الإجابة الثانية: حقيقة النجاح الجوهري
لكن الأهم من ذلك كله هو أن طبيعة المعركة وحقيقتها التي لا يكاد يشكك فيهاأحد قد تعينت في علاج نهائي لمعضلة الاستئناف الكبرى بالنسبة إلى الأمة التي كانتنشأتها الأولى رسالة كونية: المعركة هي معركة تحرير الإنسان المسلم بأسباب التحرير الحقيقية أعنياسترداد الإنسان كرامته وحريته بشروطهما الملغية لقابلية الاستعمار أو للتبعيةالمادية والروحية. فقدمكنت الموجة الثانية من الثورة أو إن صح التعبير ردة فعل الثورة المضادة على هذهالحقيقة من تحقيق شرط النجاح الحتم في مقبل الأيام والسنين أعني الجمع بين:
مطلب إحياء القيم الكونية الذاتية للحضارة الإسلامية الأصيلةلتجاوز الكسر بين الماضي الحي والمبدع والمستقبل الحر والكريم الكسر الذي مثله عصرالانحطاط الذاتي.
مطلب استنبات القيم الكونية التي للحضارة الإنسانية الحديثة لتجاوز التشويهالذي لحق بهذه القيم جراء توظيفها الاستعماري وتحريفها من قبل النخب المستلبةوالمغتربة.
وهذا الجمع الموجب والسوي يترجم عنه الذي يتجاوز التناقض بين التأصيلوالتحديث بفضل اكتشاف الوحدة العميقة للتعبيرين الديني والفلسفي عن شروط حريةالإنسان وكرامته سيحرر الإسلاميين من النزعات السلبية المتطرفة ضد التحديث السويوسيحرر التحديثيين من النزعات السلبية المتطرفة ضد التأصيل السوي فتتصالح نخبالأمة حول شروط عودتها إلى التاريخ الكوني بدور فاعل وإيجابي.
ومعنى ذلك أن الثورة لم تبق فعلانكرة بل صارت فعلا معرفة لأنها أصحبت ذات رسالة بينة وذات حملة محددين. ولعل أكبر علامات ذلك هي أن المستنير من الإسلاميين ذكورا وإناثا أصبحوا بعدهجمة الثورة المضادة أعني في موجة الثورة الثانية هم المدافعين شبه الوحيدين عنحرية الإنسان وكرامته في ميادين القاهرة وريف دمشق وساحات تونس وليبيا واليمنوتحالف من كان يتكلم عليهما شعارات يتاجر بها مع الانقلابيين من العسكر والنقابات.
وهذا الأصل الذي نجحت الثورة في الظهور عليه والذي بدا يتجمع عليها في حلفواضح المعالم سعيا منه لمحو آثارها أو على الأقل للحد منها هو ما يسميه القرآنالكريم بالطاغوت سواء كان محليا (في كل قطر عربي على حدة) أو مناطقيا (في مجموعات المناطقالعربية) أو إقليميا (في البؤر الجيوسياسية) أو إسلاميا (بين شعوب الإسلام) أودوليا (في العالم كله) وأصلها جميعا هو اللقاء بين أحداث التاريخ ودلالات ما بعده.
فإذا عرفنا الطاغوت بوصفه أصل كل نفي لمعاني الإنسانية تلك بالمعنىالخلدوني تبين لنا أن الثورة قد حققت أهم شيء ينتظر منها فمكنت العربي والمسلم مناسترداد شعوره بالأنفة والعزة التي لن يتخلى عنها بعد الآن إذ إن بيتي الشابيتمثلان فهما جديد للقضاء والقدر الذي حرفه الفكر الصوفي والطغياني فجعله تواكلابدلا من التوكل. ففيها حقق الإنسان العربي استعادة ما كان مفقودا لدى الفردوالجماعة ودلت الثورة على أنه قد عاد بمجرد شروع العرب والمسلمين في الثورة كمايتبين من شعارها الأساسي المعبر عن الوعي بعودة هذا المفقود ليتطابق المنشودوالموجود في فاعلية الإنسان والأمة فاعليتهما التاريخية الساعية إلى تحقيق مضمونإيمانها:
إذا الشعب يوما أرادالحياة **** فلا بد أن يستجيب القدر
وحتى نعرف أصل الأدواء الذي كانت الثورة عليه أهم خطوة تحقق في المسعىالثوري لأن ثمراتها آتية لا ريب فيها سأكتفي بالإشارة الخاطفة لأمثلة تمكن منتعريفه بوصفه طاغوت الأنظمة العربية صاحبة الجرائم ونخبها مبررتها الجرائم التيبلغت حد ما يشهده العالم في الحصار التجويعي للنساء والأطفال كما في مخيم اليرموكوأمثاله تعد اليوم بعد مدن سوريا وقراها المحاصرة. وهي أمثلة تنتسب إلى الطاغوت الموجودفعلا وإلى ما نراه بالعين المجردة في كل البلاد العربية.
وهذا الطاغوت أصبح عاريا بعد أن فضحت آلياته الثورة العربية الحاليةواستئساد الثورة المضادة ونخبها الفاقدة لكل احترام لكرامة الإنسان وحريته. تحالفتكل الأنظمة ونخبها فوحدها ما تشترك حميعا من الصفات الطاغوتية أعني الفسادالاستبداد والتبعية السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية واستعمال أجهزة الحكملتحويل وظائف الدولة والنخب التابعة لها إلى نقيض دورها أعني إفقاد الإنسان العربيمعاني الإنسانية بدلا من تنميتها وتطويرها. ويمكن أن نقسم هذا الطاغوت إلى صنفينبارزين قد يظهر أحدهما ليخفي الثاني لكنهما متلازمان:
الطاغوت المادي الذي قضى على مقدرات الأمة المادية بالتبعية السياسيةوالاقتصادية فأفسد مصادر الثروة والبشر من حيث هم كائنات عضوية وفرض الاستبدادالسياسي والظلم الاقتصادي والاجتماعي: إما قتلا بدنيا غير مباشر بالتفقير والتجويعأو قتلا بدنيا مباشرا بالتعذيب والسلاح. والمثال الذي يشهد لذلك بوضوح منقطعالنظير هو ما حدث ويحدث في سوريا والعراق.
الطاغوت الروحي الذي قضى على مقومات الأمة الرمزية بالتبعية التربويةوالثقافية فأفسد مصادر التراث والبشر من حيث هم كائنات روحية وفرض التعسف التربويوالفساد الثقافي: إما قتلا روحيا قتلا غير مباشر بتعميم أصلي كل فساد أعني النذالةوالسفالة أو قتلا روحيا مباشرا بالإذلال والإهانة. والمثال الذي يشهد لذلك بوضوح منقطعالنظير هو ما حدث ويحدث في تونس ومصر.
ورغم أن بعض الأنظمة العربية يبدو الطاغوت الذي يغلب عليها من الصنف الأولوبعضها الآخر يبدو الطاغوت الذي يغلب عليها من الصنف الثاني فإن الحقيقة هي أن أيامن الصنفين الغالب يتلازم مع الثاني حتى وإن تقدم عليه في الطغيان. وهما إذن صنفانمحددان بتلازمهما لجوهر الطاغوت العربي لدى الحكام ونخبهم جمعا بين الاستبدادوالفساد. والشاهد الذي لا يكذب هو واقع كل الأنظمة العربية الحاكمة من الخليج إلىالمحيط.
الطاغوت بمعناه القرآني والتحرر الثوري منه
والثورة حققت مبدأها الإيجابي لأنها تترجم عن تبين الرشد من الغي عند الشعبالذي قام بالثورة متجاوزا النخب السياسية والتربوية والاقتصادية والثقافية. وماكان يمكن للشعب أن يبدأ ثورته على هذا الطاغوت المربع الذي يستعمل وظائف الدولةالأربعة للقضاء على معاني الإنسانية بمعناها الخلدوني لو لم يكن قد تجاوز مرحلةالكمون إلى التحقق الفعلي لما يعتمل في وجدانه من دواع للثورة. لذلك فمهمة الثورة الشعبيةهي أن تحرر هذه الوظائف الخمس للدولة المعبرة عن إرادة الشعب (الحكم والاقتصادوالتربية والثورة والحصانة الروحية) من الطاغوت حتى يستعيد الإنسان معانيالإنسانية. وإذن فالثوار لم يثوروا إلا لأنهم أدركوا أن مسعاهم الثوري غايتهالأولى والأخيرة هي التصدي لما يسميه القرآن الكريم في آية حرية المعتقد بالطاغوتينالمادي والرمزي.
فلا يمكن أن تشرع الثورة في الوجود من دون أن يبين للشعب هذا الرشد.والعلامة الدالة على حصول هذا التبين هو الثورة أو السعي للتحرر من الغي المشتركبين أبعاد الطاغوت الخمسة المحرفة لوظائف الدولة بمعناها الذي يجمع عليه الدينوالفلسفة أعني نظام رعاية الحقوق والواجبات والقيم أعني ما سماه ابن خلدون بمعانيالإنسانية (التي تحددها الآيتان 257 و257 منالبقرة). وأصل تحريف هذه الوظائف هو الطاغوت الحائل دون رشد الإنسان شرطا في الإيمانالحقيقي بالقيم التي يتطابق فيها العقل والنقل وتسهر الدولة الشرعية على رعايتهاوحمايتها. وهذا الأصل تحدده الآية 256 من سورةالبقرة: "لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسكبالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم".
التناسب بين فلسفةالتاريخ وفلسفة الدين
لذلك فمن الخطأ وعدم فهم التناسب بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين الإسلاميتينما يسود من تصورات حول الثورة في غايتها كما بينتها الموجة الثانية من صراعها معالثورة المضادة. فالتناسب بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين الإسلاميتين يبين أنرسالتها والمدافعين عنها بدمائهم وأرواحهم فضلا عن أموالهم وأعراضهم ينبغي أن تحددالجماعة المؤثرة تمثيلا لهذه المعاني في مقاومة الطاغوت: لا بد أن تكون قوتها الأساسية والمركزية قوة ذات مرجعيةإسلامية. فهي لا بد أنتكون ممثلة لأغلبية الجماعة وأن يكون دورها متصلا وواصلا بين مرحلتي التحرر منالانحطاطين الذاتي الموروث عن ماضينا والأجنبي الموروث عن المستعمر.
لا بد أن يكون الممثلون لمرحلة الرشد أولئك الذي بدأ سعيهم لأطول مدة ممكنةفي تاريخ الأمة فيكونوا هم القوة المحركة لأحداث التاريخ وقطب الرحى في الثورة.وهي في حالتنا قد بدأت منذ قرنين أعني خلال مدة السعي للتحرر من الانحطاط الذاتيوالانحطاط المفروض من الاستعمار كما انحصر أعداؤها في المدافعين عن هذين الانحطاطينالذاتي والمستورد كما هو بين من الحلف المدنس بين أنظمة العساكر ونخبها الممثلةللانحطاط المستورد وأنظمة القبائل ونخبها الممثلة للانحطاط الموروث.
طبيعة الثورة وأبعادها
وبذلك فقد تحددت رسالة الثورة وطبيعة حملتها. فالثورة ليست مجرد حدث سياسيفحسب بل هي حدث روحي هدفه تحقيق حديث الروح والتاريخ فيعيد للإنسان العربي والمسلم معاني الإنسانيةالتي أفقده إياها هذان الانحطاطان اللذان كادا يحولان معارك تاريخنا الحديث إلىمعارك بين كاريكاتورين من الأصالة والحداثة: الانحطاط الذاتي وعلته نخب الأمةالتقليدية التي لم ترث من حضارتنا إلى أمراضها والانحطاط الناتج عن الاستعماروعلته نخب الأمة التي لم ترث من الاستعمار إلا استبداده واستبداده. إنها ثورةمادية هدفها تحرير الأمة والإنسان سياسيا واقتصاديا وثورة رحية هدفها تحرير الأمةوالأنسان تربويا وثقافيا وذلك لاسترداد معاني الإنسانية كما حددها ابن خلدون فيالمقدمة حتى تتمن الأمة من استئناف دورها الكوني شاهدة على العالمين:
والمستوى الأول من التحرير هو تحرير أدوات فعل الجماعة المادي كما تحددهافلسفة الدين العملية التي تؤمن بها غالبية الجماعة:
1-تحرير الحكم من الاستبداد والفساد لجعله معبرا عن إرادة المواطنين وسيادةالأمة.
2-تحرير الاقتصاد من الظلم والقهر لجعله معبرا عن كرامة المواطن وقدرةالأمة المادية.
والمستوى الثاني من التحرير هو تحرير أدوات فعل الجماعية الرمزي كما تحددهافلسفة الدين النظرية التي تؤمن بها غالبية الجماعة:
3-تحرير التربية من الإذلال والإهانة لاسترجاع أنفة الإنسان الخلقية وحريتهالفكرية.
4-تحرير الثقافة من النذالة والسفالة لاسترجاع عزة الإنسان الخلقية وقدرتهالإبداعية.
أما أصل كل تحرير وشرط كل استئناف لدور الأمة بشروط الدور الكوني كما حددتهفلسفة التاريخ العملية والنظرية التي تترتب على فلسفة الدين العملية والنظرية التيتؤمن بها غالبية الجماعة:
5-فهو تحقيق أصل معاني الإنسانية ومبدئها الذي هو هدف الثورة أعني تحقيقالرشد شرطا للحرية الفكرية والكرامة الإنسانية وذروتهما الحرية العقدية التي يمثلالتحرر من الطاغوت شرطها السلبي والإيمان بالله شرطها الإيجابي لتكون استمساكابالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
أما وقد تحقق الوعي بنجاح الثورة بتحقق مبدئها الأساسي الوعي بذلك عندالثورة المضادة قبل الثورة نفسها ما يعلل حربها الواضحة على هذه القيم القرآنيةفإن أهم إنجاز ثوري قد حصل بالفعل. وكل ما عداه ثمرات ستتلو بمقتضى سنن التاريخ إذهي النتيجة الحتمية لتحقق هذا المبدأ الأساسي مهما طال الزمن. وليس من شك في أنمخاض التاريخ لا يخلو من الآلام والأوجاع وأن نسق الوضع ليس قابلا للتحديد الدقيق.لكنه آت لا ريب فيه. وعظمة المولود مناسبة للجهد اجتهادا نظريا وجهادا عمليا فيقيادة الثورة لتحقيق أهدافها النابعة من هذا الرشد سيعيد لمكان الأمة وزمانهاوحدتهما فتتحق المناعة المادية والمناعة الروحية لتعود دار الإسلام سيرتها الأولىقلبا نابضا للبشرية المؤمنة بأخوتها وبتعارفها معرفة ومعروفا.
فثمرات الثورة التي تنتج عن تبين الجماعة الرشد من الغي أصبحت بينة لأنهاتتعلق بهذه الوظائف الخمس التي تحدد بذاتها استراتيجية تحقيق أسبابها التي تتناسبمع العصر علميا وعمليا مع التواصي بالحق النظري علما بالطبائع الكونية والإنسانيةوالتواصي بالصبر العملي عملا بالشرائع العقلية والدينية: لم تعد غالبية الشعب الممثلة لهذه المعاني ضحية التكوينالتقليدي الذي يحول دونها وعلاج الأمور بما يتطلبه العلم بطبائعها. لذلك فاجتماعالتكوينين الأصيل والحديث عند النخب التي تمثل الثورة بهذا المعنى هو الشرطالضروري والكافي لتحقيق ما تحقق بعد أصله ومبدؤه.
[1] ينبغي هنا تحديد المخاطب بهذه المحاولة رغم أنه لم يتغيرمنذ بدأت الكتابة في الثورة. لكن تحديده الصريح يساعد على قراءتها وقراءة ما تقدمعليها وما سيتلوها من المحاولات. فهدفها جميعا هو ما تتضمنه هذه: إنه كل ثوارالوطن العربي والعالم الإسلامي الذي توجه إليهم رسالة واحدة مفادها أنه إذا بقيتالثورة قطرية فهي ستفشل حتما لأنها تكون قد غفلت عما لم تغفل عنه الثورة المضادةمعركة استئناف المسلمين دورهم التاريخي معركة كونية متجاوزة للحدود الجغرافيةوالتاريخية. ولا بد من العمل في إطار استراتيجية التحرر الشامل لاستئناف دور الأمةالكوني. ينبغي ألا نضيع الفرصة الثانية. فإذا أضعناها سنعاد إلى ما كنا عليه فيموجة الاستعمار الأولى. وعلة تخلفنا عن الأمم التي استأنفت دورها الحضاري بعدالاستعمار هي أننا أضعنا فرصة مقاومته متحدين فلم نجعل معركة التحرر منه فرصةللتوحيد شرط القوة المادية والروحية أساسي الكرامة والحرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق