ما الفهم السليم لحقيقة المجريات في الموجة الثانية من الربيع العربي دون حصر لها في ما نراه منها على السطح رغم صحته وأهميته؟ فكون ما نراه من صراعات مرضية بين النخب العربية وحصولها على النحو الذي وصفنا في محاولة الأمس النحو الذي يجعل المرء يكاد يجزم بتعفن كل جراح الماضي الناتجة عن الفتنة الكبرى بين السني والشيعي والجراح المماثلة لها والناتجة عن فتنة قد تكون أكبر بين الإسلامي والعلماني. وهذا الوضع يجعل السؤال الجوهري الذي نختم بعلاجه محاولاتنا التي تابعنا فيها الموجة الثانية من الربيع العربي متمثلا في طلب العلل العميقة لأمراض النخب العربية خاصة والإسلامية عامة:
أعني الأمراض التي ترد كل فعالياتها إلى الصراع الداخلي بخلاف ما توجبه حماية الوجود الجمعي السوي من صراع المتنافسين على شروط الحياة في المعمورة لحيازتها وللسيادة عليها.
فأول شرط في هذه الحماية هو التخفيف من الصراعات الداخلية المهدمة للذات استعدادا دائما للأعداء الخارجيين حتى إن من مقومات اللحمة الجمعية أحيانا اختلاق العداوات الخارجية لتمتين اللحمة الداخلية. لكن الصراع الداخلي المهدم للحمة الجمعية عندنا ألغي كل انشغال بالصراع الخارجي المساعد في الحفاظ على الكيان الجمعي. وهو ليس بالأمرالعفوي ولا الطبيعي دون أن يكون القصد إنه حصيلة مؤامرة أجنبية. إنما هو حصيلة تراكم الهزائم المتكررة.
فمفعول هذا التراكم يمكن أن يجعل النخب المنهزمة روحيا تنقلب بالتدريج من حامية للكيان إلى دمى في خدمة مشروعات تهدم هذا الكيان دون أن تكون بوعي صاحبتها بالقصد الأول. وعلامة هذا المآل الخطر والخطير هي أن يصبح ما في أذهانها بما تظنه ثورة عما في الأعيان رماية في عماية تضيع الجوهري من أجل العرضي:
في عملها السياسي المعبر عن الإرادة الجماعية غير التابعة
وفي تكوينها التربوي الذي يمكنها من شروط المقاومة العلمية والعملية
وفي إنتاجها الاقتصادي أي بالمدد الذي يمد الإرادة بالقدرة المادية
وفي إنتاجها الثقافي الذي أي بالمدد الذي يمد الإرادة بالقدرة الخلقية
وفي كيانها الروحي الذي يؤسس كل أنواع المدد في المناعة الوجودية للأمة.
وحينئذ فمن حيث لا تعلم تنقلب عندها مقومات الأمة الوجودية فتحرف قيم الثورة إذ تسمي تحررا عيشة العبيد التابعين الذين يدافعون عنها بدلا من القيام بما ينبغي حتى تستعاد سيادة الأمة ودورها للمشاركة في تحديد معالم العالم المقبل كما فعلت نخب الغرب في صراعها معنا خلال التاريخ الوسيط كله مقاومة انفعالية وفي التاريخ الحديث كله مقاومة فاعلية وكما نرى أمم الشرق الأقصى تفعل بعد كبوات أطول وأعمق مما عرفت حضارتنا.
أزمة الأمة الوجودية
إن ما نريد علاجه لا يقبل التفسير لا بالأخلاق ولا بالمؤامرة ولا خاصة بمناخ تبادل التهم بين الصفين اللذين يخضعان لتأثيرات هذا المناخ دون تحليل العلل التي ولدته للتخلص منه ومن تأثيره على الغالبية ممن ينضوون فيه دون قصد كما بينا في محاولة الأمس.
وترد هذه العلل حسب فرضيتنا إلى أزمة وجودية نتجت عن الهزائم المتوالية التي جعلت الكيان الجمعي تتحول فاعليته الحيوية للدفاع عن الوجود المستقل والسيادة الذاتية إلى فاعلية تهديم ذاتي عند من أصبحوا مرضى يوجهون عنفهم إلى المناعة الذاتية للأمة بدل المساهمة في إعادة بنائها لتستأنف دورها من جديد:
أي إن ما أصيب بشيء من العطل في مناعتنا هو ما يسميه ابن خلدون بالرئاسة الإنسانية أو بحب التأله خاصية للإنسان الذي لم يفقد معاني الإنساني دلالة على أقصى معاني الحرية وإرادة الاستقلال عنده.
وحب التأله الذي يتكلم عليه ابن خلدون هو القدر الممكن للإنسان من التخلق بأخلاق القرآن الكريم للحصول على نصيب من صفات الذات الإلهية أعني: الإرادة فالعلم فالقدرة فالحياة فالوجود.
فالذروة هي الإرادة وهي تكون مجرد وهم خاو يشترك فيه الجميع لكنها لا تصبح حقيقية إلا بما يجعلها قادرة وذلك هو دور العلم حينئذ تصبح الإرادة حقيقية فيكون الإنسان حيا بحق ويستطيع أن يقول إنه موجود الوجود الذي يليق بذاته الإنسانية. وهي المنزلة التي يسميها ابن خلدون بالرئاسة الإنسانية بالطبع أي كونه سيدا لأنه يحب التأله بهذا المعنى أي بمعنى التشبه بالإله تشبها يمكن أن يكون إيمانا فيكون جهادا في سبيله ويمكن أن يكون طغيانا فيصبح حربا على القيم وهو معنى الاستبداد والفساد.
وإذن فالعلاج يرد إلى فهم المرض الذي يصيب الفاعلية التاريخية التي تنتج عن التزاحم على المكان بما هو معين الحياة وعلى الدور بما هو معبر عن مقدار التحرر من الخضوع للغير في هذا السهم من شروط الحياة. وفي حالتنا نحن فإن ذلك مداره العالم كله غاية ومحيط الأبيض المتوسط بداية باعتباره بهذا المعنى جامعا بين البداية والغاية لأنه كان ولا يزال بؤرة الحضارة الحديثة في العالم كله. وحتى نفهم معنى هذا التعميم على العالم كله فينبغي ألا ننسى أن ذلك قد حصل بفضل تمدد الحضارتين:
فقد كان ذلك في البداية مستعمرات العالم الإسلامي.
ثم أصبح في ما بعد مستعمرات الغرب الأوروبي.
ثم تحول ذلك إلى عولمة بالفعل لا بالقوة كما كانت في عهد الصراع الإسلامي المسيحي الوسيط بعدما تولد عن هذا الصراع الغزو الغربي للعالم فأنتج مستعمرتيه اللتين صارتا قطبي العالم فاستعمرتا أوروبا في الأخير ومعها مستعمراتها ومنها الوطن العربي والعالم الإسلامي. فترتب على ذلك الهزائم التي جعلت طاقة الدفاع الذاتي تتحول عند الكثير إلى طاقة تهديم ذاتي لضعف في المناعة الروحية عندهم:
الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وما نتج عنهما من عولمة مادية اقتصادية وعولمة رمزية إيديولوجية مناخا غازيا يسيطر على كل الشعوب التي تسعى إلى استئناف تاريخها كما في حالتنا منذ قرنين.
ما نتكلم فيه لا يمكن أن ينسب إلى القول بالمؤامرة ولا يكتفي بسطح الأحداث. فما نحاول تحليله ليس بالأمر الخفي حتى يوصف بالمؤامرة بل هو من حقائق التاريخ الثابتة للعلاقة المعقدة بين حضارتين متجاوزتين ومتنافستين منذ النشأة الأولى لتزاحمهما على نفس المكان وثمراته وعلى نفس الدور وامتيازاته في محيط الأبيض المتوسط بوصفه بؤرة هاتين الحضارتين اللتين وصلتا بين ثمرات التاريخ القديم وإرهاصات التاريخ الحديث من تاريخ البشرية الذي صارتا ممثلتين لملخص إبداعاته العقلية والروحية وتطبيقاتهما في السيطرة على الطبيعة وعلى العمران.
مقدمة نظرية - مقومات النصروالهزيمة في الحروب
لما وضع كلاوسفتس نظرية الحرب والنصر والهزيمة فيها حصر مراحلها المقومة في ثلاثة مراحل معلومة هي:
1-كسر جيش العدو أو الهزيمة العسكرية
2-والسيطرة على موارده المادية أواحتلال أرضه
3-والسيطرة على روحه أو احتلال روحه.
وطبعا فهذا التصنيف على عمومه كاف لو كان الأمر مقصورا على الوصف الخارجي للمعارك العسكرية دون محاولة النفاذ إلى أعماقها الوجودية والروحية. لكن طبيعة الحرب ووظيفتها في حياة البشر باعتبارها في آن تعبيرا عن حرية الإرادة وعن السعي لضمان شروطها المادية والرمزية تقتضيان التدقيق في مقومات هذه المراحل. فالمرحلتان الأولى والثانية ليستا بسيطتين بساطة المرحلة الثالثة. إنهما مرحلتان مؤلفتان من مقوم ذاتي ومن دور تؤديه فيهما هذه المرحلة الثالثة التي هي أولى في الانتصار دليلا على غالبيتها وأخيرة في الهزيمة دليلا على مغلوبيتها. وفي الحالتين فهي تفعل بنسب قوتها بين الصفين. لذلك فهي مع كونها واحدة من المراحل فإنها حاضرة في جميع المراحل لذلك فنحن نعتبرها أصل كل المراحل بل هي علة الحروب وعلة النصر وعلة الهزيمة في آن.
وإذن فكلتا المرحلتين الأولى والثانية لا تفهم إلا بدور المرحلة الثالثة فيها. وأصل هذه المرحلة هو ما حدد مفهومه ابن خلدون بنظرية الرئاسة الإنسانية بالطبع أو حب التأله النظرية التي وضعها في المقدمة لتفسير التداول بين الأمم في التاريخ العالمي أو في التاريخ الخاص بكل أمة على حدة. وهو أساس الاستبدال بالمعنى الإسلامي طاقة حيوية ذات سمات خلقية موجبة عند الصعود وسالبة عند النزول. فكلتا المرحلتين مؤلفة من عنصرين متمايزين شديد التمايز لأن الفرق الكيفي بينهما هو الذي يحدد الحسم من عدمه في الحروب ومن قابلية عكس المسار الحربي بين القوتين المتصارعتين. ولولا ذلك لما كانت الحروب سجالا ولكان المهزوم يبقى مهزوما دائما (إذ يقبل بحياة العبيد) أو ينقرض (إذ يفضل الموت على العبودية).
وحضور المرحلة الثالثة بدورها في المرحلتين الأوليين مع قيامها الذاتي يعللان:
من حيث الطبيعة بنظرية وجودية انثروبولوجية وضعها ابن خلدون لكنها غائبة في قراءاته السطحية الباحثة عن ماركس فيه بدلا من قراءته لذاته.
ومن حيث عموم الدور بنظرية ميتافيزيقية وضعها برقلس (فيلسوف أفلاطوني محدث من الشام بين القرنين الرابع والخامس الميلاديين).
فابن خلدون يعتبر الأساس الأول في الحروب هو تعقيدة الأمة أو إيمانها المحدد لمنزلتها في الوجود بما تتضمنه من شروط لمناعتها يجملها في مبدأ واحد يسميه بخاصية مقومة للوجود الإنساني هي كونه"رئيسا بالطبع" مع وصل ذلك:
بنظرية الاستخلاف النظري علماوعملا (استفراد الإنسان بالفهم العقلي للكون: علوم الطبيعة التي أسسها أرسطو خاصة).
وبنظرية الاستخلاف العملي علما وعملا (استفراد الإنسان بالاجتماع المنظم عقلا لا غريزيا: علوم الإنسان التي أسسها ابن خلدون خاصة).
وهو مبدأ راجع عنده لما يسميه بحب التأله ومن ثم لما يصل المناعة بالعقيدة. وحب التأله هذا يفسر به ابن خلدون غريزةالحرية عند الإنسان ونزوعه إلى السيطرة على محيطه الطبيعي ومحيطه الإنساني من أجل حيازة شروط هذه الحرية المادية (السيطرة على الطبيعة بعلومها) وشروطها الرمزية (السيطرة على التاريخ بعلومه).
فيكون الصراع محكوما بالتناسب في هذه الإرادة الحرة بين الجماعات والأفراد المتنافسين على ثروات المعمورة والمنازل في المجتمع من خلال حضور هذا المبدأ في العقائد العامة كالحال عندنا في مبدأ الجهاد فرض عين.
وماتعاني منه النخب المستعمرة ذهنيا هو غفلتهم عن هذا المبدأ بل وعدم فهمهم أن العدو يعمل بمقتضاه:
فأمريكا التي ترفض فلسفة الجهاد من أجل المعتقد وشروط الوجود الحر تطبق نفس المبدأ للسيطرة على العالم كله ثروات وبشرا وذلك هو معنى أساطيلها في كل بحار المعمورة وأقمارها في الفضاء وعملائها في كل البلاد.
لذلك فابن خلدون يعتبر الدفاع الذاتي للأفراد والجماعات من شروط معاني الإنسانية كما بين ذلك في نظريته في التربية التي كان يريدها تحررية لتحافظ على هذا المعنى عند المواطن. وهو يقيس عليها السياسة التي يريدها تحررية لهذا الغرض حتى ذهب إلى رفض تسليم الدفاع إلى حامية تجعل المواطنين عيالا على غيرهم في الدفاع عن حرياتهم وحقوقهم.
أما برقلس Proclus فإنه قد وضع مبدأ وجوديا يخص نظام الفعل في سلسلة العناصر التي يتقوم بها كيان الموجود. فهو يجعل المقوم المتقدم في السلسلة يؤثر بذاته ويؤثر بحضوره في ما يليه من حلقاتها إلى آخرتها بحيث إن المبدأ يتضاعف مفعوله الذي له بذاته والذي له بحضوره في كل الحلقات الموالية.
مثال ذلك لو اكتفينا بحلقتي سلسلة المعاني التي يتألف منها حد الإنسان أي كونه حيوانا ناطقا فيمكن أن نرى تأثير العنصر الأول "حيوان" بذاته كما في الاغتذاء والتوالد والحياة والموت ثم نراه في بتأثيره المتضمن في النطق مثل دور الإحساس والغضب المؤثرين في العقل إيجابا أو سلبا.
فيكون تأثيره مجموع التأثيرين ومن ثم فالحيوانية أكثر تأثيرا في الإنسان من العاقلية إلا ما ندر.
ولما كان حب التأله أو غريزة الحرية والسيطرة هو أساس في حالتنا التي نتكلم عليها فإنه يؤثر بذاته التي خصص لها كلاوسفتس المرحلة الثالثة من الحرب بهزيمة الروح ويؤثر في المرحلة الأولى بهزيمة البعد الخلقي عند الجندي وفي المرحلة الثانية بهزيمة البعد العقدي عند الجماعة كالحال عند المغتربين في ثقافة المستعمر عندنا والعملاء الذين بات ولاؤهم له أقوى من ولائهم لمعين ذواتهم بعدما أصيبوا بالفصام العبودي الذي يجعلهم يتماهون مع مستعبديهم فلم يبق لهم شيء من الرئاسة الإنسانية لأنهم لم يتحرروا من الطاغوت الذي تماهوا معه بدلا من التماهي مع القيم التي تحقق الحرية والكرامة المستقلتين.
المرحلة الأولى: مقومها الذاتي ودور المرحلة الأخيرة فيها.
فالمعلوم أن الجيوش تستمد قوتها من عاملين من طبيعتين مختلفتين بالجوهر ينبغي التمييز بينهما لنفهم مسار الحروب وطابعها السجالي الحتمي وهو ما يعلل تمادي الحروب قرونا أحيانا. فالحسم وكسر الجيوش ليس يسيرا إلا في حالات نادرة عندما يكون ما بين المتصارعين من فارق في هذين العاملين قد بلغ درجة تجعل أحدهما قادرا على إفناء الثاني كما حصل مثلا في أمريكا بسبب توفر هذا الفارق بين الغزاة الأوروبيين والهنود الحمر:
العامل العملي والخلقي: أخلاق المقاتل من الجندي إلى القائد.
العامل العلمي والتقني: وسلاح القتال من النبال إلى القنابل الذرية.
وإذن فالهزيمة والنصر مرتهنان إما بانخرام تناسب الصفين المتحاربين في العامل الأول أو في العامل الثاني أو في العاملين معا. وهو بصورة أدق مرتبط بدرجات التناسب بين العاملين عند الصفين الذي يرد إلى التناسب في دور العامل الثالث فيهما أعني المناعة الروحية ممثلة بعقائد الأمة ودرجة إيمان الأفراد بها أعني في النهاية بالتربية الروحية للجماعة. فإذا كسر الجيش بأحدهما فإنه يمكن أن يستأنف المعركة لأن الثاني يمكنه من الصمود حتى يسترد ما خسره من الأول. ولنا في مثال الانكسار سنة 67 والاستئناف سنة 73 بالنسبة إلى الجيش المصري. ولا ينكسر الجيش إلا عند فقدان القدرة في الإثنين معا. ولا يحصل ذلك إلا لضعف في العامل الثالث أعني في المناعة الروحية. وإذن فكسر جيش العدو له علتان:
أخلاق المقاتل وتدريبه ممثلا بأدائه في ساحة القتال.
وعلم المقاتل ممثلا بالتقنية والسلاح في ساحة القتال.
وما كنا لنثبت في حروبنا مع المستعمر والجيش المصري مع الجيش الإسرائيلي لولا العامل الأول وكذلك لولا الفارق الكبير فيه الذي جعل التفوق العلمي والتقني والاستخباراتي الإسرائيلي يعجز على الحسم أعني لولا دور العامل الثالث ممثلا بالمناعة الروحية للأمة. فهزيمتنا في العامل الثاني لا تكاد تقاس بأي مقياس خاصة وإسرائيل تستفيد من كل مكتسبات الغرب العلمية والتقنية والسند الاقتصادي والمخابراتي. ولولا هذه الازدواج في المرحلة الأولى لما كانت حروب التحرير بالمقاومة الشعبية أمرا ممكنا.
ولو لم يكن المسلمون مؤمنين بأهمية العامل الأول الذي هو في الحقيقة ثمرة حضور المرحلة الثالثة في المرحلة الأولى لحصل لهم ما حصل للشعوب التي انقرضت أو اندمجت نهائيا في ثقافة المستعمر: عقيدة الرئاسة الإنسانية متعينا في المسلم حقيقة وفي عقيدة الجهاد فرض عين أداة.
لكن شيئا من الهزيمة الروحية أصاب البعض منا – وهم العملاء والطابور الخامس - فصار يعتبر الجهاد إرهابا بل ويريد أن ينزعه من تربية الأجيال وحتى من القرآن وذلك هو مصدر ما يجري الآن من صدام حضاري في مجتمعاتنا:
فهؤلاء المنهزمون يتصورون أن كل تمسك بالقيام الذاتي واستعادة الدور من الأحلام المستحيلة:
وهم لا يصارعون شيئا آخر غير هذا المشروع.
المرحلة الثانية: مقومها الذاتي ودور المرحلة الثالثة فيها.
والمعلوم أن الموارد هي بدورها مؤلفة من مقومين مختلفي الطبيعة ومن ثم فالسيطرة عليها مضاعفة كذلك.
فأما المقوم الأول فهو ذاتي لهذه المرحلة الثانية. وأما الثاني فهو عين حضور الثالثة في الثانية.
لذلك فالسيطرة على الأرض من دون السيطرة على أهلها تقتضي حضور العدو للسيطرة عليها بالاستعمار المباشر فتصبح ذات كلفة كبيرة عليه وهو ما يجعل الحرب الشعبية ممكنة. لذلك فكل استعمار لا يدوم إلا بمن استعمر ذهنيا من أهل البلد المستعمر. وإذن فالسيطرة على الإنسان هي العامل الثاني الذي يوطد نصر المستعمر في هذا البعد الثاني من الحرب.
فلا يمكن للعدو أن يسيطر على الأرض إلا بالسيطرة على سكانها وشغله لها بذاته يكلفه الكثير فضلا عن كون حضوره يستفز الإنسان فيثور كل من يريد التكريم ويرفض أن يهان. وهذا هو العامل الذي يفسر الاستعمار الاستيطاني الممزوج بشيء من السيطرة على بعض الإنسان كما في حالة الحركيين أي المتعاونين مع الاستعمار من أبناء البلد. وإذن فالمرحلة الثانية مضاعفة والنصر فيها لا يكون إلا بالبعدين معا:
السيطرة على الأرض أي أداة الحرية الأساسية باعتبارها مرود قيام الإنسان غير التابع
والسيطرة على الإنسان أي عين الحرية التي تتحول إلى تسليم بالعبودية.
ونحن الآن في المعركتين: معركة تكوين الإنسان الحر وتحرير الإنسان المستعمر ذهنيا.
تلك هي المعركة الجارية في ميدان رابعة مصر ضد العسكر وميدان التحرير الفاقدين للمناعة الروحية والراضين بالعبودية اللاواعية خلطا بين الحرية والتسيب الذي أغراهم به الاستعمار وقبل ذلك في قصبة تونس ضد الاتحاد والقبة الفاقدين للمناعة الروحية والراضين بالعبودية اللاواعية لنفس العلل.
المرحلة الثالثة في الهزائم والأولى في الانتصارات
لكن هذه العناصر الأربعة أو المراحل الأربع من النصر عند أحد الصفين و الهزيمة عند الصف الثاني في كل حرب لها أصل واحد قائم بذاته على حياله وقائم بغيره ماديا ومقيم له رمزيا بوجوده في المرحلتين الأوليين اللتين تتضاعفان بفضل هذا الوجود: إنه المناعة الروحية للجماعة. وتأثيرها في الحروب يكون بما يحققه مننسب بين قوتي المناعة عند الأمتين المتصارعتين أو أي النسب بين حصانتيهما الروحية وغريزة الحرية عندهما.
فإذا كانت الأمة التي خسرت حربا ذات حصانة روحية أقوى من حصانة العدو بذاتها (مثلا الجهاد ركن من أركان الإيمان في الإسلام) وبما فيها من قرب للوعي العادي الذي ييسر عموم الإيمان بها إلى حد الموت من أجلها مهما تفوق عليها في عامل التقنية التي مكنته في النصر المؤقت على جيشها ومن احتلال أرضها فإنها تبقى قادرة على المقاومة بحصانة المؤمنين بها لتستعيد الأرض والقوة العسكرية فتهزمه على أرضها وتطرده منها لتنعكس بعد ذلك علاقة النصر والهزيمة.
لكن الندية ثم الانعكاس لن يحصلا قبل الانتقال من وضع المهزوم إلى وضع المنتصر المشروط بالخروج من التعثر الحائل دون ملاحقة العدو في أرضه الذي ينتقل إلى المقاومة عن طريق ما أنبته في أرضها خلال استعماره لها وقبل هروبه من بقاياه التي خدمته وأصبحت تابعة له روحيا:
وهذه المرحلة هي المرحلة الحاسمة التي تمثلها معركةالربيع العربي أعني معركة التخلص من التبعية المادية والروحية التي نتجت عن الانحطاط الذي سبب الهزائم التي أدت إلى الاستعمار ثم بسبب الاستعمار الذي أنتج تواصل التبعية المادية والروحية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق