أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2014.05.09
تمهيد
قد يظن البعض أن جهاد المطاولة الذي يتطلبه نجاح الثورة وما يبدو من كر وفر فيه راجعان إلى أخطاء يبالغ الجميع في الكلام على حصولها بعده. لكنها في الحقيقة ليست إلا عثرات شبه محتومة بسبب طبيعة الركام الذي يعم طريق الأمة في مسارها النهوضي. وحتى لا يقع الشباب في ما يشبه الإحباط نعيد نشر هذا المقال الذي سبق أن كتبه أبو يعرب بتاريخ 2013.08.20 بعدما تأكد له أن الثورة الإسلامية الفعلية قد بدأت حقا بصمود شباب مصر وشاباتها الصمود البطولي الذي يذكر بأيام الإسلام الأولى قبل أن يشتد عود دولته. المشرف على صفحة ابي يعرب
خطة المحاولة
تتألف هذه المحاولة من قسمين يهدفان إلى فهم الأحداث فهما يساعد على تحديد مقومات الاستراتيجية الناجعة لتحقيق أهداف الثورة باعتبارها علاجا للمرضين المورثين عن الماضي القريب والبعيد. فأما أول المرضين فتمثله عطالات عصور الانحطاط. وأما ثانيهما فتمثله بشاعات عصر الاستعمار. وهذان الموروثان تعينا في أصحاب الثورة المضادة بعد أن أصبحوا واضحي المعالم
فالعطالات التي تعوق ثورة الربيع العربي مصدرها تشويه الحضارة العربية الإسلامية الأصيلة ممثلة بأنظمة القبائل والمتخلف من نخبها التشويه الذي بقي فاعلا بعد محاولات النهضة والصحوة رفضا للنهوض الفعلي بأسبابه التي تتجاوز العمران الزائف المعتمد على على مقايضة المستوردات بمخزونات البلاد وتهريب الثروات في الاقتصاديات الهشة للخدمات و إسراف السياحات
والشناعات التي تعوق الربيع العربي مصدرها تشويه الحضارة الحديثة ممثلة بأنظمة العسكر والمتزلف من نخبها التشويه الذي بقي فاعلا في تاريخنا بعد الاستقلال وتمثلها محاولات بقايا الاستعمار للتصدي للتحديث المتحرر من التبعية وغير المقصور على المحاكاة القردية التي هي المضمون الوحيد للأنظمة التي نوبها الاستعمار ليحكم مستعمراته بالعملاء من أبناء البلد
والقسمان كما نحددهما أدناه متلازمان حتما رغم أننا سنكتفي في المحاولة الحالية على أولهما واعدين بعلاج ثانيهما قريبا إن شاء الله
أولهما يشبه الشهادة الشخصية تقويما لما جرى إلى حد الآن بصفتي ملاحظا خارجيا وبصفتي مشاركا من الداخل إلى يوم استقالتي من المجلس التأسيسي.
والثاني محاولة لتحديد طبيعة المعركة التي بدأت ببداية الانقلاب في مصر وفي تونس ولتعليل هذا العنوان الذي ادعي فيه أن نصر الثورة آت لا ريب فيه
دلالة الأحداث في الموجة الأولى من الربيع العربي
أصبح الأن بوسعي أن أغير الجواب الذي قدمته لابني نزار يعرب لما سألني رأيي في ما يجري مباشرة بعد سقوط الطاغيتين في تونس ومصر وكيف أحدد طبيعته ما هي؟ وهو جواب بقيت عليه إلى يوم حدوث الانقلاب في مصر وإلى يوم الشروع في ما يماثله في تونس رغم مشاركتي في الموجة الأولى من الربيع العربي. والمحاولتان تقودهما نفس البنية رغم اختلاف القوة المساندة وهي عسكرية في مصر ونقابية في تونس. ويمكنني الآن أن أغير هذا الجواب فأقول : إن الثورة قد بدأت فعلا يوم وقع الانقلاب في مصر وشُرع فيه في تونس لأن صفيها أصحبا محددين كما تحددت مطالبهما واتضحت استراتيجيتهما
وقد سبق فوضحت هذا الموقف الذي تغير الآن قبل نهاية شهر الثورة خلال مداخلتي في منتدى الجاحظ حول طبيعة ما حدث: لم يكن بعد ثورة بل هو انقلاب البطانة على سيدها بمناسبة انتفاضة شعبية وكان هدف الانقلاب منع الثورة من الحصول وبصورة أدق خوفا من أن تتحول الأحداث الشبابية في ميادين مصر وساحات تونس إلى ثورة إذا تحققت بعض الشروط
وأهم هذه الشروط هو ما نراه الآن بفضل ما أشرنا إلى تحدده بعد الانقلاب. فقد بينت حينها –وأذكر أن إحدى الصحفيات النابهات لخصته تلخيصا دقيقا ونشر في شبكات التواصل الاجتماعي-أن ما حدث هو محاولة المافية المتسلطة على البلاد والعباد التخلص من الظاهر المفضوح للحكم المستبد والفاسد وخاصة من رأسيه ابن علي وليلى والمحيط المباشر في تونس ومن مبارك وليلاه والمحيط المباشر في مصر للإبقاء على نفس النظام بمافياته المتحالفة أعني
مافية السلطة السياسية في الحكم والمعارضة الكمبارسية
مافية السلطة الاقتصادية بفرعيها عمالا وأرباب عمل
المافية الخادمة لهما مباشرة: المافية الإعلامية
المافية الخادمة لهما في المدى القريب: المافية الثقافية
المافية الخادمة لهما في المدى البعيد: المافية التربوية
وطبعا فعندما أتكلم على المافيات فإني أعني المسيطرين على الجماعات العاملة في هذه المجالات وهم قلة ما يعني أن أغلبية المنتسبين إليها لم تكن لهم مشاركة إلا سلبا بل هم في أغلب الأحيان ضحايا وليسوا إذن هم المتهمين في كلامنا على المافية. وأمل كل إصلاح يعتمد على تحرير هؤلاء من أولئك. ولهذه العلة كان مسعى المافية الانقلابي يقتضي أن تبقى خطتها سرية لأن العلن يحول دونها وتغيير جلدتها بلبس لبوس الثورة مزايدة على كل الثوار بدعوى تصحيح مسارها بعد فشل من اختارهم الشعب لحكمه في المرحلة الانتقالية (تونس) أو حتى في المرحلة الموالية مباشرة للمرحلة الانتقالية (مصر)
فقد كانت الثورة المضادة بحاجة إلى غطاء يمتص الموجة الثورية وما نتج عنها من زلزال في الوعي الشعبي بما كان يعاني منه بسبب هذه المافيات فيستنزف أقوى حامل للزخم الثوري من القوى السياسية المنظمة والمتجذرة في الواقع الاجتماعي خاصة. ذلك أنه من دون هذا الاستنزاف لم يكن بوسع المافيات أن تستعيد سلطانها على المنتسبين إلى مجالات تشاطها فضلا عن أن تستبد بموقع من يدعي تصحيح مسار الثورة لأن فشل هذا الحامل للزخم الثوري المخطط له هو الذي سيفرض شيئا من تصديقها لدى غالبية الشعب فيبقى تحت السيطرة: وأهم أدوات هذه الاستراتيجية هي جعل الشعب في حال تشبه الندم على ما حصل بسبب ازدياد شروط الحياة العادية سوءا من الناحيتين الأمنية والمعيشية
مراحل الاستراتيجية التي اتبعتها الثورة المضادة
تقبل المراحل الاستراتيجية التي تدور بين الثورة والثورة المضادة عند النظر إليها في قسميها الأساسيين إلى أربع مراحل تنتهي إلى مرحلة أخيرة هي الغاية التي يأتي فيها النصر دون ريب
فالمرحلتان الأوليان تكون فيهما الغلبة للثورة المضادة لأنهما مرحلتا النجاح السريع أو حرب المناجزة لكن النتيجة تكون غير ثابتة ولا مستقرة. وسنعرضهما هنا
والمرحلتان الثانيتان تكون فيهما الغلبة للثورة لأنهما مرحلتا النجاح البطيء أو حرب المطاولة حيث تكون النتيجة ثابتة ومستقرة. وسنعرضهما لاحقا
أما المرحلة الأخيرة فهي التغير الكيفي في الحياة الجماعية أعني تحقيق الانتقال في حالة الربيع العربي من الصدام بين التأصيل والتحديث إلى التأليف الناجح بين نوعي القيم اللذين هما من جوهر واحد رغم الاختلاف الشكلي بينهما لأن النوع الأول هو ثمرة إحياء المناخ الروحي للجماعة والنوع الثاني هو ثمرة إحياء فاعليتها العقلية بفضل ذلك المناخ الحي. وهذه المرحلة هي التي تمثل النصر الذي لا ريب فيه
المرحلة الأولى: مرحلة التقية وتشتيت صف الثوار
إذا أخذنا تونس مثالا-لكن الكلام يصح على مصر وعلى كل أقطار الربيع العربي- فإن هذه الخطة بنيت في الأول على منع الوحدة بين القوى السياسية التي كانت معارضة للنظام السابق معارضة حقيقية لأن تونس ومصر كان فيها من الأحزاب الورقية ما لا يكاد يحصى الأحزاب التي كانت تمد النظامين الفاسدين والمستبدين بمسخرة الديموقراطية الزائفة. وكان تقسيم المعارضة الجدية يقتضي توظيف أكبر رموز المعارضة ذات المصداقية للقيام بذلك ولو بغير قصد منهم. فاختاروا الأستاذ نجيب الشابي وحزبه لأنه كان الوحيد صاحب المصداقية من المعارضين الموجودين داخل الوطن. ومن ثم فعليه ركزت محاولة التوظيف. والمعلوم أن النهضة لم تكن بعد قد عادت إلى العمل السياسي الرسمي فضلا عن كونها غابت عن الساحة السياسية لما ينيف عن العشرين سنة وهو ما جعل دورها في الأشهر الأولى من الثورة مشوب بالكثير من التقية والتردد
لذلك فهي لم توظف إلا في المرحلة الثانية كما سنرى بسبب توريطها في الحكم لأنهم كانوا على بينة بأن وزنها يحول دون ضمها إلى الثورة المضادة فضلا عن تباعد المرجعيات وعدم اطمئنان من يقود الثورة المضادة إليها. وكان توظيفها يحتاج إلى حيلة مناسبة تفرضها الإكراهات السياسية لأنها حزب ذو قاعدة شعبية وعقيدة يصعب التلاعب بها إذا لم تكن في مأزق يضطرها للقبول بما ليس منه بد كما حدث بعد الانتخابات ومنذئذ حيث أصبحت في وضع من يرد الفعل والتنازل اللامتناهي للخروج من المآزق المتوالية التي أوقعت نفسها فيها بمجرد أن وقعت في فخ الحكم دون الاستعداد إليه
وإذن فقد كان أيسر بالنسبة إلى الثورة المضادة أن تستعمل في المرحلة الأولى حزبا يمكن التعامل معه بالانطلاق من العلم بنفسية زعيمه الطموح وبوزنه الخفيف شعبيا بالقياس إلى النهضة. فذلك أيسر من استعمال حزب ذي وزن شعبي ثقيل وخيار إيديولوجي ليس من اليسير التلاعب به. ورغم أن الأستاذ الشابي لا تنقصه الخبرة فإنه قد وقع في الفخ كما ستقع النهضة مثله في الفخ الأخطر كما نبين في المرحلة الثانية من خطة الثورة المضادة. فالفخ الثاني أدهى وأمر
توهم الأستاذ الشابي ربما لظنه أنه بالدستور الساري حينئذ سيجمع كل القوة التي تمكنه من تدجين الثورة المضادة. لكنه دخل مدخلا آل إلى فشل ذريع وإلى فقدانه أفضل ما في حزبه: الجمهور والمشروع والطابع المتوازن للمرجعية بين العروبة والإسلام والتقدمية الاجتماعية والسياسية. ولعل أهم خطأ وقع فيه هو الخطأ الذي جعل الاستئناف شبه مستحيل: فعندما تسرع فأعلن عداوة مجانية للإسلاميين فقد الحليف الحقيقي وجرى وراء وهم سرعان ما تبخر
ولعله أراد مغازلة الغرب بدعوى التصدي للإسلام السياسي. لكن ذلك قضى على ما كان يمكن أن يكون الشرط الضروري والكافي للصمود أمام الثورة المضادة ومن ثم للنجاح في أن يجمع من حوله من كان يمكن أن يجعله زعيم الثورة: فقد كان الحلف بينه وبين الإسلاميين والقوميين والبعض من اليساريين كافيا لتحقيق هذه الغاية. ذلك أن النهضة تحالفت مضطرة مع حزبي المرزوقي وابن جعفر مع علمها بأنهما فاقدان للوزن الجماهيري الجدي في بناء قوة تصالح حقا بين الليبرالية العلمانية الوسطية والإسلام الوسطي
ولا بد هنا من الاعتراف بأن النهضة هي بدورها أسهمت في هذا الفخ لأنها مع علمها بأن هذين الحزبين فاقدان للوزن الجماهيري وللصلابة الفكرية اكتفت بهما بديلا ذا مصداقية من الحل الحقيقي المتمثل في الحلف مع هذين الحزبين إن لم يكن معهما كليهما فعلى الأقل مع أحدهما: إما حزب الشابي أو الحزب الدستوري أعني ما يسمى بجماعة 6 نوفمبر ومنهم كل الذين يسمون بالمزاليين والذين انفصلوا عن الحزب فكونوا حركة الديموقراطيين الاشتراكيين خاصة إذا قبل الأستاذ أحمد المستيري العودة إلى العمل السياسي وحتى مع من انفصل عن النهضة أعني حزب العريضة
ورغم أن السبسي هو الذي قضى على كل آمال الشابي عندما اشترط على بقائه في الحكومة الالتزام بعدم الترشح في الانتخابات المقبلة فإنه بعد فشل محاولات حزبه الاستئناف بالمعارضة غير البناءة التي كان يمكن أن تعيده لدور رجل الدولة انتهى إلى القبول بمظلة السبسي ففقد نهائيا كل إمكانية للعودة المؤثرة في الساحة السياسية التونسية. وكنت أتصور أنه لم يبق له إلا حل الحكمة المتمثل في أخذ المسافة الكافية والسكوت حتى يعود بعد اعتزال يقوم فيه المسيرة وينتظر الدور الممكن خلال الأزمات التي من جنس ما يحصل الآن. لكنه لسوء الحظ واصل لعبة المشي على الحبل وهي لعبة غير مأمونة فتكون تونس قد خسرت من كان يمكن أن يكون ذا دور أكبر
المرحلة الثانية: مرحلة العلن واستنزاف القوة الحاملة لمشروع الثورة
من الطبيعي أن يكون من شارك في تزييف الانتخابات عالما بالوزن الحقيقي للإسلام السياسي عامة وفي تونس عامة. لذلك فإنه لم يكن ليتردد في جعل هذا الوزن نفسه منطلق الخطة للمرحلة الثانية التي صارت بإشرافه علنا في حين أن الأولى كانت بتوسط رئيس الجمهورية زميله في شهادة الزور سابقا وكذلك بمشاركة حكومتي الغنوشي. فقد كان مخططو الثورة المضادة ساعين إلى توريط القوة الأكثر تماسكا في البلد القوة التي بوسعها أن تحول دون عودة أصحاب الثورة المضادة إلى العلن قوة الإسلاميين في حالتي تونس ومصر توريطها بطُعم الحكم
وأذكر أني نبهت الإخوة في النهضة بعدم الوقوع في هذا الفخ وترك المرحلة الانتقالية كلها للاستعداد لما بعدها والاكتفاء بالتعلم من خلال المشاركة مع كل الوزراء بما يشبه مرحلة تكوين وتربص مع ما لهم من أغلبية في السطلة التشريعية والتأسيسية: ولم أكتف بتقديم النصيحة سرا بل قدمتها علنا في محاضرة عند الأستاذ التميمي عندما قلت إن حكمهم الآن سيفرض عليهما أمرين ينتجان عن الابتزاز الأمريكي: الاعتراف بإسرائيل على الأقل في مستوى ما كان موجودا في عهد ابن علي والقبول بالإسلام الأمريكي. (نفس النصيحة قدمتها لزعماء حماس لكني لم أجذ آذانا صاغية رغم أني قلت لهم لا يمكن أن تكون صاحب السلطة التنفيذية ولا تتعامل مع إسرائيل وأنت تحت سلطانه في أقل شروط العيش لشعبك)
وينبغي الاعتراف بأن وقوع الإسلاميين في الفخ كان شبه مضمون لما عانوه من حرمان طويل ينتج عنه بصورة طبيعية تلهف على اقتناص الفرصة. وكانت استراتيجيو الثورة المضادة يعلمون أنهم محتاجون إلى استرداد أنفاسهم لتعيد الثورة المضادة تنظيم صفوفها فتستعيد قوتها حتى تصبح قادرة على الانقضاض على الثورة بظاهر شعاراتها بعد النجاح في إفشال هذه القوة وبعد تشتيت صف الثوار (المرحلة الأولى) فتقدم الثورة المضادة بوصفها الملجأ الأخير لشعب يحاولون غسل مخه حتى ينسى أهداف الثورة ويكتفي بتوجيه جام غضبه ضد من يعتبره فاشلا في توفير ضرورات الحياة بعد كل الأحلام التي نتجت عن الثورة
كان لا بد من توريط هذه القوة في الحكم ومحاولة عزلها بعدم المشاركة معها (استراتيجية فتح مع حماس) والكيد لها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا حتى تتحمل بمفردها نتائج الفشل الذي يخططون لإنجاز شروطه التي تتمثل في المس بشروط الحياة الدنيا وجعلها شبه مستحيلة أمنا ومعاشا. وقد ساعد على هذا التحميل للمسؤولية انفراط عقد الحزبين المشاركين مع النهضة ومزايدتهما عليها إما بالثورية (المؤتمر) أو بالتقدمية (التكتل). فالسعي لإفشالها كان بينا للعيان لأنه كان يمثل الشرط الضروري والكافي لتمكين الثورة المضادة من العودة باسم تصحيح المسار الثوري خاصة إذا لم ننس ثمرة المرحلة الأولى أعني تقسيم قوى الثورة وترويض بعضها للانضمام إلى الثورة المضادة لإضفاء المصداقية على دعوى التصحيح في المرحلة الثانية. وذلك ما هو بصدد الحدوث في مصر وفي تونس وما سيؤدي إلى نهاية الموجة الأولى من الثورة وبداية الموجة الثانية التي ستكون أعسر بكثير من الموجة الأولى لأن الصفوف تم فرزها فتحددت طبيعة المعركة والأهداف وتعينت القيادات
فضل الثورة المضادة على الثورة
وحينئذ تبدأ المرحلتان الثانيتان
مرحلة إعادة تشكيل الجبهة الثورية التي تجمع على ميثاق الصلح بين قيم الأصالة المتخلصة من شوائب الانحطاط وقيم الحداثة المتخلصة من شوائب الاستعمار الذهني والفعلي
مرحلة الحسم مع ما ورثناه من انحطاط الماضي للإحياء الصادق لقيم الروح الحضارة الأصيلة ومع ما ورثناه من تشويه الحاضر للتحديث الصادق لقيم العقل والحضارة الحديثة
لكن أغرب ما في الأمر هو أننا مدينون لأرباب الثورة المضادة بفضل كبير على الثورة لأنهم باستراتيجيتهم وببرنامجهم نفسه حددوا طبيعة الرهان والمراهنين في المعركة كما تبين من الانقلاب الذي حصل بالفعل في مصر والانقلاب الذي يحاولون القيام به في تونس محاكاة له وإن بأدوات أخرى يؤدي فيها النقابي دور العسكري
فهم الذين حددوا بكامل الصراحة أن العدو عندهم لم يعد البرامج السياسية للأحزاب الإسلامية بل مرجعيتهم التي يعتبرونها فاشية بالطبع
وهم الذين حددوا بأسلوب العلاج الإنقلابي أن ما يتكلمون باسمه هم أول ما يضحون به باختيار الانقلاب والإقصاء ورفض الإرادة الشعبية والحكم الديموقراطي.
ومن ثم فهم قد حددوا طبيعة الصف الذي يمثلونه فعرف بالضد الصف الذي يحاربونه أعني الأغلبية الساحقة من الشعب التونسي والمصري حتى وإن كان ذلك لا يتضح من البداية بسبب التشويه الإعلامي وغسل المخ الإعلامي الغسل الذي سيمحي بمجرد أن يلتحم الجمعان اللذان وصفنا بطبيعة الفعل المنتظر من الجبهة الثورية ومن المهمة الحضارية التي هي رسالة الثورة في موجتها الثانية. فصف الثورة المضادة مؤلف من حلف مدنس فيه فاعل (الثورة المضادة المحلية) وممول (الأنظمة الخليجية) وحام (المستعمر): إنهم كما أسلفنا بقايا الانحطاط العربي الإسلامي أعني أنظمة الخليج التي تمول الانقلابات وبقايا الاستعمار التي تقوم بها وراعيهما للإبقاء على العرب والمسلمين في وضعية التبعية الدائمة. أما صف الثورة فليس حلفا من قوى مختلفة بل هو الشعب بوجهي نخبه الساعية إلى استئناف دور الأمة:
أحدهما تمثله أغلبية الشعب والنخب التي تنطلق من إحياء الحضارة العربية الإسلامية بتخليصها من شوائب الانحطاط نحو التحديث المستقل من التوظيف الاستعماري الذي يعادي الحضارة العربية.
والثاني يمثله جزء مهم من الشعب والنخب التي تنطلق من غاية الأول إلى منطلقه أي من استنبات القيم الحديث المتخلصة من الذهنية الاستعمارية نحو الإحياء المتحرر من بقايا الانحطاط.
فيلتقيان في هدف واحد هو تحقيق أهداف الثورة في الحرية والاستقلال والكرامة ببناء نظام ديموقراطي غير تابع في سياسته واقتصاده وثقافته وتربيته لأنه مستقل روحيا وليس مستعمرا ذهنيا. وبذلك يتبين أن مضمون الرسالة قد تحدد في الغايات البعيدة لثورة الربيع العربي غاياته الحقيقية بعد أن كان قد تحدد في الغايات القريبة. فأصبحت رسالة الربيع العربي معلومة وحاملوه معينين ليس بالوصل مع القرنين الأخيرين فحسب بل بالوصل مع كل الماضي وكل المستقبل.
الأسئلة التي نجيب عنها قريبا
لا شك أن الثورة المضادة قد حققت نجاحات مهمة في خطتها وخاصة في مرحلتها الثانية التي كانت نهايتها انقلابا حزبيا عسكريا في مصر ومحاولة انقلاب حزبي ونقابي في تونس أخرجت للعلن أعضاء الحلف ضد الربيع فكانت بذلك بداية الموجة الثانية من الثورة بداية صعبة لأنها نقلت أكبر بلد عربي كان مسار الثورة فيه إصلاحيا إلى مسار قد تجبر فيه الثورة المضادة الثوار على الميل إلى المسار الثوري الفعلي. وعلينا أن نجيب عن جملة من الأسئلة لعل أهمها الأسئلة التالية:
1-هل كان ما حققته الثورة المضادة ناتجا عن دهاء خارق للعادة أم لأن الإسلاميين الذين أوصلتهم الثورة للحكم استخفوا بخطة العدو فلم يضعوا استراتيجية تلغي سلبا فاعليتها وتحقق إيجابا الأهداف المرسومة للصلح بين القيم الأصيلة المتحررة من رواسب الانحطاط والقيم الحديثة من شوائب الاستعمار باعتبار ذلك هو شرط تحقيق أهداف الثورة؟
2-وهل طبيعة هذا المسار الثوري الفعلي الذي قد ينتج عن الموجة الثانية من الربيع العربي هو التحرر من بقايا الانحطاط والاستعمار اللذين يتألف منهما الحلف المضاد للثورة فيكون في آن دفاعا عن القيم الأصيلة المتحررة من الانحطاط مرجعية روحية توحد الجماعة ودفاعا عن الشرعية الديموقراطية نظاما سياسيا ينظم وجودها السياسي والاقتصادي والثقافي والتربوي فيحقق أهداف الثورة من حيث هي تحديث أصيل متحرر من التوظيف الاستعماري للقيم الحديثة؟
3-كيف يمكن بناء استراتيجية توحد بين هذين الوجهين من السعي إلى هذه الأهداف وجه الجماعات التي تنطلق من تحرير القيم الأصيلة من الانحطاط ووجه الجماعات التي تنطلق من تحرير القيم الحديثة من الاستعمار فتلتقيان لتتحدا على هدف واحد هو تحرير الأمة من التبعية في هذه المجالات جميعا فلا يعادي الإسلامي الحداثي ولا يعادي الحداثي الإسلامي؟
4-وعندي أن السؤال العيني والدقيق هو التالي: هل يمكن تحقيق المستقبل من دون جعل العمل فيها استكمالا لما عجز دونه الماضي إذا كان القيام به ضروريا سواء كان إيجابيا أي ما ينبغي تحقيقه أو سلبيا أي ما ينبغي منع حصوله ؟ وماذا يمكن أن يكون هذا الذي يمثل الإيجاب عدا تحقيق الصلح بين نوعي القيم ؟ وماذا يمكن أن يكون هذا الذي يمثل السلب عدا التحرر من الحائلين أي الانحطاط الذي حل بحضارتنا والتشويه الذي حل بالحضارة الحديثة ؟
5-وذلك ما يمكننا من الجواب عن السؤال الجامع فنربح المعركة الحاسمة ضد الثورة المضادة: ما الذي ينبغي فعله حتى نثبت أن إيماننا بأن النصر آت لا ريب فيه رغم ما يبدو عليه الحلف بين الفاعل والممول والحامي من قوة قد يراها ضعاف العزائم لا تقهر وهي في الحقيقة أوهى من بيوت العنكبوت ليس مجرد إيمان بل هو حقيقة قابلة للإثبات عقلا وبمقتضى التجربة التاريخية للثورات؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق