أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2014.05.01
تكوينية الانحطاطين
كم يألم المرء عندما يشهد انفجار الأحقاد بين فئات شعب واحد تعايشت لعشرات القرون بل ولآلافها. فقد تسالمت شعوب الأمة وقبائلها وتآلفت بعد أن تحددت قواعد تعايشها تحددا جعل ما يصل بينها مسارب سالكة تتعالى على ما بينها من فروق لأنها باتت تقدم الوحدة الروحية والعقدية على الفروق العضوية والثقافية التي تحط من الإنسان بأن ترده إلى تاريخه الطبيعي مثله مثل أي حيوان وتنفي عنه السمو إلى التاريخ الروحي للإنسان المكرم والمستخلف.
لم تعد الفروق العرقية أو العقدية أو اللغوية -رغم بقائها مؤثرة دون شك وخاصة في لحظات التردي التاريخي للأمة-مانعة بينها والانتساب إلى نفس الجماعة المتماسكة وخاصة في التصدي للعدو الخارجي: بجميع أدينانها وفرقها وعرقياتها ولغاتها في دار الإسلام عندما كان لأصحابها القدرة على العمل من أجل مشروع فاعل في التاريخ الكوني عماده الرسالة التي حددها القرآن الكريم في آيتين يجدر التذكير بهما:
أولاهما تحدد مبدأ الأخوة البشرية الشاملة: الآية الأولى من سورة النساء: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. إن الله كان عليكم رقيبا".
والثانية تحدد شرط رعاية هذا التآخي الشامل ومعيار الحفاظ عليه: الآية 13 من الحجرات:" يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
ثم حصل الانحطاط الأول أو انفجار هذه اللحمة فآلت الجماعة إلى فوضى حرب الكل على الكل. ذلك هو الانحطاط الأول الذي حاولت حركة الصحوة والنضهة التغلب عليه فأرجعت وإن بصورة هشة البعض من هذه اللحمة على الأقل للصمود أمام الهجمة التي بدأت وتواصلت خلال هذا الميل إلى الانحطاط حتى بلغت ذروتها في الاستعمار الشامل لدار الإسلام كلها.
وكانت مقاومة هذا الاستعمار أول اختبار لتصفية الصف الإسلامي والتمييز بين المقاومين لهذا الانحطاط والذين أصبحوا عملاء للإستعمار هدفهم تعميقه والمحافظة على الجغرافيا التي يريد فرضها لمنع شرط القوة المادية والتاريخ الذي يريد صوغه لمنع القوة الروحية.
ومن المعلوم أن هزيمة أي أمة لا تتم ما لم يتم القضاء على روحها التي تتجسد في تاريخها. وهذا هو الانحطاط الثاني الذي أصاب العلماء من النخب والأنظمة والذي يمكن نسبته إلى المرحلة الاستعمارية من تاريخ المسلمين: تكونت فئات وأظمة صارت تتعامل مع الشعب بوصفه "انديجان" (أهالي متخلفين) وتعتبر نفسها متممة لمهمة المستعمر بهذا المنطق قتلا لمقومات قيامه الروحي ومن ثم لتحقيق الهزيمة النهائية للحضارة العربية الإسلامية بمحو شروط قوتها المادية والروحية.
رسالة الشباب الثورية
فكيف نحدد رسالة الشباب الثائر الذي نرى فتياته وفتيانه في ميادين مصر وساحات تونس ومقاومات ليبيا وسوريا؟ يكفي أن نحدد طبيعة التحدي لندرك طبيعة هذه الرسالة. ذلك هو مطلوبنا في هذه الأسئلة التي لا أتصرو أحدا يتابع تاريخ الأمة وخاصة مآله في لحظته الراهنة التي نسميها ربيعا عربيا وهي في الحقيقة صحوة ضمير الإنسانية ممثلا في وعي شباب الأمة الشاهدة على العالمين. وهذه الأسئلة تهف إلى فهم هذا الانفجار العالمي المقبل من منطلق بدايته الإسلامية لبيان علاقته بما اصطلحنا على تسميته بالانحطاطين:
1- الذاتي الوارد من ماضينا بعد أن جفت روحانية الإبداع وارتخى التعالي على ما دون الرابطة الإسلامية
2- والأجنبي المستورد من حاضرنا الذي يسيطر عليه الاستعمار وعملاؤه الذين يريدون تأبيد الجغرافيا والتاريخ اللذين فرضهما لتفتيت المكان شرط القوة المادية وتشتيت الزمان شرط القوة الروحية أي أعني مجالي تعين الهوية من حيث هي كيان فعلي يجمع بين الوجود في الأذهان والوجود في الأعيان:
1-فهل عودة الاقتتال الأهلي في الجماعة بعد النجاح الجدي للصحوة والنهضة خلال القرنين الاخيرين في إحياء الرابطة الروحية بين المسلمين ومن ينتسب إلى مجالهم حتى وإن لم يكم مسلما وخاصلة خلال مقاومة الاستعمار المباشر هل هذه العودة مجرد هزة عابرة علتها العودة إلى الحياة التي حركت بعض بقايا السبات الشتوي الذي مرت به الأمة خلال عصر الانحطاط كما قد يمكن أن يكون مدلول الثورة بسبب الدس الاستعماري الذي أوعز للأقليات المتقدمة عليه والتي نشأت بسببه أنه حاميها رغم أنه حراميها ؟ فيكون المشكل هو طبيعة ما تتم إليه العودة.
2-وهل هو فشل ما تحقق من تجاوز للفروق التي لاءم بينها الانتساب إلى الإسلام ومن ثم العودة ما قبل هذه الملاءمة عودة الأمة إلى العصبيات الجاهلية والشعوبية؟ ذلك ما يمكن أن يفهم من الحلف الواضح بين الكيانات العسكرية التي أسست وجودها على أمرين كلاهما مناف لهاتين الآتين (القومية والعودة إلى تاريخ ما قبل الإسلام) والكيانات القبلية التي أسست وجودها على أمرين كلاهما مناف لهاتين الآيتن (الحلف بين فرعون وهامان وتقاليد البداوة).
3-أم هل هو المرحلة الاستعمارية التي عمقت ما بين هذه المكونات المتنوعة لتنقلها من دورها الإثرائي إلى دور الفرقة والفتنة التي جند لها البحث العملي الموجه (الاستشراق) ثم الممارسة التمييزية خلال المرحلة الاستعمارية لخلق عداوات يعصب التحكم فيها لأنها باتت مشروطة بطلب الحماية الأجنبية لهؤالاء الذين نالوا الامتيازات وهم عادة أقليات حكمت في الأغلبية التي يستهدفها الغزو؟
4-أم إن هذا الاقتتال يعني أن الجمع بين الانحطاطين أصبح هو الغالب وعلينا أن نعيد من جديد بناء اللحمة الإسلامية بمعنى هاتين الآيتين من خلال بعث الوظيفة الرسالية للأمة لأن الاقتتال لم يعد القاعدة في أرض الإسلام وحدها بل هو منطق العصر في العولمة التي هي عهد من العبودية جديد: الأسياد هم المتحكمون في القوة المادية وشروطها المعرفية والعبيد هم كل من سواهم؟
5-أم هل نحن بذلك في اللحظة التي أصبحنا فيها مدركين لمعنى الشهادة على العالمين مضمونا متعينا ليس في الأدواء التي تعاني منها الإنسانية فحسب بل في كون هذه الأدواء تصيب بالأساس قوة المستقبل في جميع الحضارات أعني الشباب ذكورا وإناثا ليس في العالم المستعمر والمستضعف فحسب بل في كل العالم لأنهم هم المستضعفون فيه حتى في البلاد المزعومة متقدمة.
ذلك هو التحدي الذي على شباب الثورة فتيات وفتية أن يدركوا أبعاده حتى يعلموا أبعاد المهمة التي لهم شرف القيام بها ليس لإنقاذ الأمة وحدها بل لفتح آفاق جديدة للبشرية تحررها من العبودية الجديدة خاصة إذا توجهوا برسالتهم إلى شباب الأمم المزعومة متقدمة لجعلهم ينجاوزون إلى صف الثورة خاصة وهم يعانون نفس ما يعاني منه شبابنا حتى وإن كان التغييب الإعلامي والثقافي في الغرب ما يزال مخفيا عنهم هذه الحقيقة.
فما ثار من أجله الشباب في دار الإسلام هو ما ينبغي أن يثور عليه كل شباب العالم وذلك ما يجعل شباب قادة للثورة العالمية التي بدأت مع الربيع العربي والذي يحيلنا حتما إلى أن الربيع الإسلامي الأول كان عربيا وكان منطلقه من أزمة العصر ضد إمبراطوريات الاستعباد: الحكم المافياوي في خدم الاقتصاد الربوي اللذين يوظفان التربية التدجينية والثقافية الاستلابية من أجل محو كل تسام روحي وخلقي للإنسان حتى يقبل الخضوع لقانون التاريخ الطبيعي فيخلد نهائيا إلى الأرض ويصبح خاضعا لقانون القوة بدلا من قوة القانون والعدل والأخلاق: رسالتهم هي الرسالة التي عرف بها النبي الخاتم مجيئه:"إنما أتيت لأتمم مكارم الأخلاق" في العالم كله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق