سؤال المرحلة التاريخية
هذا السؤال: "هل صحيح أن الثورة فشلت"[1] نطرحه ونحاول أن نقدم إجابتين في مرحلتين نعرض اليوم أولاهما لتتلوها الثانية عن قريب:
الأولى نحدد فيها دلالة جواب المبشرين بفشلها من المشككين في الثورة وجودا فضلا عن الكلام على فشلها أو نجاحها.
والثانية نحدد فيها حقيقة النجاح الجوهري الذي حققته الثورة والذي يدركه أصحاب الثورة المضادة قبل الثوار أنفسهم.
الإجابة الأولى: دلالة القول بفشل الثورة
لو وجهت سؤال: "هل صحيح أن الثورة فشلت؟" إلى جل المعلقين - وخاصة متصدري الإعلام منهم -القاضين بالاستناد إلى ظاهر الأحداث لكان جوابهم جازما وقاطعا بأن الثورة قد فشلت دون ريب. وحتى نادر المتعاطفين مع الثوار فإنهم يتصورون الثورة بصدد الاحتضار عملا بقاعدة أن غالبية الناس ميالة إلى تجنب المتاعب المترتبة على المخاض العسير لكل ما هو جديد. فعدم حصول ثمرات مباشرة منتظرة أو موعود بها والانقلابان في مصر وتونس بالنسبة إلى النسخة السلمية من الثورة والمآل الدموي في سوريا وليبيا وأخيرا في مصر بالنسبة إلى نسختها الأعنف أربعتها تبدو مؤيدة لهذا الحكم الذي يبدو لأول وهلة ناتجا عن موقف موضوعي.
ولعل حجة المبشرين بفشل الثورة حجتهم الأكبر هي انتقال الثورة المضادة إلى الهجوم في مصر وتونس بدعوى الحرص على ما تسميه بهيبة الدولة ومقاومة الفوضى التي يعلم الجميع أن سببها الرئيس هو استراتيجيتها للإطاحة بالثورة. ولما كانت الدعويان مناسبتين لميل الناس إلى الدعة ورفض متاعب الثورة فإن ذلك قد يساعدها فتقضي على تحرر المواطن من الخوف من العنف الرسمي فتصنع لتخويفه عنفا أشد وأمر ليبدو العنف الرسمي رحمة بالقياس إليه: الإرهاب الذي أصبح أهم صناعة تلجأ إليها الأنظمة الفاشية للإبقاء على الاستبداد والفساد كما نرى ذلك بوضوح في سوريا وليبيا أولا ثم في مصر وتونس ثانيا.
فتحرر الشعوب من الخوف يرعب الأنظمة الفاسدة والمستبدة وحماتها. لذلك فهم يصفون كل تعبير عن الحرية بالفوضى والانفلات حنينا إلى الموت العام الذي كانت تسميه استقرارا، الموت الذي آل بشعوب الأمة إلى مزيد من التبعية والتخلف الماديين والروحيين. لذلك وحدت الثورة المضادة صفوفها في داخل كل قطر عربي على حدة ثم بين كل الأقطار العربية. وليست الأقطار التي حصلت فيها الثورة وحدها هي التي شمرت ثورتها المضادة للإجهاز على الثروة بل إن الحلف بات يشمل بصراحة وعلنية الأقطار التي باتت تخشى حدوثها لديها كما يبين تمويلها لانقلابات الإعلام المضاد. وقد طابق هذا الحلف إرادة القوى المستفيدة من غياب الشعوب العربية شبه التام في مجريات الأحداث باستثناء كونها كرة يتلاعبون بها بات الحكم بفشل الثورة في راي الكثير حكما حاسما وقطعيا خاصة وهم يجدون تبريرا سهلا للتحالف العربي أولا والدولي ثانيا ضد الثورة بحجتي الإرهاب والتكفير اللذين صنعوهما صنعا.
في تهمتي الثورة المضادة : الإرهاب والتكفير
من غرائب الأمور في الكلام على هاتين التهمتين أنه يصدر بالأساس ممن لايتحدد جوهريا إلا بهما حقا لا اتهاما. فسواء انطلقنا من مستعملهما الداخلي أو الخارجي لشيطنة الثورة فإن صاحب الكلام عليهما يستمد منهما جوهره وهو صانعهما لإلصاقهما بغيره:
فالطائفة داخليا إرهابية (منذ الحشاشين) وتكفيرية بالجوهر (بمقتضى تكفيرهم العقدي لكل من ليس شيعيا) أعني باطنية الشيعة. وهي متحالفة مع فاشية الأنظمة التي تدعي القومية ومع العلمانيين الذين يحاربون الإسلام حصرا بدليل حلفهم مع الأقليات الطائفية التي هي دينية للحرب على الثورة. والمعلوم أن القوميين والعلمانيين في المشرق العربي وحتى في المغرب العربي هم في الحقيقة طائفيون. ومع ذلك فهؤلاء جميعا يزعمون مقاومة الإرهاب والتكفير في حين أن ما يجري في الشام وفي العراق وفي كل الوطن العربي ليس إلا من صناعة مخابراتهم وسرطان خلاياهم المنتشرة في كل أقطار الوطن.
والاستعمار الغربي عامة فضلا عن كونه سيطر على العالم بالإرهاب والاغتصاب فهو قد استعمله في الصراع بين قواه وخاصة بين قطبيه لأن أنظمة الرأسمالية وحلفاءها في العالم الثالث استعملت الجماعات الدينية المتطرفة ضد الاشتراكية وحلفاءها وهذه مع حلفائها استعملت الجماعات اليسارية المتطرفة ضد الرأسمالية وحلفاءها خلال ماكان يسمى بالحرب الباردة. وهم الآن يصنعون هذين الدائين بالاندساس في حركات المقاومة لإفسادها والسيطرة على أفعالها لتوجيهها حيث تريد.
ولو لم يجد الغرب عامة وأمريكا خاصة في حلف الثورة المضادة ضد التحرر من الفساد والاستبداد والتبعية ما يحقق لهما أهدافا إستراتيجية لكانوا أول فاضحيه. هم يريدون منع عودة المسلمين أعني الإسلام السني لاستئناف دور القطب المعدل للتوازن الدولي بما له من قدرات وشروط وخاصة بموقع في جغرافية العالم وفي تاريخ الحضارة المادية والروحية.
والمعلوم أن المبررين - الإرهاب والتكفير - لحرب الثورة المضادة وسندها الاستعماري على الثورة بصورة مطلقة في سوريا و بصورة نسبية في مصر وفي تونس هما جوهريا وفي الحقيقة من أدوات هذا التحالف لتشويه الثورة والثوار والقضاء عليهما. وطبعا فالحرب المطلقة التي ستسلكها الثورة ليست من هذا الجنس ذلك أن بعض المغفلين الذين يتصورون العنف كافيا للتأثير على أحداث التاريخ فيقبلون الاندراج في خطط مستعمليهم للقضاء على الثورة دليل على جهل أصحاب هذا الخيار ولا علاقة لها بما سيفرضه منطق التاريخ.
إن حصول الحلف بين كل الأنظمة العربية التابعة والغبية لتكرارها مع مصر تسليما لمصيرها إلى عملاء إسرائيل ما وقعت فيه مع العراق لما سلمت مصيره إلى عملاء إيران - والتأييد الغربي لهذا الحلف على ما يجره على الأمة والثورة من الأضرار فيه وجه إيجابي حقيقي لعله من مكر الله الخير. إنه يقربنا من تحقيق الشرط الضروري والكافي لنجاح ثورة التحرير والاستئناف التاريحي في فرصتهما الثانية بعد أن ضاعت الفرصة الأولى: فحرب التحرير ينبغي أن تكون في آن تحريرية من الاستعمار ومن قابلية الاستعمار أعني علل ضعف الأمة المتمثلة في عدم دخول الحرب المطلقة المتمثلة في تحالف كل القوى الثورية الساعية لاستعادة دور الأمة في التاريخ الكوني تماما كما حدث أول مرة بعد نزول القرآن وتماما كما حدث لكل أمة عظيمة من الأمم التي استردت شرط قوتها أعني الوحدة الثورية المطلقة المتحررة مما وضعه الاستعمار من حدود مكانية تحول دون شروط القوة المادية وحدود زمانية تحول دون شروط القوة الروحية.
العنف الثوري : رشده و أخلاقه
فلا يمكن لأي محلل موضوعي أن يقتنع بأن الثورة تتوسل مثل هذه الطرق في سعيها إلى أهدافها لأن سذاجة أصحابها وجهلهم بأن العنف لا يؤثر بذاته العرية عن شرطي تأثير القوة في الفعل السياسي بعيد المدى حيث يكون بهذا المعنى جزء لا يتجزأ منه عند جميع الدول أو الحركات الساعية إلى بناء الدول. فهو يعد جزءا من الدفاع الذكي ومن بناء القوة الثورية نفسها والدولة المطلوبة. فليس التهديم للهديم ملائما لشروط البناء المقبل بعد المعركة في كل فعل هادف للإصلاح في الغاية:
فلا بد أن يكون العنف أحد عناصر التفاوض بين القوى المتصارعة ومن ثم فهو أداة ضغط تؤثر باقتصارها على هذا الدور السياسي الخالي من الوحشية غير المتناسبة مع الغرض منه الذي هو الردع المحسوب.
ولا بد ألا يكون مفقدا لشرعية الحق بعده الخلقي ومن ثم فهو مشروط بالمحافظة على أخلاق المعاملة بين البشر فلا يتجاوز التعامل مع الخصم بما يلغي أخلاق الجهاد والفروسية على الأقل في الظاهر.
لذلك فليس من اليسير الرد على هذين الموقفين الساعيين إلى التأييس من الثورة من دون التغلب على حيل الثورة المضادة وسعيها إلى تشويه الثورة وأصحابه. فلا بد أولا من البدء بترشيد الصديق الجاهل - إن صح أن بعض متوسلي ما يشوه الثورة حتى لو كانوا بحسن نية وسذاجة يمكن أن يكون من الأصدقاء - قبل الرد على العدو الماكر:فهؤلاء هم أشد الناس على الثورة بالمزايدة والسعي المباشر للأهداف والقسمة اللامتناهية في خلايا كل منها:
يريد إمارة فضلا عن انعدام الاستراتيجية والخلط بين العنف المشروع بالبقاء عند الحد الذي تقتضيه القيم السامية للسياسة العقلية والنقلية في آن.
والعنف الجنوني الذي يعبر به صاحبه عن مرض نفسي لديه فيحول الجهاد إلى معارك ثأر شخصي بأفعال فظيعة لا تحقق الهدف بل هي تحول دون النجاح.
فكلا هذين التوجهين يشوهان المقاومة وتفقدانها بعدها الخلقي وفاعليتها السياسية. لذلك فهذا السلوك من الأدلة القاطعة على أن أصحابه ليسوا مجاهدين بالمعنى الإسلامي للكلمة بل هم مجرمون وأغبياء وحمقى. وحتى لو سلمنا جدلا بأنهم ليسوا من أعداء الثورة بالقصد الأول فهم في خدمة أعدائها بالقصد الثاني لأنهم يسهمون في تشويهها وتأليب العالم عليها بمجرد تحويلهم إياها إلى تكوين إمارات تسعى إلى التقسيم أكثر مما تسعى إلى التوحيد وإلى ثارات جاهلية فيما بينها أو حتى بينها وبين من تحاربهم لكأن الحرب صارت هدفا في حد ذاتها وليست أداة سياسية.
لذلك فأفعالهم ليس فيها شيء من الجهاد الخلقي والروحي الذي يقتصر دوره على الدفاع عن الحقوق بأخلاق الفروسية التي كان صلاح الدين من أكبر رموزها حتى عند أعدائه من الصليبيين. فمهما كان من لوازم الحروب من فظاعة وبشاعة فإن أهم مبادئ المقاومة الذكية هو التاثير الخلقي والنفسي على شعوب العدو ليس بما يشنع من الذات بل بما يرفع من صورتها لدى أعدائها فيوهن حب الانتقام عند شعبه ويفقده السند الشعبي فييسر الجنوح إلى السلم والحل السياسي.
كيف نرد على أصحاب التأييس من الثورة؟
إن أول ملاحظة على أصحاب موقفي التأييس من الثورة أن موقفيهم سواء صدرا عن حسن نية أو عن سيئها يتصفان بتسرع في الحكم لا يناسب ما يفيدنا به تاريخ الثورات من ضرورة الحذر في تقويمها. لذلك فلن أدخل في جدل حول نجاح الثورة أو فشلها هكذا بصورة مبهمة ودون تحديد لما يتعلق به الشأن عند الكلام على المنعطفات التاريخية في الحضارات الإنسانية التي مرت بمرحلة انحطاط كادت تخرجها من الفاعلية التاريخية خاصة وهي قد أوصلت الأمة إلى الاستتباع الاستعماري شبه المطلق في جل مناحي حياتها المادية والرمزية: فالثورة لا تكون ثورة إلا متى كانت معبرة عن منعطف تاريخي في رؤية وجودية لشعب معين لذاته ولمنزلته في العالم من حوله.
منهجية التقويم الأفضل
فمدار الكلام إذن هو هذا التحول الكيفي في رؤية العرب والمسلمين لذواتهم ولمنزلتهم في العالم وخاصة لدور الإنسان في التاريخ. لذلك فإني أعتقد أن أفضل طريقة لمعرفة ما حققته الثورة هي محاولة تحديد ما حققه حصول الفعل الثوري بمجرده أو تحديد طبيعة هذا التغير الكيفي في رؤية العرب والمسلمين لذواتهم ولمنزلتهم في العالم التغير الذي جعله يحصل فيدل بدفقته الأولى على موقف الجماعة الوجودي الذي جد. وإذن فالمحاولة ينبغي أن تنطلق من طبيعة ما تحررت منه الأمة لتثور فتستأنف دورها التاريخي الذي فقدته بسبب ما ران على رؤاها الروحية والعقلية من انحطاط ذاتي ومستورد.
فما أنهته الثورة بمجرد حصول دفقتها الأولى وبصورة نهائية هو الأصل الذي يمكن أن ترد إليه العقبات التي كانت تحول دون تحقيق حرية الإنسان وكرامته في حضارة كانت نشأتها الأولى هي الكونية الإنسانية التي تكرم الإنسان من حيث هو إنسان وتحرره من الوسطاء بينه وبين ربه في مجالي رزقه المادي (التحرر من الاستبداد السياسي : نفي الدكتاتورية) ورزقه الروحي (التحرر من الاستبداد الديني: نفي الكنسية) وأصل الرزقين أي التحرر من الطاغوت الجامع بين الاستبدادين.
ورغم ما بدأنا بالإشارة إليه من شبه إجماع على فشل الثورة فإنه قل أن تجد من يمكن أن ينفي أن الثورة التي نريد تقويم فعلها ومدى نجاحها قد أزاحت على الأقل في ضمائر المواطنين كلهم كبيرا وصغيرا ذكرا وأنثى وبصورة لا مرد لها ولا رجعة فيها أصل كل الأدواء والممارسات التي أفقدت الإنسان العربي خاصة والمسلم عامة معاني الإنسانية شعورا بالكرامة وتوقا إلى الحرية ورعاية لذاته ودفاعا عنها.
[1] ينبغي هنا تحديد المخاطب بهذه المحاولة رغم أنه لم يتغير منذ بدأت الكتابة في الثورة. لكن تحديده الصريح يساعد على قراءتها وقراءة ما تقدم عليها وما سيتلوها من المحاولات. فهدفها جميعا هو ما تتضمنه هذه: إنه كل ثوار الوطن العربي والعالم الإسلامي الذي توجه إليهم رسالة واحدة مفادها أنه إذا بقيت الثورة قطرية فهي ستفشل حتما لأنها تكون قد غفلت عما لم تغفل عنه الثورة المضادة معركة استئناف المسلمين دورهم التاريخي معركة كونية متجاوزة للحدود الجغرافية والتاريخية. ولا بد من العمل في إطار استراتيجية التحرر الشامل لاستئناف دور الأمة الكوني. ينبغي ألا نضيع الفرصة الثانية. فإذا أضعناها سنعاد إلى ما كنا عليه في موجة الاستعمار الأولى. وعلة تخلفنا عن الأمم التي استأنفت دورها الحضاري بعد الاستعمار هي أننا أضعنا فرصة مقاومته متحدين فلم نجعل معركة التحرر منه فرصة للتوحيد شرط القوة المادية والروحية أساسي الكرامة والحرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق