Hot

السبت، 31 يناير 2015

ما الذي يعطل تأليف الحكومة؟

abouyaarebmarzouki

أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2015.01.31

يمكن أن نرجع مراوحة المشاورات لتكوين الحكومة بعد الاجهاض الأول أو الحمل الكاذب الأول إلى عوامل سطحية ليست معطلة إلا في الظاهر. فهي تضخم لتخفي العوامل المعطلة الحقيقية التي نريد الكشف عنها هنا. 
وبذلك يكون الموقف من مشاركة الإسلاميين وكل من له إيمان بقيم الثورة فيها أو عدمها مبنيا على أسس صحيحة: وهذه العوامل الحقيقية هي التي جعلتني أصف المشاركة بالصورة المقترحة بدور التياس أو المحلل.
فالمشاركة لا تكون مشروعة إلا إذا التزم النداء ببرنامج الثورة صراحة. ذلك أن برنامج ما يسمونه "الاسرة الديموقراطية الحداثية" إخفاء صريح لما يمكن ترجمته في دلالته المقصودة حقا "الاسرة التي تواصل مهمة التحضير المستبد للانديجان بمنهجية تجفيف المنابع" استفادة من المناخ الإقليمي والدولي الذي يتهم كل إسلامي بالإرهاب إذا رفض التحديث التابع وأراد القيام ببناء شروط التحديث المستقل والندي الذي من جنس ما حصل في الشعوب التي تحررت في نفس التاريخ وأصبحت قوى في حين أن ما يعدوننا به جربوه ستين سنة فكانت النتيجة ما فضحته الثورة ويريدون التنصل منه ونسبته إلى سنتي حكم الترويكا.
عاملان سطحيان
1-العامل الأول:
هو موقف اليسار الذي يوجد خارج النداء أعني الجبهة المؤلفة على الأقل من ثمانية أحزاب (5 قومية أي البعثان والناصرية والقدافية والتي تحاول الجمع بينها+ 3 يسارية على الأقل) تتقاسم 16 نائبا. لكنها مع ذلك تبدو قد تحولت إلى العامل المحدد في خيارات النداء لتأليف الحكومة. فهذا اليسار لا يستمد وزنه من ذاته إذ هو لا يمثل اي قوة سياسية جديرة بالاعتبار في أي نظام ديموقراطي حقيقي -فلو كان النظام حقيقيا لوضع حدا أدنى للتمثيل الذي يقبل الحضور في البرلمان-بل وزنه مستمد من اليسار المندس في النداء. 
فهذا الأخير يريد سندا في تنافسه مع ما بقي في النداء من التجمع وبعض الدساترة حتى يضمن ولاء الاتحاد ويتمكن من الجمع بين السلطانين السياسي والنقابي فتعود الوضعية إلى ما كانت عليه في عهد ابن علي ولكن بقيادة يسارية واضحة تعتبر التجمعيين مجرد عسكر كشبور يصلح للحملات الانتخابية وللقوادة للأجهزة التي يسيطرون عليها.
2-العامل الثاني:
هو موقف بعض قيادات النهضة المخزي بل والجبان حتى وإن كان لخشيتهم من البقاء خارج الحكم ما يبرره ظرفيا لتجنب الحرب عليهم وعلى الإسلام. فالنهضة تعلم أنها لن تكون مستريحة في المعارضة ليسر اتهام أي سلوك معارض للإسلاميين بأنه مشاركة في تشجيع الإرهاب. وهي تهمة يسيرة الإلصاق بأي إسلامي حتى لو كان غاندي الموقف. ويكفي لفهم ذلك ما نلاحظه من قابلية الشعانبي الآن إلى أن يعتبر منتزها لعل البلفيدار أقل أمنا منه. 
كما يكفي تخريف اليسار المزعوم باتهام الإسلاميين بقتل زعمائهم جاعلين من البلاتوهات التلفزية محاكم بديلا من القضاء الذي يريدون جعله في خدمة دعاواهم بدلا من الحرص على استقلاله. والغريب أن أبواق هذه الدعاوى محامون من واجبهم المهني الحرص على قيم العدالة واستقلال القضاء والتحفظ الذي يحول دون جعلهم قضاة ومتقاضين في آن.
لكن الاتهام السهل والدعائي لدى أحزاب لا شعبية لها مهما كان محتملا بل وحقيقيا فإن النهضة ينبغي أن تتمسك بموقفها الصامد وألا تجري وراء النداء المتمنع -والذي يحتج بأن الشعب اختاره ليحكم وينسى أن ما يمنعه من ذلك ليس النهضة بل عجزه عن علاج ما سنصف هنا. 
على النهضة ألا تسعى للحصول على بعض "التابوريات" بدعوى سخيفة هي الحرص على المصلحة الوطنية لأنها ستؤتى من هذه المشاركة فغيرها في المعارضة سيفقدها الشرعية التي بها يمكن أن تصل إلى التداول على تحقيق المصلحة الوطنية.
ذلك أن هذا الحرص لا بد له من برنامج تشارك في صوغه وإلا فوجودها في الحكم شكلي خالص ولا دخل له في ما عليه تحمل مسؤولية فشله الأكيد. فأن تدخل في حكومة لتطبيق برنامج من يسعون إلى نقيض ما تسعى إليه لا يمكن أن يعد في الصالح الوطني بل فيه مخادعة لناخبيها وشبه تنكر لمصلحة الوطن: فالنداء بشقيه الأكبرين لا تعنيه لا مصالحة الشعب مع ذاته ولا تحريره من التبعية بل التبعية عنده هي مكتسبات الحداثة الجامعة بين مكونات ما يسمونه بالأسرة الديموقراطية الحداثية أي مهمة ورثة الاستعمار التحضيرية للأنديجان .
وليت الأمر كان خطة هدفها إحراج النداء وجعل صفيه الأكبرين في خلاف قد يحتدم فيزيد صف الحزب الذي هو مليء شقوقا اضطرابا على اضطراب ويخلق له عقبات كما قد يبرر ذلك التنافس الحزبي المشروع في الديموقراطية لأن كل ما يضعف الخصم سلميا وسياسيا يعد أمرا مشروعا في التنافس السياسي ولا يسمى تآمرا. لكن ذلك ليس كذلك . فلو كان كذلك لوضع شروطا تعجيزية حقا لا القبول بما يقدم من فضلات موائد التأليف الذي سنرى علل تعطله الحقيقية.
عاملان عميقان
1-العامل الأول والمباشر:
هو سن السبسي وصحته: فالجماعة في النداء تتصارع ليس على الحكومة لذاتها بل عليها بما هي اختيار مواضع مساعدة لهم في التسابق الذي أعلنت عنه صفارة معركة الخلافة من بداية العهد. ومن لم يفهم ذلك فهو بحق يتجاهل أن عهد السبسي قد بدأ بما انتهي به عهد بورقيبة: أرذل العمر مع مافية محيطة بصاحب السلطة الاسمية. لذلك فكل ما يزعم من إشكال في تأليف الحكومة لا معنى له إذا أرجعناه إلى العاملين السطحيين ونسينا هذا العامل العميق الأول. وهذا العامل لشدة ظهوره يغفل عنه الكثير ككل الحقائق الدامغة التي يتغافل عنها الناس إما بسبب فقدان البصر والبصيرة أو للتعمية.
2-العامل الثاني تكوين النداء نفسه: 
فهو من حيث القاعدة على الأقل في بدايته كان جهاز حرب على الترويكا لإسقاطها وخاصة لاسقاط النهضة. ومن ثم فمشروع النداء كان عودة إلى الجمع بين مكوني الطبقة السياسية التونسية منذ الاستقلال وخاصة بعد عودة اللحمة بين الاتحاد والتجمع وتجاوز صدام الخلافة الأول (الصياح - عاشور 1978) لتقاسم الحكم مع تقدم أجهزة ابن علي على أجهزة الاتحاد إلى أن فسدت العلاقة فسادا جعل الاتحاد يشارك في انتفاضة الشعب أي الثورة الحالية ثم مباشرة تصدى لما أسفرت عنها فانحاز للثورة المضادة مقابل ما وعد به من دور يمكن اعتبار ما أدى إليه من مساومات من عناصر التعطيل الحالي في تكوين الحكومة. ذلك أن هذه العودة تحولت إلى علاقة مقلوبة لأن التقدم والسلطان أصبح من حظ اليسار بسند من الاتحاد ولم يبق للتجمعيين إلا دور العسكر الذي يقوده جنرالات يساريون.
وذلك في الحقيقة هو سر دورهم في الثورة وفي ما بعدها: أي إنهم ثاروا لأن ابن علي وخاصة ليلى بدآ يبحثان عن ترتيب جديد يعد لفترة حكم آخر يمكن أن يكون بصلح مع الإسلاميين على حساب اليسار الذي تآكل دوره وخاصة بعد عمله بمنطق "ركبوه على البهيم مد يد للزنبيل" إذ حدث ما يشبه صراع الصياح-عاشور عندما فكر السحباني في الترشح للرئاسة مع كثرة الكلام على مرض ابن علي الذي أصبح يعامل من قبل اليسار الذي أبعد أكبر مفكريه المزعومين (محمد الشرفي) كما عومل بورقيبة في نهاياته.
العامل الجامع
ما العامل الجامع بين هذه العوامل الأربعة السطحية والعميقة؟ 
إنه نفس العامل الذي انتهى به عهد بورقيبة أو نهاية دور الشرعية التاريخية الزائفة التي تريد أن تنهي وحدة الأمة الجغرافية والتاريخية بإلحاق تونس نهائيا بغير مناخها الحضاري والروحي. 
فنحن أمام نهاية المحاولة التي تريد إحياء المسعى التغريبي بشرعية انقاذية, ما تحياه الثورة الآن هو بداية النهاية لطوري التغريب الذي كانت الثورة قاسمة الظهر بالنسبة إليه: 
*-نهاية طور ابن علي الانقاذي من آثار أرذل العمر البورقيبي لأنه لم يحقق ما وعد به فانقلب إلى عكسه وكانت نهايته الانتفاضة التي لم تتحول بعد إلى ثورة بحق -وكنت قد بينت ذلك منذ الأسبوع الأول بعد 14 جانفي في مداخلتي في نادي الجاحظ. 
*-نهاية طور السبسي الانقاذي من آثار أرذل العمر التغريبي لأنه أبرز أمرين الغفلة عنهما هي التي تعلل كل ما يحدث من مراوحة ليس في تكوين الحكومة فقط بل في تحديد معالم الساحة السياسية التونسية الحالية والمقبلة خلال هذه المرحلة: أبرزت صفي المعركة ورهانها في إعادة البناء الحضاري والسياسي لتونس التي مثلت بداية العودة إلى التاريخ بالنسبة إلى الأمة كلها وليس للقطر وحده.
بروز صفي المعركة المقبلة
فهذه النهاية أبرزت الصفين اللذين سيكون الصدام بينهما بداية الثورة الحقيقية لأنها نهاية أزالت جل الاحزاب التي كونت بها صف الهجوم الأول أعني ما سمته جبهة الانقاذ والحوار الوطني أعني:
1- الصف الأول: صف الذين يسمون أنفسهم الأسرة الديموقراطية الحداثية والذين يقودهم بوعي منهم أو بغير وعي -استثناء لمن دافعهم مقصور على الطمع والتقرب ممن يمكن أن يضمن لهم موقعا في المشهد السياسي مثل كل الذين غادروا أحزابهم لينضموا إلى النداء-من يقبل التشبيه ببقايا "الحركيين" في الجزائر: لا يرون تقدما ولا حضارة إلا في الاندماج السياسي والتربوي والثقافي والاقتصادي والروحي في أمهم فرنسا.
2-الصف الثاني: صف الذين يوصفون إما بالظلامية الإسلامية أو "بالمثالية الثورية" ممن يتصور أن الثورة تهدف إلى غايات مباشرة لا يمكن تحقيقها من دون شروطها غير المباشرة: فلا يمكن تحقيق الحرية والكرامة بالاندماج في المستعمر بل لا بد من البحث في شروط التحرر من التبعية شرطا في الكرامة التي هي القدرة على الحماية والرعاية الذاتيتين لأنهما هما شرط عدم الحاجة إلى مد اليد والبقاء في وضع المتسول الدائم.
بروز الرهان الحقيقي للثورة
وفي هذا الفهم لطبيعة الشروط التي من دونها لا يمكن الكلام على ثورة تحرير وتحرر. فالثورة ليست ثورة سياسية واجتماعية في الأقطار المعزولة كما حدث عندما حرفت حرب التحرير فأصبحت بسبب دهاء الاستعمار إلى حرب تأبيد التبعية لأنها خلقت أقزاما لا دولا قادرة على حماية ذاتها ورعايتها بل بات وجودها وبقاؤها رهن الحماية والرعاية الاستعمارية.
لذلك فشباب الثورة بجنسيه فهم اللعبة وهو ليس مستعدا للوقوع في ما وقع فيه الجيل السابق: إنهم يريدونها ثورة حضارية وتوحيدية لتجاوز الجغرافيا والتاريخ اللذين فرضهما الاستعمار وعملاؤه ممن يريد لأقطارنا أن تبقى أقزاما في حين هو يوحد أقطاره لتصبح قوة قادرة على تحقيق شروط التنمية التي بفضلها يمكن للدولة أن تكون قادرة على الحماية والرعاية في عصر الأقطاب العالمية وفي مناخ العولمة التي تخضع لمنطق "حوت ياكل حوت وقليل الجهد يموت".
وهذا هو المعطل الحقيقي لحكومة الثورة المضادة ليس في تونس وحدها بل هو من جنس ما يحصل في مصر وليبيا وسوريا واليمن والعراق: الثورة المضادة في تونس تريد أن تورط الصف الثاني صف الثورة معها حتى تستمد شرعية ليس من الصندوق فحسب -وهي شرعية زائلة-بل من تسليم الصف الثاني لها ومشاركتها في إحياء الانعزال عن الثورة الشاملة والاقتصار على الاندراج في الدولة المتسولة والتابعة في الحماية والرعاية. فنعود إلى اعتبار الثورة مجرد ثورة جياع يكفي أن تتداين الحكومات العميلة لترضية الحاجات النباتية لشعوب يراد لها أن تبقى تابعة بصورة أبدية في حين أن جارها في الشمال يتوحد ليكون قوة تعيد سلطان روما على الجنوب.
ومجمل القول وزبدته أننا قد عدنا إلى جوهر القضية الوطنية كما عولجت في تونس بخيارين إلى الآن لم يحسم الخلاف بينهما لصالح المصلحة الوطنية في إطار وحدة الأمة: 
خيار الثعالبي: أن التحرير في إطار وحدة الأمة وحدتها شبه الكنفدرالية أي ما يقرب من أوروبا حاليا بمعنى فتح الحدود والتعامل في مجال ثقافي واقتصادي واحد.
وخيار بورقيبة: أن يكون التحرير في إطار يفصل القطر عن وحدة الأمة ويجعله تابعا حضاريا واقتصاديا لمستعمره كما يتبين خاصة من سياسة نظامه اللغوية .
وقد حاولت من بداية الثورة أن اشير إلى أن الفرصة حانت لتجاوز هذا الخلاف وتحقيق الصلح بين الموقفين صلحا :
يحرر النخب التقليدية من تقليد الماضي الذاتي بدل إحيائه 
ويحرر النخب التحديثة من تقليد الماضي الأجنبي بدل العمل على تجاوزه.
فالاستئناف الحضاري يقتضي الجمع بين موقفين يحيي الماضي دون تقليده إلا في الموقف الإبداعي ويتبنى الحديث دون تلقيده إلا في الموقف الإبداعي. ولما كان الإبداع لا يكون تابعا بل مجددا فإنه واحد في جميع الحضارات في لحظاتها المبدعة كما أدرك سرها عبد الرحمن بن خلدون:
1-فهم دور النخبة السياسية والتربوية في تكوين صورة العمران أي بنيته القانونية والخلقية المؤسسة للفاعلية السياسية والمعرفية وتطبيقاتهما: وهذا لا يكون إلا بالتحرر من المحددات الموضوعية للتبعية الروحية أعني من التاريخ الذي فرضه الاستعمار ليعزل الأقطار العربية بعضها عن البعض حتى تصبح تابعة حضاريا وروحيا.
2-فهم دور النخبة الثقافية والاقتصادية في تكوين مادة العمران أي مقوماته الرمزية والمادية المؤسسة للفاعلية الإبداعية والاقتصادية: وهذا لا يكون إلا بالتحرر من المحددات الموضوعية للتبعية المادية أعني من الجغرافيا التي فرضها الاستعمار ليعزل الأقطار العربية والمغربية خاصة حتى تبقى تابعة ماديا واقتصاديا.
ولست أشك في أن شباب الثورة بجنسيه قد فهم هذه الشروط كما يتبين من شعارات الثورة وخاصة من شمولها للوطن كله بنفس المعاني والحركات الشبابية. عمت الثورة كل اقطار الوطن العربي ودار الإسلام. فانتفضت الثورة المضادة ضد هذا التوجه وتنكرت بدعوى حماية الثورة وأهدافها فتحالفت مع أعداء الأمة محاولة الإبقاء على الجغرافيا والتاريخ اللذين يمثلان شرط التبعية البنيوية على الكيانات الهزيلة العاجزة عن الحماية والرعاية الذاتيتين أي الدول المتسولة التي يقترحها عليها من يسمون أنفسهم "الأسرة الديموقراطية والحداثية" بمعنى المهمة التحضيرية للاستعمار وليس بمعنى التحرر من الاستبداد السياسي والتخلف الحضاري.
ونفس الظاهرة ثورة وثورة مضادة حدثت في نهاية القرن الثامن عشر و بداية القرن التاسع عشر في أوروبا فكانت البداية الحقيقية للتحديث السوي في أوروبا ولتوحيد أممها (ألمانيا وإيطاليا واسبانيا خاصة) أي المرحلة الأولى من توحيد أوروبا كلها حتى تكون كيانا قادرا على دوره في الحضارة الإنسانية بحجم العماليق التي تسيطر على العالم. أما المدافعون عن التقزيم فهم في الحقيقة يريدون عودة الاستعمار المباشر ليحمي استبدادهم وفسادهم في مواصلة استعمار شعوبهم بما هو أدهى وأمر من الاستعمار الغربي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق