Hot

الاثنين، 22 يوليو 2013

طبيعة الأزمة السياسية في تونس


أبو يعرب المرزوقي
منزل بورقيبة في 2013.07.22




لنبدأ بالقول إن للأزمة السياسية في تونس (وفي مصر على حد سواء) وجهين هما مشكلتا بلاد الربيع العربي و بصورة أدق مشكلة الوضع الذي نتج عن العقود الستة التي خضعت فيها بلادنا لحكم الاستبداد والفساد الحكم الذي صحر الحياة السياسية وكاد يقضي على النخبة السياسية القادرة على قيادة البلاد سواء من بين الذين كانوا في الحكم قبل الثورة أو من نخب الثورة:

فالأولون يكاد عزرائيل أن يزور أغلبهم دون خلف وذلك بسبب استحواذهم على الحكم عقودا دون تمكين الشباب من الممارسة التي تؤهلهم لخلافتهم حتى إننا يمكن أن نقول إن الدول العربية جميعها لا يكاد يحكمها إلا من بلغ أرذل العمر.

والثانون تكاد الأمية السياسية ألا تغادرهم بحكم لهفتهم على الحكم بأية طريقة بل هم بدورهم يعانون من نفس المشكل لأن قياداتهم هي بدورها شاخت بالعربي وقد يصح على بعضها الرغبة في شيخة الكرسي بالمعنى التونسي.

ويمكن لتيسير العلاج دون نية تبسيطه يمكن أن نرد جل المشاكل التي تحدد طبيعة الأزمة السياسية إلى مشكلتين رئيسيتين. وهما مشكلتان ليستا خاصتين بمن يباشر الحكم بل هما تعمان عنصري الحكم في أي مجتمع سوي:
من يباشر الحكم بالفعل أي الأحزاب الحاكمة.
ومن يباشر الحكم بالقوة أي الأحزاب المعارضة.

والمشكلتان تسميتهما من أبسط الأمور. لكن فهم عللهما هو الذي يحتاج إلى شيء من التحليل لن نطيل الكلام عليه حتى لا يدق بالقدر الذي يرفضه القارئ عادة. وذلك ما نحاول القيام به دون الزعم بالذهاب بالتحليل إلى غايته مع التنبيه إلى أن سلسلة المحاولات يمكن أن توفر هذا المطلب لمن يريد أن يعطي للأمر ما يستحقه من صبر وجلد:

المشكل الأول هو مشكل الدستور ومستويا ظهوره الأساسيان:
إن تسمية هذا المشكل الأول رغم يسرها تقتضي أن نعين علة المشكل أعني علة التخبط في حسم مسألة النظام السياسي ما طبيعته بوصفها مجرد تجل سطحي للمرجعية التي تؤسس حضارة الجماعة وهويتها أعني العلاقة السوية بينه ممثلا للإرادة وبين الجماعة منبعا لكل إرادة حتى يحق لها أن تعتبره نظاما لها فتقبل به طوعا لا كرها متحررة من العنف الداخلي والابتزاز الخارجي.

من هنا جاءت عقدتا كتابة الدستور تجليا حقيقيا لهذا المشكل المبدئي أعني:
1-النظام السياسي المناسب للوضعية التونسية التي لا يناسبها لا النظام الرئاسي ولا النظام البرلماني ولا حتى المزيج الفرنسي الذي يكون رئاسيا عند غلبة حزب رئيس الدولة وبرلمانيا عند غلبة حزب رئيس الحكومة ومعطلا تماما عند تساكنهما.
2-والمرجعية القيمية المناسبة لشعب لا يتنكر لذاته فيفصل بين ماضيها ومستقبلها بقطيعة حضارية يشترطها التحضير المستبد أو حكم النخب التي تحتاج إلى الفساد والاستبداد لتصل إلى القيادة المفروضة بالعنف الداخلي والابتزاز الخارجي.

المشكل الثاني هو مشكل أهلية القيام بالوظيفة السياسية ومستوياها:
وأما تسمية المشكل الثاني فهي يسيرة كذلك. لكن تحديد علتها يقتضي الاعتراف بمسألة من العسير أن الاعتراف بها. إنها مسألة العقم السياسي الحالي في الساحة العربية عامة والتونسية خاصة. فعدم توفر الشروط التي تحقق الأهلية لتسيير دولة بالمعنى الحديث أمر يسعر أـن تعترف به النخبة السياسية التي تحول الأول الواقع إلى أمر واجب فتخبط خبط عشواء وخاصة عندما تراهم يتناقشون لكأنهم طلبة يتغافصون في معارك المراهقين:
فالخلل الناتج عن التصحير السياسي يتعلق بتنظيم مؤسسات التعبير عن الإرادة الجماعية بحسب الخيارات القيمية والمصلحية مادية كانت أو معنوية (الأحزاب).

والخلل الناتج عن نفس التصحير يتعلق انتخاب القيادات القادرة على تمثيل الإرادة الجماعية على نحو يتعالى على المستوى الأول من تنظيم الإرادة الجماعية.

ومن الطبيعي أن يكون الأمر كذلك لكن ما ليس طبيعيا هو ألا يتم الاعتراف بهذه الوضعية والقبول بما يترتب عليها من تواضع معرفي وخلقي: فأنت تسمع لبعض المتكلمين في مرجعية الدستور أو في نظام الحكم كلاما تقشعر منه الأبدان لشناعته المعرفية وبذائته الخلقية. لا بد من الاعتراف بالحقيقتين التاليتين والعمل على تداركهما:
1-فليست للبلاد العربية بعد ستين سنة من الاستبداد والفساد حياة حزبية بالمعنى الصارم لكلمة حزب: لا وجود لحزب قادر على الحكم لا وحده ولا مع غيره.
2-وليس في ما يقدم على أنه أحزاب شخصيات وطنية بمعنى التعالى على الحزبيات لتكون في الوعي الجمعي ممثلة للإرادة العامة وقادرة على رعايتها: لا وجود لشخصية شابة قادرة على نيل ما يقرب من الإجماع حولها لقيادة المسيرة.

ومن ثم فلا يمكن أن نقدم حلولا مناسبة للخيارين السابقين (رئاسي برلماني) وحتى للخيار المتردد بينهما (نصف الأول أو نصف الثاني أو وسط بينهما). فما حصل في العهدين المتقدمين على الثورة أعني عهد بورقيبة وعهد ابن علي –ونفس الأمر يقال عن عهود رؤساء مصر الثلاثة قبل الثورة- قضى على الرصيد القيادي والحزبي في الحكم والمعارضة على حد سواء.
وحتى نكون منصفين فإن العهد البورقيبي قد ورث عن حقبة الكفاح التحريري الكثير من الرجالات الذين كان يمكن أن يكونوا قادرين على قيادة الدولة لو اتصف بورقيبة بأكثر حكمة فتنازل عن الحكم قبل أن يشيخ الجميع مثله ويبتذل دورهم حتى صار جلهم مجرد تابعين لحارزتي القصر وعضاريتهما في الاتحاد والنخب المغتربة والداخلية والدفاع .

ولما أتى عهد ابن علي قضي على من بقي من هؤلاء بإبعاد الصادقين منهم (مثل الأستاذ أحمد المستيري وكثير غيره) وبتوسيخ من اشترى دنياه بآخرته فشارك معه إن طويلا أو قصيرا. وهؤلاء هم الذين يحاولون الآن إرجاع عجلة التاريخ إلى الوراء. لكن هيهات فالشباب بجنسيه ليس بالغفلة التي تجعله يقبل بمثل هذه الألاعيب. وعلى كل فإن لجوء هؤلاء الخرفين إلى العضاريت والبادنية دليل على فقرهم الثقافي والسياسي. والشعب التونسي إذا تحدوه كما تعدى العسكر والبلطجية شعب مصر سيبين لهم أن له ما لشعب مصر من القدرة على المقاومة لتحقيق الصلح المستقل وغير التابع بين مطالب التأصيل ومطالب التحديث المتحررين من الانحطاط والاستعمار في آن.

و من عجائب ما حصل في الثورة أن الثوار في تونس وكذلك في مصر ربما بسبب ميلهم لتغليب الخيار السلمي والمصالحة على المنطق الثوري سلموا المرحلة الانتقالية إلى أفسد ما أنتج هذان العهدان عندنا و عند المصريين:
فعند المصريين تسلمت الحكم القيادات العسكرية الفاسدة فحافظت على عنجهية الدولة العميقة التي نراها اليوم تستأسد بالعمالة مع أمريكا وإسرائيل وسلاطين التخلف العربي.
وعندنا تسلم شهود الروز ومزيفوا الانتخابات الحكم مثل المبزع الذي مكناه من أن يصبح رئيس جمهورية والسبسي الذي مكناه من أن يكون رئيس حكومة ليحافظ على الدولة العميقة كالحال في مصر.

لذلك كانت مهمة الرجلين شاهدي الزور في عهد ابن علي مهمتهما الأولى والأساسية إعداد أرضية عودة النظام القديم أو ما هو أفسد منه لأن أفسد ما في اليسار لم يعد مجرد فترينة كما كان عند ابن علي بل صار المنظر للتجتمع الجديد أي نداء تونس. وقد كانت الخطة ولا تزال تحقيق الهدفين التاليين:

الهدف الأول هو إغراق الدولة في غياهب التبعية للقريب والبعيد ممن ذهب إليهم متمسحا عساه يجد من يمده بالشرعية فيسنده في مواصلة نظام الاستبداد والفساد الذي ذاق مزاياه بعد ضعف قدرة بورقيبة وبعض الخلص من رجالاته فلم يعودوا قادرين على احترام مهابة الدولة.

الهدف الثاني هو تكوين مجموعة من "التوب" أو المندسين في الأحزاب التي كانت تقاوم في عهد ابن علي لتخريبها من الداخل كما حدث لحزب الشابي. وذلك أمر بين لكل ذي بصيرة من خلال الاستقالات الأخيرة بعد فشل بلع حزبه من الحزب المؤلف من بعض وزراء حكومة السبسي.

وما أظن الشابي يخفى عنه أن كل ما حدث كان مؤامرة للقضاء على حزبه أو على ما بقي منه بعد هزات الانتخابات. وكان يمكن للشابي رغم أخطائه الكثيرة بعد الثورة أن ينال القبول من غالبية الشعب بسبب نضاله خلال العهدين السابقين ومواقفه في سنوات الجمر ضد كل المضطهدين بخلاف ما آل إليه موقفه عندما أصبح على الأقل خلال الحملة الانتخابية معاديا صريحا للإسلاميين. لكنهم قضوا على حزبه أو على البقية الباقية منه فضلا عن ابتزاز هذه البقية بقطع التمويل.

وعندي أن الشابي يمكن أن يستعيد منزلته لو خرج من الحلف الهجين وحتى من الحزب وأخذ موقف المصدع بالحق بصرف النظر عن طموحه. فلعل التخلي عن الطموح هو الذي سيكون الطريق لتحقيقه. ويمكن لهذا الموقف خاصة إذا صحبه ما يتهم به من شخصانية متضخمة قد تفسد عليه مهمة تجميع القوى من حوله يمكن لهذا الموقف بهذا الشرط أن يجعل الخيار النهائي تميل كفته إليه.

كيف أصبح الأمر الواقع محددا للواجب

لكن الأخطر هو أن خيار النظام والمرجعية أعني جوهر المشكل الذي ليس هو مشكلا خاصا بتونس وحدها بل هو يشمل كل بلاد الربيع العربي يعالج وتقدم له الحلول ليس من منطلق المبادئ التي تبنى عليها الدول الخادمة لأمتها بل من منطلق هذه الوضعية السياسية بالخلل الذي تعاني منه حزبيا وشخصيا. فسواء أخذنا تونس أو مصر أو أي بلد عربي فإننا سنجد نفس التصحير التام للساحة السياسية ومن ثم الوضعية التي تجعل هذا الأمر الواقع منطلق الحلول المقدمة لذلك الأمر الواجب :

فمن يتصورون أنفسهم زعماء جديرين بكرسي الرئاسة سواء كانوا من أشباه الأحزاب الحاكمة أو من أشباه الأحزاب المعارضة يميلون إلى تضخيم دور رئيس الدولة حتى وإن تنازلوا عن النظام الرئاسي.

ومن يتصورون أنهم فاقدين لمرشح للرئاسة تكون له حظوظ وافرة للنجاح يميلون إلى تضخيم دور رئيس الحكومة بعد يأسهم من فرض النظام البرلماني والقبول بما يقرب منه.

و أصحاب كلا الموقفين مصابون بهوس عجيب.

فعلة الموقف الأول الرئاسوي هوس مرضي مفهوم على الأقل نفسيا: ففضلا عن سنهم التي تجعل المعركة عندهم معركة حياة أو موت لئلا تفوت الفرصة فيأخذهم عزرائيل قبل أن يصبحوا رؤساء تراهم يختارون طبيعة النظام والمرجعية بمقتضى ما يحقق هذا الطموح ولا يهمهم البحث في شروط المناسبة مع الوضع فضلا عن شروط المناسبة مع المقومات المحددة لشرط الرضا والقبول من غالبية الشعب. المهم عندهم هو إرضاء من يستمدون منه شرعية تحقيق طموحهم بمنطق التحضير المستبد.

وعلة الهوس الثاني البرلمانوي مفهوم مؤقتا لظنهم أن عدم انتظام المعارضة في حزب منافس ذي مصداقية سيمكنهم من تعيين الحكومة. لكن ذلك لا يأخذ بعين الاعتبار مصلحة الوطن. ففضلا عن أن ذلك ليس بالمضمون فهو خيار خطير على استقرار البلد. فمن العسير أن يحصل حزب أيا كانت مرجعيته على الأغلبية الكافية للحكم وحده. وليس من اليسير تحقيق الحكم الائتلافي حتى في البلاد المتقدمة وذات التقاليد الديموقراطية ناهيك عنه في البلاد التي لا تزال أحزابها نوادي نخبوية أو فرق شبه دينية أو مجموعات شبه قبلية أو تكتلات شبه جهوية.

أما الهوس الجامع والذي هو داهية الدواهي فهو الخضوع للابتزاز عند تحديد الخيارات الجوهرية في بناء الجمهورية الثانية الابتزاز الذي يجعل كل النخب السياسية تعترف دون تصريح بأنها لا تسعى إلى وضع نظام حكم ودستور يستجيب لحاجيات الوطن ويطابق ما يحقق القبول والرضا السلمي بل هم يريدون فرض عقائد سيدهم الذي يستمدون منه الشرعية والرضا بديلا من شعبهم حتى يقبل بهم حكاما يواصلون في جعل الأوطان تزداد تبعية فتعيش بمد اليد والتسول المستمر بحكم التبعية المادية والروحية.

وخاتمة القول:

إن غياب النخب السياسية القادرة على تسيير البلاد تسييرا يتجاوز المناكفات السياسوية والحرص على مقومات الدولة المستقرة وذات المهابة والهيبة هو الذي يجعل حل هذين المشكلين لا يعتمد على المبادئ والواجب بل يجعل الأمر الواقع أساسا للحلول فيكون تعفينا للواقع السياسي المتصحر ومواصلة للأنظمة المستبدة والفاسدة في كل البلاد العربية وخاصة في بلاد الربيع العربي-لأن ما عداها من البلاد العربية لم تزل دون الوعي بهذه القضايا إلى أن يحدث فيها زلزال الربيع إن شاء الله.

لكني واثق من أن ما يحصل في مصر بعد الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه أعداء الأمة بتشجيع الانقلاب العسكري سيجذر الثورة ويجعلها بصراحة ثورة تريد أن تضع نظام حكم ذا مرجعية يقبل بها الشعب نظاما مرجعيته متحررة من المقابلة الزائفة بين قيم التأصيل وقيم التحديث لأن قيم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان تبين الآن أن من يدافع عنها ومن يؤمن بها ومن يحميها ليس المتكلمين عليها بل من يتهمون بالابتعاد عنها. أما المتكلمون عليها فهم الذين داسوها بأحذية العسكر المتعطش لعودة أنظمة العقود الستة الماضية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق