مفهوم الجهاد وتأسيسه الفلسفي 01 من 02 - أبو يعرب المرزوقي
21 نوفمبر، 2013، الساعة 06:35 مساءً
أبو يعرب المرزوقي
منزل بورقيبة في 2013.11.21
توطئة:
عذرا شباب الثورة فتيات وفتيانا. فما أكتبه هو لكم. لكن أسلوبه قد يزعجكم بداية. ذلك أنه يطالبكم بجهد لستم دونه همة ولا قدرة رغم سعي الكثير لتسطيح فكركم حتى يجعلوكم لقمة سائغة تقبل بما يريدون فرضه عليكم من تبعية روحية وفقدان للطموح التاريخي في استعادة الدور الكوني لهذه الأمة. لكن محاولات الغوص إلى معاني القيم التي بنيت عليها هذه الأمة غايتها جعلكم أنتم منطلق هذا الاستئناف. ولا يكون ذلك من دون استكشاف طريق الرشد الممكن بالفهم المتروي لسلم القيم التي تحقق شروط الحرية والكرامة مطلبي الثورة:
موضوعنا اليوم هو تحليل محاولات تشويه مفهوم الجهاد عامة بلوثة الإرهاب ودور المرأة فيه خاصة بسوأة جهاد النكاح.
لن أتكلم في الموضوع كلام الفقهاء. ولا كلام المتكلمين. فلست أدعي حيازة علميهما ولا أنوي السعي إليه خاصة إذا كان الكلام يدور حول حملة التشويه التي تبدع تعييرا جديدا للجهاد عامة وجهاد الحرائر خاصة أسقطه أعداء شروط التحرر على غيرهم لكونه من جوهر تركيبتهم الذهنية من بني جلدتنا ناهيك عن أعدائها من المستعمرين:
تعيير المجاهدين بالإرهاب لأنهم نفروا لحماية المستضعفين ضد الاستبداد والفساد والطائفية في سوريا تماما كما فعل أمثالهم من الأبطال في البلقان ضد الجرائم الإنسانية التي اعتمدت التصفية العرقية والطائفية. وتماما كما فعل شباب أوروبا التقدمي في مساعدة ثوار اسبانيا ضد الفاشية في الثلاثينات من القرن الماضي.
ولم يكفهم تعيير الرجال بالجهاد إذ يخلطوه بالإرهاب فضاعفوا التشويه معتبرين مساهمة النساء فيه جهاد نكاح حطا من الجهاد ومن النكاح ومن النساء اللواتي يعتبرونهن مقصورا دورهن على الفراش دون شرف الدفاع عن القيم.
لكن كل جيوش العالم صارت مختلطة فضلا عن كون تاريخنا لا يخلو من ظاهرة جهاد النساء بل إن كل المجاهدين كانوا يصحبون أسرهم معهم وهو معنى الفساطيط والقيروانات.
طبيعة المسألة
لن أنظر إلى المسألة من وجه ديني مقصورا عليه ولا من وجه "جناسي=جندري"دفاعا عن دور النساء دورهن في الدفاع عن القيم مثلهن مثل الرجال. فالمسالة ليست مسألة دينية عامة ولا هي مسألة جناسة خاصة. كما أنها لا تنتسب إلى دين معين أو إلى ثقافة معينة بل هي شاملة لكل شعوب الدنيا التي تريد أن تكون حرة وكريمة وبذل الجهد الضروري لحماية الحرية والكرامة ضد الاستبداد والفساد داخليا وضد العدوان الأجنبي الصادر عن القوات الاستعمارية وعملائها الذين ولتهم عليها.
فبعض أعداء الإسلام حولوا هذا الجهد الإنساني السامي إلى سبة يلصقونها بالمجاهدين فصيروا الكلام على جهاد الرجال فضلا عن ممارسته جريمة وإرهابا واعتبروا مساهمة النساء فيه عهرا وقحبا يتندرون بوصفه تحقيريا بجهاد النكاح.
فتشويه ما هو طبيعي بل وما هو عين السمو القيمي في تحقق الطبيعة الإنسانية من حياتهم السلمية والحربية يجعل المرضى يسقطون ما يعانون منه من أدواء على غيرهم.
فالوجه القيمي من حاجة الإنسان العضوية والخلقية التي تقدر الذات العاقلة فردية كانت أو جماعية أنها ضرورية لحماية ذاتها ومجالها الحيوي ذكرا كان المدافع عن مجاله أو أنثى أعني كل ما يضمن شروط القيام العضوي والخلقي أو المادي والروحي تحولت إلى تشهير بذيء عند طائفتين عرفتا بحق ودون لبس بما تعيران به غيرهما أعني الإرهاب والتسيب الجنسي:
فطائفة التسيب الجنسي بامتياز هي القائلة بزواج المتعة وهي مصدر سبة جهاد النكاح. وهي في آن أصل الإرهاب في الحضارة العربية الإسلامية من البداية وهي مصدر سبة التكفير. فهي التي تعير المجاهدين بالتكفير في حين أن مذهبها يستند إلى تكفير كل من عداهم مسلما كان أو غير مسلم لقولهم بالحق الإلهي في حكم الناس بمقتضى الوصية للمعصومين المزعومين.
وطائفة التسيب الجنسي بامتياز هي المستهترة بمفهوم الزواج أصلا. وهي في آن أصل الإرهاب في الحضارة الغربية الحديثة كما هو معلوم طيلة الحرب الباردة. وهي التي تعير المسلمين جميعا دون تمييز بالإرهاب فلا تعترف حتى بحروب التحرير رغم أنها تسيطر على العالم بالمافيات التي تنظم الانقلابات ضد كل نظام يسعى إلى التحرر من التبعية.
مفهوم الجهاد وضرورته
ولما كان الجهاد عامة و مساهمة المرأة فيه (حتى عند الاقتصار على رعاية المجاهدين صحيا) خاصة حاجة دائمة في المجتمعات البشرية وكانت هذه الحاجة بين مد و جزر بحسب ما يمتد إليه طموح الذات فردية كانت أو جماعية فإن امتداده متردد بين المدى الذي يكون فيه حقا وعدلا وبشروطه الخلقية (وذلك هو معناه الإسلامي) إلى المدى الذي يصبح فيه باطلا وظلما مع العدوان على كل خلق (وذلك هو معنى تحريفه الأمريكي).
ولايمكن أن نقيس الإسلام على الدينين الآخرين الخاليين من هذا الفرض في الظاهر. ذلك أن أهل هذين الدينين كانوا عبيدا لا يسيطرون على شروط القيام المستقل بل هم دائما في خدمة دولة وحضارة لا ناقة لهم فيها ولا جمل (اليهود في مصر الفرعونية والمسيحيين في فلسطين الرومانية).
لكن الإسلام المؤسس لحضارة ودولة لم يكتف بفرضه فرض عين على الذكور والإناث عندما تقتضيه الوضعيات التي فُرض لعلاجها بل هو حدد شروط كونه حقا وعادلا وحذر من شروط تحوله إلى باطل وظلم وذلك على المستويين الوطني والدولي فكان بذلك أول دين يضع قانون الحروب يحررها من الوحشية والتعدي على حقوق الإنسان حصرا للقتال بين الجيوش دون عدوان على الشعوب.
وهو لم يضعه إلا للغرضين التاليين:
أولا قبليا لمنع أن تكون الأمة مستضعفة فتخضع في تحقيق هذه الشروط لمن قد يسود عليها فيستعبدها. وذلك هو مضمون آية الاستعداد لئلا تصبح الأمة من المستضعفين. وهو ما يراد للأمة أن تتخلى عنه في الحملة الموجهة ضد مفهوم الجهاد.
ثانيا بعديا لتحرير المستضعفين من غير المسلمين فضلا عن المسلمين استضعافا ماديا بالعدوان على شروط قيامهم المادي واستضعافا روحيا بالعدوان على شروط قيامهم الروحي. وضمن هذا الفرض حق مبادرة المسلم للتدخل بموجب الدفاع عن القيم الإنسانية. وهو حق لم تدركه المؤسسات الدولية إلا من قريب.
لذلك فالآيات القرآنية المتعلقة بالجهاد ربطته بشرطين لا ثالث لهما:
محاربة الاستضعاف المادي وهو أهم عناصر ما يسمى بالحرب على الفساد في الأرض الذي يفسد شروط الحرية المادية للإنسان أي إنسان.
ومحاربة الاستضعاف الروحي وهو أهم عناصر ما يسمى بالحرب على المس بحرية العبادة والعدوان على الحقوق الروحية اللذين يفسدان شروط الحرية الروحية للإنسان أي إنسان.
وكل إنسان عامة وكل مسلم خاصة لا يمكن أن يعارض هذا المعنى من الجهاد إلا إذا كان ذهنه خاليا من هذه المعاني السامية أو لعدم فهمه أن المنكرين للجهاد على المسلمين عامة وعلى نسائهم خاصة هم أكثر الناس عملا به زعما للحق في حالة العدوان وحقا في حالة الدفاع عند أخذ هذه المعاني بعين الاعتبار.
لكن غرائب الأمور أن محاربي الجهاد عامة وجهاد النساء خاصة ومشوهيه يسقطون صفاتهم على المجاهدين الصادقين إما لإخفاء عمالتهم للغرب أو للتمويه في خططهم الساعية لجعل السنة منزوعة السلاح حتى يسهل استعادة أمجادهم المزعومة قبل الإسلام.
عودة الوعي الجهادي عند الشباب فتيات وفتيانا
لكن شباب الثورة ليس بالغافل عن كون أكثر الأمم عملا بما يشبه مفهوم الجهاد والاستعداد الرادع حتى وإن لم يحملا هذين الاسمين - لكونهما في شكل محرف منهما لاعتمادهما على العدوان وليس لمحاربة الاستضعاف - هي الولايات المتحدة وأوروبا التي تطبق حرفيا آية الاستعداد الرادع فتخصص قدرا مهما من ميزانياتها للدفاع وتعتبر أهم أقسام البحث العلمي مخصصة للدفاع. كما أن أساطيلها وجيوشها تسيطر على أرجاء المعمورة كلها ولا يخلو أي جيش من جيوشهما من الاختلاط ومشاركة الجنسين فيه.
فهي تعطي لنفسها الحق في الحرب الاستباقية وتحتل جل العالم من أجل العدوان والإفراط في تحقيق شروط رفاهيتها المادية على حساب حقوق الآخرين وفرض نموذجها الروحي لاستعبادهم.
لكنها تعتبر مجرد الدفاع والمقاومة للاحتلال العسكري إرهابا وتحول ذلك إلى سبة تلصقها بالجهاديين بمشاركة عملائها وحلفائها في المنطقة التي تسعى إلى التحرر من الاستعمار والاستبداد والفساد.
والمذهل أنك تجد اشباه المثقفين والصحفيين يرددون هذه السبة بل ويزينونها بالكلام على جهاد النكاح متناسين جهاد العهر الفكري الذي يجعلهم أبواق دعاية ضد مناعة شعوبهم الوحيدة المتبقية بعد أن رهنها سادتهم من الحكام المستبدين والفاسدين فجعلوها شعوبا متسولة لدى مستغليها وسارقي ثرواتها.
فقد بلغت قلة الحياء إلى حد وصم الدفاع ضد الاحتلال والتصدي لتحريف مفهوم الجهاد عند محاربيه وصمه بالإرهاب ووصم مساهمة النساء فيه بجهاد النكاح أو ربما بإرهاب النكاح. فهم يحتلون كل الوطن العربي ودار الإسلام ويعتبرون كل من يقاوم احتلالهم إرهابيا حتى لو اقتصرت مقاومته على رد العدوان المقاومة في البلاد المعتدى عليها. أي إن الولايات المتحدة وأوروبا ومن سيأتي من القوى الصاعدة يحق له أن يعد العدة للعدوان ولا يحق للمعتدى عليه أن يقاوم فضلا عن أن يعد العدة لتحقيق شروط إمكان منع العدوان أعني شروط القوة عامة والقوة العسكرية خاصة كما حددت آية الإعداد الرادع.
وإذا كان ولا بد من النكير على الجهاد عند المسلمين الحاليين فينبغي أن يتعلق بفقدان شروط فاعليته أعني بقلة الحيلة التي آل إليها أمرهم لأنهم لم يعملوا بآية الإعداد الرادع ولم يدركوا أن الجهاد القتالي ليس مطلوبا لذاته بل المطلوب هو الإعداد الذي قد يغني عنه وبصورة خاصة قد يغني عن كلفته البشرية لأن العلوم الطبيعية وتطبيقاتها من حيث تحقيق شرط الأداة والعلوم الإنسانية وتطبيقاتها من حيث تحقيق شرط الغاية تمثل أمرين لا معنى للجهاد من دونهما:
فالجهاد لا يكون بكيان الإنسان العضوي إلا إذا كان الإنسان عديم الحيلة العلمية والتقنية فلم يبدع النظريات ولم يصنع التطبيقات التي تجعله مستغنيا عن تعريض نفسه للمهالك دون فائدة.
وبهذا المعنى فلا يوجد إنسان أو مجتمع إنساني لا يقول بتربية شبابه ذكورا وإناثا على خلق الجهاد بمعنى الدفاع عن الحق والعدل إن كانت تربية سوية أو بمعنى تحريفه الذي هو نقيضه بمعنى هجوم الباطل والظلم عليهما إن كان تربية محرفة:
فهو جزء من التكوين الإنساني لأنه من شروط حرية الإنسان وكرامته.
فكل الأمم تعتبر التربية على الجهاد من شروط حماية ما تعتبره الأمم من "المقدس له" عندها سواء كان القصد بــ"المقدس له" معناه الديني أو معناه الذي يفيد أي نوع آخر من سامي القيم عقلية كانت مرجعيتها وتبريرها أو روحيين.
الاستدلال المفحم بنظرية سلم القيم
لذلك فلا بد من التعريج على هذا المعنى لفهم دلالة التربية على الجهاد ببسط عاجل حول أصناف القيم التي تؤسس للجهاد تأسيس الغاية للفعل من حيث هو أصناف الدفاع عن حرية الذات الفردية والجماعية وكرامتهما في كل عمران بشري عرفه التاريخ الإنساني استقراء واستنباطا.
وإنه لمن السخف أن يسود في إعلام دول الثورة وبين مثقفيها المزعومين النكير ليس على الجهاد باعتباره دفاع الأمم عن "المقدس له" بل حتى النكير على مفهوم تقديس بعض القيم, فـ"المقدس له" أصبح عند أشباه المثقفين من حوائل الحريات بل ومعارضا لقيم الحداثة المزعومة في حين أن الحريات وقيم الحداثة لا معنى لها إلا بما يوفره لها مفهوم "المقدس له" سوءا كان ذا مرجعية دينية أو فلسفية من شروط التعالي سواء أدركناه بتوسط التربية الدينية أوبتوسط التربية الفلسفية أو حتى بالفكر الساذج الذي لم يبلغ إلى أدنى درجاته هؤلاء المتثاقفين من أميي المقاهي والمخبرين:
فـ"المقدس له" هو المثال الأعلى في كل مجالات التقويم أيا كانت مرجعيتها المؤسسة لها ومن ثم فهو عين مجال الإبداع وشرطه ولايمكن تخيل الإبداع نفيا للمقدس في حين أنه ليس إلا محاولات التعبير عنه:
1-جمالية كانت (شرط الفنون)
2-أو جلالية (شرط الأخلاق)
3-أو سؤالية (شرط الفكر)
4-أو جهوية (شرط الحرية)
5-أو وجودية (شرط التعالي والتحرر من الإخلاد إلى الأرض).
وفي الحقيقة فإن "المقدس له" أيا كان صنفه لا يكون إلا دينيا بالمعنى الفلسفي لمفهوم الدين وكذلك بالمفهوم القرآني. فالإنسان إذا كان إنسانا بحق لايمكن أن لأمر آخر غير منبع المثل العليا التي تحرره من الإخلاد إلى الأرض فيكون كائنا عاقلا حرا من كل قيد عدا الإيمان بكرامته كائنا عاقلا لا يعبد غير الله:
فالكرامة هي ألا يكون الإنسان تابعا لغيره والحرية هي أن يختار المطلق متبوعا.
ذلك أن "المقدس له" هو أصل البعد الأسمى من هذه المجالات القيمية الخمسة أعني أن المقدس له في الفن والمقدس له في الأخلاق والمقدس له في الفكر والمقدس له في الجهة والمقدس له في الوجود كلها مشدودة إلى ما يمتاز الحر المطلق عن التابع أي كان المتبوع من الأمور النسبية.
إن جميع أصناف "المقدس له" من قبل الإنسان ذات أصل واحد هو المعبود الأسمى أعني ما يجعل الإنسان يتعالى على الفاني والمتناهي لئلا يخلد إلى الأرض فلا يكون مجرد دوده لا تتعالى على أكل التراب الذي يأكلها. وذلك هو معنى التقديس للباقي والمطلق:
وذروة الوعي بهذا التعالي والتعبير عن هذا الوعي والسعي لرعايته وحمايتهبما هو شرط الحرية والكرامة هو الجهاد بمعنييه صدا للظلم والباطل ماديا وعبادة تقديسا للواحد روحيا.
وهذا ما نحاول هنا إثباته بصورة منطقية وجيزة انطلاقا من مفهوم القيمة بكل أصنافها ومستوياتها أعني من منطلق ما لأجله تربي الأمم أبناءها ذكورا وإناثا على أخلاق الجهاد أخلاقه التي يعتبر ابن خلدون فقدانها فقدانا لمعاني الإنسانية (انظر فصل التربية من المقدمة) إذ تصبح الأمة عالة على غيرها في شروط وجودها المادي والروحي.
علاقة المستوى الأول من القيم بالحرية والكرامة
الدرجة الأولى من القيم المادية:
ولنبدأ بالمعنى المتعارف للقيمة الاقتصادية أي ما يقبل الاستعمال والتبادل من القيم بالمعنى الاقتصادي في درجتها الأولى. فهذه القيم هي القيم الأسمى عند كل إنسان دينه الإخلاد إلى الأرض لأن الدنيا تكون غاية مبتغاه بعد أن جعل معبوده هواه كما يرمز إلى ذلك مثال عبادة العجل. فهذه القيم صنفان كما هو معلوم:
1-قيم استعمال البضائع والخدمات بهدف سد الجاجات.
2-وقيم تبادل البضائع والخدمات بتعاوض مالي أصحابها.
والقيمتان مختلفتان بالرتبة لأن الحاجات التي تستجيب لها البضائع والخدمات المقومة بها متراتبة تراتبا يتباين الترتيب بينهما فيه بحسب الظروف المحددة لنسب إلحاح الحاجة بين المتبادلين. فقيمة الماء الاستعمالية أرفع من قيمة الذهب في كل الظروف. لكن قيمته التبادلية دون قيمة الذهب فيها عادة. لكن الماء عندما يندر يصبح ذا قيمة تبادلية أرفع من الذهب سواء كان ذلك في الحرب أو حتى في السلم عندما يُفقد أو يُتوقع فقدانه كما يكون عليه الأمر عند تدبير القائد المسؤول شروط استقلال الإرادة استباقا لما قد يحصل في حالة الحرب.
وهذا الوجه من العناية التوقعية بالحاجة هو مصدر أول نوع من الجهاد لأنه يتعلق بما يسمى سعيا لتوفير شروط الأمن الغذائي الذي فقد العرب الوعي به ولم يعتبروه جزءا من السيادة بل هو أساس كل سيادة ومنه يأتي مفهوم المجال الحيوي حتى عند الحيوانات ناهيك عن البشر. فيكون هذا أول معنى للجهاد حتى وإن كان بما هو استعداد توقعي لسد الحاجة جهادا بالقوة لأن الاستعداد لحماية شروط سد الحاجات المتوقعة يتطلب تكوين الإنسان وتوفير الأدوات التي تحقق تلك الشروط. وهذا ما نراه في سعي الأمم القوية إلى الاستحواذ على مواطن الطاقة أو مصادر الماء والغذاء أوحتى مجرد الوصل بين الحرية ومجال السيادة غير الخاضعة لإرادة الغير مثلا.
وإذا كان الاكتفاء المطلق ممتنعا وتلك هي علة التبادل والتعاون بين الأمم فإن التنافس على موضوعات التبادل يجعل السيادة رهينة السيطرة المستقلة لكل طرف من أطراف التبادل على الحد الأدنى المغني عن الغير إذا حاول استعمال سلطانه ليقلب التبادل السلمي بين الشعوب إلى فرض إرادة شعب على شعب تصديرا وتوريدا وهذا هو المعنى التوقعي للجهاد عند كل الشعوب وهو علة وجود القوات المسلحة المستعدة دائما للتدخل في حماية هذه الشروط:
وتلك هي حال كل الأقطار التي لم توفر شروط المناعة بالحجم الكافي للدفاع عن المجال الحيوي الذي هو في الحقيقة علة الوجود الجمعي للأمم للتعاون على سد حاجاتها وحماية شروطها.
الدرجة الثانية من القيم بمعناها الاقتصادي:
وبذلك نكتشف أن القيمة التبادلية بخلاف القيمة الاستعمالية ليست ذاتية للبضاعة أو للخدمة بل هي بنت حوالة الأسواق و ربيبة ظروف التبادل سلما وحربا وغفلة أو نباهة للمتغيرات في العلاقات بين الأفراد والدول سلمية كانت هذه العلاقات أو حربية علما و أن قانون العلاقات الدولية يجعل النوع الثاني من العلاقات هو الأفق المحدد للسلوك الحكيم.
وهذا العامل هو الذي يبين أن القيم بمعناها الاقتصادي ليست بالأمر المستقل عن معنى أرفع هو درجتها الثانية لأنه ليس رهين محددات الندرة والوفرة الموضوعية فحسب بل هو رهين الإرادات المتنافسة عليها ورهين بثقافة الحاجات ذاتيا.
فلو لم يكن الذهب (الزينة) أو الرسم (التعبير) حاجة جمالية وروحية بدرجة ما في ثقافة معينة لما كان لهما قيمة تبادلية تفوق قيمتهما الاستعمالية في حدود تلك الدرجة.
وبهذا المعنى فنحن نتجاوز التحديد الاقتصادي الصرف للقيم لنصل إلى التحديد الثقافي أو بصورة أدق إلى دور رتبة ثانية من التقويم هي المتحكمة في التقويم الاقتصادي حتى وإن غفل عنه أصحاب النظرة الاقتصادوية الساذجة.
لكننا نبقى مع ذلك في المستوى الأدنى من القيم ما دام الأمر متعلقا بالتأثير على الفروق الكمية في قيمة التبادل المادي.
وإذن فنحن في دائرة ما يقبل الاستعمال والتبادل حتى وإن كان مختلف المقدار التبادلي.
ورغم أن الأمر يتعلق بما يقبل الاستعمال والتبادل فإن الشعوب تتقاتل من أجله فيكون المدافع عما يملكه منه مجاهدا بمعنى المدافع عن حقه العادل ولا يعد إرهابيا إلا من يعتدي على صاحب الحق:
وبهذا المعنى فالاستعمار هو الإرهابي والمجاهدون في أي مكان مدافعون عن الحق والعيب الوحيد هو أنهم لقلة الحيلة يلجأون إلى سلاح الضعيف أي العنف الأعمي الذي يؤدي إلى عكس المطلوب.
لذلك فالإسلام يعتبر كل من يحمي ماله وحقه مجاهدا ويدعو إلى تجنب هذه الوضعية التي تلجئ المدافع عن حقه إلى مثل هذه الحلول الدالة على الضعف لا على القوة لعدم العمل بآية الاستعداد الرادع. ولذلك كانت حماية المال من مقاصد الشريعة ومن ثم فحمايته لا تكون إلا بالاستعداد الرادع والقتال عند اللزوم وكان من يموت دون ماله بهذه الشروط يعتبر شهيدا تماما كمن يموت دون عرضه أو دين دينه.
ويكون المهاجم لانتزاع الحوز من صاحب الحق هو الإرهابي لأنه يحرف مفهوم الجهاد فلا يدافع عن حق عادل بل هو يهاجم من أجل اغتصاب حوز ظالم:
وما نعيشه اليوم في بلاد العرب خاصة ودار الإسلام عامة هو قلب للقيم بات فيه بعض أبناء جلدتنا يسمون المجاهد من أجل الحق والعدل إرهابيا.
والمقاتل من أجل اغتصاب الحقوق والظلم يعتبرونه ناشرا لثقافة حقوق الإنسان حتى لو كان ذلك باحتلال أرضك وهتك عرضك واستحياء نسائك وأخذ كل ثرواتك.
فإذا لخصنا ما يتعلق هذين المستويين من القيمة الاقتصادية قلنا إننا أمام عاملين يحددان الاختلاف بين قيمة الاستعمال وقيمة التبادل:
1-أحدهما يخص علاقة البضاعة أو الخدمة المقومة بحاجة الإنسان وفرة وندرة موضوعية سواء نتجت عن ندرة طبيعية أو عن احتكار علته التنافس بين الساعين للاستفراد بها. و يمكن أن نعتبر هذا العامل الأول عاملا موضوعيا لصلته بأمرين طبيعيين هما:
أ-كم البضاعة أو الخدمة ب-وكم الحاجة أو الرغبة في الاستحواذ.
وكلا الكمين قابل للقيس الموضوعي رغم البعد النفسي الذي لا ينكره أحد والذي يجعل الخوف من الندرة علة لوجودها وهما أو فعلا بما ينتج عنه من تلهف على خزن البضاعة أو الخدمة بصرف النظر عن الظروف المقوية لهذا التهلف مثل الحرب أو الشائعات المتعلقة بما يمكن أن ينقص العرض فيزيد الطلب. ولولا عامل الندرة الفعلي أو الوهمي لما كان لمفهوم القيمة الاقتصادية معنى بل لما وجد الاقتصاد من أصله.
2-والثاني يخص علاقة البضاعة والخدمة موضوعيا وعلاقة حاجة الإنسان ذاتيا بمعايير ثقافية من طبيعة جمالية بصنفيها المتعلقة بالزينة الخارجية أو بالتعبير عن قيم روحية. وقد يجتمع الأمران كما يحصل في تزيين المعابد أو في امتيازات ممثلي الشعائر الدينية أو التراثية التي من جنس المآثر ذات الدلالة التاريخية. وهذا العامل لايستمد فاعليته من البضاعة والخدمة أعني من الأمر المقوم ولا من الحاجة الطبيعية ذاتها بل من دورها في ثقافة بعينها.
ومن ثم فهي قابلة لأن توصف بكونها ذاتية أو إن شئنا فإن موضوعيتها مستمدة من دلالتها الرمزية في ثقافة معينة وليس من دورها الذاتي لها في ما تسده من حاجات فعلية بصرف النظر عن قيم ثقافة بعينها. ويمكن القول إن هذا المعنى يشمل المعنى الأول لأن منازل المطالب الحاجية تحددها الثقافة.
فيكون سلم القيم المادية محكوما بالعادات والتقاليد الثقافية للجماعة. ولهذه العلة بات من شروط سياسة التسويق العلم بثقافة المستهلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق