Hot

السبت، 9 نوفمبر 2013

تحصين الثورة كيف يكون؟ - أبو يعرب المرزوقي

تحصين الثورة كيف يكون؟ - أبو يعرب المرزوقي
9 نوفمبر، 2013، الساعة 10:59 صباحاً
تحصين الثورة كيف يكون؟
أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2013.11.09



قد يعجب القارئ عندما يقرأ هذا الكلام خاصة إذا علم أني كنت من أكثر الناس معارضة لقانون تحصين الثورة. 
لكن القارئ المتمهل يدرك أن خلافي مع المدافعين عن هذا القانون ليس حول ضرورة تحصين الثورة بل حول حقيقته.
فالقانون لا يحصن إلا متى كانت وراءه قوة تجعله قابلا للتنفيذ داخليا وخارجيا:
والقانون في الوضع الراهن ليس للثوار القدرة على إنفاذه داخليا فضلا عن حمايته ضد ما يمكن أن يقوم ضده من حملة خارجية إعلامية وحتى حقوقية.

ولعل ما كان ينقصني لإقناع الرافضين برأيي هو ما حصل في مصر. ذلك أنه من الغفلة الظن بأن الشرعية عديمة القوة يمكن أن يكون لها تأثير يتجاوز البداية الناقلة إلى تحقيق شروط نفاذها. وكل اعتماد على الشرعية وحدها مآله الفشل الحتمي. فالمحطات الانتخابية والاستفتاء على الدستور لم تمنع الثورة المضادة من محو كل ذلك مؤقتا لأن الثورة لم يكن استعدادها كافيا لحماية الشرعية. ولولا التربية العميقة وثقافة التضحية عند الإسلاميين وبعض المؤمنين بالحريات والحقوق لكان الانقلاب في مصر ضربة قاضية للربيع العربي.

وإذن فالقوانين من دون سند القوة الشرعية التي تمكنها من النفاذ لا تحصن شيئا لأن من بيده القوة يمكن أن يذهب إلى حد إلغائها إذا لم يجد حيلة في تحريفها بحيث تصبح أداة في يده ضد واضعيها ما جعل بعض أدوات الثورة المضادة يتوعد بأنه سيذبح الحاكمين حاليا بسكاكينهم. ولهذا فإن ما أدعو إليه من تحصين هو من هذا النوع الذي يجعل الثقافة والتربية العميقتين دافعتين بالجماعة إلى قلع الثورة المضادة من عروقها بكل ما يقتضيه ذلك من التضحيات.
ولولا هذا الفهم لما كنت من المؤيدين بل والمدافعين بكل قوة على ضرورة المقوم الثوري الجمعي من شباب الأمة ذكورا وإناثا المقوم الذي يحمي الثورة والذي يحاربه كل من انضم إلى الثورة المضادة ممن يزعمون أنهم هم مفجرو الثورة: في الداخل بمحاربة لجان حماية الثورة وفي الخارج بالحلف مع بقايا الاستبداد والفساد في أقطار الربيع العربي الأخرى.

الثورة تغير كيفي في الأخلاق العامة

إذا لم يكن التحصين مسألة قوانين فما طبيعته إذن؟
والجواب لا يمكن ان يكون مباشرا بل لا بد من فهم العلل التي تجعل كل الثورات تجري في مناخ يكون بأقدار مختلفة دموي. وهو مناخ دموي ليس صادرا عن الثورة بل مرده لمحاولات الثورة المضادة منع التغير القيمي في أخلاق الجماعة التي ثارت على الاستبداد والفساد.
فالثورة سواء كان أصحابها مدركين لذلك أو غافلين عنه ليست إلا تغيرا نوعيا في نفوس الجماعة يحقق نقلة نوعية في الأخلاق العامة للجماعة التي ثارت:
فلا بد أن تكون الأخلاق العامة قد ساءت ليس في الأذهان فحسب بل وكذلك في الأعيان إلى حد جعل الاستبداد والفساد قدبلغ درجة غير قابلة للاحتمال عند غالبية الشعب
وخاصة عن الصفوة من نخبها المتحررة من التبعية لأنظمة الفساد والاستبداد الداخلية والخارجية. وهذه النخب تمثل الوعي القيمي الذي تستند إليه كل ثورة هي بالجوهري تغير خلقي روحي.

وهذه الدرجة التي لم تعد قابلة للاحتمال تبين أن فساد الأخلاق العامة الذي تقع الثورة عليه ليس هو الحالة الطبيعية للحياة الجماعية بل هو مرض أصاب جل نخبها السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية والروحية مرض تحملته الجماعة لعجز دون القدرة على تغييره كما ينبغي أن يغير المنكر. والنكير في الوعي الجمعي لا يصبح ثوريا إلا بعد المرور بمراحل هي درجات المحنة التي تفرز النخب القائدة للجماعة الثائرة.
فهو يتراكم بالدرجات الثلاث للنهي عن المنكر أعني درجة القلب ثم درجة القول ثم درجة اليد: وتلك هي الثورة.
وحتى نفهم هذه المراحل وأثرها المفرز للنخب القائدة فلا بد من إبراز ضميريه الواصلين بين مراحله والتي هي في الحقيقة ما يجعلها محنة يمتحن فيها الشعب حتى يغير ما بنفسه:
فالنقلة من مرحلة القلب إلى مرحلة القول دونها مرحلة الدرجة الأولى من الامتحان: إنها تحمل الدرجة الأولى من العنت والعذاب وتكون عادة بالحرمان من الحقوق المعنوية دون تعميم قد يبلغ درجة التعذيب والنفي.
والنقلة من مرحلة القول إلى مرحلة اليد دونها مرحلة الدرجة الثانية من الامتحان: إنها تحمل الدرجة الثانية من العنت و العذاب وتكون عادة بأقصى درجات الحرمان من الحقوق الحيوية مع تعميم درجة التعذيب والنفي.

وتحمل هاتين الدرجتين منالحرمان والتعذيب هما علامتا الصمود الخلقي للجماعة وهما مستويا المحنة التي مندونها لا يمكن أن تحصل ثورة. ذلك أنهما علامتا التغير الخلقي الذي يجعل الجماعةتكتشف أن معنى الحياة وقيمتها مشروطان بالحرية والكرامة فتصل إلى فهم معنى الجهادبالقلب والقول واليد أدوات تحصين للثورة عندما تصبح هذه المستويات أساس الوعيالجمعي فلا يبقى للاستبداد والفساد إلا القوة المتوحشة ويفقد كل شرعية. وذلك هومناخ الثورة.
وإذن فهاتان الدرجتان من الحرمان هما اللتان تحركان في الجماعة تغييرها ما في نفسها حتى يغير الله ما بها. وهو ما أشار إليه شاعر الربيع العربي عندما أشار إلى إرادة الشعب وصلتها بالقدر. هاتان المرحلتان في الصمود تؤسسان للثورة باعتبارها صمود الجماعة الخلقي والروحي أمام الاستبداد والفساد وذلك هو جوهر الجهاد في بعده المضموني الغائي ومن وسائله استعمال القوة الشرعية.
ومعنى ذلك أن الثورة سلمية بالجوهر لأن قوة الفساد والاستبداد هي التي تبادر إلى إسالة الدم قبلها لمنع الشروع فيها وخلالها لمنع ذهابها إلى غايتها وبعدها لاسترداد المبادرة منها. وتلك هي الثورة المضادة ضد صمود الجماعة الخلقي والروحي صمودها ضد الاستبداد والفساد أو نهيها عن المنكر وأمرها بالمعروف بدرجاتهما الثلاثة وبوسيطي درجاتهما بين الأولى والثانية ثم بين الثانية والثالثة كما وصفنا.
وبذلك فالتحصين مشروط في حصول الثورة ومن ثم فهو متقدم عليها وليس تاليا لها: 
لو لم يحصل تحصين في نفوس الجماعة للتغلب على الامتحانين بالانتقال من القلب إلى القول إلى اليد في الوعي الجمعي ذهنيا وعينيا لما حصلت الثورة.

ما التحصين المطلوب إذن؟

إن التحصين الخلقي والروحي متقدم على الثورة وشرط لحصولها ومن ثم فالبحث عن التحصين القانوني لا معنى له بعد حصول الثورة التي وصلت إلى النكير باليد حتما وإلا لما سميت ثورة ما لم يتحول إلى تحقيق شروط إنفاذ القانون أعني مد الشرعية الثورية بالقوة الشرعية: 
أي إن الثورة التي تمت بفضل التحصين الخلقي والروحي قبلت تحدي حجة الاستبداد والفساد الأخيرة أي تحدي الصدام باليد أو الجهاد واستعدت لها فعلا ليس بمجرد القول.

وإذن فالتحصين المطلوب بعدالثورة هو مضمون الآية 60 من الأنفال: "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ". فهذه الآية لا تتعلق بالاستعداد للعدو الخارجي بمعنى الصراع بين الدول فحسب بل هي تتعلق بالاستعداد لمن يمكن أن يكون عدو الجماعة وعدو الله في آن.
ولما كان الله جل وعلا لا يستطيع أحد أن يعاديه فإن القصد ليس عداوة الله بل عداوة الحق والعدل اللذين يترجمان في عصرنا بالحقوق والحريات والكرامة الإنسانية التي تؤمن بها الجماعة بحيث يكون من يعاديها بحرمانها منها معاديا لله أي لشرعه المعنى المقصود في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

مقومات التحصين المطلوب

إذا كان الأمر متعلقا بمعركة خلقية بلغت مرحلة اليد فمعنى ذلك أن لحظة الثورة هي لحظة السياسة التي تسعى إلى تحقيق شروط التحرر من الاستبداد والفساد الذي لم يبق له أصحابه إلا حجة القوة المتوحشة التي لا بد من التغلب عليها وهذا لا يكون بوضع القوانين بل بتحقيق شروط جعلها قابلة للتنفيذ أي بتحقيق الشروط التي وضعتها الآية 60 من الأنفال لمنع القتال بردع العدو الذي ينهزم بمجرد تأكده من قدرتك على هزيمته:
فليس أجبن ممن لم تبق له إلا حجة القوة المتوحشة.

شروط الحصانة ومقوماتها

حددت الآية 60 من الأنفال خمسة شروط لمقومات الحصانة الأمنية للجماعة في السلم والحرب على حد سواء أو بصورة أدق فهي قد حددت شروط الردع المبقية على السلم والمحررة من ثم من سلطان الاستبداد والفساد. وفي هذه الحالة فهي العلاج الوحيد لتحصين الثورة ضد الثورة المضادة التي تريد أن تعيد الاستبداد والفساد بما هما أخلاق عامة ثار عليها الشعب خلقيا وروحيا بصورة سلمية لكنه لا يمكن أن يحافظ على ما حققته الدفقة الأولى من الثورة من دون الاستعداد لمنعها من رد فعل الثورة المضادة التي هي عنيفة بالجوهر:

الشرط المقوم الأول:
وأعدوا لهم ما استطعتم. يتضمن الأمر قضيتين أساسيتين تثبتان أن الآية تتعلق بالثورة الخلقية الروحية للجماعة التي حققت تغييرا خلقيا وروحيا وتريد المحافظة عليه سلميا بمنطق الردع المغني عن الحرب لا بمنطق الحرب. ومن ثم فالمنطق هو منطق تحصين الثورة:
فأما القضية الأولى فهي قضية الإعداد وتفيد التحضير للمتوقع في المستقبل ومن ثم فهي سعي للتحرر من الوقوع في وضع من يحتاج إلى رد الفعل. 
وأما القضية الثانية فهي قضية الاستطاعة. وهي تربط هذا الاستعداد للمتوقع بحد بذل أقصى الجهد وليس بالرضا بالقدر الأدنى.
ومعنى ذلك أن الانشداد إلى المستقبل المتوقع مصحوب بالجهد الجهادي بأقصى ما هو ممكن للجماعة حتى تصل إلى درجةالردع. فالحد الأقصى هو إذن تحقيق الردع ليس للعدو المعلوم فحسب بل كذلك لغير المعلوم تجنبا للمفاجئات. وهذا يعني أن الجماعة تصبح مطالبة بالوعي الدائم بأنها في مناخ سلمي مشروط بالحرص على تحصينه ضد قابلية تحويله إلى خيار لا علاج له إلا بالحرب لأن الاستبداد والفساد قابلان للعودة ما لم يشعر أصحابهما بأن ذلك ممتنع في جماعة مستعدة لمنع ذلك ليس بالقلب ولا باللسان فحسب بل وكذلك باليد كناية على القتال.

الشرط المقوم الثاني:
هو القوة عامة أي السلطان المعرفي والخلقي الذي لا يكون إلا بالعلوم والفنون. فهي التي تمكن من تعميم هذا الوعي الثوري في الجماعة بما هي مصدر السلطان على مقومات العمران أي في الوعي السياسي والوعي الاقتصادي والوعي التربوي والوعي الثقافي والوعي الروحي للجماعة التي ينبغي أن تكون ممسكة بالسلطة في هذه الميادين إمساكا يغير القيم المستبدة والفاسدة ليعوضها بقيم الحرية والصلاح. ولا يكون ذلك من دون تطهير هذه الميادين ليس بالمنع بل بإيجاد السياسي والاقتصادي والمربي والمثقف والروحي الحر والمصلح.

الشرط المقوم الثالث:
رباط الخيل هو القوة بالمعنى المادي للقوة من حيث هي أدوات فعل الدولة وإنفاذ القانون الداخلي والخارجي وهذا أيضا لا يكون بحق أداة بيد الدولة الشرعية ما لم يكن الشعب كله مسهما فيه لئلا يتحول الأمن والجيش إلى دولة في الدولة فيكون أساس الاستبداد والفساد. وذلك هو معنى الجهاد فرض عين أي إن الجماعة كلها ذكورا وإناثا مطالبة بالواجب الدفاعي المدني والعسكري بالتداول. ولهذه العلة ذكر ابن خلدون أن الحامية إذا كانت من خارج الشعب فإن الشعب يصبح عالة ويفقد معاني الإنسانية لأنه يصبح في حماية غيره.

الشرط المقوم الرابع:
ترهبون به عدو الله وعدوكم. إن الجمع بين العداوتين يعني أننا لا يمكن أن نعادي الحق والعدل. ومعنى ذلك أن عدونا ليس أمرا يحدده الهوى بل هو أمر يحدده الشرع بمعياري العداوة لله أي الباطل والظلم. فكل من يعتدي على الحق والعدل أي من يحكم بالباطل والظلم هو عدونا لأنه بذلك يعادي الشرطين الضامنين لحرية الإنسان وكرامته من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف عليها لكي يحقق الحق والعدل. وذلك هو معنى التواصي بالحق والتواصي بالصبر على إحقاق الحق.

الشرط المقوم الأخير:
وآخرون لا تعلمونهم الله يعلمهم. من هؤلاء الذين لا نعلمهم ولا يعلمهم إلا الله. إن هذا النص حرز من الحروز المحررة من الغفلة والثقة المتهورة سواء في النظر أو في العمل. فهذا هو بعد الغيب في كل الوجود: إذا تصور الإنسان أنه قد أحاط بالمعلوم أو بالمعمول فتلك نهايته لأنها تكون مصدر استرخاء الغلفة لا اطمئنان اليقظة. وكل هزائم العرب كانت ولا تزال صادرة عن هذا الاسترخاء. وأكاد أجزم بأن ما تعاني منه الثورة حاليا هو هذا الاسترخاء الغافل ممن تصوروا أن وصولهم السهل للحكم كاف للنجاح. وكم نبهتهم. لكن كان كلامي صيحة في واد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق