ابو يعرب المرزوقي
تونس في 2015.01.25
أكثرت من تحذير الثوار عامة والإسلاميين منهم خاصة من الوقوع في فخ المشاركة في حكم النداء إلا بشروط التناسب بين الأوزان الانتخابية لعلمي أن ذلك مستحيل التحقيق حتى يتفرغ الثوار للموجة الثانية القادمة حتما. لكن البعض من الطامعين -وقد كتبت في الطمع بوفاضح-تحولوا إلى متسولين للمشاركة فوضعوا حزب النهضة في مأزق وما أراه كذلك بل هو مخرج مشرف: النهضة تستطيع أن تدعي أنها مدت يدها لحكومة وحدة وطنية ولم تقبل بأن تكون كومبارس. لذلك فإقصاء النهضة من الحكم اعتبره نافعا وإن رأي فيه غيري ضررا.
وهو نافع إذا علمت القيادات كيف تعارض بهدوء حتى تترك الحزب صاحب الأغلبية يجرب الحكم-وأن تساعد فتحول دون سقوط الحكومة حتى لو أرادت الهروب من المسؤولية وتحميل النهضة مسؤولية فشلها بتركها تسقط- فيحاكمه الشعب على النتائج. فسيتحرر الشعب من اساطير الكفاءة والخبرة المزعومتين وخاصة بعد أن فضحت الثورة هذه الأكاذيب بما تقدم عليها وحتى بما تلاها في مرحلتي حكم الباجي والكفاءات المزعومة (الدينار فقد في المرحلة الأخيرة 30 في المائة من قيمته): فالحلف بين التجمع واليسار دام عقودا وليس جديدا حتى وإن كان متخفيا عن طريق الاتحاد. ونحن نرى نتائجه.
لكن لا بأس فلا بد من دليل ثان يكون مفحما: لذلك فعلينا تمكينهم من فرصة أخيرة وتمكين غيرهم من التكوين اللازم للتداول الممكن. فعلى الثوار عامة والإسلاميين منهم على وجه الخصوص أن يتعلموا العمل السياسي الميداني في المحليات والجهويات والمجتمع المدني بصنفيه استعدادا للتداول السلمي إن احترم الحزب الحاكم شروط ذلك أو للمقاومة بشروطها إن عادت حليمة لعادتها القديمة. وما أظنها بقادرة على ذلك لأن الشعب بعد الثورة غير الشعب قبلها.
ولنا صنفان من المبشرات بالنصر شبه الحتمي:
1-أولا الغرب له "قطط أخرى عليه جلدها" ولم يعد قادرا على تدليل عملائه ممن يريدون اقناعه بأنهم يواصلون مهمته التحضيرية. فيكفيه ما يعاني منه من أزماته الذاتية خاصة وهو بدأ يدرك أن جرائم الأنظمة التي كان يحميها من أسباب مشاكله التي باتت داخلية وليست خارجية: ما تعاني منه أوروبا اليوم أشبه مما كانت تعاني منه أمريكا قبل الحسم في سياسة الميز العنصري لديها.
2-ثانيا حتى مموليهم من الأنظمة التي تظن غنية بدأت خزائنهم تنضب ولن يجدوا إلا بعسر ما يسد حاجاتهم التي هي عين ما يطلبه الغرب لاستعمارهم بزعم حمايتهم من الغولين اللذين أحدثهما لهذا الغرض: الصهيونية والخمينية. لذلك فممولوهم يكفيهم ما بهم من مشاكل. ولعل مهادنة الثورة تخفف منها خاصة والغرب نفسه لم يعد قادرا على مقاومة الثورات الشعبية في كل مستعمراته السابقة. فالعالم كله يغلي على خبائث العولمة التي هي الاستعمار غير المباشر بصورة نسقية وبحكم دولي يدعي حماية السلم وهو في الحقيقة لا يحمي إلا هيمنة نصف سبع الإنسانية الذي بيده أربعة أخماس السلطان الدولي (مجلس الأمن).
المهم بالنسبة إلى الثوار هو النفس الطويل والإقدام على التكوين النسقي لجيل له القدرة على التحقيق المنهجي لقيم الثورة بدءا بذاته لتكون قادرة على المقاومة ذات الأخلاق الرفيعة أعني ما يعتبره القرآن الكريم أخلاق الشهود على العالمين. لا يمكن أن تكون شاهدا على العالمين إذا كنت مواصلا لمنطق التاريخ الطبيعي حيث يقتتل الناس على أدنى الحقوق كما تتقتل الحيوانات على الأعلاف: ولا يمكن ان تؤسس دولا قادرة على وظيفتي الدولة حماية ورعاية إذا كنت تريد مثل الأجيال السابقة البقاء في محميات جوهرها ليس قابلية الاستعمار فحسب بل عين التبعية لمستعمر يمتص دماء شعبها ليحمي مافيتها.
أما لماذا أنا واثق من أن الاختبار القادم سيكون ساحقا ماحقا لكل أدعياء الخبرة والتجربة في الحكم لأنهم مهما فعلوا لن يستطيعوا ترقيع ما خلفه نصف قرن من التخريب النسقي لوظائف الدولة في الحماية (العدل والأمن والدبلوماسية والدفاع و اصل ذلك كله أي الاستعلام والإعلام السياسي) وفي الرعاية (التربية والمجتمع المدني والثقافة والاقتصاد و أصل ذلك كله أي الاستعلام والإعلام المعرفي): ما بقي من مقومات الدولة هو هذين الجهازين الخربين اللذين يزيفان الحقائق باستعلام وإعلام سياسي كله كذب وباستعلام وإعلام معرفي كله جهل بالحقائق العمرانية والطبيعية.
لذلك فمهمة الثورة ليس الوصول إلى الحكم بنفس هذا المنطق بل تغيير الأخلاق العامة التي نتجت عن نصف قرن من الإفساد بسبب الاستبداد والتسيير المافياوي المعتمد على فترينة يحاول بها العملاء بيان تشبههم بحاميهم في مستويات الحكم الخمسة: السياسي والتربوي والثقافي والاقتصادي والإيديولوجيا المؤسسة لذلك كله: دعوى التحديث بمنطق المهمة التحضيرية استكمالا لسياسة المستعمر المسخ من أجل الهضم أو استعباد الانديجان والسود كما حدث للهنود الحمر ولسكان استراليا وافريقيا ما دون الصحراء التي اصبحت مجرد ولايات تابعة للمستعمر في شكل دول موزية. وحتى هذا لم يعد الاستعمار قادرا عليه لأن شعوبه ذاقت ذرعا بمافياتها هي بدورها ومهما فعلوا من استفزاز لها حتى بما يختلقونه من بشاعات إرهابية فإنه أصبح لا ينطلي على احد.
والمعلوم أن أساس ذلك كله هو إيهام هذه النخب العميلة أنها تنتسب إلى دول وطنية. وهي في الحقيقة محميات وليست دول لأن من شروط بقائها أن تكون توابع في الحكم والتربية والثقافة والاقتصاد والحصانة الروحية. والغرب الذي يشجع هذا التفتيت يجمع شعوبه في ما يشبه روما الجديدة حتى يتمكن من السيطرة من جديد على مستعمراته المباشرة سابقا وغير المباشرة حاليا. فوجود هذه المحميات ونخبها العميلة بات وجود الظل الذي يتحدد بصاحبه وليس له من ذاته أدنى قيام ذاتي بعد أن أصبح يتصور وجوده فاقدا لقيمة ذاتية ولا يستمد قيمته إلى من محاكاته لسيده: العبودية الروحية أو الاستعمار الذهني لكل من يتصورون أنفسهم حماة لما يسمونه المكتسبات الحداثية أعني الحداثة القردية بخلاف الحداثة المبدعة للشعوب التي تحررت فعلا فأصبحت من كبار المشاركين في تحديد آفاق البشرية أعني أقطاب آسيا التي تحررت في نفس التاريخ وأصبحت عمالقة في حين أن بلادنا تزداد تقزيما وتبعية حتى في معاشها اليومي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق