أبو يعرب المرزوقي
منزل بورقيبة في 2013.07.24
المعادلة الأولى
أصل الفتنة الصغرى: إسلامي علماني
إذا حاولت صوغ القضية التي يدور حولها الخلاف الحالي (خلال الربيع العربي من حيث هو استئناف رسالة الإسلام دورها التاريخي الكوني) بين النخب السياسية وتابعيهم من النخب الثقافية والإعلامية تجدها قابلة لهذه التوصيفة:
ما أساس الحكم؟ هل هو إرادة الشعب التي تختار بحرية مطلقة من يحكمها بمقتضى ما تؤمن به وتسعى لتحقيقه من قيم أم هو إرادة نخبة تختار القيم التي تريد فرضها ومن يحكم ممن يمثلها معتبرة إياها متعالية على فهم الشعب سواء كان هذا المتعالي مستمدا من المعتقد العقلي أو من المعتقد الديني (لأن كليهما يدعي العلم)؟
فيكون الخلاف اليوم ليس بين ديموقراطي ولا ديموقراطي بل بين تصورين للوصاية على الشعب أولاهما تؤسس النخبوية على ما تعتقده علما بالحقيقة العقلية والثانية تؤسسها على ما تعتقده علما بالحقيقة الدينية:
ومعنى ذلك أن النخبة السياسية جميعها لها اليوم موقف من الشعب قريب من الموقف القديم في فلسفة أفلاطون: الشعب لا يعرف مصلحته ولا بد من وصاية عليه والخلاف بين الصفين إذن لا يتعلق بالديموقراطية بل بطبيعة الوصاية هل هي لمن يدعون تمثيل الحقيقة المزعومة دينية أو لمن يدعون تمثيل الحقيقة المزعومة عقلية.
المعادلة الثانية أو أصل الفتنة الكبرى: سني شيعي
وإذا حاولت صوغ القضية التي دار حولها الخلاف الماضي (خلال نزول القرآن من حيث هو نشأة الرسالة الإسلامية الكونية) بين الصحابة بعد وفاة الرسول الأكرم وتابعيهم من النخب الثقافية والإعلامية ممثلة بالقصاصين والقرائين في المساجد تجدها قابلة لهذه التوصيفة:
ما أساس الحكم؟ هل هو اختيار الجماعة بمقتضى ما تؤمن به مما فهمت من القرآن والسنة أم هو إرادة نخبة تختار من يحكم من أهل الحل والعقد النسبي لتعلقه بالعلم الاجتهادي أو من أهل الحل والعقد المطلق لتعلقه بالعلم اللدني؟ ومن ثم فالخلاف ليس بين من يؤمن بحكم الشعب المؤمن لذاته ومن لا يؤمن بذلك بل بطبيعة أهل الحل والعقد: هل هم أهل المعرفة المكتسبة والخبرة أم هم أهل العلم اللدني والموروث: وهنا أيضا الأمر لا يتعلق بحكم المؤمنين لأنفسهم بأنفسهم بمقتضى مبدأ أمرهم شورى بينهم بل هو يتعلق بطبيعة الوصاية: وذلك هو الفرق بين السنة والشيعة. الاختيار المحصور في أهل الحل والعقد الاجتهاديين مقابل الوصية والحق الإلهي في الحكم.
المعادلة الثالثة: أو أصل الفتنة الأكبر: منطق المفارقات
إذا حاولنا الآن صوغ العلاقة بين المعادلتين فحددنا الخيط الواصل بينهما أو بين أصلي الفتنتين فإن كل ذي بصيرة يرى بوضوح أن ما يجري مناقض تماما لما كان من المفروض أن يحصل لو حافظت المعادلتان على مبدأ تكونهما:
فالمنتظر عند تحكيم المنطق هو أن يكون السني والعلماني على وفاق لأن كليهما يقول بالوصاية النخبوية ولا يؤمن بأهلية الشعب لحكم نفسه بنفسه. وكلاهما يربط هذه الوصاية بالاجتهاد الإنساني وليس بالحق الإلهي: ومعنى ذلك أنه سواء جعلنا المرجعية القيم التي يتوصل إليها الإنسان بعقلة أو القيم التي يتوصل إليها بإيمانه فإن الحاكم في الحالتين لا يتبغي أن يدعي العصمة بل هو يعتبر المرجعية فوق الجميع ومن ثم فكل مواطن يمكن مبدئيا أن يشغل هذا المحل سواء وصل إليه بالعقل أو بالإيمان.
هذا هو المنتظر لو كان سلوك العلماني متناسقا. لكن ما نشهده في الساحة السياسة قطرية كانت أو عربية هو الوفاق المقابل تماما أي إن العلماني القائل بالاجتهاد العقلي للحاكم يحالف الشيعي القائل بالحق الإلهي والعلم اللدني للأيمة. فكيف نفهم هذه المعادلة الجديدة في تحالفات الساحة العربية خاصة والإسلامية عامة؟ لا يوجد إلا حلان لا ثالث لهما لفهم هذه المعادلة أحدهما ممتنع بمقتضى الحد والثاني هو الباقي:
فلا يمكن أن يكون العلماني قائلا بالاصطفاء الإلهي وبالعلم اللدني لأن هذا مناف للقول بالاحتكام إلى العقل. وإذن فالحكم المؤسس على النخبوية المعرفية لا يمكن أن يكون موروثا بمعنى الحق الإلهي بل هو مكتسب. والمشكل هو في شروط الاكتساب: إنها شروط اجتماعية وطبيعية ليست في متناول الشعب الجاهل والأمي والغبي ذلك هو تقويمه لسلوكه الانتخابي كما تبين في التجربة التونسية والمصرية. وليس هذا حكما من عندي بل كان صريحا في أحكامهم الصادرة خاصة من أفواه أصدقهم أعني أكثرهم عفوية في التعبير عما في نفوسهم.
وإذن فالعلماني العربي ليس علمانيا ولا تقدميا ولا حتى معاصرا للفكر الحديث بل هو من القائلين بالاصطفاء الطبيعي بالمعنى اليوناني والاجتماعي بالمعنى الطبقي ومن ثم فهو ما زال من القائلين بالنظرة القديمة للديموقراطية. إنه يؤمن في قرارة نفسه بأن الشعب عاجز بالجوهر على حكم نفسه بنفسه وأن الحكم ينبغي أن يكون حكرا على المصطفين طبيعيا واجتماعيا أعني أبناء طبقة بعينها لأنه. وهذا المعنى هو ما عبر عنه بعض مفكري مصر وتونس حتى قالوا إن الأميين ينبغي ألا يكون لهم الحق في التصويت وكادوا يختارون طبقيا التصويت "السنزيتار" الذي لا يسمح لغير الأغنياء بالتصويت.
المعادلة الرابعة: أو أصل الفتنة الأصغر: المستعمر: الانديجان
من هنا تفهم أمرين لان أصل الفتنة الأصغر يفقدهما ما فيها من مفارقة لا يستسيغها العقل السليم: فاحتقار الشعب واحتقار طريق إدراكه للقيم أعني ثقافته الدينية والعفوية التي لا تحتاج إلى أن يصبح المجتمع كله من علية القوم حتى يحق له المشاركة في تحديد مصيره مع الكلام على الديموقراطية بمعناها الملتبس هو في الحقيقة الكذبة التي تخفي أصل الفتنة الحالية أصلها الحقيقي. ذلك أن كل ذلك لا يكون أمرا ذا مفارقة إلا إذا واصلنا الظن بأن الديموقراطية يقصد بها عندهم ما تعنيه في الفكر الحديث الذي يميز بين التعبير عن الإرادة الشعبية التعبير الذي هو حق للجميع فضلا عن كونه في متناولهم والكفاءة المعرفية والخلقية التي تتعلق بوسائل تحقيق هذه الإرادة.
إن هذه الظاهر هي عينا الحاجة إلى انتخاب الحاكم من قبل الجميع لمعرفتهم بالمطلوب وبالقادر على تحقيقه من منطلق الثقة فيه لمعرفتهم به. وكل ذلك غني عن معرفة تقنيات الحكم فضلا عن معرفة العلوم النظرية والعلوم العملية. معرفة الشعب بمصلحته الاقتصادية لا تعني أنه ينبغي أن يكون عالما بعلم الاقتصاد. إنها من جنس ركوب السيارة دون علم بالميكانيك وركوب الدراجة دون علم بدينامية الهواء.
أما إذا أخذنا الديموقراطية بمعناها القديم أي كما كانت عند اليونان فإن المفارقة عندئذ تزول بالطبع. فالديموقراطية هي حكم الأسياد دون مشاركة العبيد. وقد عدلها مزيفو الديموقراطية بتمكين العبيد من المشاركة الزائفة كما كانت في عهد الباشوات في مصر سواء قبل ثورة عبد الناصر أو بعدها لأن باشوات العسكراتية الأهلية حوضت باشوات العسكراتية العثمانية وكما كانت في العهدين السابقين في تونس بشهادة من يقدم نفسه اليوم على أنه حامي الديموقراطية: ومن ثم فهذا الفهم ما يماشي الوظيفة التي يريدون القيام بها. إنها الوظيفة التي تواصل سياسة التحديث المستبد للأنديجان السياسة التي فشل فيها الاستعمار المباشر فكلف بها الاستعمار غير المباشر عن طريق النخب التي هندسها بحسب فكره وفلسفته ووكلها لتحقيق خططه أعني مسخ الشعب للإطاحة بآخر خطوط الدفاع أعني الحصانة الروحية والإيمان بالذات وبقيمها.
المعادلة الأخيرة: أصل كل الفتن: الثورة الكونية
وبذلك يتبين سر هذه المعادلات كلها: فعودة إسلام أغلبية المسلمين أي الإسلام السني للتاريخ مع تبنيه سياسة الصلح الناجح بين الطريقين الموصلتين إلى تحقيق القيم الكونية التي تجعل الحكم آليات اجتهادية لتحقيق المصالح العامة وليس حقا إلهيا لذوي العلم اللدني والعصمة أو لنخبة اجتماعية تدعي العلم والكفاءة باطلا فضلا عن الأمرين غير ضروريين لانتخاب الشعب ممثلي إرادته ذلك هو جوهر الربيع العربي الذي اتضح بفضل غباء الانقلابيين.
فهذان الموقفان السني في مقابل الحلف الشيعي العلماني عرفهما ابن خلدون عند مقابلته بين النظرتين السنية والشيعية ودعوى الحاجة إلى العلم لدنيا كان أو عقليا لاختيار من يحكم لا بد أن يحقق الحلف المدنس بين عملاء البربريات التي حاربت الإسلام منذ نشأته إلى اليوم. فحلفاء الصليبيين والمغوليين والاستعمار الفرنسي والانجليزي والأمريكي كلهم ينتسبون إلى هذين الفصيلين اللذين يمثلان أقلية متحالفة مع أعداء الأمة دائما:
فصيل التشيع الصفوي الذي يستند في نظرته للحكم على الحق الإلهي المزعوم ويستمد من فشله في فرض هذا التصور على المسلمين سياسة الانتقام التي حكمت تاريخه كله من ابن العلقمي إلى الذين أتوا على ظهر الدبابة لحكم العراق بعد تخريبه ويواصلون السعي لحكم الهلال الخصيب والخليج الذي له قيادات عمياء جعلتهم يقطعون الغصن الذي يجلسون عليه فيسعون إلى إفشال الربيع العربي في عرينه.
فصيل التعلمن اليعقوبي أو من يماثله قديما وحديثا والذي يستند في نظرته للحكم على الحق النخبوي المزعوم ويستمد من فشله في فرض هذا التصور على المسلمين سياسة الانتقام التي تحكم تاريخه كله بالتحالف مع الدكتاتوريات الفاشية الذي لا يصلون إلى الحكم إلا بالانقلاب وهدر دم الشعب والتآمر مع الأجهزة الاستخباراتية الأجنبية.
فيكون الخيط الواصل هو عمالة أقلية ينصبها المستعمر لحكم الأغلبية ويحمي سياسة الاستبداد والفساد لأن الاستبداد هو شرط الوجود في الحكم والفساد هو أجر القيام بالوظيفة. وقد يكون مثل هذا الموقف مفهوما لأنه الموقف الغالب على من يشعر أنه أقلية مع الطموح لحكم الأغلبية. إنهم إذن طابور خامس يستبد بشؤون الجماعة لخدمة سيده الذي يجازيه بإطلاق يديه في الفساد ويفتح له بنوكة لتهريب أجره وتجويع شعبه.
لكن الطابور الخامس في هذه الحالة صار واضح الدور المتجاوز للأقطار عند أخذها فرادى بل هو تحقيق لسياسة أوسع بدأت منذ فقدان المسلمين لأدوات دورهم الذي كانوا قادرين عليه في قلب المعمورة: منع المسلمين من استرداد حقهم في أن يحققوا شروط الاستقلال الحقيقي الذي يمكنهم من أداء دورهم في تحقيق قيم الرسالة التي هي رسالة موجهة للعالمين: كرامة الإنسان وحريته الإنسان عامة كما تحدد ذلك الآية الأولى من سورة النساء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق