أن حال الانتخابات في المجتمعات العلمانية صار من جنس حال البيعة في المجتمعات الإسلامية: كلاهما صار رسما بعد أن كان عينا. كلاهما يخفي آليات التربية والحكم الفعلية برسوم من حقائقهما هي الغطاء الإيديولوجي بتوظيف الدين أو العقل في خدمة السيدين الوحيدين: المال والإيديولوجيا.
كلاهما يحكمه دين العجل الذهبي ذي الخوار: كل ما في الأمر أن سلطة اليوم التي تلغي الحرية الروحية هي الأحزاب ولوبياتها ذات الخوار وسلطة اليوم التي تلغي الحرية السياسية هي البنوك ومافياتها ذات الدينار. ما عدا ذلك واجهة يحميها القانون زجرا وتلهية عن العبودية بالهموم الدنيوية.
وهذا يعني أن الأمة تعيش الآن لحظة الاستئناف المعتمد على إعادة تأسيس علوم الملة بمقتضى فصلت 53 وآل عمران 7 ومن ثم فلا يمكن تأسيس اي علم من علوم الملة على العلاقة المباشرة بين الله والإنسان لأن وظيفتها هي جعل هذه العلاقة حضورا دائما لله مع الإنسان حتى يكون حرا روحيا وسياسيا.
أي إن هذه العلاقة المباشرة مع الله هي الوعي الدائم بشروط الاستثناء من الخسر في سورة العصر وفروع هذا الوعي الأربعة: الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر في كل أعماله الظاهرة والباطنة في نظره وعمله وتلك هي حقيقة معاني الإنسانية التي تفسد بغياب هذه الحال الوجدانية.
والإنسان لا يكون إنسانا صالح المعاني الإنسانية وغير فاسدها (بمصطلح ابن خلدون) إلا بهذا الاستثناء من الخسر. وهو به يصبح قادرا على تطبيق التوجه الذي يأمر به القرآن وينهى عن وهم تجاوزه حتى يصبح قادرا على رية آيات الله في الآفاق وفي النفوس. ومنها يبدأ العلم والعمل.
والعلم والعمل هو الذي يجعل العلاقة غير المباشرة بالله تمر بنوعي مخلوقاته الشارطين لوجود الإنسان ولامتحان أهليته للخلافة خلال بيان استجابته لاستعماره في الارض بقيم الاستخلاف. فيعلم الطبيعة والتاريخ مصدري قيامه العضوي والروحي ليعمل على علم بشروط الاستثناء من الخسر.
والفقه الذي هو أسمى علوم الملة لأنه أساس شرط تحقيق مهمة الإنسان أعني شرط انتظام الجماعة في التبادل والتعاوض العادل حماية ورعاية لوجود الفرد والجماعة والتأهل للاستخلاف لا ينبع من العلاقة المباشرة بين الله والإنسان بل من العلاقة غير المباشرة سلطانا نظريا وعمليا على الطبيعة والتاريخ.
وتلك هي البداية الجديدة لتأصيل الفقه من منطلق تأصيل نظرية الدولة والسياسية تربية وحكما في القرآن: تأصيل الفقه يمر بتأصيل السياسة والدولة. فالفقه هو أداة الجمع بين الشرعية والشوكة أو هو محاولة جعل الوازع الذاتي هو القاعدة في حياة الجماعة والوازع الأجنبي مجرد مساعدا له.
والانتقال من عكس هذه العلاقة أو النكوص إليها هو المشكل في كل ما ذكرناه من شكوك: في عصر الرسول والراشدين الثلاثة الأول حصل الانتقال من الشوكة اللاشرعية (جاهلية الحالة الطبيعية) إلى الشرعية ذات الشوكة (وظيفتي الدولة المربية والحاكمة). والفتنة حالة الطواري نكوص الأفعال دون الأقوال.
والباطنية غطت عن هذا النكوص بتحريف الدين نفسه وأسست السياسية على الوساطة (كنسية شيعية أو تعليمية في الباطنية) وعلى الوصاية (الإمام المعصوم يحكم بالحق الإلهي وليس بإرادة الجماعة). وفقهاء السنة حافظوا في الأقوال على الحريتين لكنهم قبلوا بالأفعال النافية لهما.
واليوم نحن في طور الاستئناف الذي يستعيد الحريتين الروحية (لا وساطة) والسياسية (لا وصاية) لا بد من فقه يؤمن بأنه لا يتأسس مباشرة في القرآن والسنة بل فيما يترتب على ما فيهما من علمي الطبيعة والتاريخ بوصفهما محددين لشروط تأسيس الفقه وتأصيله بمقتضى ما يتجلى من آيات الله فيهما.
وإذن فالحضور الدائم للعلاقة المباشرة بين المؤمن وربه بوصفها حالة وجدانية تتحدد بها كل افعالنا هو أصل المرجعيات بوصفه نوع حضور الله في نظرنا وعملنا للطبائع والشرائع اللتين نستمد منهما مرجعيات فقهنا وأصوله حتى نعلم حقيقة القرآن أو الحضور الدائم لله معنا وفي أفعالنا.
وهذا الحضور الدائم أو العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه هو الحرز الوحيد لكي يكون الفقه والعمل به محققا لما لا يكون الحكم والقاضي حكما أو قاضيا أمينا وعادلا. وفي هذه الحالة يكون المتنازعان كذلك جزءا لا يتجزأ من التحاكم بينهما لأن القانون الخالي من هذا المقوم سرعان ما يصبح ظالما.
أخلاق القاضي والمتقاضين مقوم أساسي من الفقه واستقلاله عن سلطة التنفيذ التي تتحكم في سلطة التشريع: فما يحقق استقلال القضاء رغم أنه ليس سلطة سياسية بل سلطة تقنية ومعرفية-مشروط بهذين النوعين من الأخلاق. ففي أمة فسدت فيها معاني الإنسانية يصبح الجميع يسعى لإفساد القضاة واستغلالهم.
الحضور اللفظي للشريعة لا يحرز القضاء أو الافتاء فيصبحان أداتين للظلم والتحيل وهو معنى استعمال الدين غطاء إيديولوجيا. وكل تنازل من ممثل الشرعية لممثل الشوكة خيانة لله ورسوله وهذا هو الحاصل منذ الفتنة الكبرى سواء كان الحكم دينيا أو علمانيا بالشكل: غطاء لفساد معاني الإنسانية.
ومن دون علاج ذلك لا معنى لاستئناف الأمة دورها. فالإسلام يمكن أن يكون مستقبل الإنسانية إذا قمنا بما حاولت وصفه في الشكوك. ولا يمكن تحقيقه بالكاريكاتورين. فالفتنة الكبرى والفتنة الصغرى لهما نفس المآل. الأولى أدت إلى باطنية علنية في التشيع وخفية في التسنن والثانية تسعى لنفس الغاية.
في الفصل السادس ندرس الكيفية التي تفسد بها وظائف الحماية التي تنتج عن الاقتصار على الوزع الأجنبي الذي لا يصحبه الوزع الذاتي سواء كان التشريع شرعيا أو وضعيا فيكون الفقه أو القانون مجرد غطاء لهذا الفساد الناتج عن الاستبداد وتحول السياسة إلى الخداع النسقي في الجماعة.
وما أظنني في هذا الفاصل بحاجة إلى الخوف من ألا يفهم ما سأقول فأتهم كالعادة بالتعسير هذا إذا لم يتجرأ أحد الاميين فيشكك في قدرتي على التبليغ مسقطا غباءه وعيه علي. فما سأقوله لا يتجاوز وصف ما يعيشه كل المسلمين من الهادي الى الاطلسي دون استثناء. وضع عام لوظائف الدولة كلها معكوسة.
فوظائف الحماية انعكست تماما: فالحماية الداخلية:
القضاء فاسد فاقد لشرطي شرعيته أي الأمانة والعدل.
الأمن فاسد لا يحمي المواطن وخاصة المؤمن بل يخيفه ويعذبه.
والحماية الخارجية:
الدبلوماسية في خدمة حامي نوابه في محميات خاضعة له.
والدفاع فاسد يحمي الأعداء ويستبد بالأوطان
ويبلغ فساد وظائف الحماية الغاية في:
المخابرات التي بدلا من أن تكون عينا حارسة للوطن والمواطنين صارت عينا عليهم للحكام وحماتهم الذين جعلوا أوطاننا محميات لا سيادة لها لأنها تابعة في كل شيء وخاصة في شرطي السيادة أعني القدرة على الحماية والرعاية الذاتيتين.
ولا أحد من القراء بجاهل بهذا الوضع حتى وإن كان لا يستطيع فهمه لعدم إدراك علله. وهدفي من هذه المحاولة ليس الكلام على شكوك المقاصد بل وكذلك بيان ثمرات التحريف الذي يظن علما وما هو بالعلم لأنه آل إلى ما نراه من النتائج التي لا يمكن تفسيرها ولو جزئيا إلا بما أصف هنا.
وإذا كان ما قلته عن الحماية بينا للعيان ولا يحتاج إلى استدلال ولا إلى برهان فإن وضع الرعاية أسوأ بكثير. ففي تكوين الإنسان:
التربية النظامية فاسدة لا تكون الإنسان خلقيا ولا معرفيا ومن ثم عجز الأمة على رعاية ذاتها شرطا في قدرتها على الحماية الذاتية.
وفساد التربية اللانظامية أسوأ.
وما أسميه التربية اللانظامية هو التربية المرسلة في غير المدرسة أي في كل الجماعات التي يتألف منها المجتمع من المسجد إلى المقهى إلى أماكن العمل إلى الفضاء العام. فمجتمعاتنا الكل يشك في الكل ما يؤدي إلى التكاذب والتخادع والتغاشش وخاصة في التطفيف والتوظيف حتى صار المصلون يتسارقون.
والعلة هي فساد شروط التموين الذي هو شرط التكوين: فالمجتمع الذي لا يستطيع سد حاجات مواطنية
المادية (الاقتصاد).
والروحية (الثقافة) ويصبح تابعا فيهما لأنه فاقد.
للبحث العلمي الذي يمكن من إنتاج ما يسد الحاجات بتموين ييسر التكوين يصبح مجتمعا عالة على غيره متسولا بدنيا وروحيا.
وهو ما يعيد الجماعة إلى الجاهلية حتما حيث يكون الكل متربصا بالكل من أجل ضرورات الرعاية بوظائفها الخمس والحماية بوظائفها الخمس ولا يكون شيء تصوره مطابقا لواقعه بل هو عكسه تماما فتكون الأفعال مناقضة للأقوال ويصبح التفاهم بين المواطنين مبينا على سوء ظن الجميع بالجميع دائما.
لا أحد يطمئن لأحد ومن ثم فالعقد الضمني للتطامن المتبادل منعدم تماما. فلا القاضي قاض ولا الأمن أمني ولا الدبلوماسي دبلوماسي ولا الجندي جندي ولا خاصة الاستعلامي والإعلامي في خدمة هذه الوظائف هو يستخدمها لمصلحة عاجلة حتى لو حرق كل البلد: غياب الوازع الذاتي.
وفوق هذه الوظائف العشر توجد هيئة الحكم التي تمثلها القوى السياسية حكما ومعارضة والرأي العام السياسي. وهذا هو محل رأس الفساد. ومع ذلك فلو قرأت الدساتير وتصفحت مدونات القوانين وضعية كانت أو شرعية لظننت أن من يحكمك هو الفاروق بعينه. لكنها رسوم بلا أعيان. كلام بلا مضمون. خدعة الخدع.
من يحكم بالفعل (الأحزاب الحاكمة أو القبائل لا فرق) ومن يحكم بالقوة (المعارضات الحزبية أو القبلية) ينطبق عليهم مفهوم شرعي واحد: إنهم محتربون. فالحرابة سرقة مسلحة. وسلاحهم وظائف الدولة. وطبعا يوجد من هو صالح بينهم. لكنه ابرة في كومة قش: عنف الدولة علته غياب الوازع الذاتي.
وهذه الحال تستفزني خاصة عندما يكون برقعها الدين. فالبرقع العلماني قد لا يستفزني لعلمي بأنه لا ينافق بالمعنى الديني بل يدعي أن ذلك هو منطق السياسة والميكيافيلية وخاصة إذا طبقها صاحبها في غير بلده وهو ما تفعل القوى الاستعمارية كلها. لكن قوانا السياسية بدت ميكيافيلة الاستعمار.
فكان تشويههم للإسلام وتمريرهم لحياة المسلمين بالقانون الوضعي أو بالقانون الشرعي من أهم أدواء حضارتنا في كل عصورها باستثناء عصر النبي والراشدين الأول. وما داعش بأكثر تشويها منهم للإسلام وللفقه والقانون. والعلة مضاعفة:
التأصيل بالعلاقة المباشرة (الرسالة) بين المؤمن وربه.
والعجز عن التأصيل غير المباشر كما تأمر فصلت 53 وتنهى آل عمران 7: يجهلون علوم الطبائع وعلوم الشرائع التي لا توجد في نص الرسالة بل فيما توجه النظر إليه. ما في الرسالة هو السبابة المشيرة للأمر الذي ينبغي علمه ليكون علما. ظنوا الموضوع هو السبابة لا ما تشير إليه.
ولما فعلوا ذلك تركوا عالم الشهادة مجهولا وغرقوا في عالم الغيب المحجوب حتى لا الأنبياء. ولا عجب فهم قد اعتبروا الـ”و” في سابعة آل عمران عطفا للراسخين في العلم على صاحب العلم المحيط فظنوا علمهم محيط يمكن أن يستخرج المشار إليه من السبابة المشيرة. فكان العلم الزائف.
والجهل بالآيات التي يرينها الله في الآفاق والانفس جهل بالعلاقة بين الطبيعة والجماعة. فهذه تستمد شروط قيامها المادي من تلك. ولا يمكن تسخير الأرض بالجهل بقوانين الطبيعة. لذلك فحتى ما فيها من ثروات لم يصبح كذلك إلا بفضل المستعمر بعد أن فقدنا كل سلطان على التعمير ولم يبق إلا التدمير.
والتدمير يكون في هذه الحالة تدمير علاقة الإنسان بالإنسان لأن تدمير الطبيعة هو بدوره بحاجة إلى علم قوانينها والمبالغة في استغلالها الذي يدمرها لأن كل ما فيها ناضب بالجوهر ولا يعوض إلا في التاريخ المديد التاريخ الجيولوجي. ولا شيء يضحكني أكثر من الكلام على فقه الواقع.
لا أفهم كيف من لا يعلم قوانين الطبيعة الرياضية وقوانين التاريخ السياسية أن يتكلم على فقه الواقع. يجهلون أن الواقع لا يدرك وأن ما يدرك هو ما نعلم وأن ما نعلم بالقياس إلى ما نجهل هو في نسبة المتناهي الضئيل إلى اللامتناهي اللامحدود. وما نعلمه مشروط بنظريات ليست في متناولهم.
وإذن ففي هذه الحالة يكون الفقه والقانون رماية في عماية أو يبنى على ظنون حول ما هو بالجوهر مما لا يعلم أي الغيب المحجوب. والقرآن يوجهنا لمعرفة حقيقته إلى الآفاق والانفس ويوجهنا إليه طبيعة قوانينهما دون أعيان قوانينهما لما كان لمفهوم عالم الشهادة معنى: فهو يشهد لهذه الحقيقة.
ولو كان القرآن يعتبر علم الغيب ممكنا لنا لما نهانا عن المتشابه ولما اعتبر محاولة تأويله مرضا في القلب وابتغاء للفتنة. لكن كذب الرسوخ في العلم وكذبة وراثة الأنبياء هي التي آلت بالباحثين في علوم الملة إلى سلطة كنسية تدعي تمثيل الوحي ووراثة النبي فيما لا يملك فهو لم يؤول المتشابه.
النبي لا يورث لا ماديا ولا روحيا: هو المبلغ والمعلم وليس له سلطان غير سلطان القرآن وسلطان الاجتهاد في التبليغ والتعليم. وسلطان القرآن هو مرجعية سلطان الأمة المؤلفة من افراد يمكن أن تكون لهم أهلية الاستخلاف بشرطين: الحرية الروحية والحرية السياسية أي التحرر من الوساطة والوصاية.
والله نفسه ينفي عن النبي الوساطة والوصاية: “فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر” وإذن فرسالة مبنية على الحريتين وأكثر من ذلك فهو لا يأتي بأمر ليس قائما عند مخاطبيه بل يذكر بأمر قائم عندهم. فالقرآن مكتوب بعد في الفطرة ومنسي ووظيفة التنبي التذكير بها أو التحرر من الغرق في الفاني.
والإيمان الصادق يتجلى عندما يشعر من يسمع تذكير النبي بصدى ما في القرآن في نفسه فيكون التناغم بينهما هو جوهر التواصل المباشر مع الله. إنها الحالة الوجدانية التي تمثل الوزع الذاتي في كل إنسان ذي بصيرة تحرر من الوساطة والوصاية وتوجه مباشرة إلى الآفاق والانفس طلبا لحقيقة القرآن.
حتى لا أتجنى على أحد من أعلام الفقه وأصوله لا بد في هذا الفصل السابع من الشكوك أن أشرح القصد بتعطيل الدستور القرآني وفرض حالة الطوارئ التي ما تزال سارية منذ أربعة عشر قرنا. فالفقه وتأصيله لم يتجاوز تعيين أجوبة قاضي الرسول في ظرف حالة الطوارئ: تعيين أبي حنيفة فمالك فأحمد فالشافعي.
والثلاثة الأول حددوا مصادر الفقه جمعا ولم يحدد طبيعة الدور الذي تؤديه بنظرية يمكن اعتبارها مؤصلة للفقه. وذلك ما يعود الفضل فيه لرسالة الشافعي. وذلك ما نسبته إلى عصر الفقه الأول وقدمت عليه نوعين من الممارسة الفقهية كانت المصادر فيه متعينة في الرسول ثم في الراشدين الثلاثة الأول.
والفرق بين هذين الحالتين السابقتين والحالات الثلاث الموالية هو الذي يحدد الفرق بين الحكم العامل بالدستور والحكم العامل بحالة الطوارئ وتعطيل الدستور الذي نتج عن الحرب الأهلية التي تلت الفتنة الكبرى. وتعطيل الدستور في الممارسة بأحكام استثنائية ينتج بالبون بينهما فصاما في القانون.
لذلك فجواب قاضي الرسول دلالته مختلفة عن دلالة نفس الجواب لدى المؤسسين الأربعة: فهم مثل قاضي الرسول يجيبون عن أسئلة الرسول الثلاثة وسكوته بعد جواب القاضي الثالث: أجتهد رأيي ولا آلو. فالحكم بالقرآن والحكم بالسنة والحكم باجتهاد الرأي في حالة العمل بالدستور غير الحكم بها في حالة تعطيله.
فإذا اعتبرنا قاضي الرسول له ما للفاروق من فهم لعلاقة أحكام الدستور بأحكام تنزيله في علاج الظرف ودور هذه في تلك فهمنا أن الموقف المعرفي لديه هو ما أمرت به فصلت 53 مع حرز ما نهت عنه آل عمران 7. بمعنى أن قاضي الرسول مثله مثل الفاروق يطلبون حقيقة القرآن من آيات الله في الآفاق والانفس.
فإذا كان القرآن يحدد موضع البحث عن حقيقته فمعنى ذلك أنه لا يعتبر آيات النص هي المصدر المباشر لمعرفة حقيقته بل تجلي آيات الله في الآفاق والأنفس التي تبين هذه الحقيقة عندما نعلم قوانينها وسننها المتعلقة بالموضوع الذي يتعلق به البحث: النظام القانوني ووظائفه في أي جماعة بشرية.
وإذن فلا بد من التمييز بين النظام القانوني الذي يحدده الدستور والنظام القانوني الذي يعطله ويقدم عليه الأحكام الاستثنائية التي تفرضها حالة الطوارئ. ومن ثم فالنظام القانوني في عهد الرسول والراشدين يعمل بأحكام مطابقة للدستور والنظام القانوني بعد الفتنة يعمل بأحكام استثنائية.
وحتى أقرب الأمر إلى ذهن القارئ: كالفرق بين حالة السلم وحالة الحرب. أو كالفرق بين ما قبل 11 سبتمبر وما بعدها في نظام الحريات الفردية في الولايات المتحدة. وعادة تكون حالة الطوارئ مؤقتة. لكنها عندنا ما تزال موجودة منذ الحرب الأهلية الأولى إلى اليوم في كل بلاد المسلمين.
لكن الأحكام الاستثنائية تتضمن ما يشير إلى كونها استثنائية وهو سر الفصام بين الإحالة إلى الدستور مع قلب العلاقة بينه وبين الأحكام الخاصة التي صارت هي القاضية في أمره بدلا من أن يكون هو القاضي في أمرها. فصارت الأحكام الخاصة تقدم الخاص وتعتبره ناسخا للأحكام العامة.
وبعبارة أوضح: فالحرية الدينية هي الحكم الدستوري العام في القرآن الكريم لكن فقه حالة الطوارئ اعتبر الأحكام الخاصة في القرآن ناسخة للأحكام العامة وأولت كل آيات القرآن في ضوء هذا القلب ما جعل فلسفة القرآن الدينية والسياسية تنقلب راسا على عقب بان صار الاستثناء هو القاعدة.
مثال ذلك أن الآية 48 من المائدة لم يعد لها أثر في فهم علاقة الأديان بعضها بالبعض في إطار دولة الإسلام: فالتعدد الديني فيها مقصود لذاته ولوظيفته في تأسيس الإيمان على حرية الضمير. فلذاته هو علامة الوزع الذاتي ولوظيفته هو شرط التسابق في الخيرات طلبا حرا للدين الأسمى أي الإسلام.
وبذلك يمكنني القول إن المميز الأساسي للفقه وتأصيله في عصره الأول الذي وصفنا هو كونه قلب العلاقة بين القاعدة والاستثناء فجعل الاستثناء محددا لدلالة القاعدة وبات الفقه وتأصيله مؤسِسين ومؤسَسين على نظام قانوني تحدده حالة الطوارئ الدائمة فصار الاستثناء هو القاعدة في كل أحكامه.
ولذلك فصوريا لا شيء يعاب على هذا النظام وهو نظام متناسق لكنه مضمونيا عكس النظام الذي يستند إلى الدستور ومبادئه لأنه يقلب العلاقة بين المبدئي والظرفي فيه. وذلك في أحكام الاجتهاد والجهاد والمعاملات والعبادات والعلاقات الداخلية والخارجية أي في كل ما يتعلق به النظام القانوني.
وكما بينت فإن عصر الفقه وتأصيله الثاني لم يأت بجديد إلى في علوم الآلة: فتقدم علم اللغة وعلم المنطق وعلم التاريخ وعلم التفسير يهدف إلى تجويد الآلة لعله يتمكن من حل معضلة العلاقة بين النص المحدود والنوازل اللامحدودة في كل نظام قانوني. دون جدوى فكان المهرب الوحيد هو نظرية المقاصد.
ونظرية المقاصد تعبر عن أمرين: اليأس من النظام القانوني الذي تحدد في عصره الأول ومحاولة “بطننة” الفقه بأن يصبح مبنيا على وهم معرفة مقاصد الشارع والتشريع بالاعتماد عليها للإيهام بالعمل بمبادئ الإسلام المقاصدية وحينها لا يكون القرآن إلا غطاء لقانون وضعي بتقية دينية خالصة.
لكن الخطأ الأساسي هو قلب فصلت 53 وآل عمران 7 لأن مقاصد الشارع لا يعلمها إلا هو إذ هي من الغيب وهو الوحيد الذي يعلم العودة ومن مقصده إلى شروط تحقيقه أو العلاقة بين الغاية والوسيلة في تحقيق المقصد. فهل نقول إن كل ما يحقق الغاية هو المطلوب؟ ألا يؤدي إلى منطق الغاية تبرر الوسيلة؟
المقاصدية هي إذن سعي لوضع نظام قانوني وضعي متنكر في شكل قانون ذي مرجعية دينية شكلية وذلك هو جوهر الموقف الباطني الذي لا يختلف عن الموقف العلماني إلا بنوع التنكر الديني. وهو نظام قانوني مختلف عن النظام الذي حدده العصر السابق وليس أفضل منه حتى وإن أوهم اصحابه أنه تطوير له.
ولأن النظام القانوني المبني على المقاصدية هو بهذه الصفات فلا عجب أن يتقاسمه كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث لأداء الوظائف الخمس التالية: فهو أداة تعديل الموجود من التشريعات القرآنية (مثال الإرث وتغيير بالمقاصد) وإيجاد المعدوم في التشريعات القرآنية (كل الإحداثات التشريعية).
وبذلك يكون القرآن ظاهر وراءه باطن هو المعتمد ويؤسس على المقصد الذي يعلمه الشارع الإنساني والفرق بين القائلين به من السنة والقائلين به من الشيعة هو نسبة هذا العلم للإمام وعلمه اللدني عند هؤلاء ونسبته إلى العقل عند أولئك وشرطه القول بالتحسين والتقبيح العقليين (اعتزال).
وفي الحالتين يكون الإيهام باعتماد القرآن أساسا للمقاصدية تقية لأنها ذريعة لإضفاء الشرعية القرآنية على تشريع وضعي خالص لأن الأمر كله متعلق بالقدرة على اختيار الوسيلة المحققة للمقصد أي كيفية العودة من المقصد إلى الحكم الذي يحققه والذي يقتضي الإيمان أن يكون من الغيب في شرع الله.
فالسر في فاعلية أي تشريع هو في هذه العلاقة بين الغاية والوسيلة في الأحكام. هبنا عرفنا الغاية أو المقصد فكيف نعلم علاقته بالوسيلة التي تحققه على الوجه المناسب بكل يقين؟ فعدم التناسب بينهما يمكن أن يؤدي إلى عكس المقصود لأن الطرق الموصلة إلى نفس الغاية لا متناهية.
وحتى في الفلسفة فإن الحكمة كل الحكمة هي في هذه العلاقة بين الغاية والوسيلة بل هي جوهر الحكمة العملية لأن الفلاسفة يعتبرون الغايات فطرية والوسائل هي التي يحتاج الإنسان أن يحددها بحذر وحكمة وتدبر. والعلة هي أن التحسين والتقبيح ليسا من جنس الوصف النظري للذاتيات في موضوع العمل.
صفات الشيء الذاتية قابلة للتحديد العقلي وهي موضوع العلم النظري. لكن الحسن والقبح الخلقيين ليسا من الصفات الذاتية المقومة للأفعال بل هي مقومة لعلاقات الفعلة وهي من ثم إضافية لما تواضعوا عليه من شروط التعامل الأقل كلفة على شروط وجود الجماعة وبقائها وهي مادة التعاقد بينهم.
والتعاقد بين البشر ليس بالضرورة مصوغا في نصوص صريحة رغم أنه لا يمكن تصور عيشا مشتركا من دونه: فهو نظام قانوني قد يكون مجرد عرف. وقيمه هي المعروف والمنكر وهي عقد بين البشر من دونه لا يمكن أن توجد جماعة من الأسرة فصاعدا. ولما كان علمنا غير محيط فتشريعنا الوضعي نسبي دائما.
والديني بالجوهر في كل الأديان -حقيقة كانت أو مزيفة-هو الإيمان بنظام قانوني نتج عن علم محيط ينسب الله الذي هو ليس خالقا فسحب بل وآمر. الشريعة هي ما نعتقد أنها أمر الله لخلقه المكلفين. والله يقول إن معرفة أمر الله وخلقه هي حقيقة القرآن التي ينبغي طلبها من آياته في الآفاق والانفس.
وإذن فكل طلب للفقه والنظام القانوني الذي يبين حقيقة أمر الله لخلقه المكلفين لا بد أن يتوجه إلى الآفاق والأنفس أي إلى الطبيعة ذات القوانين الرياضية (تقديرا ذهنيا وتجربة) والتاريخ ذي القوانين السياسية (تربية وحكما) بحسب طبيعة الموضوع ووظائفه المحققة لقيام الإنسان معمرا ومستخلفا.
تبين مما تقدم أنه لا معنى للكلام على النظام القانوني بوصله مباشرة بالنص القرآني بوصفه عين العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه بدلا من وصله بما وجه إليه النص القرآني بوصفه علاقة غير مباشرة تشهد لحقيقة القرآن أو للعلاقة المباشرة بين المؤمن وربه: إنها آيات الله في الآفاق والأنفس.
وهذا موضوع بحثنا في الفصل الثامن من الشكوك. فالنظام القانوني الذي يبين حقيقة التشريع القرآني ليس آيات النص بل ما تشير إليه بالتوجيه الذي ورد في فصلت 53 أمرا في آل عمران 7 نهيا لمعرفة حقيقة القرآن الذي هو التواصل المباشر بين المؤمن وربه حول شروط قيامه معمرا للأرض ومستخلفا فيها.
وذلك يعني أن النظام القانوني والخلقي (الفقه) لا يتأصل مباشرة في آيات القرآن النصية بل فيما وجهت إليه من آيات الله في الآفاق والانفس المتعلقة بوظائف النظام القانوني الذي يترتب على النظام المحقق لشروط استعمار الإنسان في الارض بشروط الاهلية للاستخلاف: النظام السياسي تربية وحكما.
حقيقة القرآن الذي هو التواصل المباشر بين الإنسان وربه لا تعلم من منه بل هي تعلم مما أشار إليه القرآن إشارة توجه الإنسان للبحث عنها فيه. وإذن فعلم الطبائع والشرائع لا يستمد من القرآن مباشرة بل مما أشار إليه محلا لآياته التي تتجلى فيها حقيقته: شروط قيام الإنسان الطبيعية والتاريخية.
ومعنى ذلك أن التواصل المباشر يوجه الإنسان إلى التواصل غير المباشر الذي يتم خلال تعمير الإنسان للأرض بوصف ذلك امتحانا لأهليته للاستخلاف. وهذه الشروط هي عين مقومات كيان الإنسان المستعمر في الأرض لتحقيق شروط قيامه المادية لامتحان أهليته للاستخلاف لتحقيق قيامه الروحي.
وبهذا تتحدد حقيقة القرآن دليلا مذكرا للإنسان بمقومي كيانه المادي (وشرطه تعمير الارض أو تسخيرها لقيامه المادي) وكيانه الروحي (وشرطه أن يكون ذلك التعمير خاضعا لاختبار مدى أهليته للاستخلاف أو مدى تحرره مما وصفته به الملائكة ومن دعوى ابليس بعدم أهليته).
والأمر هنا لا يتعلق بالغيب بل بوظائف الرسالة التي هي القرآن كما يعرف نفسه علاقة مباشرة تذكر الإنسان بأنه في امتحان دائم هو عين كيانه المادي والروحي كما يتعين في الطبيعة التاريخ علاقة غير مباشرة مشدودة إلى ما في العلاقة المباشرة من تحديد لهويته العضوية والروحية: مستعمر ومستخلف.
ولما كان مكلفا أي حرا مخيرا قادرا على تطبيق التكليف وعدم تطبيقه بات الأمر متعلقا بسياسة ذاته تربية وحكما أو بنظرية الأمة ذات الدولة إطارا الامتحان لتحقيق مقومي الكيان أي التعمير والاستخلاف فإن النظام القانوني يتأسس في نظرية الدولة كما حدد القرآن مثالها أي سياسة الله للعالم.
وهذا هو الدستور الذي عطل وعوض بحالة الطوارئ كما وصفت. فما هو هذا الدستور؟ وكيف يتألف من الحريتين الروحية (لا وساطة بين الله والإنسان) والسياسية (لا حكم بالحق الإلهي) شرطين في الاختبار؟: كيف يمكن أن يحاسب الإنسان إذا لم يكن حرا روحيا وحرا سياسيا لئلا يحمل مسؤولية أفعاله لوسيط ووصي
فما هو هذا الدستور؟
حددته الآية 38 من الشورى: “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”. العلاقة المباشرة هي الاستجابة للرب. وعلامتها إقامة الصلاة. والإشارة الواردة فيها تحدد مقومات هذا الدستور.
فمرجعية الدستور هي الاستجابة إلى الرب. وطبيعته هي نسبة الأمر للجماعة. وأسلوبه هو سياسته بالشورى. وأهم مجالاته هي الإنفاق من الرزق الذي هو ثمرة التعمير والذي الأمر في إدارته هو غاية الاستخلاف. وينتج عن ذلك أن النظام السياسي الذي يشير إليه القرآن وظيفته الخروج من الخسر.
فالمرجعية تحددها سورة العصر: وله أصل وأربعة فروع. الأصل هو وعي الإنسان بشروط الاستثناء من الخسر الذي قد يرد إليه إذا لم ينجح في اختبار أهلية الاستخلاف أو في الحياة الدنيا تعميرا بقيم الاستخلاف: والفروع الاربعة اثنان منها متعلقان بالذات الفردية يضاف إليهما واثنان بعلاقة الذوات أو بالجماعة.
فالفرد المكلف والذي يختبر ثم يحاسب كفرد يوم يأتي ربه فردا مطالب بالإيمان والعمل الصالح. وبوصفه عضوا في جماعة لا بد من التواصي بالحق والتواصي بالصبر (المشاركة في الحالتين). ومن ثم فالاستجابة للرب في الشورى 38 أصحابها هم هؤلاء. وهم أصحاب الامر وهم مطالبون بسياسته بالشورى.
فلنحلل الشورى 38. فهي تعرف النظام السياسي وتضعه بين حدين: المرجعية التي وصفنا والمجال الأساسي الذي بمقتضاه يمتحن الإنسان في التعمير بقيم الاستخلاف أي الإنفاق من الرزق. تنزل النظام السياسي بين نظامين أولهما علاقة الإنسان بالرب والثاني مركز علاقة الإنسان بالإنسان: الرزق.
فكل علاقة بين البشر مدارها ثمرة الاستعمار في الأرض (الرزق) في ضوء علاقة الإنسان بربه المذكورة أو المنسية وبين هذين الحدين يأتي النظام السياسي والقانوني لتنظيم هذين العلاقتين المباشرة بين الإنسان وربه وغير المباشرة بين الإنسان مجال اختبار الأهلية الأساسي أي الانفاق من الرزق.
ولنأت الآن إلى تعريف النظام السياسي والقانوني الذي يحقق هذه الإشارة والذي هو المثال الأعلى الذي ينبغي أن تكون الدولة في الجماعة الصالحة مشدودة إليها بوصفه محققا لاختبار الاهلية الذي يتحقق في سياسة الإنسان لوجوده الدنيوي باعتباره مستعمرا في الأرض ضرورة ومستخلفا اختيارا.
واختبار الأهلية يقع بمدى تطبيق قيم الاستخلاف في أفعال التعمير وفي سياسة تمراتها. وهذا هو مضمون الآية 177 من البقرة. وليحصل الاختبار لابد أن يكون النظام السياسي والنظام القانوني مبنيا على شروط اختبار الأفعال الحرة التي يكون فيها الأمر أمر الجماعة المؤلفة من أفراد يمارسون الحريتين.
فالآية وضعته بين الاستجابة للرب والإنفاق من الرزق. وفيه مقوما النظام السياسي والقانوني اللذين يتوفر فيهما شرط اختبار الحريتين: طبيعة النظام وأسلوب النظام. فنسبة الأمر إلى الجماعة تحدد طبيعة النظام جمهورية (أمر الجماعة=راس بوبليكا) وأسلوب إدارته بالشورى يعني ديموقراطية.
وهذه الجمهورية الديموقراطية تتأسس على مرجعية الاستجابة إلى الرب بداية وعلى اجتماعية الرزق غاية فيكون النظام القانوني المناسب لهذا النظام السياسي نظاما هدفه الوصل بين طبيعة التعمير وأهدافه وطبيعة الاستخلاف ودوره في جعل التعمير يثبت أهلية الإنسان للاستخلاف أو عدم أهليته.
تأصيل النظام القانوني والخلقي أو تأصيل الفقه ينطلق من هذا التعريف للنظام السياسي حكما (النظام القانوني) وتربية (النظام الخلقي) في جماعة مؤمنة بدلالة حددتها سورة العصر لاخراج الإنسان من الخسر الممكن خلال اختبار الاهلية في الاستخلاف كما وصفنا.
وهذا يعني أن تأصيل الفقه لا يؤسس مباشرة على نص القرآن بل على ما وجهنا اليه من طلب آيات الله في الآفاق والأنفس طلبا قد ينتهي إلى تحقيق اهلية الاستخلاف وقد ينحرف فيبعدنا عنا. وما نحاسب عليه هو ما نضعه من قوانين وأخلاق في سياسة الامر الذي هو أمرنا بالشورى فنحمل مسؤولية ما يترتب عليها.
فإذا ناسب تشريعنا الذي نضعه بالشورى شروط اهلية الاستخلاف كان شرعيا وإن لم يناسبها كان لا شرعيا. والمناسبة تتحقق بفضل صفات القانون والأخلاق التي تجعلها تحقق قيم الاستخلاف وهي الأمانة والعدل في حالة الفقه والقانون. ومبدأ عدم إجماع الأمة المؤمنة على الخطأ يؤيد هذا التصور.
ومن ثم فالجماعة المؤمنة التي تتألف من أفراد يؤمنون ويعملون صالحا تكون متواصية بالحق وبالصبر في النظر والعمل ويكون تشريعها منطلقا من الاستجابة إلى ربها وساعيا إلى الانفاق من ثمرة التعمير بقيم الاستخلاف هي السلطة التشريعية التي يكون تشريعا قانونا بمعزل عن المقابلة وضعي-ديني.
وبذلك تتحرر الأمة في مرحلة الاستئناف من حالة الطواري التي نتجت عن الفتنة الكبرى بداية واستأنفت عن الفتنة الصغرى غاية وتحررت مما يعوق الحريتين بين الفتنتين ولن تقع فيما يعوقهما بعد عودتهما وتحالف أصحابهما في حرب ضروس ضد هذا الدستور الذي عطلته الفتنة الكبرى وتريد الصغرى إلغاؤه.
فالفتنة الكبرى كان مدارها الدستور القرآني لفرض دين التقية الباطني المتعين في التشيع. والفتنة الصغرى مدارها الدستور القرآن لفرض دي العجل المتعين في العلمانية. وهما الآن متحالفان ضد الإسلام في دلالته الأصلية التي يشير إليها القرآن ويترك لنا واجب خوض اختبار الاهلية باجتهادنا.
والاختبار شامل: القرآن وفهمه الأسمى (السنة) يفرضان على المؤمنين ما حددته سورة العصر للخروج من الخسر أو للنجاح في اختبار الاهلية. وهذا الاختبار هو التعمير بقيم الاستخلاف وهو يشمل كل شروط التعمير علما بالطبائع والشرائع وعملا بهذا العلم وتنظيم الحياة (الأمر)بإرادة مؤمنين أحرار.
والفقه الناتج عن علوم آيات الله التي يرينها في الآفاق والانفس لنعلم حقيقة القرآن هو الذي علينا تأصيله ليكون عودة إلى الصدر بمرحلتيه: فقه الرسول وفقه الخلفاء الراشدين الثلاثة الاول (لأن الرابع لم يحكم بسبب الحرب الأهلية): شرعية الفقه من شرعية الدولة التي حددها الدستور القرآني.
لذلك فالفقه وتأصيله خلال حالة الطواري ليس شرعيا لأنه مبني على قلب فصلت 53 وآل عمران 7 وقلب العلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية التي فرضتها حالة الطواري على الاقل في الأفعال. فصار الكلي في مبادئه يعير الجزئي وأصبح القانون الجزئي ناسخا للقانون الكلي في كل مجالات الفقه.
في هذا الفصل التاسع أريد أن أبين أن القانون ليس شرعيا لأنه مستمد من المرجعية الدينية في الظاهر بل لأنه بحق منتسب إلى ما بمقتضاه تعتبره المرجعية الدينية شرعيا. والقرآن الكريم لا يمكن أن يعتبر الشرع شرعيا لمجرد كونه في الظاهر ذا مرجعية دينية استنادا إلى ما ضربه من أمثلة.
فالأمثلة التي يضربها القرآن شارعها هو قاضيها في “دولته” التي القيم عليها لا يأتيه الباطل لأنه يحدد دلالتها القرآنية انطلاقا من آيات الله التي يراها في الآفاق والأنفس. وهو ما يصدق على الرسول وعلى الراشدين. وحينها كانت المرجعية هي ما حدده الدستور قبل أن يعطل ويعوضه قانون الطوارئ.
ومعنى ذلك أن الدستور المحدد لدولة الرسول وعمل الراشدين بمقتضى ما تعلموه منه قد حدد مصادر التشريع ليس في تلك الأمثلة بل في النظام السياسي الذي وصفنا في الفصل السابق والذي يتبعه النظام القانوني المترتب عليه بين حدين الاستجابة للرب والانفاق من الرزق بنظام طبيعته جمهورية وأسلوبه شورى.
فالأمر أمر الجماعة المستجيبة لربها بشروط الاستثناء من الخسر كما حددتها سورة العصر لتحقيق دولة الأحرار روحيا (لا وساطة بين المؤمن وربه) وسياسيا (لا وصاية على أمة أفرادها أحرار). لكن الأمر صار بسبب تعطيل الدستور أمر من لم يعد مستجيبا للرب إلا في الظاهر والجماعة خاضعة لوساطة ووصاية.
وهذا ما أعنيه بحالة الطوارئ التي فقد فيها المسلم حريته الروحية وحريته السياسية وصار الفقه وتأصيله وكأنه فرض كفاية لكأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسا فرضي عين. وفرض العين في هذه الحالة هو واجب مضاعف هو اختيار المشرع ومراقبته لأن التشريع ليس مسألة علم بل مسألة إرادة.
فالتشريع هو التعبير عن الإرادة الحرة روحيا وسياسيا للجماعة صاحبة الامر بمعايير الاستجابة للرب من أجل إدارة أمرهم بالشورى حتى يتمكنوا من إزاحة ما يحول دونهم والأخوة (النساء 1) بقيم المساواة والعدل (الحجرات 13) فيكون نظام دولة الإسلام وقانونها مشدودين لنظام دولة الله (الكون) وقانونها.
ومفهوم الأمة لا تجمع على خطا يعني مفهوم المستجيبين للرب إرادتهم مشرعة في نظام يكون الامر فيه أمرهم (طبيعة النظام) وتكون إدارتهم له بالشورى التي تطبق الوعي بشروط الاستثناء من الخسر أي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
وهو ما يعني أن البشرية خسرها في اتباع دين العجل الذهبي ذي الخوار: سلطان المال (مادة العجل ذهب) وسلطان الأيديولوجيا الدهرية (صوت العجل خوار). فالنظام الإسلامي الذي وصفت هو البديل الوحيد للنظام العلماني الموحد للإنسانية بدين العجل مقدما نفسه بديلا من توحيدها الإسلامي بالدين الخاتم.
وهو ما يعني أن المعركة الكونية الحالية ليست بنت الصدفة بل هي تحدث في مرحلة التاريخ الإنساني الذي يصبح فيه نظام الإنسانية السياسي والقانوني مخير بين العلمانية والإسلام بعد أن يتحرر مما آل إليه نظامه الروحي والسياسي إلى موقف باطني أو ظاهري لم يبق من الإسلام فيه إلا القشور.
ففي الحقيقة لا يوجد فرق كبير بين فقه داعش وفقه الانظمة الإسلامية سواء ادعت الحكم بالشرع أو بالوضع لأن النتائج واحدة ما دام ليس معبرا عن إرادة المؤمنين الأحرار روحيا وسياسيا بل هو إرادة دول خالية من الشرعية التي تجعل قضاءهم تأسيسا وحكما وتنفيذا ظالما بالجوهر وغير أمين لقيم الإسلام.
وهو ما يبين أن كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث من نفس الطبيعة: فلا فرق بين القانون الذي يدعونه شرعيا والقانون الذي يدعونه وضعيا ما دام كلاهما لا يعبر عن جماعة مؤلفة من أفراد أحرار روحيا وسياسيا حتى يكون وجودهم بمنزلة امتحان أهلية الإنسان للاستخلاف التي تتحدد الوزع الذاتي.
فإذا لم يكن مصدر القانون شرعيا كان أو وضعيا صادرا عن الوزع الذاتي كان مطلق الأجنبية وفاقدا للأساس المستمد من كون الامر أمر الجماعة المستجيبة لربها والحرة روحيا وسياسيا لتديره بالشورى كما حددت ذلك الآية 38 من الشورى فهو صادر عن عبادة العباد لا عبادة رب العباد.
ولست غافلا عن الدور الذي أقع فيه: فكيف أجعل القانون يستمد شرعيته من ارادة المستجيبين لربهم وأنسب إليه وظيفة تربية الإنسان وحكمه حتى يصبح أهلا للاستخلاف خلال امتحان الاهلية؟ من أين لي بمن يكون مستجيبا للرب ليكون صاحب الامر الحر روحيا وسياسيا ليكون بالشورى مصدر التشريع والتنفيذ؟
كيف لإنسانية فسدت فيها معاني الإنسانية سواء حكمت بالعلمانية أو بالدين أن تحقق هذه الرؤية القرآنية للنظام القانوني التابع للنظام السياسي الذي أهل الإنسان للعلم به وللعمل على علم به فيكون صاحب الامر الذي يدرك ضرورة نظام قانوني الشورى سيقع في الخسر لخلوه من شروط الاستثناء منه؟
والجواب هو أن ذلك ممكن وإلا لما وضعه القرآن وقدم منه الرسول عينة حاول الراشدون محاكاتها بقدر الوسع فصارت الامة قابلة لأن تكون شاهدة على العالمين بشهادة الرسول عليها. وإذا فهمنا نظام سياسة الرسول وأسلوب حكمه أمكن لنا تحقيق هذه الثورة لاستئناف دورنا والخروج من حالة الطوارئ.
لذلك أؤمن بلا حد بأن القرآن مستقبل الإنسانية ونظامه السياسي والقانوني هو أساس شريعته وأن تأصيل الفقه في غايته نظرية المقاصد ليس نابعا مما وجهنا للبحث فيه عن حقيقته وأن الأمثلة الواردة لا يقاس عليها لأن شارعها ليس المكلَفين بل المكلِف فلا يقاس على عينيتها بعلم غير محيط.
والمعلوم أن عينيتها لا يحيط بها إلا علم محيط لكن خصائصها الكلية في متناول علم الإنسان النسبي. وهذه هي التي يمكن استخراجها من آيات الله في الآفاق والأنفس بما أمدنا الله به من قدرة الاستنباط في ضوء مقومات دولة الإسلام التي تخول للأمة التشريع والتنفيذ الشوريين في التربية والحكم.
فالعلم بقوانين الآفاق (الطبيعة رياضية القوانين) والعلم الأنفس (التاريخ سياسي القوانين) مع الحريتين الروحية والسياسية وبالدستور القرآني بحديه (الأصل الاستجابة للرب والغاية الإنفاق من الرزق) وطبيعة الأمر (أمر الأمة) وأسلوبه (الشورى) يكون تأصيل الفقه في إرادة أمة الاحرار بالمعنيين.
ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو تشريع الأحرار بمقتضى التكليف لاختبار الأهلية بالخلافة لا يتعلق بالأفعال كتال فحسب بل بها كمقدم كذلك وإلا فإن التكليف يصبح منقوصا لأن يقتصر على تطبيق لوازع أجنبي حتى لو كان نصا مقدسا ما لم يكن نابعا من الوازع الذاتي تشريعا وتنفيذا.
لذلك اشترطت الآية 38 من الشورى الاستجابة للرب مقدما ونظرية الدولة طبيعة وأسلوبا تاليا والتغلب على العائق (عبادة العجل تؤدي إلى عكس الأنفاق من الرزق فتكون استعماله للاستعباد) الذي قد يحول دون تحقيقها في التاريخ الفعلي بوصفها رسالة الإسلام الخاتمة: ومنها النظام القانوني المناسب.
وبذلك يتبين أن الفقه وتأصيله قد مر بعصرين مضموني وآلي كلاهما خلط أصحابه بين دور المرجعية التي تشير إلى مجال البحث فيما يتأسس عليه التكليف في التعمير والاستخلاف ليس في المرجعية المشيرة بل المرجعية المشار إليها. القرآن حدد محل تجلي حقيقته: ليس نصه بل آيات الله في الآفاق والانفس.
تأصيل الفقه مثل أي علم لا يطلب من نص القرآن بل من آيات الله في الخلق والأمر آياته التي يرينها في الآفاق والأنفس أي في الطبيعة والتاريخ القائمين في الأعيان ليصبحا قائمين في الأذهان: لا يمكن تأسيس الفقه وتأصيله إلى في مجال عمله الذي هو أمر الجماعة. مرجعية الفقه هي نظام أمر الجماعة.
وقوانين الطبيعة الرياضية وقوانين التاريخ السياسية هي الآيات المتجلية في الآفاق والأنفس والعمل بها هو شرط سياسة أمر الإنسان من حيث كيانه الطبيعي ككائن حي والروحي ككائن حي مكلف وفي إطار النظام المحقق لغايتي التكليف (التعمير والخلافة) يكون الإنسان مكلفا بعمل تام تختبر فيه أهليته.
والعمل التام لا يمكن أن يكون مجرد تطبيق لتشريع وإلا لكان ما فيه من روحي حر ومسؤول مردودا لما فيه من طبيعي خاضع للضرورة. إبداع التشريع من التكليف الذي يتجاوز تطبيق تشريح خارجي وأجنبي. فالرسالة لم توجد المضمون كان معدوما بل ذكرت بما كتب منه في الفطرة مع شروط الاستثناء من الخسر.
وصلنا الآن إلى الفصل العاشر والأخير من الشكوك وفيه بيت القصيد. فالقرآن لا يتضمن القوانين العينية بل يكتفي ببيان طبيعتها ونظرية العلم التي توصل إليها في مجال حددتها الآية 53 من فصلت أمرا وآل عمران7 نهيا لا في نصه حدا يصح على كل العلوم وخاصة علم شروط الحياة الجماعية شرط بقاء الفرد.
والعلة بينة لأن القرآن جعل حقيقته تعلم من آيات الله في الآفاق والانفس بوصفهما بعدي عالم الشهادة الذي علمه في متناول الإنسان لأنه شرط تحقيق التكليف الذي هو شرط اختبار أهلية الإنسان للاستخلاف. والتكليف له بعدان: تعمير الأرض شرطا لقيام الإنسان والاستخلاف فيها شرطا لأهلية الإنسان.
وهذان الشرطان لا يتحققان من دون السياسة كفعل والدولة كجهاز لهذا الفعل بوظائفه العشر: خمس هي ابعاد الوظيفة الاولى للدولة (اثنان للحماية الداخلية القضاء والأمن واثنان للحماية الخارجية: الدبلوماسية والدفاع. يوحد هذه الاربعة الاستعلام والإعلام السياسيين في نسبته للجماعة نسبة جهاز الفرد العصبي).
وخمس للرعاية هي أبعاد الوظيفة الثانية للدولة (اثنان للتكوين التربية النظامية والتربية المرسلة في المجتمع واثنان للتموين الانتاج الرمزي أو الثقافة العلمية والعملية والانتاج المادي أو الاقتصاد العلمي والعملي. ويوحد هذه الوظائف الأربعة الاستعلام والإعلام العلمي أو البحث العلمي أصل كل رعاية).
وهذا هو موضوع السياسة تربية وحكما وما الدولة إلى الوجود المتعين للسياسة بهذا المعنى. وقد جمع القرآن ذلك في سورة قريش: أطعمهم من جوع (رمز الرعاية) وآمنهم من خوف (رمز الحماية). لكنها سياسة مكلف ببعدي التكليف المشروط في قيام الإنسان وفي منزلته الوجودية: معمر للأرض ومستخلف فيها.
وقد حدد القرآن نظام الحماية والرعاية فسماه “الأمر” ونسبه إلى الجماعة وأسسه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو تأسيس خلقي لوظائف النظام السياسي العام ولنظام القانون الذي يعمل بمقتضاه النظام السياسي العام. وذلك هو مضمون الآية 38 من الشورى كما سبق أن بينت.
ولا يمكن تأسيس النظام القانوني والنظام الخلقي (الفقه يجمع بين النظامين) إلا في إطار هذه السياسة عملا والدولة جهاز عمل يحقق هذه الرؤية لمهمة الإنسان المكلف بتعمير الأرض (مستعمرا فيها) بقيم الاستخلاف (خليفة فيها) فعلين كاملين اجتهادا تشريعيا وتنفيذيا وبينهما قضائيا مع العلاقتين.
والاولى تصل القضاء بالتشريع والثانية تصله بالتطبيق. وإذن فالقضاء بمقتضى الفقه مشروط بشورى تكليف من له أهلية التشريع وبشورى تكليف من له أهلة التنفيذ. وتكليف ذي أهلية التشريع وأهلية القضاء وأهلية التنفيذ هي مهمة الأمة المؤلفة من المستجيبين لربهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
وتوسط القضاء بين التشريع والتنفيذ يجعل التنفيذ في الحقيقة محيطا بالقضاء من كلا طرفيه التشريعي والتنفيذي لأن التشريعي في الحقيقة تابع للتنفيذي في الانظمة الديموقراطية: فالقوانين قابلة للتغيير بتشريعات بديلة يضعها الحزب الأغلبي لتحقيق برنامجه هذا فضلا عن طرق الضغط على القضاة.
وحتى الدساتير قابلة للتغيير إذا كانت وضعية وليست مقدسة مثل الدساتير الدينية المتعالية على منطق القوى السياسية المتنافسة في النظام الديموقراطي العلماني. وكل ذلك يعتبر من فضائل تحرير السياسة من سلطان الدين بل هو من أهم حجج المدافعين عن الفصل بينهما.
وعندما يصبح القانون العام والخاص خاضعا لمنطق التنافس بين القوى فإن ينتهي في الغاية ليس إلى تحرير السياسي من الديني بل إخضاعه للدين العجل الذهبي أي سلطان المال على الإرادة وسلطان الإعلام على العقل وكلاهما يمثل أداة تزييف الحقيقة وتحكيم الباطل بمنطق المافيات.
وعندما يصبح القانون العام والخاص خاضعا لمنطق التنافس بين القوى فإنه ينتهي في الغاية ليس إلى تحرير السياسي من الديني بل إخضاعه لدين العجل الذهبي أي سلطان المال على الإرادة وسلطان الإعلام على العقل وكلاهما أداة منافية للحريتين تزييفا للحقيقة وتحكيم الباطل بعد إلغاء الحريتين.
فالوساطة بعد الكنسية صارت حزبية والوصاية بعد الحكم بالحق الإلهي صارت حكما بالحق الطبيعي أي بسلطان المال على الإرادة وبسلطان الإعلام على العقل تزييفا للوعي وتسويدا للباطل. فالحكم العلماني والحكم الديني من دون الوزع الذاتي كلاهما وازع أجنبي وتوظيف مناف للحريتين الروحية والسياسية.
ولا يتحرر القضاء من التوظيف السياسي المنافي لوظيفة الفصل بين المتحاكمين من دون تحقق صفتيه فيه أعني الأمانة والعادل ولا ضامن لهذا التحقق إلا بالوزع الذاتي المصاحب له بوصفه وزعا أجنبيا. والوزع الذاتي هو حضور الله في وعي الإنسان المدرك للأخوة الإنسانية مراقبا (النساء 1).
وهذا الوعي بحضور الله مراقبا للأقوال والأفعال هو التقوى التي تحصل في القضاء عندما يكون الحكم أمينا وعادلا. وتلك العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه(القرآن)التي تسدد العلاقة غير المباشرة أو ما نراه من آيات الله في الآفاق والأنفس بعلمها وعلم التطابق بين العلاقتين.
وذلك يعني أن عصري الفقه الأولين لا يختلفان من حيث الطبيعة ما يتوهمه أصحاب الاعجاز العلمي من وجود القوانين العلمية العينية في القرآن وتوهم البحث عنها في نصه بالشروح اللفظية لبعض الإشارات التي توجه فكر الإنسان إلى محال البحث العلمي فيما يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس.
والفقه وتأصيله علم يوجهنا القرآن لمحل طلبه الذي يبين حقيقة القرآن متعينة فيما يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس وهو ما يغني عن وهم الإعجاز العلمي الذي يطلب قوانين الفقه وأصوله في نص القرآن. لكن القرآن هو العلاقة المباشرة (بين الله والإنسان) المسددة للعلاقة غير المباشرة.
ومثلما حدد القرآن حقيقة الخلق والأمر التي ينبغي طلبها من الآيات التي نراها في الآفاق والانفس لنتبين من حقيقة القرآن. والقرآن لم يعين قوانين الآفاق والأنفس العينية بل حدد طبيعتها. فهو يبين أن الخلق حقيقة قوانينه رياضية وأن الأمر حقيقة قوانينه سياسية أي نظام الطبيعة ونظام التاريخ.
وفي إطار هذين النظامين الرياضي للطبيعة والسياسي للتاريخ حدد القرآن طبيعة قوانين الفقه أو القانون بالمعنى السياسي بكونها خلقية تصف الحكم والحكم: فكلاهما ينبغي أن يتصف بالأمانة والعدل. والأمانة هي حفظ الحقوق والواجبات إذ القاضي يفصل بين المتنازعين فيهما تمثيلا للطرف الثالث.
والطرف الثالث هو حضور الله في فعل الحكم وهو الضامن الحقيقي لحياد القاضي ولاتصافه وحكمه بالأمانة والعدل. ولما كان هذا الحضور في الضمير من أسرار النفوس التي لا يعلمها إلا الله وجبت الحروز التي تتعلق بأحكام القضاء الظاهرة التي تضمن بقدر معقول شروط الحياد والموضوعية.
فتكون الضمانات الأجرائية مقدمة على القانون المضموني وهي أهم ما جاء في القرآن لضمان شروط قيام القضاء بواجبه على أحسن وجه. وتبقى كلها من جنس العلاقة غير المباشرة التي لا بد فيها من علامات المطابقة مع العلاقة المباشرة بين الله والإنسان. وذلك في وظيفتي الدولة بفروعهما.
فالقضاء يشمل الحماية وفروعها الخمسة والرعاية وفروعها الخمسة وهو إذن لا يستثني نفسه من الخضوع لأحكامه فهو قاض في القضاء قبل أن يكون قاضيا في الأمن والدبلوماسية والدفاع والاستعلام لتتحقق شروط الحريتين الروحية والسياسية فيكون المكلف بحق قابلا لاختبار أهليته للتعمير والاستخلاف.
وهو قاض في التكوين أي التربية النظامية والتربية المرسلة في الجماعة وفي التموين الروحي بالإنتاج الرمزي أو الثقافة العلمية والعملية وفي التموين المادي أو الاقتصاد العلمي والعملي وفي البحث العلمي أصلا لها جميعا. والحماية والرعاية بوصفها موضوع قانون تعير بالأمانة والعدل.
والحماية والرعاية كلتاهما تتعلقان بعلاقة التبادل وبعلاقة التواصل والتفاهم بين البشر في الداخل والخارج وبينهم وبين الطبيعة وبحدي التبادل والتواصل بين إنسانين أو بين أنسان والطبيعة. والمدار هو العلاقة بالأحياز وما يدور حولها من تعاقدات وخلافات يضبطها القانون بقيمتي الأمانة والعدل.
والأحياز التي يضبط القانون والفقه شروط التحاكم فيما يدور حولها خلاف بين البشر هي تقاسم المكان وتقاسم الزمان وتقاسم مفعول الأول في الثاني (ثمرة الإنتاج الرمزي أو التراث) أو مفعول الثاني في الأول (ثمرة الإنتاج المادي أو الثروة). والثروة والمكان والتراث والزمان أصل كل النزاعات.
والنزاعات هي بين الإنسان والإنسان على ما بينهما من علاقات أو ما بينهما وبين الطبيعة من علاقات فيكون الإنسان والطبيعة هما بدورهما موضوعا للقانون المنظم للعلاقات. وكل ذلك قانون مدني. وعن الظلم في الحكم بين المتنازعين فيه تنتج القوانين الأخرى: الأسري والجنائي والإداري والدستوري.
وكل ما نكتشفه في آيات الله في الآفاق والأنفس أو في العلاقة غير المباشرة بين الله والإنسان يثبت حقيقة ما جاء في القرآن. فهو يحدد مجال القانون أو الفقه بهذه المعاني كلها ويعين قيمتي الحكم أي الأمانة والعدل تاركا تحديد مقدار الجزاء والعقاب العيني الدنيوي للمتنازعين لاجتهاد القاضي.
ولو لم يكن الأمر كذلك لما غير الفاروق الذي هو أكثر الناس أمانة وعدلا العقاب الذي هو وسيلة الحكم وليس الحكم بحسب ظرف الجناية الحاصلة في السرقة: ذلك أن الفاروق كان يميز بين الحكم ووسيلة العقاب. فالحكم هو عقاب الجناية والوسيلة هي تقدير العقاب بحسب ظرفها: شرطا في الأمانة والعدل.
ومن ثم فالثابت هو الحكم والمتغير هو تقدير الوسيلة المحققة للعدل الأمين في أعيان النوازل. ومعنى ذلك أن الفاروق كان يدرك أن حقيقة القرآن تتعين في آيات الله في الآفاق والأنفس وأن العلاقة المباشرة بين الله والإنسان أو القرآن وظيفتها مراقبة العلاقة غير المباشرة بتوسط وظيفتي المكلف.
فالمكلف وظيفته الأولى تنتج عن كونه مستعمرا في الأرض أو مكلفا بتعميرها مصدرا لقيامه ووظيفته الثانية كونه مستخلفا فيها أي مكلفا برعايتها بمقتضى الأمانة والعدل جوهر شرع الله الذي ينبغي أن يكون حضوره الدائم كرقيب على اقوال الإنسان وافعاله هو عين الوزع الذاتي: بمعيار الامانة والعدل.
وقد يظن بعض القراء أن هذا البديل فيه شيء من الاستغناء عن النصوص والاكتفاء بالآفاق والأنفس. لكن اتهامي بهذه الرؤية اتهام للقرآن نفسه: ذلك أن فصلت 53 صريحة والذهاب المباشر للنصوص تعد عن آل عمران 7 لأن قلب فصلت 53 يجعل المنطلق النص بداية وتحرير المناط غاية في حين أنها ترى العكس.
الفصول العشر السابقة من شكوك على المقاصد كان عرض إشكالية الفقه وتأصيله بما هي أزمة ناتجة عن فهم أولي للعقد بين الله والإنسان أو ما يمكن تسميته بعقد الاستخلاف. وهذا العقد هو القرآن الكريم. وهو الديني في كل دين غير محرف. والفهم الأولي كان عكس توجيهات المستخلف للخليفة لمعرفة حقيقته.
والأمر طبيعي: وهو يتبين من المقابلة بين فهمه قبل الفتنة الكبرى وفهمه بعدها. فقبل الفتنة لم يكن ممكنا أن يساء فهم توجيهات العقد لأن الرسول كان على صلة مباشرة بالوحي والراشدين كانوا على صلة مباشرة بالرسول وربوا على نفس الصلة التي تعتبر العقد لتوجيه العلم والعمل واختبار أهلية الخليفة.
لكن ما حصل بعد الفتنة الكبرى والحروب الأهلية الأربع التي ترتبت عليها هو تعطيل الدستور او العقد في النظر والعمل وخاصة في شروط اختبار أهلية الإنسان للخلافة التي يحددها العقد أو الميثاق وتقبل الرد إلى مضمون القرآن بوصفه التذكير بهذا العقد كما رسمته آيات الأعراف 172-173.
{وإذ أخذ ربك من بين آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا بلى: شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟} الرسالة تذكير بهذا الميثاق وبمضمون اختبار أهلية الإنسان للخلافة.
ومضمون الاختبار هذا هو كل ما يتعلق بالخلافة-خلافة الإنسان-في الحياة الدنيا أو ما سيعرض منها في الحياة الأخرى لتقييم نتيجة الاختبار. ولما كان القرآن الذي هو هذا الميثاق قد نجم من أجل تعليمه (الإسراء 105 و106) فإن تحديد طبيعة القرآن كله لم يكن ميسورا إلا للنبي وللراشدين من بعده.
وقلب العلاقة بينه كدستور أو ميثاق بين الخليفة والمستخلف توجيها لشروط النجاح في الاستخلاف وبين الأعمال النظرية والعملية التي حاول العلماء استخراجها منه ظنت اعمالا مباشرة محددة في القرآن نفسه بدل ما وجه إليه لمعرفة حقيقة القرآن (فصلت 53) وما نهى عنه من توهم استنتاجها (آل عمران 7).
وذلك هو مدلول ترك ما وجهت إليه فصلت 53 أمرا والانشغال بما أشارت إليه آل عمران 7 نهيا وكان ما حدث بعد الفتنة من قلب للعلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية مناظرا لقلب فهم القرآن الأمر نهيا والنهي أمرا. تركوا طلب حقيقة القرآن في آيات الله في الآفاق والانفس وطلبوها من المتشابه.
ويمكنني القول إني لم أفعل شيئا من عندي: كل ما أحاوله هو التحرر من هذا القلب المضاعف:
في الممارسة السياسية للخروج من حالة الطوارئ التي تعيشها الأمة منذ الفتنة الكبرى (الباطنية) ومكنت الفتنة الصغرى الحالية (العلمانية) من بيان طبيعتها
وفي علوم الملة قلبا لفصلت 53 وآل عمران 7.
وانطلاقا من الفتنتين الكبرى والصغرى (الباطنية والعلمانية) بينت طبيعة المآل النظري والعملي:
قلب للعلاقة بين الدستور أو العقد القرآني والقوانين الاستثنائية في الممارسة السياسية
قلب لعلاقة بين ما أمر به القرآن وما نهى عنه وفي مجال اختبار أهلية الاستخلاف بالحريتين الروحية والخلقية
واختبار الحرية الروحية (العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه) وأثرها في الحرية السياسية (العلاقة غير المباشرة بين المؤمن وربه) تربية وحكما في الدنيا بوصفهما اختبارا لأهلية الإنسان كخليفة ذلك هو مجال كل علم وكل عمل يحاسب عليه الإنسان في الآخرة. والتكليف إذن مشروط بهذين الحريتين.
وتلك هي الشريعة التي تضبط الطبيعة: فالإنسان من حيث هو مخلوق يتبع الطبيعة ومن حيث هو مكلف يتبع الشريعة والقرآن هو إذن الميثاق بين الله والإنسان وهو إن صح التعبير تعليمات إلهية للإنسان حتى يبدع شروط قيامه الطبيعي والتشريعي. هو ما بعد شريعة وما بعد طبيعة وليس شريعة ولا طبيعة.
ومن ثم فما نتج عن قلب العلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية وبين المأمور به والمنهي عنه في علاقة القرآن بمجال الاختبار (العلم والعمل الإنسانيين) هو الخلط بين ما بعد الطبيعة وما بعد الشريعة اللذين في القرآن والطبيعة والشريعة في مجال امتحان اهلية الإنسان للاستخلاف: فصلت 53.
وهذا القلب لفصلت 53 ولآل عمران 7 جنيس لما يسمى بالإعجاز العلمي: فأصحاب الإعجاز العلمي يبحثون عن قوانين الطبيعة في شرح نص القرآن. لكن فصلت 53 تقول إن حقيقة القرآن توجد في آيات الله التي يرينها في الآفاق والانفس. ومعنى ذلك أن قوانين الطبيعة ليست في القرآن بل في العالم نفسه.
إنها لا تعلم بشرح نص القرآن بل تعلم بالبحث العلمي في الطبيعة وآيات الله فيها هي القوانين. والقرآن حدد طبيعتها دون أن يحدد أعيانها. فكل مخلوق خلق بقدر ومن ثم فهو يعني أن قوانين الطبيعة لا تعلم إلا بالإبداع الرياضي المشفوع بالتجربة العلمية. القول بالأعجاز العلمي تكذيب للقرآن.
وهذا الحكم يصح على كل علم بما في ذلك علم الشريعة. ومن ثم فأول من فهم هذا الانحراف وأعاد وجهة العلم الشرعي هو ابن خلدون: لم يعد يطلب الشرائع من شرح آيات القرآن بل من تطبيق التوجيه القرآني في فصلت 53 فطلب الشرائع من آيات الله في الآفاق والانفس آياته التي نتبين بها حقيقته المابعدية.
وقد حاولت تحديد مقومات المجال الذي يختبر فيه الإنسان من حيث أهليته للاستخلاف كما يحددها القرآن الكريم تحديدا جامعا مانعا وسميت ذلك “المعادلة الوجودية” وهي على النحو التالي: القرآن تذكير بنص الميثاق أو العقد بين الله والإنسان إما كعلاقة مباشرة بينهما أو كعلاقة غير مباشرة بينهما.
والعلاقة غير المباشرة بين الله والإنسان ذات بعدين هما الطبيعة والتاريخ أو بلغة القرآن تجلي آيات الله في الآفاق والانفس وتحكمها العلاقة المباشرة بين الله والإنسان. والميثاق يتكلم على تواصلين بين الله والإنسان مباشر وغير مباشر. والأول هو عالم الغيب والثاني أثره في عالم الشهادة.
فإذا طبقنا فصلت 53 تبين لنا أن قوانين الطبيعة وسنن الشريعة لا توجد في نص القرآن. فهو مابعد الطبيعة وما بعد الشريعة. فقوانين الطبيعة توجد فيها وهي رياضية تجريبية. وسنن الشريعة توجد في التاريخ وهو سياسي تجريبي. وكونهما كذلك يعني أن طلب هذه القوانين والسنن والعمل بها هو مجال الاختبار.
ومعنى ذلك أن التكليف -الاستخلاف-لا يقتصر على العمل بل هو يشمل النظر كذلك. فهما أداتا القيام بمهمة الخليفة وهما ما تختبر فيه أهلية الإنسان للاستخلاف والتقييم حتى يجازى إيجابا أو سلبا لأن حكمها هم حكم الاجتهاد (النظر) والجهاد (العمل) كما حددت ذلك صراحة سورة العصر.
وبهذا يتبين أن القرآن يمكن فهم طبيعته التي غفلت عنها علوم الملة رغم أنه حددها صراحة تجعله ذا بعدين مباشر هو التذكير بالميثاق أو الديني في كل دين وهو معنى كون الإسلام هو الدين الخاتم وغير مباشر هو تذكير بشروط أهلية الإنسان للاستخلاف في مستوى ما بعدها.
ومستوى ما بعد شروط الاستخلاف هو ما بعد الطبيعة وما بعد الشريعة وهما غير الطبيعة وغير الشريعة. ما يوجد في القرآن هو ما بعد الطبيعة وما بعد الشريعة. والخطأ الذي حصل وكان ينبغي أن يحصل هو الخلط بينهما وبين ما بعدهما: فتعاملت الأمة مع نص القرآن والسنة وكأنهما علم طبيعة وعلم شريعة.
وهما ليسا علما بل عقد أو ميثاق يحدد الشروط التي تمكن من تحصيل أهلية الإنسان للخلافة وهي شروط متعلقة بنظره وعمله في الدنيا التي هي مطية الآخرة لأن نظريه (الاجتهاد) وعمله (الجهاد) هما ميدان أقواله وأفعاله التي تعير بمقتضى عقد الاستخلاف أو الميثاق الذي شهد به أبناء آدم: دين الفطرة.
وهذا هو قصدي بأن الديني والفلسفي شيء واحد: كلاهما ينطلق من تعاقد بين الإنسان والحق. فالإنسان بالجوهر كائن لا يمكن أن يكون لوجوده معنى إلا بهذا الانشداد الدائم للحق لأن كيانه الروحي بمجرد أن يدكر ذاته يدرك أن حياته هي هذا الانشداد سواء علمه بعقله(فلسفة)أو بوجدانه(دين).
وسأخصص الفصل المقبل لمحاولة ابن خلدون في تأسيس علم الشرائع أو سنن السياسة بمقتضى فصلت 53 فطلبه من آيات الله في الآفاق والأنفس أي آياته في التاريخ الشامل والمديد الذي هو علم العمران البشري والاجتماع الإنساني بمقتضى طبيعته الجامعة بين طبيعة مضطرة وطبيعة حرة: قانون التكليف وسننه.
لكن الكلام في محاولة ابن خلدون ينبغي تأجيله إلى ما يصلها بما تقدم في الفصول العشرة حول الشكوك لأنه لا يمكن الانتقال من عرضها بطريقة أرسطو في مقالة الدال إلى علاجها فيما بعد الشريعة-وهي طريقته التي خصصت لها بابا كاملا من رسالتي في الحلقة الثالثة حول منزلة الرياضيات في علمه.
وعلاج الشكوك فيما بعد الشريعة يعني ردها إلى المعادلة الوجودية والوصل بين العلاقة المباشرة بين الله والإنسان فيها والعلاقة غير المباشرة بتوسط الطبيعة والتاريخ بينهما. فالقرآن تذكير بهذه المعادلة وبما يترتب عليها في العقد بين الخليفة والمستخلف بتواصل موضوعه قوانين التواصل والتبادل.
ما بعد الشريعة التي تذكر بالعلاقتين المباشرة وغير المباشرة بين قطبي المعادلة الوجودية (الله والإنسان) هي ما بعد التكليف أو بنود الاستخلاف وصلا للإنسان الخليفة بالله المستخلف في العلاقة المباشرة وهي مقومات العبادة المباشرة وفي العلاقة غير المباشرة وهي مقومات اختبار الخليفة نظرا وعملا.
فلأذكر بالمعادلة الوجودية موضوع التكليف والاختبار التي هي بنية العقد أو الميثاق بين قطبيها الله والإنسان ما بينهما من علاقة مباشرة وبتوسط الآفاق والأنفس:
الله
الإنسان
الطبيعة
التاريخ
العلاقة المباشرة وغير المباشرة أو التواصل والتبادل المباشرين وغير المباشرين بين القطبين.
وكل هذه العناصر التي تتألف منها المعادلة الوجودية حاضرة في القرآن بذاتها وبما بعدها إنها في آن حاضرة بوصف عام يحدد طبيعتها وطبيعة ما يمكن للإنسان إدراكه منها بما جهز إليه من قدرة على الإدراك فيما يتعلق باختبار أهليته للاستخلاف خلال تحقيقه شروط قيامه المادي والروحي.
وذلك هو التكليف الذي يضاف إلى قيام الإنسان المادي باعتباره قيامه الروحي الذي يمكن اعتباره علاقة أخلاقه بخلقته المرسومين في فطرته والمتعين في نظره وعمله مجالين لامتحان أهليته لأن يكون خليفة بفضل ما يترتب على قدرة التسمية التي أهلته للاستخلاف مبدئيا كما في مشهد الاستخلاف.
فهذه الإضافة -القدرة على التسمية- هي ما جهلته الملائكة التي وصفته من حيث هو حيوان بكونه مفسدا للأرض وسافكا للدماء. وإذن فالتكليف هو النظير الخلقي للنظير المعرفي الذي يرمز إليه تعليمه الأسماء كلها أسماء المخلوقات أعني قدرة التسمية التي تنقل المسمى من الأعيان إلى الاذهان.
وهذه النقلة من الأعيان إلى الاذهان قلبت العلاقة بين الطبيعة والتكليف: فبفضل الاسماء يتحرر الإنسان المسميات ليصبح مفارقا لها وكأنه صار فطريا قادرا على التعيير القيمي بمستوياته الخمسة: وجوديا هو التوجيه (يميز بين الجهات الوجودية) ثم الجمالي والمعرفي والخلقي والوجودي أو العلاقة بالله.
وهذه القدرة على الانفصال عن مجرى الوجود العيني والارتقاء إلى الوجود الذهني بفضل قدرة التسمية هي أصل كل وعي تقييمي ومنه يستمد الوزع الذاتي (بلغة ابن خلدون) الذي لا يكون الوزع الأجنبي أو الخارجي ذا معنى من دونه: إنه جوهر الانشداد إلى المطلق أو الى طلب الحقيقة بالوجدان أو بالفرقان.
وطلب الحقيقة بالوجدان هو الديني المفطور في الإنسان وطلبها بالفرقان هو الفلسفي المفطور فيه. والتطابق بين هذين المفطورين في الآفاق وفي الأنفس هو الجزء الثاني من فصلت 53 التي تبين أن معرفة حقيقة القرآن لا تكون إلى بما نراه من آيات فيها وفي الآفاق: حقيقة القرآن تتجلى في الأعيان وفي الأذهان.
وما يتجلى فيهما هو آيات الله التي هي قوانين الأعيان وقوانين الأذهان المتعلقة بالطبيعة والتاريخ وإدراك تجليها هو البصيرة والحكمة التي هي ضالة المؤمن هي الجمع بين النظر والعمل بها تدركه البصيرة من تجلي القوانين الرياضية في الطبيعيات والسنن السياسية في الأخلاقيات أو الإنسانيات.
ولما كانت الشرائع التي هي موضوعنا متعلقة بالإنسان بوصفه مكلفا بمهمة الخليفة فإنها ليست معطاة في القرآن الذي هو المعادلة الوجودية وما بعدها بوصفها ما بعد مضمون الميثاق فإن الشرائع بهذا المعنى هي شرائع أفعال الأنسان وأقواله التي عليه إبداعها جزءا من موضوع اختبار الاهلية للخلافة.
ولو كانت معطاة بأعيانها وليس بمبادئها فحسب لكان الإنسان مجرد كائن طبيعي غير مكلف ولكان خاضعا للضرورة كأي حيوان ليس له القدرة على التسمية أو قدرة التعالي على الضرورة لتحقيق مطالب التكليف التي تختبر بها الاهلية أي إبداع أدوات النظر والعمل أي وظائف الدولة تعينا للتربية والحكم.
فماذا نجد في هذه المعادلة الوجودية التي هي ما بعد نظرية الله ونظرية الإنسان ونظرية الطبيعة ونظرية التاريخ ونظرية التواصلين والتبادلين لأنها الرسالة الخاتمة. فمن يؤمن بان القرآن كلام الله وأن ما يقوله عن نفسه وعن الرسول الخاتم ينبغي أن يعتقد أن القرآن يتضمن سر كل شيء في الوجود.
وهذه هي حقيقته التي تقول فصلت 53 أنها ما يرينها الله من خلال آياته في الآفاق والانفس أي في عالم الشهادة وينهانا عن طلبها من عالم الغيب المحجوب (آل عمران 7) الذي القول فيه متشابه وينهانا عن تأويله لأن الإقدام عليه دليل مرض القلوب وابتغاء الفتنة. لذلك فواوها ليست عطفية بل استئنافية.
وإذن فكل من عمل بما يعارض فصلت 53 وآل عمران 7 عملوا بالإسلام موضوعا للعلم ما عمله ما عمل به أصحاب تعطيل الدستور والاعتماد على القوانين الاستثنائية موضوعا للعمل. والاستئناف لا يمكن أن ينطلق من حالة الطوارئ التي حكمت الأمة منذ الفتنة الكبرى إلى الفتنة الصغرى الحالية.
والفتنة الكبرى بطننت الإسلام والفتنة الصغرى تحاول علمنته. ولما كنت ضد البطننة والعلمنة فإن همي هو إخراج الأمة منهما وإعادة التأسيس من رأس: علوم الأمة وأعمالها التي حصلت خلال حكم الطوارئ كلها قوانين استثنائية نتجت عن تعطيل الدستور العملي (سياسة) والدستور النظري (معرفة).
وطبعا فما حصل بسبب هذه القوانين الاستثنائية في العمل والنظر لا يمكن نفيها فهي جزء لا يتجزأ من تاريخ تراثنا السياسي والمعرفي وهي تجربة طويلة مكنت الأمة من تحقيق قدر لا يستهان به من التعمير والاستخلاف لكنها في الحقيقة كانت باطنية النظر وعلمانية العمل حولتا الدين إلى إيديولوجيا.
فذلك من قضاء الله وقدره ليرزقها بتاريخ طويل حتى تتمكن من تجربة تاريخ البشرية حتى تخرجها من الغفلة بإشارة سورة يوسف فتدرك رهانات دنياها ودوره الاختباري للأهلية الاستخلافية في الحب ونظام الحاجات المادية والحاجات الروحية فتخطط للمستقبل بالوصل بين الحلم والعلم برقابة برهان الرب.
ونظرية الله ونظرية الإنسان ونظرية الطبيعة ونظرية التاريخ ونظرية التواصل والتبادل المباشر بين الله والإنسان وغير المباشر بينهما بتوسط الطبيعة والتاريخ لم ترد في القرآن بوصفها علوما عينية في القرآن بل هي وردت فيه بوصفها ما بعد علومها العادية لتوجه البحث فيها والعمل اختبارا للأهلية.
وذلك هو معنى “خلق ثم هدى”. والهداية إشارات الله إلى الطريق القويمة في النظر والعمل وليس القيام بالنظر والعمل بدلا من الإنسان. لذلك فالشريعة بوصفها علم الفقه وتأصيله تخضع لنفس المنطق: القرآن لا يتضمن إلا الإشارات الموجهة إلى الطريق القويمة لإبداع الإنسان فيها نظريا وعمليا.
وإبداع الإنسان للشريعة نظريا هو الفقه وأصوله. وإبداعه لها عمليا هو الدولة وأصولها. الفقه هو نظرية الدولة ووظائفها أو حرزا الوجود الإنساني في الأعيان والاذهان خلال الاختبار: والشريعة هي مقومات حمايته ورعايته. وفروعهما هي وظائف الدولة متعينة في الأعيان والأذهان هي الشريعة.
وهذه هي مادة التاريخ الإنساني الذي هو توليفة بين ما في الإنسان من طبيعي ومن روحي إذ يلتقيان مرتين: فيه كفرد وحرزه الإيمان والعمل الصالح. وفي الجماعة وحرزها التواصي بالحق والتواصي بالصبر. فتكون الشريعة بهذا المعنى هي هذه الحروز الخمسة: إرادة الخروج من الخسر بما حددته سورة العصر.
لابد إذن ما بعد العلم وما بعد العمل الهادية للإنسان في اختبار أهليته للاستخلاف بتعامله مع مقومات المعادلة الوجودية: الله والإنسان والطبيعة والتاريخ وما بين الله والإنسان من تواصل وتبادل مباشرين ثم ما بين الإنسان والطبيعة وما بين الإنسان والتاريخ علاقة غير مباشرة بين الله والإنسان.
نظرية الله Théologieونظرية الإنسان Anthropologie ونظرية الطبيعة Cosmologie ونظرية التاريخ Historiologie نظرية التواصل Communication والتبادل Echange بين الله والإنسان المباشرين ثم غير المباشرين بتوسط الطبيعة والإنسان والتواصل والتبادل هي موجهات القرآن لكل علم وعمل.
والشريعة كنظر هي الفقه وتأصيله وكعمل هي أفعال العباد أفرادا وجماعات في التاريخ ومن ثم فهي مثل كل العلوم والأعمال لا نصل إليها إلى بأمر فصلت 53 ونهي آل عمران 7 وبالدستور وليس بتعطيله واستبداله بقانون الطوارئ المعتمد على كل ما هو قوانين استثنائية في القرآن والسنة.
مزقوا القرآن شر تمزيق متصورين أنه معين مضمونات ما يزعمونه علما حقيقيا ولم يدروا أنهم ناقضوا أمره (فصلت 53) ونهية (آل عمران 7) فشوهوه وطلبوا منه ما نفى أن يكون فيه لأنه ما بعد ما تتعين فيه آياته أي الآفاق والانفس اللذين أهملوهما وطلبوا المستحيل: علم الغيب بقيسه على عاداتهم الشاهدة.
لم يفهموا أن القرآن يوجههم لعلم الشاهد كشاهد ليفهموا بعديه الطبيعي (رياضيات تطبيقية) والتاريخي (سياسيات تطبيقية) وكلما أصابوا في علمهما تبينت لهم حقيقة القرآن التي هي المثال الاعلى المطلق الذي به يعير الشاهد ولا يعلم بقيسه الغيب عليه لأن مثال أعلى لا يدركه إلا الله بعلمه المحيط.
ومن ثم فالمنطلق هو الطبيعة التي تتجلى فيها قوانينها الرياضية وتلك هي آيات الله التي يرينها فيها والتاريخ الذي تتجلى فيه سننه السياسية وتلك هي آيات الله التي يرينها فيه. فنرى القوانين والسنن بما نبدع عبارة ما تلقته البصيرة والسميعة والشميمة والذويقة واللميسة حوادس وراء حواسنا.
وهذه الحوادس التي تمكن الحواس من تجاوز ظاهر الآفاق والانفس إلى قوانينها وسننها هي التي جهز الإنسان بها ليتجاوز كيانه الطبيعي الخاضع للضرورة إلى كيانه الروحي المتعالي عليها بالحرية والقدرة على تدبر الكون والتاريخ عودة مما في الأنفس إلى ما في الآفاق. فالأنفس تدرك صفاتها المقومة.
فالإنسان يدرك أن له إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجود هي شروط هذا التلقي والتعبير عنه للتواصل والتبادل المباشرين مع الله الذي ينسب إليه إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا كلها مطلقة وهي جوهر المثال الاعلى الذي لا يمكن للإنسان أن يعيش لحظة من دون انشداده إليه.
فينسب إليه الخلق والامر الذي يذكره به القرآن خلق كل شيء وأمره فتتحدد لديه معايير علمه وعمله في عالم الشهادة ومن ثم فالاتجاه الأصوب في المعرفة هو قيس الشاهد على الغائب وليس العكس. فالمثال الأعلى غيب لكن منه ينبجس نور يضيء الشاهد بشهوده الحاضر والماضي والمستقبل شهود التقدير الذهني.
وإذا أيدت التجربة العلمية والعملية بعض مقدرات الذهني حصل العلم جمعا بين التقدير الذهني والتحقق العيني في النظر والعمل. وهذا الجمع بين التقدير الذهني والتحقق العيني لأفعال العباد هو اختبار أهلية الأنسان في الخلافة أو عدم أهليته. لذلك كان موضوع الفقه كل أفعال الإنسان وتعاملاته.
وأفعال العباد بهذا المعنى ترد إلى العمران والاجتماع مادة للسياسي بما هو تربية وحكم بشروط انتظام هذه الأفعال وما يترتب عليها من ثمرات وتعاملات يمكن أن تكون مجال توافق أو خلاف بين البشر ما يقتضي حكما بينهم يكون فيه الوازع الأجنبي متمما للوازع الذاتي وخاصة عندما يغفو فلا يزع ذاتيا.
والآن صار بوسعنا أن ندرس الثورة الخلدونية: فهي مستحيلة الفهم من دون أن يكون قد تفطن إلى الانقلابين اللذين منعا تحقيق ذلك في المستوى العملي (التخلي عن الدستور السياس وتعويضه الطوارئ) وفي المستوى النظري التخلي عن فصلت 53 وآل عمران 7 في كل علوم الملة التي أرجعها إلى الصواب.
وكانت الثمرة الثورية متمثلة في أن ما بعد العلم والعمل الفلسفيين اللذين كان يرد إلى الميتافيزيقا أصبح يرد إلى المتاأخلاق: لم يبق مابعد الطبيعة (أرشيتاكتونيك قانون الضرورة) وحتى ما بعد التاريخ (أرشيتاكتونيك سنة الحرية) ممثلين للعلم الرئيس بل مابعد الأخلاق أو المعادلة الوجودية.
وهذا العلم الرئيس البديل هو الذي يؤسس للعلاقة بين القوانين الطبيعية (رياضيات مطبقة) والسنن التاريخية (سياسيات مطبقة) بوصفها علاقة تواصل وتبادل بينهما في ضوء علاقة مباشرة بين الله والإنسان هي عين كيان الإنسان أو عين انشداد صفاته النسبية إلى صفات الله المطلقة التي وصفنا.
وهذا هو الميثاق أو العقد الوجودي الذي يترجم قرآنيا بعقد الاستخلاف: الإنسان يعير ما ينسب إلى الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود من أفعال العباد بمعايير تليق بإرادة الله وعلمه وقدرته وحياته ووجوده مع العلم باستحالة التطابق بين النوعين النسبي والمطلق: وهذه الاستحالة هي الغيب.
المقدمة مبنية على عناصر المعادلة الوجودية الخمسة: نظرية الله ونظرية الإنسان ونظرية الطبيعة ونظرية التاريخ ونظرية التواصل والتبادل المباشرين بين الله والإنسان وغير المباشرين بينهما بتوسط الطبيعة والتاريخ وكل ذلك على أساس عقد الاستخلاف واختبار أهلية الإنسان للاستخلاف نظرا وعملا.
وهي مبنية على دور الاحياز في تحقيق شروط الاهلية: فتحويل المكان إلى جغرافيا والزمان إلى تاريخ حضاريين بما يحققه الإنسان بعلمه وعمله فيهما وما ينتجه هذا العلم والعمل من تفاعل بين الجغرافيا والتاريخ في الاتجاهين من الجغرافيا إلى التاريخ (تراث شعب) ومن التاريخ إلى الجغرافيا (ثروته).
وهذه الأحياز الاربعة-الجغرافيا والتاريخ والتراث والثروة-يوحدها عامل روحي متعين في منظومة من القيم لها قيام في الأذهان والاعيان هي المرجعية التي تجمع الجماعة روحيا وهي عندنا القرآن والسنة وما يمثلهما في المعالم ذات الدلالة الروحية كالحرمين والمساجد والشعائر ومراسم الحياة والموت.
وهذه المرجعية الموحدة للأحياز هي بدورها حيز يتضمن البعد الروحي من حياة الجماعة أو ما يجعلها أمة لأنها هي في الحقيقة حصيلة الما بعد العام أو ما بعد الطبيعة والتاريخ والعلاقة بينهما وبين القطبين الله والإنسان أعني المعادلة الوجودية التي تحرر الإنسان من الوجود المحدود والفاني.
ولا توجد جماعة-ذات دين وثني أو منزل-تخلو من التحدد بهذه الاحياز التي وصفت. وهي الإطار الذي يجري فيه الاختبار بالنسبة إلى كل إنسان. وواضح أن حياة الإنسان مشدودة إلى هذه الأحياز: فمن الجغرافيا يستمد مادة حياته ومن التاريخ صورة حياته ومن الثروة زاده المادي ومن التراث زاده الروحي.
وبذلك فكل إنسان يحتوي في كيانه العضوي والروحي كل البشرية لأن الزادين ومصدريهما كلاهما واحد وكلاهما يتحدد في المرجعية إما مصدرا مكتفيا بذاته لأنه هو المعبود (الدهرية) أو مصدرا غير مكتف بذاته بل هو مسخر من إله مفارق هو صاحب الرزقين المادي والروحي وهو المعبود الوحيد.
ويتعين ذلك في السياسة تربية وحكما: التربية والحكم المؤسسين على الدهرية التي تؤله الطبيعة والتاريخ ويتعين الإله في أصحاب السلطان عليهما أي إن الدولة هي التي تمثل النظام الإلهي. فالحاكم والكاهن بشكل دولة فرعون وهامان هم أصحاب العطاء والمنع في الرزقين فيؤله الاقوى منهما: فرعون.
فصارت الدولة مبينة على نفي الحريتين اللتين من دونهما لا معنى للاختبار: الحرية الروحية تزول بسبب الوساطة التي يرمز إليها ممثل السلطة الروحية (الكنسية) والحرية السياسية تزول بسبب الوصاية التي يرمز إلها ممثل السلطة المادية (الحكم بالحق الإلهي). والإسلام ثورة على الوساطة والوصاية.
ومن دون هذه الثورة على وساطة السلطة الروحية ووصاية السلطة المادية (بعدا الدولة أو التربية والحكم) لا يمكن أن يختبر الإنسان من حيث الاهلية للاستخلاف. لذلك فالدولة التي يسعى الإسلام إلى تحقيقها هي ما حددته الآية 38 من الشورى وفيها يكون الامر أمر الجماعة تسيره بالشورى.
ومدار الامر روحي ومادي: فهو الاستجابة للرب بداية والانفاق من الرزق غاية. والأمر الروحي هو المحرر لأن الاستجابة إلى الرب هي الحرية الروحية والحرية السياسية والأمر المادي هو التحرر من سلطان الدهرية أو دين العجل الذي يكون فيه الأمر بيد المتحكمين في الرزق المادي.
وما أعرضه هنا في شكل شرح فلسفي للرؤية التي يمثلها القرآن هو ما وضعه ابن خلدون في شكل نظرية العمران البشري والاجتماع الإنساني بوصفه تعين حقيقة الإنسان في التاريخ بوصفه مستخلفا وممتحنا من حيث نظره في شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف وعمله باجتهاده النظري.
وهذا ما نبينه في الفصل الموالي (14) من خلال تحليل المقدمة مضمونيا وبنيويا وفيها محاكاة لأسلوب القرآن في قراءة تاريخ الإنسانية وجه نقدي للموجود وعرض نظري للمنشود بوصفه بديلا يحرر من الموجود المشدود إلى الغرق في المحدود والفاني ويجذب نحو اللامحدود والباقي.
قد يظن القارئ أني ادعي أن ابن خلدون استمد علمه من شرح نصوص القرآن.  فيكون كلامي متناقضا إذ أعيب على أصحاب الأعجاز العلمي ومن جنسهم أصحاب علوم الملة الذين يشاركونهم وهم استخراج العلوم من شرح نص القرآن ثم أزعم ذلك في المقدمة علما للعمران البشري والاجتماع الإنساني.
لكن المضمون العلمي في المقدمة لا يوجد منه شيء في القرآن الكريم ولا يمكن أن يستخرج من نصوصه. ما فيها من القرآن يقتصر على توجيهه للبحث نحو آيات الله في الآفاق والأنفس (فصلت 53) ويتخلى نهائيا عما سبق من الجرأة على آل عمران 7. وذلك ما فعل ابن خلدون في بحثه صراحة.
فبعد إعلانه أنه لن يبحث في السياسة بمنطق أفلاطون -المدن الفاضلة- ولا بمنطق الأحكام السلطانية بل بطريقة جديدة لم يسبق إليها حتى من أرسطو الذي يرفض منهج أفلاطون-المدن الفاضلة-ويحاول أن يبحث بطريقة قريبة مما توخاه ابن خلدون ولكن بأسلوب سنرى أنه لم يتجاوز أفلاطون كثيرا.
وهذا هو سر ما أزعمه من منعرج تاريخي كوني غير تغييرا كيفيا البحث في فلسفة العمل والتاريخ بصورة لم يكن في مستطاع الفلسفة اليونانية الوصول إليه لأنه في الحقيقة مبني على ثورة الإسلام في النظر كما صاغها ابن تيمية وفي العمل كما صاغها ابن خلدون: الجمع بين نظر وعمل متجاوزين لليونان.
وعلامة المنعرج مضاعفة: فأولا ضم ابن خلدون التاريخ إلى الفلسفة التي كانت تستثنيه من نظامها المعرفي لعلتين أولاها أنه يتعلق بالعيني والعرضي من الوجود وثانيتها لأن العلوم العملية تقتصر في منظومتها على ثلاثة هي السياسة والأخلاق والاقتصاد المنزلي واعتبر الفلسفة نفسها تاريخية.
فهي عنده تاريخية لأنها حصيلة التجربة وتراكمها وما عدا ذلك ليس من العلم بل هو من الفرضيات الشاملة التي يدعي الفلاسفة بها تجاوز عالم الشهادة والمعلوم من قوانينه بقدر الاستطاعة (انظر فصل الفلسفية وفساد منتحليها). ويرفض هذه الفرضيات الشاملة لأنها مبنية على نظرية المطابقة في المعرفة.
ودون أن يذهب إلى ما ذهب إليه كنط من رد العلوم العقلية إلى الاقتصار على مظاهر الأشياء فهو يعتبرها مدركة لحقيقة ما يمكن للإنسان إدراكه من الوجود الحقيقي دون أن يرد الوجود إلى إدراكه. وما لا يدركه منه هو الغيب وهو موجود في كل معرفة بوصفه حدا لا يتجاوزه علم الإنسان غير المحيط.
فدور ابن خلدون في العلوم الإنسانية مماثل لدور أرسطو في العلوم الطبيعية. فهو مثله جعل التاريخ وما بعده نظير الطبيعة وما بعدها. ومثلما تجاوزت علوم الطبيعة والاستراتيجيات الرياضية تأسيس أرسطو فعلوم الإنسان والاستراتيجيات السياسية تجاوزت تأسيس ابن خلدون. كلامنا لا يتوقف عند ثورته.
ثورته كانت منعرجا بالنسبة إلى الفلسفة اليونانية إلى حدود مرحلتها العربية التي أصبحت مدرسية قبله بأعلام النكوص فيها إليها (ابن رشد فيلسوف متفقه والسهروردي المقتول فيلسوف متصوف والرازي متكلم متفلسف وابن عربي متصوف متفلسف) فهم عادوا إلى الهلنستية الجامعة بين العلم والميثولوجيا.
وقد تمثل المنعرج الخلدوني لتأسيس علوم الإنسان مرحلة اخراج دراسة التاريخ وعلم الإنسان من الميثولوجيا لدراسة العوامل الطبيعية والروحية التي يتأسس عليها المنطق الجديد المبني على نظرية المعرفة النافية للمطابقة. فكل العلوم اجتهادية بالجوهر لا تحيط بالوجود الطبيعي والتاريخي.
وبهذا المعنى فالإنساني مثله مثل الطبيعي فيه ما يقبل الصوغ العلمي وليست العلوم العملية (التاريخ) بأقل قابلية لذلك من العلوم النظرية (الطبيعة) لأن في التاريخ الموضوع طبيعي وروحي وفي الطبيعة علم الموضوع طبيعي وروحي. والجامع بين الطبيعي والتاريخي هو الإنساني ذو الكيان المزدوج.
وبهذه النتيجة تبدأ المقدمة: فالباب الاول منها يدرس الشرط الطبيعي الواصل بين الطبيعة والإنسان أي (المكان) كعامل جغرافي شارط لكيان الإنسان الطبيعي وتدرس الشرط الروحي الواصل بين الإنسان والطبيعة أي الزمان كعامل تاريخي شارط لكيان الإنسان الروحي. وهذا هو منعرج التأسيس الخلدوني.
ويبقى مع ذلك وجه شبه عميق بين أرسطو وابن خلدون: فالأول أخرج البحث العلمي اليوناني من الميثولوجيا إلى بدايات علوم الطبيعة والثاني أخرج البحث العلمي الإسلامي من الدين إلى بدايات علوم الإنسان. والفرق بين الميثولوجي والديني في التأسيسين هو دور المرجعية الروحية في عقل الرجلين.
وهو دور متعاكس تماما: ارسطو حرر الطبيعة من تأليهها الميثولوجي ليجعلها منطلق علمه المستند إلى التجريد من المحسوسات الطبيعية لتأسيس علم الطبيعة العقلي وابن خلدون حرر الدين من تطبيعه الميثولوجي ليجعله منطلق لتأسيس علمه المستند إلى المتعاليات الإنسانية موضوعا لعلم الإنسان العقلي.
كلاهما ينطلق من رؤية ما بعد طبيعية عند أرسطو وما بعد تاريخية عند ابن خلدون. ولولا ما بعد الطبيعة الميثولوجية لما استطاع أرسطو تأسيس علوم الطبيعة. ولولا ما بعد التاريخ الديني لما استطاع ابن خلدون تأسيس علوم الإنسان. الميثولوجيا تستثني التاريخ. الدين يفرضه حتى على الطبيعة.
فالمنعرج الارسطي حصر العلم في الطبيعي واعتبر العلوم العملية توابع لها. والمنعرج الخلدوني عكس فاعتبر العلوم النظرية توابع للعلوم العملية. ومعنى ذلك أن الطبيعة في علاقة تفاعل مع التاريخ لأنها في ذاتها غاية لا تدرك وما يدرك منها تابع لتاريخ المعرفة الإنسانية أحد عناصر العمران.
ما يعلمه الإنسان من الطبيعة ليس الطبيعة بل علاقته بها أو ما إليه يرد مقومات حياته أولا وأخيرا مهما بدا عليه العلم وكأنه للطبيعة في ذاتها بصرف النظر عما يشغل الإنسان من شروط قيامه فيها. علوم الطبيعة هي علوم العلاقة العمودية بين الإنسان والعالم اساسا للعلاقة الأفقية بين البشر.
ومعنى ذلك أن العلم النظري للطبائع جزء لا يتجزأ من العلوم العملي للشرائع وابن خلدون يؤسسه في علاقة الإنسان بالمكان والخوف من المستقبل. وهذا هو مضمون الباب الأول من المقدمة: الميثولوجيات والأديان علتها الخوف من المستقبل (الزمان) في علاقة بشروط قيام الإنسان في الجغرافيا (المكان).
فالباب الأول درسا لما في المكان من جغرافيا مفيدة لقيام الإنسان موارد ومناخا ولما في الزمان من تاريخ مفيد لقيام الإنسان توقعا وتخطيطا للتعامل مع الشروط الطبيعية ودرسا لأثر الاول في الثاني وأثر الثاني في الأول ومن ثم لتأسيس شروط السيطرة على المكان والزمان: العمران والاجتماع.
وبهذين المنعرجين يمكن القول إن الصراع بين الفلسفة والديني قد انتهى وأن شروط ظهور الفلسفة الحديثة قد تحققت وكان الدور الاول فيها لابن خلدون. فتأسيس الفلسفة الحديثة (ديكارت) جعل غاية العلم عين ما اعتبره ابن خلدون من أدوات العمل: العمران هو أن يصبح الإنسان سيدا ومالكا للطبيعة.
وهو ما يعتبره ابن خلدون معنى الاستخلاف ببعديه النظري والعملي. المقدمة هي الاستدلال النظري والتاريخي على هذه النظرية الخلدونية التي حررت الإسلام من تطبيعه في الفكر الديني واعتبره ما بعد التاريخ وليس جزءا منه. وذلك عينه ما قصدته فصلت 53 أمرا وما قصدته آل عمران 7 نهيا.
وهذا المنعرج يعني أن علوم الملة الخمسة المتقدمة على ابن خلدون وابن تيمية كلها علوم مزيفة: فهي “طبعنت” و”ارخنت” القرآن مدعية أنها تستمد من شرح ألفاظه علوم الملة مباشرة فكانت من جنس “الإعجاز العلمي” بدلا من فهم أمر فصلت ونهي آل عمران فتتوجه لآيات الله في الآفاق والأنفس.
وأزعم أن هذا المنعرج لم يعمل به إلى الآن في علوم الملة التي لم تتجاوز العودة إلى هذا الانحراف المنافي لما أمر به القرآن ولما نهى عنه. ما زال الكثير من فقهاء عصر الانحطاط ومتكلميه يقودون فكر الامة بما تحرر منه ابن خلدون في نظرية القانون والأخلاق للتربية والحكم الإسلاميين.
و”تمطيط” هذه الشروح اللفظية بلغت حدها فانقلبت إلى ضدها في نظرية المقاصد. التي هي في الحقيقة مجرد تبعية لتطويع فكر الأمة إلى ما يرضى عنه المتغلبون لتأسيس تشريعات رد الفعل على ما يسمونه واقعا دون تمييز بين الواقع والأمر الواقع: تطويع الإسلام لقيم الغالبين سر ازدهار خرافة المقاصد.
أصحاب نظرية المقاصد الأول غير اصحابها الحاليين وإن كانت النتيجة واحدة: تمطيط الاستناد إلى شرح نصوص المرجعية مصدرا لعلم الفقه وتأصيله بخلاف ما تأمر به المرجعية وتنهى عنه. فالفقه وتأصيله منطلقه آيات الله في الآفاق والانفس لتتبين حقيقة القرآن وليس من شرح آيات القرآن والكلام في الغيب.
والأمثلة المضروبة في آيات القرآن لا تصح إلى لعلتين: الأولى لأنها أحكام صاحب العلم المحيط وردت في القرآن والثانية لأن مطبقها الأول هو مبلغها ومن ثم فهي تؤخد على حرفيتها. ولا تقبل التطبيق من قضاة علمهم ليس محيطا وشروط تطبيقها لا متناهية التعين بحسب آيات الله في الآفاق والأنفس.
تطبيق الاحكام القرآنية المباشرة غير ممكن لغير النبي. وكل العلماء يدركونها بصورة غير مباشرة من خلال ما يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس مع حرز آل عمران 7 التي تحذرنا من الجرأة على المتشابه بدعوى رسوخ في العلم يعطي للعلماء ما يختص به الله: علومنا اجتهادية لشاهد الوجود.
وبذلك تكون حقيقة القرآن هي ما بعد التاريخ وليست من التاريخ وكل ما فيه علاقة مباشرة بين الله والإنسان تهدي علاقة الإنسان غير المباشرة به من خلال علم الطبائع وعلم الشرائع والعمل بهما وهما لا يدركان إلا في عالم الشهادة بما أمرت به فصلت 53 ونهت عنه آل عمران 7.
لذلك فكل علوم الملة التي لم تتأسس بما حددته الآيتان لم تتبين حقيقة القرآن بل هي انحرفت عنها وأسست علوما زائفة لا يمكن للأمة أن تبني عليها حضارة قادرة على حماية ذاتها ورعايتها خاصة وقد ساوق ذلك قلب للعلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية التي فرضتها في حالة الطوارئ بعد الفتنة.
كل علوم الملة هي بنت هذين القلبين: قلب الآيتين وقلب العلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية بعد الفتنة والحرب الاهلية التي تلتها. والاستئناف لا يمكن أن يتحقق من دون التحرر من هذين القلبين. وهو إذن قد بدأ فكريا منذ المقدمة لكنه لم يصبح فكرا ذا أثر على العمل بعد.
وآخرة العلامات على هذين القلبين نظرية المقاصد التي تريد تمديدهما بمحاولة تمطيط الاستناد المباشر على شرح النصوص بل البحث في آيات الله في الآفاق والانفس. ومما زاد الطين بلة هو توظيف المقاصد لكي تبرر الخضوع لشروط المستعمر باسم فقه الواقع السخيف.
وهو سخيف لأن أصحابه يخلطون بين الواقع والامر الواقع. فالواقع اسم فاعل من الوقع. لكن الامر الواقع هو الموقوع الذي يفرض من موقعه على الموقعين عليه خضوعا وتبعية وليس اختيارا وحرية. كل ما يسمونه مقاصد هو ما به يبررون تطويع الإسلام لغلبة الحضارة الغربية ودين العجل الذهبي ذي الخوار.
والدليل القاطع على أن ما في القرآن من أمثلة مباشرة ليس مما يقاس عليه إنسانيا ليكون أساس للفقه وأصوله المباشر وأن المطلوب هو ما أمرت به فصلت 53وما نهت عنه آل عمران 7هو مواقف الفاروق الذي كان أدرى الناس بهذا الامر: لم يعطل الحكم القرآني بل عمل بهذين الآيتين منطلقا مما يعلم منهما.
فقد أدرك أن آيات الله في الآفاق والانفس هي المنطلق حتى عند الرسول: فهو كان يؤسس دولة في جاهلية لا تعترف بأي قانون غير قانون النهب والسلب والحرب الدائمة. وهذا لا يمكن صده لتأسيس دولة القانون إلا بقانون استثنائي خاص بشروط الانتقال من عدم دولة الجاهلية إلى وجود دولة الإسلام.
ودولة الإسلام تحمي الإنسان وترعاه ومن ثم فتشريعاتها تنبني على الدستور القرآني وليس على الاحكام الاستثنائية لمرحلة بنائها الناقلة من عدم الدولة في الجاهلية إلى الدولة في الإسلام. لذلك فهم الفاروق أنه عليه أن ينطلق من آيات الله في الآفاق والأنفس وليس من الفهم الحرفي للنصوص.
وهو إذن لم يعطل الحكم ولا النص بل طبق فصلت 53 وآل عمران 7 المحددتين لما يترتب على علم الإنسان الذي يمر حتما بقوانين الآفاق والأنفس أي الطبيعة والتاريخ ليؤسس فهمه لحقيقة القرآن: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكفي بربك أنه على كل شيء شهيد”.
علم الطبيعة غير علم ما بعده. وعلم الشريعة غير علم ما بعدها. المابعد في الحالتين ليس منطلق العلم العيني بل هو منطلق أسسه المنهجية والمفهومية. القرآن ما بعد الشرائع وما بعد الطبائع ولا يعلم ما فيه مباشرة بل بتوسط ما يوجه إليه في الطبائع والشرائع من مجالات بحث تمكن من فهم حقيقته.
وأي إنسان له ذرة من عقل ينبغي أن يفهم أن الآيات التي يرينها الله في الآفاق والانفس والتي تتبين بها حقيقة القرآن هي قوانين الطبيعة وسنن التاريخ. والأولى رياضية مطبقة على تجربة الطبيعة والثانية سياسية مطبقة على تجربة التاريخ. ذلك ما فهمه الرسول فطبقه وما فهم الصديق والفاروق فطبقاه.
وللنظر فيما فعله مؤسسو المذاهب الفقهية. فأبو حنيفة قدم الرأي متوهما أن دلالة الألفاظ والرأي المرسل كافيان لوضع المذاهب الفقهية من دون علم للشرائع كما تتجلى في الآيات التي يرينها الله في الآفاق والانفس. ومثله فعل مالك ظنا أن عادات أهل المدنية ممثلة لحقيقة الشرائع.
ولننظر فيما فعله مؤسسو المذاهب الفقهية. فأبو حنيفة قدم الرأي متوهما أن دلالة الألفاظ والرأي المرسل كافيان لوضع المذاهب الفقهية من دون علم للشرائع كما تتجلى في الآيات التي يرينها الله في الآفاق والانفس. ومثله فعل مالك ظنا أن عادات أهل المدنية ممثلة لحقيقة الشرائع.
وابن حنبل حاول تجنب القصورين فضاعف دور الحديث لعلمه أن الرسول كان يقرأ القرآن بمقتضى فصلت 53 وآل عمران 7. وذلك لم يكف لأن علم الآفاق والانفس لم يتحقق بعضه إلا في منعرج ابن خلدون. وجمع ما حصلته المحاولات السابقة في رسالة الشافعي: تأسيس مباشر على شرح النص و”الواقع الغفل”.
ومثلما أن هذه المحاولات مكنت الامة من تنظيم شؤونها لمدة أربعة عشر قرنا تماشيا مع حالة الطوارئ التي فرضتها الحرب الاهلية بعد الفتنة الكبرى فقلبت العلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية فإن هذا التنظيم أصبح يقتضي محاولات جنسية لما حققه ابن خلدون بتطبيق الدستور والمعرفة القرآنيين.
ومعنى ذلك أن نظرية المقاصد لم تعد صالحة وهي وضعت لأنها تعتبر ما تقدم عليها غير صالح. وهي في الحقيقة أنهت ذاتها وأنهت ما قبلها بأن صارت في الحقيقة قولا بعلمانية وباطنية بتقية دينية: فعلم مقاصد الله في التشريع لا يعلمها غيره. فعلمنا لا يتجاوز يوجد بين ما حددته فصلت 53 وآل عمران 7.
والمشكل ان الكثير من المتعجلين يتصورني أؤسس لفقه علماني ما دمت اعتبر الاحكام مقصورة على مرحلة الرسول مربيا وحاكما بوصفه المبلغ الأدرى بدلالة ما يبلغه. لكن ذلك من وهم المتعجلين. فابن خلدون لم يؤسس لفقه يؤصله على نفي الدين بل هو يؤسسه على ما بعد التاريخ: مفهوم الاستخلاف.
وبصورة ادق على اعتبار التاريخ محل اختبار أهلية الإنسان للخلافة. وذلك ينطبق على نظريه وعمله في تحقيق شروط مهمتيه: تعمير الارض بقيم الاستخلاف. الاختبار هو كل التاريخ. لكن الفقهاء السابقين ظنوا الاختبار مجرد تطبيق لنص يمكن أن يفهم كنص وليس كتذكير بمقومات فطرية في الإنسان الخليفة.
وهذه المقومات الفطرية هي بالذات شروط قيام الإنسان في العالم أو في الآفاق والأنفس بما جهز به الإنسان من قدرة على رؤية آيات الله فيهما أي قوانين الطبائع وسنن الشرائع وهي موجودة في الطبيعة والتاريخ وليست في ألفاظ القرآن. والقرآن هو الذي يقول ذلك معتبرا حقيقته في الآفاق والانفس.
والقرآن لم يكتف بذلك بل حدد طبيعة الآيات التي يرينها في الآفاق والأنفس لنتبين أنه الحق: فاعتبر الخلق ذا طبيعة رياضية تجريبية واعتبر الأمر(التاريخ)ذا طبعية سننية تجريبية. وبطبيعة الخلق وبطبيعة الأمر يستدل القرآن على ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ ليوجه الخليفة نحو شروط الأهلية.
ذلك ما فهمته من المنعرجين النظري عند ابن تيمية والعملي عند ابن خلدون: فالأول وضع شروط علم صريح المعقول والثاني علم صحيح المنقول وبهما يمكن القول إن الأمة تجاوزت حالة الطوارئ وآن أوان عودتها إلى الدستور وإلى نظرية المعرفة التي تنفي الإحاطة على الاجتهاد الإنساني.
وإذا كان لي من فضل في هذه المحاولة فهو التنبيه إلى أن قلب العلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية التي فرضتها الحرب الاهلية بعد الفتنة الكبرى وقلب العلاقة بين الآيات النصية في القرآن والآيات المتجلية في الآفاق والانفس يؤديان إلى أن علم هذه شرط في منع القلبين بفضل الحريتين.
فالحرية الروحية التي تمكن المؤمن من العلاقة المباشرة بربه هي التي تجعله في كل لحظة مبدعا في رؤية ما يريه الله من آيات الآفاق والانفس وبهذا الإبداع المعبر عن الحرية الروحية يمكن للإنسان أن ينظم شروط الحرية السياسية أو المشاركة الفعلية في تحقيق شروط الأهلية للاستخلاف: دولة الإسلام.
كل ذي بصيرة قرأ الشورى 38 يعلم أن نظرية الحكم الإسلامية وضعت بين قطبين: بداية مؤسسة على العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه وغاية مؤسسة على العلاقة غير المباشرة بين المؤمن وربه: الذين استجابوا لربهم بداية والذين ينفقون مما رزقهم الله مجال الاختبار الاول لأهلية الاستخلاف.
لذلك أسس ابن خلدون فلسفة التاريخ التي هي أساس تأسيسه لعلوم الإنسان على هذه البداية (نظرية الاستخلاف) وعلى هذه الغاية (ما سماه نحلة المعاش) وعلى اساسها ميز بين نوعي العمران بمراحلهما المتعددة: العمران البدوي والعمران الحضري يتميزان بنحلة المعاش وعلاقتها باختبار أهلية الاستخلاف.
والقرآن وضع طبيعة نظام الحكم وطبيعة أسلوبه بين هذين القطبين فحدد طبيعة النظام بكونه “أمر الجماعة” وأسلوبه بكونه “شورى بينهم”. وإذا قرأنا ذلك بنظرية أنظمة الحكم وأساليبه تبين لنا أن امر الجماعة يعني راس بوبليكا أي جمهورية وشورى بينها تعني حكم الشعب لنفسه أي ديموقراطية.
وهذا هو متقضى الحرية الروحية -المسؤولية فردية-ليكون لاختبار الأهلية معنى (كلكم يأتي ربه فردا) (التحرر من الوساطة الكنسية) ويترتب عليها الحرية السياسية (التحرر من وصاية الحكم بالحق الأهلي) وهما تحريفان نتجا عن قلب فصلت 53 وآل عمران 7وحالة الطوارئ التي علقت الدستور بعد الفتنة.
ولا معنى لاختبار الاهلية من دون هذين الحريتين الروحية والسياسية لأن الإنسان المستخلف يكون فاقدا لشرطي التكليف والتقييم عمله. ليس هو من يعمل التاريخ فكرا ويدا بل هو تابع لوسيط روحي ولوصي سياسي هما من يفعل تشريعا وتطبيقا وقضاء فيكون الفقه كما نراه منذ الفتنة مبررا لعبودية لغير الله.
والرسول لم يغفل عن ذلك بل توقعه وتكلم على الملك العضوض الذي لم يتأخر كثيرا على لحظته إذ هو قد بدأ مباشرة بعد الفتنة وانقسم إلى نوعين: النوع الذي نكص عن هذا التحديد القرآني لنظام الحكم واسلوبه بالوساطة والوصاية (التشيع والباطنية) والنوع الذي نكص بالأفعال دون الأقوال أي السنة.
فالسنة في أفعالها رغم بقاء أقوالها مطابقة لنظرية القرآن. فأصيبت بفصام حرف كل الاعمال لأنها عوضت الوساطة بالدور الذي ادعاه علماؤها للرسوخ في العلم فصاروا وسطاء وبالوساطة الروحية برروا الوصاية السياسية وأضفوا الشرعية على تقديم الشوكة على الشرعية حالا لم نبرحها إلى الآن.
والعبودية لله هي الوازع الذاتي بلغة ابن خلدون. أما الوازع الأجنبي أو الأحكام السلطانية فهو يمكن أن يكون عبودية تابعة للأولى إذا كانت نظرية التربية والحكم تابعة لها. أما في حالة ما حصل بداية من الانتقال من الخلافة على منهاج النبوة إلى الملك العضوض فهي عبودية لغير الله: للمتغلب.
وهذا القول لا يمكن أن يعد علمانية حتى وإن كان بمقتضى فصلت 53 وآل عمران 7يرفض أن يكون الفقه مؤسسا مباشرة على تفسير ألفاظ القرآن بل هو يؤسسه على سنن التاريخ وقوانين الطبيعة كما حددت ذلك عبارة آيات الله في الآفاق والانفس أي في قوانين الطبيعة وسنن التاريخ مجالي اختبار الاهلية.
فالله لا يكلف نفسها إلا وسعها. والله حجب الغيب. وآيات القرآن النصية تتضمن غيبا محجوبا يحول دون علم الإنسان النسبي والإحاطة. لذلك فالتكليف لا يتعلق بمعرفة مقاصدها الغيبية بل هو يتعلق بدلالة ما يرينه الله في الآفاق وفي أنفسنا من آياته التي تهدينا أعني قوانين الطبيعة وسنن التاريخ.
والقرآن هو المابعد الإيماني الذي يهدينا إلى سبل معرفة هذه القوانين الطبيعية والسنن التاريخية من خلال الاختبار الذي نحن مطالبون به خلال القيام بمهمتين مناظرتين للتكليف: استعمرنا في الأرض واستخلفنا فيها. واستعمارنا في الأرض شرطه علم قوانين الطبيعة واستخلافنا شرطه علم سنن التاريخ.
ذلك هو الانقلاب الكوبرنيكي الخلدوني: اعتبر البحث فيما بين الطبيعة والإنسان وتبادل الفعل والانفعال بينهما هو مجال البحث لفهم حقيقة الشرائع التي تتعلق بالاختبار والتي هي مدار التكليف. وحدد هذا المجال بكونه العمران البشري والاجتماع الإنساني. علمه والعمل به هو اختبار الأهلية.
ولست غافلا على أن ما احاول بيانه في هذه المحاولة يمكن أن يعتبره علماء الملة كلهم خروجا عن الملة لأن فيه نفيا لكل ما بنوا عليه علومهم الزائفة خضوعا للانقلاب على الدستور بعد الفتنة. وكل محاولات الإصلاح والإحياء ضميرها الوعي به لكن حلوها ما تزال موالية لعلوم مطبوعة به دون وعي بزيفها.
وقد فعلها المرحوم البوطي في حواره معي حول أزمة أصول الفقه. وفيه بينت أن نظرية المقاصد من العلوم الزائفة. فالقانون والاخلاق (وحدتهما هي الفقه) لا يمكن أن نستند فيهما إلى العلم بالغيب الذي هو ليس في متناولنا. وكل تفسير للقرآن يتجاوز عالم الشهادة ليس علما رغم وهم الرسوخ في العلم.
ما نعلمه هو ما يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس اي في عالم الشهادة الطبيعي والتاريخي. والاول هو عالم الخلق المشهود والثاني هو عالم الامر المشهود. والاول من طبيعة رياضية تجريبية يستدل به القرآن على وجود الله ووحدانيته بنظام العالم والثاني سياسية تجريبية للاستدلال بنظام أمره.
وكل علمنا اجتهادي وليس فيه شيء من دعوى القطعيات. هو اجتهاد مأجور إذا صدفت النية حتى لو لم يصب. والاختبار يعتبره جزء من إثبات الاهلية أو من سلبها. فيمكن للأمة أن تشهد على العالمين. فشهادتها لا تقتصر على الإيمان بمقومات الاسلام النصية بل تتضمن الاختبار التاريخي فيما يترتب عليه.
وللمرة الألف أعيد فأذكر بعلم الإنسان اجتهادي ولا قطعي فيه سواء كان من علوم الدين أو من علوم الدنيا. هو اجتهاد في حدود الشاهد لا يتجاوزه وكل ادعاء للقطعيات غير الإيمانية وهم. العلمي لا يحتاج للقطعي الإيماني بل هو بحاجة لقطع التسلسل والدور في عملية تأسيس نظرياته على فرضيات.
والفرضيات تبقى صالحة ما ظلت قادرة على تفسير الظاهرة المدروسة تفسيرا يرضى عنه العقلاء وتؤيده التجربة. لكنها ليس علما مطلقا بل هو في صيرورة دائمة بصيرورة تقدم المعرفة وخاصة معرفة أدوات الأدراك الطبيعي والصناعية وهي ما نرى به مع البصيرة آيات الله في الآفاق والأنفس.
فإذا توهمنا أن هذا المطالب موجودة في ألفاظ القرآن فنحن نكون قد ألغينا كل معنى للاختبار الذي يرمز إليه مشهد الاستخلاف ومزاعم ابليس حول عدم أهلية الإنسان للاستخلاف. وهذا الكلام ما كنت لاستعمله لولا أن المشكل هو مع من يزعمون تمثيله حتى صار أبو قتادة يحاكم آرائي بتخريفه حول العلم.
لو كان الحوار مع العلمانيين لكان مجال الخطاب غير. فدعواهم الاستغناء عما وراء الطبيعة والتاريخ من حاجة إلى الدين والله وظنهم أن القرآن مثل غيره من المراجع الدينية هما موضوع النقاش معهم. وهم في كلا الأمرين أكثر لاعقلانية من أبي قتادة: هو يعيش في التحريف الجزئي وهم في الكلي.
فحتى أكثر الابداعات الإنسانية متانة -علوم المقدرات الذهنية (الرياضيات والمنطق) وأعمالها الفنية (السياسيات والتاريخ) -ليست غنية عن الإيمان بأمرين على الاقل: الأول أن العالم ذو نظام يقبل المعرفة وأن الإنسان ذو عقل يقدر على ذلك. فمن دون هذين الشرطين لا إمكانية ولا حاجة للعلم والعمل.
ومجرد هذه الحاجة والإمكانية تعني أن للعالم نظاما لا يبدعه عقل الإنسان بل يتلقاه أمرا واقعا لا سلطان له عليه وهو إذن إيمان أسمى بأن الإنسان مهما ألحد لا يمكنه أن ينفي أنه محوط بما لا سلطان له عليه وأنه لا يمكن أن يدركه وأن يفهمه وأن يعتبره ذا نظام قابل للعلم والعمل فيه على علم.
وتلك هي ثورة الإسلام. وهو الديني في كل الاديان التي لا تختلف عنه إلا بما فيها من تحريف للديني. ولذلك فهو لا يرفضها بل يراجعها بمعيار التصديق والهيمنة حتى يحررها من الاغترابين الروحي (وساطة الاستبداد الروحي في التربية) والسياسي (وصاية الاستبداد السياسي في الحكم): لا عبودية لغير الله.
فالتحرر من الفتنة الكبرى وما ترتب عليها مداره عين مدار التحرر من الفتنة الصغرى وما يترتب عليهما حاليا من الوقوع تحت وساطة الاستبداد الروحي (الخداع الإعلامي لمافية العالم وعملائها) ووصاية الاستبداد السياسي (الخداع السياسي لمافية العالم وعملائها): الإسلام يحدد القبلة من جديد.
لما شرعت في الكلام في الشكوك على المقاصد لم أكن أنوي علاج مسألة تأسيس الفقه وتأصيله بوصفه في آن فلسفة القانون عامة عامه وخاصه ومن ثم تحديد صلته بفلسفة السياسة ببعديها تربية (وظيفة الرعاية: العلاقة بالتكوين والتموين) وحكما (وظيفة الحماية: العلاقة بالحماية الداخلية والخارجية).
ظننت أني سأقتصر على تدوين الشهادة المرتجلة التي قدمتها بمناسبة تكريم الصديق والزميل أحمد الريسوني يوم 28 نوفمبر بجامعة الجديدة بالمغرب التي نظمها مخبر الدراسات الفقهية وعلاقتها بالعلوم الاجتماعية فيها. وللأمانة والتقدير المتبادل فإني لم أخف عن الصديق شكوكي حول المقاصد.
لكن المقام لم يكن مناسبا لتفصيل ذلك. وتلك هي علة اضطراري لهذه المحاولة التي تبدو قد طالت أكثر من المنتظر. لكن لا بد مما ليس منه بد. فلا يمكن للأمة أن تستأنف دورها بفقه الحركات الإسلامية الذي هو متخلف حتى على فقه قرون الانحطاط إذ شتان بين هذا وبين فقه داعش وبوكو حرام.
فهذا الفقه حتى لو مطط بفقه المقاصد هو الذي يجعل حجج العلمانيين والليبراليين مؤثرة حتى وإن كانوا نوعا مضاعفا من الدعشنة والبوكوية الحرامية. فكلاهما كاريكاتور مما يدعيه مرجعية: فلا هؤلاء يمثلون الحداثة ولا أولئك يمثلون الأصالة. كلاهما مقلد بليد لتراث عتيد ولا ثورة تتأسس على التقليد.
وحتى لا يكون ما أحاول اثباته وكأنه صادر عن نزعة دخيلة كان لا بد من أن أثبت العلاقة بين النكوصين اللذين حدثا بسبب الحرب الأهلية التي تلت الفتنة (أربعة حروب أهلية بدأت بين أم المؤمنين والإمام علي وانتهت بالحرب بين ابن الزبير وابن مروان مرورا بالحرب بين معاوية وعلي والحرب بين ابنيهما).
والنكوص الاول سياسي وقد تمثل في قلب العلاقة بين الدستور والقوانين الاستثنائية كالحال في كل حالات الطوارئ التي تعطل الدستور وتجيز المحظور بوصفها مجمع الضرورات. ومنذئذ ظلت الأمة تحكمها حالة الطوارئ التي عطلت الدستور وحكمت القوانين الاستثنائية فصار الأخص ينسخ الأعم.
والنكوص الثاني معرفي وقد تمثل في قلب مناظر لما حصل في السياسة: فبدلا من تأسيس المعرفة بحقيقة القرآن بين ما أمر به (فصلت 53) وما نهى عنه (آل عمران 7) حصرا للمعرفة في عالم الشهادة وللإيمان في عالم الغيب قلب العلماء المعرفة فأهملوا عالم الشهادة وشرعوا في التخريف حول الغيب المحجوب.
وهو ما جعل كل علوم الملة تنحرف على منظور القرآن نفسه الذي حدد كيفية تبين حقيقته (فصلت 53) المتعلقة بشروط تحقيق الإنسان لمقومي ذاته ومجالي تكليفه: الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها. فهما مجال علمه وعمله اجتهاده وجهاده اللذين تمتحن بهما أهليته للاستخلاف ويحاسب عليهما يوم الدين.
ونتج عن ذلك تغيير دلالة الـ”و” في آل عمران 7 ليجعلوها عطفية حتى يتحول الرسوخ في العلم إلى عكس ما يفيده: بدلا من الإيمان بالغيب المحجوب صار قدرة على تأويل المتشابه لكأن علم الراسخ يضاهي علم الله المحيط. ومن ثم قال الكلام والفقه والتصوف وحتى التفلسف بنظرية المعرفة المحيطة والمطابقة.
فغرقوا في وهم العلم المستحيل وتركوا العلم الممكن للإنسان أعني الاجتهاد في معرفة الآفاق والانفس لتبين حقيقة القرآن من حيث هو رسالة تذكير للإنسان بما جهز به من قدرات (العلم والعمل) وبما كلف به من مهام لا تعدو شروط بقائه واختبار أهليته الذي شرطه تعمير الارض بقيم الاستخلاف الكوني.
وهذا التوصيف كان يمكن أن يظن ناتجا عن منظور علماني لو كنت أنا صاحبه. لذلك فبيان دور المتقدمين على الفتنة الصغرى (المقابلة بين الديني والعلماني) وبعد الفتنة الكبرى (المقابلة بين الحريتين الروحية والسياسية في المنظور السني ونفيهما في المنظور الشيعي بالوساطة والوصيتين النافيتين لهما).
وهو ما أنسبه إلى من اعتبرتهم ممثلين لمدرسة الفلسفة النقدية العربية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون). فالغزالي بين الفرق بين الشيعة والسنة في فضائح الباطنية: المقابلة بين الوصية والاختيار. وابن تيمية بينه في الرد على ابن المطهر وفي السياسة الشرعية. وابن خلدون تحرر من الانقلابين.
فالمقدمة دليل على تجاوزه للانقلابين السياسي والمعرفي. المقدمة هي بداية التحرر من حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية والعودة إلى الدستور سياسيا وبداية التحرر من الخوض في الغيب أو العلم الزائف والعودة إلى ما أمر به القرآن (فصلت53) وما نهى عنه (آل عمران 7) لاكتشاف شروط قيام الإنسان.
ولم يبق علي الآن إلا بيان دور الرسالة التوجيهي نحو المطلوب دون تضمنها إياه: ليس في القرآن أي من علوم الملة بل هو ما بعدها الذي يوجه إلى موطنها وطرقها دون أن يتضمن أيا من قوانينها أو سننها لأنه يعتبر اكتشافها (الاجتهاد) والعمل بها (الجهاد) بعدي اختبار أهلية الإنسان للاستخلاف.
القرآن ما بعد يوجه وليس مجلة قوانين أو علوم. وذلك هو دور المرجعية الروحية التي تعرف نفسها بكونها تذكيرا بما هو مرسوم في الفطرة وليست إمدادا بما ليس فيها. وما في الفطرة هو ما سميناه المعادلة الوجودية: القطبان الله والإنسان والوسيطان الطبيعة والتاريخ وما يصلها التواصل بمستوييه.
والمستوى الاول من التواصل بين القطبين الله والإنسان هو الرسالة التذكيرية ورد الإنسان عليها. وهي ما بعدية وتوجيهية نحو مجال التكليف والاختبار دون أن تتضمن ما يغني عن الاجتهاد والجهاد لتعمير الارض بقيم الاستخلاف. لكن الانقلابين تصور أصحابهما أن القرآن فيه ما يغني الإنسان عنهما.
فحولوا القرآن إلى مدونة قوانين يمكن اكتشافها بمجرد التفسير اللفظي بخلاف ما أمر به في فصلت 53 وما نهى عنه في آل عمران 7. وابن خلدون تحرر من هذين الانقلابين بوعي تام ذكره عندما بين في فصل الكلام أن رعاية المصالح العامة (السياسة) ليست من العقيدة بل من اجتهاد الجماعة.
وأكد أن ضم المسألة إلى علم الكلام (الأشعري) لم يكن بسبب كونها من العقائد بل بسبب الحاجة إلى دحض النظرية الشيعية التي تعتبر الأمر جزءا من العقيدة. وعندما ينفي نسبتها إلى العقيدة بالمنظور الشيعي فهو لا يعني أنها لا علاقة لها بالعقيدة بل العقيدة هي التي جعلتها اجتهادا للجماعة.
وإذن فالمقابلة ليست بين العقيدة والسياسية بل بين نوعين من تصور العلاقة بينهما: السني يعتبرها جزءا من التكليف الذي تختبر أهلية الإنسان للاستخلاف به أي الاجتهاد السياسي والخلقي (لتنظيم حياة البشر جزء من التكليف والحرية) والجهاد لتعمير الارض والاستخلاف بمقتضاه كلاهما فرض عين.
وكونهما فرض عين يعني الحريتين: الحرية الروحية أو التواصل المباشر بين الله والإنسان دون وساطة كنسية والحرية السياسية دون وصي يحكم بالحق الإلهي بالتواصل غير المباشر بتوسط علم الطبيعة وعلم التاريخ اللذين بهما ينظم الإنسان شروط تعمير الأرض بقيم الاستخلاف عملا بفصلت 53 وآل عمران 7.
وهذا الفهم الخلدوني الذي أعد إليه الغزالي وابن تيمية لا يمكن أن ينسب إلى مضمونه بل اكتشافه الذي ظل مخفيا بسبب سلطان العادة السائدة التي فرضها اعتبار الـ”و” في آل عمران 7 عطفية وليست استئنافية فصار الرسوخ في العلم اصلا لكل العلوم الزائفة التي هي سبب الانحطاط والتخلف.
وتحرر ابن خلدون من عائقي الحريتين الروحية والسياسية هو الذي جعله يعلن صراحة نهاية نظرية المعرفة المطابقة مبينا أن الوجود أوسع من الإدراك وأن المعرفة الإنسانية مقبولة في حدود ما يسد حاجاته في تعمير الارض بقيم الاستخلاف والباقي إيماني وليس علميا: اجتهاد يعلم الشاهد ويؤمن بالغيب.
لذلك فالمقدمة هي أول ثمرة علمية لهذا المنظور الذي صحح التحريفين السياسي والمعرفي فأعاد العمل السياسي والمعرفي إلى ما كان ينبغي أن يكونا عليه لو اعتمد المنظور القرآني الوارد في فصلت 53 وفي آل عمران 7. أصبحت العلوم ثمرة للبحث العلمي في الطبيعة والتاريخ وليس في شرح ألفاظ القرآن.
والبحث العلمي في الطبيعة والتاريخ في أعيانهما وفي أذهان البشر هو الاجتهاد والعمل على علم بنتائجه هو الجهاد في تعمير الأرض بقيم الاستخلاف. والقرآن يذكرنا بأن ذلك مرسوم في فطرة الله التي فطر الناس عليها وهو عين التكليف الذي تختبر به أهلية الإنسان للاستخلاف ويحاسب عليه يوم الدين.
السؤال الاستنكاري الذي انتظره هو: ما هذا؟ هل يعقل أن تكون علوم الملة الخمسة (الفقه والتصوف والكلام والفلسفة وأصلها التفسير) علوما زائفة؟
هل يعقل أن تدعي أنك في آخر الزمان وتثبت ذلك وتعتبره شرطا للاستئناف باقتراح بداية جديدة تعيد العمل بالدستور ونظرية المعرفة الممكنة قرآنيا؟
ويتبع هذا السؤال اتهامي بالاستناد إلى المدرسة النقدية لأبعد عني تهمة الخروج عن الملة بهذا الرأي العجيب. وطبعا فواضعو هذا السؤال لا يمكن أن يجادلوا في أمرين:
الأول هو أن النبي نفسه توقع حصول الانقلاب السياسي والتخلي عن الدستور القرآني وتعويضه بحالة الطوارئ أو الملك العضوض.
والثاني هو أن علوم الملة كلها تأسست بعد هذا الانقلاب السياسي الذي عوض الدستور المعطل بالقوانين الاستثنائية لحالة الطوارئ. فأقوالها حول العلم لا تطابق افعالها فيه التي كانت مطابقة لحالة الطوارئ وليس لحالة الشرعية. وما كان للأفعال أن تكون كذلك من دون قلب فصلت 53 وآل عمران 7.
وما كنت لأعني بهذه العلوم التي لم يعد أحد يعمل بها أو يهتم بها إذا ما استثنينا طائفتين (أصحاب كاريكاتور التأصيل من جنس بوكو حرام وداعش مدحا وأصحاب كاريكاتور التحديث من جنس العلمانيين والليبراليين العرب هجوا) لولا الاصرار على إحيائها لكان المريض يريد أن يتطبب بالطب الرعواني.
والكثير من أصحاب السؤال الاستنكاري والاتهام المترتب عليه يفعلون بحسن نية. فهم يتصورون الشكوك على علوم الملة شكوك على المرجعية التي انطلق اصحاب هذه العلوم منها لكأني من يشكك في الملك العضوض الموالي للخلافة على منهاج النبوة ويشكك في منهاج النبوة: الملك العضوض يندثر بنفس المرجعية.
فالتحريف الشيعي الذي نفى الحريتين بإعادة الوساطة الروحية في التربية والوصاية السياسية في الحكم يدعي تمثيل المرجعية. والملك العضوض يقول بالحريتين لكنه يعمل بما يشبه التشيع لأن الوساطة الروحية صارت للعلماء مقابل أن تصير الوصاية السياسية للأمراء في الافعال المتدثرة بكاذب الاقوال.
وما يدعيه التشيع لتأسيس الوساطة الروحية هو عصمة الأئمة وما يدعيه التسنن لتأسيسها هو دعوى وراثة العلماء للأنبياء وما يدعيه التشيع لتأسيس الوصاية السياسية هو آل شرعية آل البيت وما يدعيه التسنن لتأسيها هو دعوى شرعية المتغلب. تحريف مضاعف: معارضة باسم واجب زائف وحكم باسم واقع زائف.
فكان سر الانحطاط كامنا في هذين التزييفين الشيعي والسني لدستور العمل القرآني سياسيا ولدستور النظر القرآني معرفيا. وقد من الله علي بإدراك شرط الاستئناف عندما تأملت فصلت 53 وآل عمران 7 ففهمت أن القرآن هو الذي حدد المخرج من هذه المآزق التي توقعها الرسول عندما تكلم على الملك العضوض.
الاستئناف لا يكون بإحياء ما كان شرطا في تحريف النشأة الاولى. لا يمكن للنشأة الثانية للعودة إلى منهاج النبوة أو الاستئناف أن يعتمد على عمل (دستور العمل السياسي) وعلم (دستور النظر العلمي) أفسدا  النشأة الأولى التي اخرجت الامة من الخلافة على منهاج النبوة إلى الملك العضوض.
فإذا كان هذا المعنى هو ما يعاب علي فأهلا بكل التهم. وعلى كل فكل المعرفة الإنسانية النظرية والعملية سواء كانت من منطلق ديني أو من منطلق طبيعي مرت بمثل هذه الحالة: لا أحد اليوم يعتمد فلك بطليمس لفهم نظام العالم ولا أحد يعتمد طب ابن سينا لعلاج الأمراض. ومثلها علوم الملة. كلها ماتت.
وتدريسها ليس علما بموضوعاتها بل هو علم بتاريخها ككل الآثار التراثية التي ندرس تاريخها ونعلم أنها آثار لماض مضى وانتهى وأنه علينا أن نستأنف البحث من رأس معتبرينها من التجارب التي كانت ضرورية لتجاوزها والعودة إلى الأصول لإعادة قراءتها القراءة التي تمكن من تحقيق شروط قيام الإنسان.
ولست أول من بادر. فما كان الغزالي يكتب فضائح الباطنية وإحياء علوم الدين لو لم يكن قد فهم طبيعة الانحراف. وما كان ابن تيمية يشذ عن كل علماء عصره لو لم يكن قد فهم طبيعة الأزمة. وأخيرا ما كان ابن خلدون يحدث المنعرج الحاسم لو لم يكن قد عمل بفصلت 53 وآل عمران 7.
ولو كنت أحتمي بهؤلاء لأمرر ما اقول لما قلت ما لم يقولوه: لا أحد منهم وضع شكوكا صريحة على علوم الملة بل سكتوا. وسكوتهم ليس علامة على رضاهم بل لأن الظرف لم ينضج بعد لتكون الأمة في فجر الاستئناف. كتبوا وهم يائسون لأنهم كانوا يعايشون عصر الانحطاط الخانق ويبحثون عن مخارج حينية.
أما نحن اليوم فقد لاح لنا فجر الاستئناف: شبابنا بدأ يغير التاريخ ويطلب تطبيق دستور القرآن المبني على الحريتين الروحية والسياسية في النظر والعمل لتحقيق شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف. صحيح أن ذلك لا يبدو للعين المجردة. لكن من كان ذا بصيرة يفهم أن الأمة تستأنف دورها فعلا.
قد أكون الخطاف الذي يعلن عن الربيع. لكن الشباب سبقني فهو شرع في تنفيذه فنقل الأمة من كاريكاتور التأصيل بتقليد ما كان علة الانحطاط الذاتي لماضينا ومن كاريكاتور التحديث بتقليد ما كان علة الانحطاط المستورد من المستعمر إلى حقيقة التأصيل والتحديث المطابقين كلية قيم القرآن وعولمته.
وكلية قيم القرآن وعولمته اساسهما النساء 1 والحجرات 13 والحريتان: الحرية الروحية أو العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه والحرية السياسية أو العلاقة غير المباشرة بينهما عن طريق العلم بالطبيعة والتاريخ والعمل بثمرات هذا العلم لتعمير الارض بقيم الاستخلاف: جوهر ثورة الإسلام.
وحتى يفهم القارئ القصد من هذه المحاولة فعليه الا يخلطها برأي العروي أو طه حسين من قبله أو بتخريف العلمانيين والليبراليين العرب الذين يتصورون أن نقد تراثنا يعني رمي الطفل مع ماء استحمامه. الطفل هنا هو المرجعية القرآنية والسنية وماء الاستحمام هو كل محاولات فكرنا الماضية.
فالطفل يبقى الأصل والماء تجارب مضت هي مما نعتز به ونعتبر أنفسنا ورثته الذين يتجاوزونه بفضله: ففي تاريخ المعرفة والعلوم الأخطاء من شروط التجاوز والتقدم. وشرط الاستئناف تجاوز انقلابين عملي (تعطيل الدستور السياسي وفرض حالة الطوارئ) وعلمي (تعطيل الدستور المعرفي والتخريف حول الغيب).
وأستطيع القول الآن أن محاولات التجاوز ليست جديدة بل هي كانت موازية لمحاولات التعطيل: كل من انتسب إلى المدرسة النقدية في تاريخ فكرنا من أهل السنة وخاصة من كان يعتبر في نظر العلمانيين والليبراليين العرب الحاليين رجعيين هم في الحقيقة ثوار على هذين الانقلابين على ثورتي الإسلام.
لكن ثورتهم لم تتجاوز مرحلة رد الفعل. لم يبدأ الفعل حقا إلا مع ابن تيمية في النظر وابن خلدون في العمل: كلاهما انتقل إلى مرحلة بناء البديل لتجاوز نظرية المعرفة المطابقة عند الاول ولتجاوز نظرية العمل المطابق عند الثاني. فالنظر المطابق والعمل المطابق كلاهما مما يختص به الله.
ما يطلب من الإنسان ليس العلم المطابق ولا العمل المطابق بل الاجتهاد في النظر والجهاد في العمل لتحقيق شروط المهمتين اللتين يعتبر الإنسان مكلفا بهما لإثبات أهليته للاستخلاف: الحرية الروحية والحرية السياسية هما اساس الاجتهاد والجهاد ونفيهما هو الوساطة الروحية والوصاية السياسية.
لذلك فابن تيمية أعاد النظر في فلسفة النظر فأدرك أن العلم الإنساني مشدود إلى المطلق دون أن يكون مطلقا بل كل معرفة قابلة للتجاوز وكل تصور وراءه تصور أتم منه دون أن يكون الأتم. ومثله أدرك ابن خلدون أن العمل الإنسان جهاد قابل للتجاوز وكل عمل وراءه عمل أتم منه دون أن يكون الأتم.
فينتج عن ذلك أن الاهم في النظر والعمل هو تاريخهما أو منطق تطورهما خلال تحقيق الإنسان لمهمتيه في عالم الشهادة سعيا يختبر به أهلية الأنسان للاستخلاف في تعمير الارض بقيمه وذلك هو التكليف أو الأمانة التي حملها الإنسان. وهذا هو مجال العلم والعمل: فصلت 53 أمرا وآل عمران 7 نهيا.
لم يبق بعد الآن إلى أن ابين أن الآفاق والأنفس التي يرينا الله فيها آياته الدالة على حقيقة القرآن هي عالم الشهادة ببعديه الطبيعي والتاريخي وهما مجال البحث عن العلاقة غير المباشرة بين الإنسان وربه خليفة له في الارض وصلتها بالعلاقة المباشرة بينهما كما تذكر بها الرسالة الخاتمة.
وهنا يأتي دور مقدمة ابن خلدون: فلكأنه طبق فصلت 53 فطلب حقيقة مجال الأمر الإلهي الذي يوجهنا إليها القرآن في تعلقه بالخلق المأمور في القرآن من الآفاق والأنفس: الإنسان فردا وجماعة. وخلال هذا الطلب لكأنه اهتدى إلى دلالة الشورى 38 التي تعين مجال البحث عن تطبيق الإنسان مصيبا ومخطئا فيها.
فهو ينطلق من مفهوم الاستخلاف في الدنيا بمعنييه عند من يحقق الأهلية ومن لا يحققها ليدرس سنن العمران البشري والاجتماع الإنساني (بداية الشورى 38 الاستجابة إلى الرب) ويجعل مدار الاختبار كله حول مفهوم عميق أبدعه ابن خلدون ليغير كل العلوم العملية صاغ به غاية الآية: الإنفاق من الرزق.
فقد جعل مدار علم العمران البشري والاجتماع الإنساني وسننه السياسية كما تعينت في التاريخ الإنساني كله يدور حول هذا المعنى بعد أن سماه باسم أبدعه وبه نتبين حقيقة الشرائع التي يرينها الله في آياته في الآفاق والانفس: “نحلة المعاش”. وهي ذات بعدين عمودي وأفقي.
فنحلة المعاش علاقة عمودية بين البشر والطبيعة أو الارض التي منها المعاش وعلاقة أفقيهة بين البشر تبعا للعلاقة الاولى وما يتعلق بها من تبادل بينهم ومن تواصل حول ذلك التبادل سلما وحربا. وقد أحصى أشكال هذه النحلة وحدد دورها بوصفها اساس تصنيف أنواع العمران والاجتماع.
وقد لا يصدق القارئ أني ما فهمت منزلة الاقتصاد والملكية وارتباط كل المعاني القرآنية بهما إلا بفضل هذا المفهوم الثوري الذي وضعه ابن خلدون. وما فهمت علاقته بأساس العلاقة الأفقية بين البشر أعني كل ما يتعلق بالزواج وعلاقة المرأة بالرجل ونظرية الارث إلا بفضل ابن خلدون.
وأهم شيء كان يحيرني هو أن اساس القانون الجنائي الذي يوجه إليه القرآن فلسفة الحق يجعل حماية الملكية أهم حتى من حماية النفس البشرية. فحدها وخاصة إذا كانت عنيفة (الحرابة) لا تسامح فيه في حين أن حد قاتل النفس فيه تشجيع على المسامحة فجل جرائم القتل تتعلق بخلافات حول الحقوق والمنازل.
وقد ميز ابن خلدون بين العمران البدوي والعمران الحضري بالاعتماد على معيار نحلة المعاش التي صنفها إلى خمسة أنواع اثنان للأول واثنان للثاني والوسطى هي أساس الانتقال من الاول إلى الثاني: فالوسطى هي نحلة المعاش المعتمدة على الزراعة لأنها بداية الاستقرار نشأة الدولة.
وما تقدم على نحلة المعاش المعتمدة على الزراعة نوعان كلاهما يميز البداوة: جني منتج الطبيعة والرعي وهما مجال الترحال. وما يليها نوعان هما نحلة المعاش المعتمد على الصناعة وعلى التجارة. وعندما تنشأ الدولة في المرحلة الوسطى توجد الشرائع المنتظمة وجودها المتعين في مؤسسات وقوانين.
ودراسة هذه التكوينية هي مجال البحث في آيات الله المتعلقة بالفقه وتأصيله أو بالقانون (الوازع الأجنبي أي الذي يأتي من خارج الذات) وبالأخلاق (الوازع الذاتي أي الذي يأتي من الضمير). ذلك هو أحد العلوم التي يكتشفها ابن خلدون في دراسة التاريخ خبرا عن العمران البشري والاجتماع الإنساني.
من يدرس القانون الوضعي يتصور أن القانون الجنائي لا علاقة له بالقانون المدني ولا بالقانون الأسري ولا بالقانون العام بنوعيه (الإداري والدستوري) لكن القرآن دون أن يتضمن هذه الأنواع بجزئياتها يوجهنا إلى مجالات البحث فيها وخاصة إلى طبيعة العلاقة بينها ومن ثم إلى نظام الشرائع عامة.
لكن الشرائع التي يمكن الوصول إليها بالبحث العلمي فيما وجهنا القرآن إليه محلا لآياته التي تتعين في الآفاق والأنفس قوانين وسننا لا يحتوي عليها القرآن بل التاريخ الإنساني ببعدي التشريع فيه: كوازع أجنبي أو الاحكام السلطانية وكوازع ذاتي أو الأحكام الخلقية والروحية الفطرية.
ولذلك جمعت فصلت 53 بين الآفاق أي الطبيعة والتاريخ والأنفس أي ما يناظرهما في الفطرة نابعا من الضمير ولذلك فالرسالة تذكير بموجود في ذات الإنسان وليس إنشاء لمعدوم فيها. ومن لم يفهم هذا المعنى من القرآن الكريم طبيعي ألا يقوم بالبحث العلمي المأمور به قرآنيا فيتجرأ على آل عمران 7.
وكل من يفعل ذلك ينسى أن اختبار أهلية الإنسان للخلافة هو نفسه الوجود الدنيوي في المنظور القرآني. فقصة الاستخلاف تبين أن إنزال آدم فيه ما يشبه الرد على التحدي الإبليسي: ادعى أن آدم ليس أهلا للاستخلاف فلم يأتمر بأمر السجود. وعتاة التصوف يعتبرون ذلك فتوة لا يسجد صاحبها لغير الله.
وهذا الكلام يبدو من جنس الأساطير لأنه تعبير رمزي عن حقائق وجودية يثبتها تاريخ الإنسان والحضارة لأن مدار حياة البشر في عمرانهم وفي اجتماعهم هو الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف إثباتا أو نفيا. والأول أساسه النساء 1والحجرات 13 والثاني اساسه دين العجل الذهبي أي العبودية لغير الله.
ومن حسن حظي أني عشت إلى لحظة من تاريخ البشرية صارت فيها هذه المقابلة بين رؤية الإسلام للإنسانية ورؤية العجل الذهبي بمعدنه وخواره لها يصبحان مناط كل الخلافات في الجماعة البشرية مسلمة كانت أو غير مسلمة وهي معركة حاسمة في مصير الإنسانية وفي دور شهادة المسلمين على العالمين.
وكنت واثقا من أن موقف المدافعين عن فقه عصور الانحطاط وتأصيله سيعتبرون هذا المنظور علة كافية لاخراجي من الملة وقد سبق المرحوم البوطي أبا قتادة رغم اتزانه وتهور أبي قتادة ومن لف لفه ممن أفسدوا ثورة الشباب بتفاقه يشبه ما كان يرد به ابن رشد على الغزالي ظنا أن علم القدامى مطلق.
ولم أضحك في حياتي أكثر مما حصل عندما قرأت تعليق أبي قتادة على هذه التغريدات. يريدنا أن نتداوى بطب ابن سينا وأن نسير حياتنا بفقه كان علة كل ما حل بالأمة من نكبات. فلا فرق عندي بين من يفسد المعارضة -وهو منهم- ومن يفسد الحكام من الدعاة الذي يتصورون التشقيق اللفظي علما.
القرآن يقول صراحة أن تبين الحق يكون بما يرينه من آيات في الآفاق والانفس وهم يعكسون فلا يقومون بالبحث العلمي فيهما بل يكتفون بشرح الألفاظ: خرافة الاعجاز العلمي. وبكل وقاحة يزعم أن الراسخين في العلم علمهم من جنس علم الله في التأويل فيعطفه عليه.
هؤلاء المخرفون أفسدوا ثورتي الإسلام الروحية والسياسية ويريدون فرض الاستبداد الروحي لمن يسمونهم علماء والاستبداد المادي لمن يسمونه أمراء. والجمع بين العلماء والامراء يسمونهم أولي الأمر. من ولاهم؟ الاقتتال بين أمراء الحرب وليس إرادة الامة التي تختار بحرية من يمثل إرادتها.
لو كان العلم يكفي فيه تعلم العربية لكنا نحن اسياد العالم لكثرة المتقعرين في التشقيقات اللفظية العربية. ما فتحت تفسيرا من التفاسير للقرآن الكريم إلا وأكاد أتقيأ مما يحتوي عليه من ثرثرة لا علاقة لها برسالة خاتمة تعرف نفسها بكونها تذكيرا بالفطرة ودعوة لرؤية آيات الله في الآفاق والأنفس.
وآياته في الآفاق والانفس تتعلق بالخلق وبالأمر. والرسالة تقول لنا إن آيات الآفاق والأنفس رياضية تجريبية في الخلق وسننية تجريبية في الأمر. ومن ثم فلا يمكن وضع علم الطبائع وعلم الشرائع من دون البحث العلمي في الرياضيات وتطبيقاتها التجريبية وفي السياسيات وتطبيقاتها التجريبية.
وإذا كان الله وهو الخالق يقدم قوانين الخلق على قوانين الامر -الربوبية-فإنه من الغريب أن تسمع إنسانا يدعي الرسوخ في العلم يقلب العلاقة بين الخلق والامر فيأمر من دون العلم بحقائق ما يريد تنظيمه بالأمر. التشريع أمر حول موجود وأفعال الإنسان. فكيف نشرع لما نجعل حقيقته؟
فالله يقضي على علم بالمقادير. ومن هنا نفهم ثنائية القضاء والقدر. فهو لا يخلق تحكما بل بعلم وهو لا يأمر تحكما بل بمد المأمور بشروط قابلية التكليف بحكم كونه لا يكلف نفسها إلى وسعها. لذلك فالأمر بما هو تشريع ينظم الوجود مشروط بالعلم بالوجود الذي يراد تنظيمه استنادا لمقومات كيانه.
لذلك فأكبر عائق لنهوض الامة واستئناف دورها الكوني هم هؤلاء العلماء المزيَفون والمزيِفون. القرآن والسنة موجهان لعلم الشرائع (السياسيات تربية وحكما) والطبائع (رياضيات وتجربة) ولا يتضمنان علم التشريع الذي هو ما نعلمه بآيات الله في الآفاق والأنفس اي في الطبيعة والتاريخ وفي الفطرة.
وصلنا الآن إلى بيت القصيد. لنفهم ما فهمه الفاروق. لو كان لم يعمل بفصلت 53 أمرا وبآل عمران 7 نهيا لتأسيس علم الشرائع لظن قد عطل حكم السرقة وناقض الرسول الاكرم الذي بين أنه قاطع يد السارق حتى لو كان فاطمة الزهراء. ذلك أن الرسول بخلاف غيره كان الاعلم بشروط تطبيق الحدود وعلم صحابته.
القالبين لمعنى فصلت 53 أمرا ولمعنى آل عمران 7 نهيا يتجاهلون اجتهاد الفاروق فيفهمون الحدود فهم بوكو حرام وداعش وليس فهم الامة قبل أن يعطل الدستور السياسي والدستور المعرفي بوصايا القرآن والسنة.  وسأقبل جدلا أنهم على حق ولنحاول فهم حلهم لقضايا الأمة حاليا: فقرروا قطع يد السراق.
عندئذ أطرح الأسئلة ليس لهم حل:
من سيكون القاطع؟
وكم عدد المقطوع أيديهم؟
إذا كان أكبر اللصوص هم الحكام وحاشيتهم من النخب فهم سيقطعون أيدي من جوعوهم حتى يرضوا الدجالين ممن يتصورون الشريعة هي قطع الايدي. فيكون السارق الاكبر مضحيا بالسارق الاصغر الذي هو من جوعه فاستسرقه.
ألا يكون الرسول في كلامه على الملك العضوض قد قصد ذلك ونبه إليه؟
هل نقبل أن يصبح الفقه وتأصيله مجرد أداة لخدمة أغراض منافية لثورتي الإسلام أي الحرية الروحية والحرية السياسية حتى يكون المؤمن مؤمنا وعاملا صالحا والامة متواصية بالحق ومتواصية بالصبر؟
هل نحن كذلك؟
ما الفرق بين فقهاء أمراء الحرب وفقهاء حكام المحميات العربية مثلا؟
هل منهم من يمكن أن يدعي أنه يعمل بشرع الله؟
لكن “العلماء” المزعومين والدعاة هل يتجاوز دورهم الفصام بين الاقوال والأفعال مغلبين منطق الضرورات تبيح المحظورات فيجعلون الشريعة مجرد غطاء يبرر حكام الطغاة من النوعين؟
وهبنا تصورنا ثورة من قلة مخلصة لا ينطبق عليها هذا الوصف فلا يكون أمراء حرب ولا حكام محميات هل يمكن للشريعة الإسلامية أن تقطع أيدي ثلاثة أرباع الشعب المسلم؟
فالتسارق هو المناخ العام في المجتمع إذ ليس من الضروري أن تكون السرقة عينية: فالغش والاحتكار والتطفيف كلها سرقات خفية.
لكن الأهم من ذلك كله هو أن كل وظائف الدولة العشرة مبينة على أكثر من السرقة فهي حرابة: فإذا من بيده سلطان الدولة ولو جزئيا يستعمله سلاحا للتغطية على فساده واستبداده: فالقضاء والأمن والدبلوماسية والدفاع والاستعلامات جلها وفي بعض بلاد العرب كلها تعيش من عرق الامة وتخدم عكس دورها.
والأمر لا يتوقف عند وظائف الحماية الخمسة هذه بل يتعداها لوظائف المجتمع الاهلي الخمسة أيضا فالتربية النظامية والتربية الاجتماعية والإنتاج الثقافي والإنتاج الاقتصادي والبحث العلمي كل ذلك هو وظائف الرعاية التي تعمل بعكس دورها وإلا لما انحططنا ولكنا في قمة الهرم الدولي.
والوظائف العشر تعمل عكس دورها ومن ثم فهي تسرق أجرها مقابل عمل لم تقم به بل قامت بعكسه فصارت الامة تدفع اجر من يعمل على تخريب وظائفها والتخريب هو دائما لصالح الأعداء الذين يستفيدون من هشاشة الامة التي يريد لها الإسلام أن تسود العالم فصارت مسودة بأراذله وأخبث البشر.
الحثالة ممن يسمون أنفسهم فقهاء المعارضين للحكام باسم الإسلام في الحركات التي تدعي الجهاد يتصورون دولة طالبان وداعش وبوكو حرام هي الدولة الإسلامية. وهي في الحقيقة النقيض المطلق لنظرية الدولة الإسلامية كما حاولت بيان حقيقتها ظنا أن حفظ بعض المتون البالية علما للشرائع.
ولا فرق بينهم وبين الفقهاء الذين يبررون سلوك حكام المحميات. أولئك هم مبررو سلوك أمراء الحرب باسم الإسلام الذي شوهوه وهؤلاء هم مبررو سلوك أمراء المحميات التي اقتطعوها من دار الإسلام لتصبح مجرد قواعد لإمبراطورية مغول الغرب: الولايات المتحدة الأمريكية.
وهذان النوعان من الفقهاء المزعومين يمثلون شبه كنسية تضيع الحرية الروحية بوساطة تنويمية للشعوب أساسها تحريف الرسالة التي أتت للتحرير وليس للتزوير. الوساطة الروحية تبرر الوصاية الاستبدادية لحكام المحميات باسم الدين أو باسم الفقه ولأمراء الحرب الذين يدعون المعارضة بنفس الاستبداد.
والنوعان أخطر على الرسالة وثورتيها أي الحريتين الروحية والسياسية من كل طغاة العالم وحتى من الاستعمار وعملائه لأن هؤلاء يضاعفون قوة مقاومة العدوان بقيم الإسلام وأولئك يشوهونها فيسهمون في إضعافها ويكادون يبررون هروب الشباب إلى العلمانية والإلحاد بتخريفهم ونفي التطور العلمي.
والاخطر من ذلك كله هو أن رؤيتهم للمعرفة هي سر التخلف الذي نزع كل الأدوات والأسلحة التي تمكن الأمة من حماية ذاتها ورعايتها. لو أضعت كل حياتك في تقليب ألفاظ القرآن والحديث لما حققت أدنى أداة أو سلاح لتحقيق مقومات الحماية والرعاية وفي ذلك نفي للأنفال 60 ليس بعده نفي.
فالإنسان كلف بتعمير الارض بقيم الاستخلاف. ومن كان جاهلا بقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ استحالت عليه أن يحقق شروط التعمير فضلا عن قيم الاستخلاف. ومعنى ذلك أننا لم ننحط صدفة بل لأننا تركنا توجيه فصلت 53 وتحذير آل عمران 7 فعكسناهما: تركنا عالم الشهادة مجهولا وخرفنا حول عالم الغيب.
توهم أدعياء الرسوخ في العلم عكس ما وصفتهم به آل عمران 7 واستبدلوا الإيمان بالغيب بدعوى علم عطفوه على علم الله وهو عندي عين الكفر بكل القرآن لأن علم الإنسان ليس محيطا كعلم الله حتى يكون الراسخون مثله قادرين على تأويل المتشابه: فهذا دليل مرض القلب وابتغاء الفتنة.
وما “يقهرني” حقا هو تخريف القائلين بالإعجاز العلمي. لو صح أن القرآن يحتوي على هذا الاعجاز وكان الوصول إليه بشرح النصوص لكان أصحاب هذا الوهم أول الكاشفين على اسرار الكون الطبيعي والتاريخ ولغزوا المجرات واستخرجوا من الارض ما فيها من الثروات ولما كان منا متسولون حماية ورعاية ولكانوا هم الرواد لا ينتظرون اكتشاف غيرنا ثم يدعون وجوده بعده في تفاسيرهم الوهمية. وهم من حيث لا يعلمون يجعلون حقائق القرآن تاريخية لأنه لا يوجد علم نهائي بل كل ا لعلوم في تطور دائم. فهل ما يدعون وجوده في القرآن يصبح كاذبا بعد أن يتجاوزه العلم؟ الدجالون فسروا القرآن ببطليموس.
وإذا كانت الطبائع لا تعلم بشرح النصوص فمن باب أولا ألا تعلم الشرائع به. فالشرائع أكثر تعقيدا من الطبائع ومن ثم فعلمها أعسر. وإذا كانت الطبائع لا تعلم إلا بالإبداع الرياضي والتجربة المادية فإن الشرائع تضيف إليها بسبب ما فيها من طبائع الابداع السياسي والتجربة الخلقية.
ومن يجهل هذه الشروط المضاعفة لعلم الطبائع ولعلم الشرائع لا يحق له أن يبدى رايا في الفقه وفي تأصيله. فالإنسان كائن طبيعي (على الاقل بمادة بدنه) وتاريخي (على الأقل بمادة عقله) وهو يعرف فردا وجماعة بعلاقة عمودية مع الطبيعة (مصدر زاده المادي) وعلاقة أفقيه مع التاريخ (مصدر زادة الروحي)
واستعماره في الارض مشروط بإنتاجه لهذين الزادين وهما ما يطلبه القرآن منه تكليفا يؤهله للاستخلاف إذا هو حققه بقيم الاستخلاف كما حددها القرآن في النساء 1 (الاخوة البشرية) وفي الحجرات 13 (المساواة بين البشر) وشرط ذلك الحريتان الروحية والسياسية ليختبر المكلف بعلمه وعمله.
وهذا هو مناط أحكام أفعال العباد وهو مجال اختبار أهلية آدم وأبنائه للخلافة:
والقرآن فيه دستور سياسي للتربية والحكم بتوجيه الإنسان نحو شروط الحياة المنظمة في استعمار الارض
ودستور معرفي لتوجيهه نحو العمل على علم.
والاول حددته الشورى 38 والنساء 57 والثاني فصلت 53 وآل عمران 7.
والتحديد التوجيهي هو الهداية التذكيرية للإنسان حتى يستعمل ما جهز به فطريا للتعامل مع الطبيعة والتاريخ بما له من إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود تؤهله لأن ينجح في الاختبار جوهر الحياة الدنيا مطية للحياة الأخرى. ذلك هو مفهوم الرسالة الخاتمة والشاملة للإنسانية وشرط الشهادة عليها.
ذلك ما افهم من الرسالة الخاتمة وثورتيها أي الحرية الروحية علاقة مباشرة بين المؤمن وربه والحرية السياسية علاقة غير مباشرة بينه وبين ربه لأنها تمر بعالم الشهادة الطبيعي والتاريخي الذي اختباره يكون في ما يعلمه وما يعمله للتعامل معهما تعميرا للأرض بقيم الاستخلاف لحساب يوم الدين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق