بسم الله الرّحمان الرّحيم
... و حين تتقيّأ الأمّة هذه العلمانية الماكرة و تلفظها باعتبارها كفرا و ظلما و فسقا أي باعتبارها حالة استيطانيّة متسلّطة ليست من الأمّة في شيء.. حين تبدأ الأمة في التحرّر بعد كل هذه المعاناة و تولي وجهها شطر الحلّ و الفرج بصدق توبة و عزيمة تجد أمامها الوجه الثاني للمأساة أي التسلّط بالدّين زورا و بهتانا ما يعطّل روحانيّته العالية و طاقته الكفاحيّة الصادقة من كونه مشروع خلاص فرديّ و جماعيّ.. فكيف لا يحزن المرء و لا يعتصره الألم و هو يرى أمّهات المفاهيم و الأحكام الاسلاميّة موضوع اختطاف من فريقين يسدّون الأبواب في وجه الأمّة:
الفريق الأوّل.. المسمّى بالإسلام الوسطي المعتدل الذي يعتمد أصحابه مغادرة الوحي بما هو نصّ مبين تستنبط منه تكاليف عينيّة بأدلّة تفصيليّة ما يجعله فعلا الهادي و النور و الشفاء و الحجّة الدامغة على الكافرين به أو الرافضين لأحكامه.. فيستبدل هذا الفريق الوحي منهجا و نصّا و أحكاما بمجرّد نوايا و مقاصد و قيم عامّة غائمة لا تكاد تبين.. و لأنّ النوايا و المقاصد هي أمر زئبقي فضفاض نقيسه و لا نقيس به فانّ الاسلام يصبح بمقتضى ذلك أسير أهواء الموصوفين بالمعتدلين يقبلون به الأمر و نقيضه فيؤسّسون كهنوتا خاصّا اي يتلاعبون بأحكام الاسلام تنازلا و تأويلا و تعميما و تعويما فيصبح الاسلام رهن التأويل لا التفسير و رهن احسان الظنّ في " سيدي الشيخ" لا الدليل التفصيلي القائم بقواعد اللّغة أي خطاب الشارع... هو كهنوت يرهن الدّين بالزّعماء و القادة المفترين.. ما يفقد الاسلام طابعه المنهجي المنسجم من كون الآمر فيه هو الله تعالى وحده بأمر شامل و مفصّل يكفي يوم القيامة للمحاسبة و ما يفقد الاسلام طبيعته الكفاحيّة من كونه لا يهادن الباطل و الظلم فإذا بالطرح المعتدل يتكيّف و بسرعة عجيبة مع المختلفين بل مع الخصوم و الأعداء.. فلا حرج عندهم أن يقولوا لعقود "الاسلام اشتراكي" و "الاسلام وطني يكرّس الوطنيّة" و "الاسلام ليبرالي لا يرفض العولمة" فاذا بكهنوتهم ( الاسلام الحداثي) عوض أن يكون النقيض النوعي للرأسمالية العفنة التي سامت العالم سوء العذاب اذا به يقدّم كلّ التبريرات و الاعتذارات و الفتاوى.. فيصبح الاسلام المظلوم المتسلّط عليه باسم الاعتدال و الوسطيّة "ديمقراطيّا" بآخر صيحة ليبراليّة.. فكلّ ما أقرّه الانسان المشرّع هو قانون مقبول ساري المفعول و ان كان شذوذا أو عقوقا أو ظلما و طغيانا..فالباطل و الظلم ان وقع تقنينه فهو شرعي و حاكم و نافذ..
و هكذا من درك الى درك.. و من عثرة الى منزلق..الى هاوية و من نتائج هذه الحالة المسخ التي أوّل عدوانها هو الاعتداء على دين الأمّة و على منزل الوحي حجّة على العالمين.. من أوّل نتائج هذا الخطاب الترقيعي الملفّق بزعم الاعتدال و الوسطيّة أنّه عاجز تماما عن الاضطلاع بالمهمّات التاليّة:
1-الاستجابة لأمر الله و رسوله بتطبيق الاسلام حاكما غير محكوم " و ان احكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم"
ما يجعل القائمين و الناطقين باسم "الوسطيّة" مشمولين بجريمة العلمانية أي فصل الدين عن الحياة أي عن الدولة التي تطبّق الاسلام في الحياة نظاما و علاقات. فالإسلام في ذمّتهم نوايا و مقاصد و تأويلات لا يرجّح واحدة منها على الأخرى الاّ "كهنوت" القيادة.
2- لا يقدر هذا الخطاب على مواجهة" الإرهاب المتمثّل في بعض التيارات المتنطّعة..ببساطة لأنّ "الاسلام المعتدل" غادر الارضية الاسلامية و لم يعد يحمل قضايا المبدأ و الأمّة أي لم يعد مضطلعا بالواجب و هذا لا يقنع اي مسلم او اسلامي يكابد واجبات الأمّة بمعنى آخر لا يعطي هذا الفريق للحائرين و المتنطعين الجواب الصحيح عن أسئلتهم ضمن منهج الاسلام حتّى يتركوا "العمل المسلّح" الذي انجرّوا اليه.. لن يسمعوا من هؤلاء الاّ أنّ الاسلام "متسامح" و "مسالم" و مرادف ذلك أنّه تابع غير متبوع أي ذليل بين يدي نظام علماني..
و هذه مهاترة لا تسمن و لا يغني فضلا عن كونها لا ترضي ربّ العالمين.
3- هذا الخطاب الوسطي المعتدل المنحني المتنحي عن كل الواجبات لا يقدر على القيام بواجب حماية الأمّة و البلد من هذه الأمواج الكاسحة الاستعماريّة التي تلتهم كلّ حقوقنا.. لماذا؟ لأن هذا الخطاب المعتدل الوسطي و المكيّف لم يخضع هذا الخضوع الاّ لارضاء الغرب و تحت ضغطه ليدخل أصحابه نادي السياسة و السياسين و تشملهم الدوائر الدولية..فكيف يحاربون الغرب وليّ نعمتهم و من يسترضونه حتّى يرضى... و هكذا يتخلى هؤلاء عن واجب تحرير الأمّة و يفقد خطابهم عمدا طابعه الكفاحيّ و استماتته في انتزاع الحقّ و الأدهى أنّه يمكّن للاستعمار باسم الحداثة و المجتمع المدني و الحريّات و حقوق الانسان أن يعبث بمنظومتنا القيميّة و التشريعيّة فيعطّل مكامن القوّة فينا و مراكز المقاومة و الدّفاع و المناعة دون جناية يحتملها و لا حرج .. يفعل ذلك بدعوى التماثل و التماهي بين الاسلام و قيم الحداثة أي الليبرالية أي النظام الرأسمالي قاتل الشعوب و قاهرها ..
تصوّروا هذه الحالة المسخ: الاسلام المعتدل يمهّد و يبرّر و يدعم العدوان على الأمّة و دينها.
أمّا الفريق الثاني:
المتسلّط بالدين فتمثّله جماعات متهوّرة عذرها الوحيد الحماس المفرط..يتورّطون في مشروع الفتنة من حيث يعلمون أو لا يعملون فيستسهلون التكفير و يستسهلون قرار القتال و القتل اذ في ظلّ غياب التقيّد الحقيقي و التفصيلي بالحكم الشرعي بلا هوى في الزيادة و لا النقصان يتصوّر هؤلاء أن "تقواهم و صدقهم" كافية لتقيس الأمور وكافية لتجعل كلّ أفعالهم مبرّرة طالما هي نصرة للاسلام و المسلمين .. و يظنّون أنّ مفهوم الجهاد في سبيل الله بما هو فريضة عظمى و بما هو سنام الاسلام و بما هو شهادة في سبيل الله و ما اعظمها مرتبة كاف لجعل كلّ اعمالهم العسكريّة و السياسيّة صوابا .. و هكذا نجد أنفسنا أمام نوع آخر من التسّلط بالدين فيغيب الفقه التفصيلي و تحضر الفتاوى العاجلة و الحاسمة التي لا ترضي رب العالمين ..
زائد أنّ أوّل اقتضاء الحماس و التسرّع هو الغفلة و هي الباب الذي يحسن الغرب الدخول منه لإرادة اللّعبة بهم أو عليهم .. و تدخل الأمّة في حركة لولبيّة تنتهي بالخوف و الإحباط.. و حين يغيب المقياس تحلّ الفتنة و حين لا يقوم المسلمون بواجبهم على أحسن وجه حكاما و علماء يقوم الفراغ بواجبه على أسوأ وجه فيبدع الاعلام الغربي و اتباعه في تعميم عنوان الارهاب على الأمّة و اسلامها العظيم فعوض أن تكون السائلة تصبح المسؤولية و عوض أن تكون الطالبة تصبح المطلوبة...
البديل عن التسلّط العلماني على الدّين و البديل عن التسلّط بالدين هو التقيّد بالحكم الشرعي و الالتزام بأحكامه بأعلى درجات الانضباط الفقهي دون استخفاف بالإسلام العظيم لأنّ في اسلامنا ما يكفي لإقامة أمّة خير قيام صدقا و حقا و عدلا وما يكفي لتحديد طريقة الاصلاح و التدارك و ما يكفي لتحرير أمّة بإقامة دولة الاسلام دون ارهاب الناس بل بارادتهم و دون التعالي عليهم و العبث باسلامهم الحق بدين وضعي محكوم بالمقاصد و النوايا منعوت بالمعتدل والوسطي...
رضا بالحاج
جريدة التحرير العدد التاسع
_______
الصفحة الرسمية للأستاذ رضا بالحاج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق