Hot

الأحد، 18 يناير 2015

من حفر جبا لأخيه وقع فيه


أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2015/01/18

سبق عن أجبت عن سؤالين مترابطين: ما التجمع؟ ومن أعاده؟ لذلك فلن أعود إليهما. لن أطيل الكلام على المعركة التي تنخر كيان الدولة التونسية. فمافيتا الساحة المزيجة خلطا بين السياسي والنقابي تبينت معالمها للجميع مباشرة بعد الانتخابات الأولى :
فأما فرعها السياسي فيثمله فرع التجمع الذي "مفوز" البورقيبية لتصبح من جنس الابنعلوية : أي حكم بدون مشروع وطني حقيقي يستغل الدولة لمصالح أسرية مافياوية. 
وأما فرعها النقابي فيمثله فرع اليسار الذي "مفوز" الحشادية فصارت من جنس الابنعلوية : أي نقابة تحلب مؤسسات الدولة وتسيطر عليها من دون اعتناء بشروط بقائها.
وهاتان المافيتان تحالفتا فجعلتا البلاد مزرعة لبعض أسر التجمع الحزبية وشلل الاتحاد النقابية وعندما تصادمتا كما هو معلوم جرتا البلاد إلى الدماء. وبذلك صارت بقية القوى السياسية عبيدا لهم خوفا أو طمعا. وكل ذلك كانت تخفيه فترينة حداثية تمثلها بعض الأحياء الراقية وبعض المدن والمناطق المحظوظة وخاصة الساحلية منها مع ثقافة الاستهلاك والاستهتار الثقافة التي كان همها الأول والأخير الحرب على ثقافة الشعب. ولم يفتضح هذا المآل البائس للدولة الوطنية إلا بعد الثورة التي كشفت عن المذابح كما يقال.
ما ترتب على جواب السؤالين
لكن جواب السؤالين ترتبت عليه ظاهرتان خطرتان على الحياة السياسية التونسية وخاصة بعد أن نجحت محاولات إفشال الموجة الأولى من الثورة ومحاولة النكوص إلى ما قبلها لمنع كل تحول إيحابي مستقبلا (ما يسمى بجبهة الانقاذ التي هي حلف بين كل قوى الردة والاتحادين اتحاد العمال واتحاد الأعراف اللين يخشيان عودة السلطة للشعب والمحاسبة على تبديد الثروات بسبب الاستبداد والفساد الذي عم كل البلاد : مثل القروض غير المستردة والتهريب والتهرب). 
وقد سبق فذكرت هاتين الظاهرتين في جوابي. وأريد اليوم أن أحدد بالتعيين بعض تجلياتهما. ورغم أني لا أريد أن أكون مختصا في تأويل سلوك السبسي بعد قصة التارزي الروماني فإني سأواصل محاولة فهم سلوكه يوم احتفاله المزعوم بعيد الثورة وما تقدم عليها من أعمال أوصلته إلى حيث هو.
فمن يعتبر نفسه بورقيبة الثاني ليس بورقيبة الشاب يتكرر بل هو في الحقيقة بورقيبة الثاني من حيث السن أعني بورقيبة الذي بلغ العمر الأرذل بعد أن أصبح مجرد صورة تحركها أياد خفية وضعت تونس في الوضعية التي كانت عليها قبل ابن علي: فما ختم به عهد بورقيبة هو إذن ما بدأ به عهد السبسي وإذن فبورقيبيته هي البورقيبية التي سيطر عليها السن والمرض. لذلك فعهد بدأ بمعركة الخلافة بين ثعالب سياسية ونقابية ليس لها حس الجيل الأول الذي عمل مع بورقيبة حسه الوطني وحكنته السياسية قبل بلوغهم أرذل العمر. وأظن وبعض الظن إثم أن واقعة "ايا بروا ربي يعينكم" هي من ثمرة أولى من مؤامرات المتصارعين على الخلافة في الأيام الأولى من الدخول إلى القصر. وقد يليها بداية العزل المتكرر للمؤتمنين على رعايته كما حدث في أواخر عهد بورقيبة الذي قد يكون الزناد القادحة لابنعلوية ثانية. وقد لا يكون انقلابا طبيا بل موتا طبيعيا أو شبه طبيعي لصاحب التركة التي يتنازع عليها المترشحون للخلافة.
الظاهرة الأولى : المزيح المتفجر المسمى النداء
فالرجل استعمل في خياطته "كسوة خروتشاف" تقنيتين للوصول إلى الرئاسة. وستكون ثمرتهما وخيمة على البلاد والعباد هما :
1-فهو الذي "شلك الدولة" بالريق البارد من التعليقات المحقرة من سلفه ومن الحكومة التي أنتجتها أول إنتخابات إما مباشرة أو بتشجيع كل محاولات شيطنة القائمين عليها حتى يطيح بهم ليصل إلى حكم. 
2-وهو الذي بسلوكه التحقيري مع جوقته الإعلامية وذباب الخبراء المزعومين حاول الحط من النخبة التي حكمت ومن شباب الثورة -وخاصة من لجان حماية الثورة التي أصبحت تعتبر إرهابية-بتعميق الفروق وتحويلها ا إلى أحكام طبقية مسبقة.
فعمت موجة من احتقار الثوار ومن التقزز من طابعهم غير البلدي كما يعبر عن ذلك أسلوب كلامه عليهم وتنبير « مثقفيه » الذين هم كلهم من الأرياف رغم انحيازهم للبلدية لعل ذلك يرد لهم بعض ما كانوا يستمتعون به من فتات موائدهم. ورغم ذلك فالطمع أو العداء غير المفهوم للحضارة العربية الإسلامية جعل بعض أنصاف المثقفين هؤلاء يصبحون مداحين لمن هو أكثر الناس احتقارا لهم بدليل أنه بمجرد الوصول نساهم.
لم يفدهم نباحهم في التلفزات ومزايداتهم عليه في الحرب على الإسلاميين حتى ذهب بعض العائشين على فضلات الفكر الشيوغي المتخلف باتوا يشترطون مساهمتهم في الحكم باستثناء الإسلاميين. لكأنه يمكن لعاقل أن يعتبرهم قادرين على فهم معنى الحكم وخدمة الدولة. أما من أصبحوا خبراء في كل شيء وخاصة في "التغفيص" فإنهم باعة خدمات سرعان ما تبور وتبرد سوقها لأنها من جنس ورق المراحيض. وقد جازاهم خير الجزاء بمجرد الوصول فلم يبق لهم ذكرا ولعل الصحف التي كانت تحتفل بكتاباتهم الأسبوعية نثرا وشعرا وبين وبين لم تعد تفتح لهم بابها ففقدوا المكافأة الزهيدة التي تمكن من « ثملة » يوم للتشاعر أو التناثر.
لذلك فتكوين النداء الذي ليس له من التكوين الحزبي إلى الوجه السلبي الذي يتحدد بالضدية مع الإسلاميين أوجد مناخا اجتماعيا تبينت هشاشته الخطرة عندما حاول المرشح الثاني بشعبوية وخفة عقل مرضية المزايدة عليه في الاتجاه المعاكس مستغلا هذه الكلوم مصعدا للنجاح في الوصول إلى الكرسي هو بدوره. فأصبح العمل السياسي ليس علاجا للأمراض التي تعاني منها الجماعة. جعلاه توظيفا لها من أجل الكرسي وتجذيرا لما سيحول دون علاجها إلى عقود ما سيجعل المحكومية شرط الدولة المدنية شبه منعدمة فضلا عن الحاكمية العرجاء.
ومن ثم فالباجي لن يستطيع لا هو ولا غيره التحكم في ما استعمل من فنيات مقيته للوصول إلى الكرسي استعمالا وظف شياطين إعلامية ونقابية وشعبوية وثقافية جمعها تحت سقف مهتز لا يوحده إلى المهمة السلبية المتمثلة في أسقاط مخرجات الانتخابات الأولى بعد الثورة للوصول إلى الكرسي قبل الأجل. وطبعا فدعوى توحيد الديموقراطيين ضد الإسلاميين أو التوازن السياسي من أسخف ما عرفته الساحة السياسية : 
1-فلا يمكن للتوازن أن يتحقق بإيديولوجية أساسها منطق الاقصاء بل والاستئصال. ذلك أن قيس التعامل مع الإسلاميين بتعامل النخب السياسية الفرنسية مع اليمين المتطرف لا يصح لعلتين : أولا ما يوصف بالتطرف من الإسلاميين يعادي الإسلاميين الديموقراطيين أكثر مما يعادي السياسيين الآخرين. وثانيا لأن نزعة الاستئصال وتجفيف المنابع العنصرية لا توجد عن الإسلاميين بل عند اليساريين والقوميين والبلديين.
2-أما الزعم بتوحيد الجبهة الديموقراطية فهو من المضحكات المبكيات : كيف يكون التروتسكي والوطدي والعمالي والبعثي سوريا كان أو عراقيا والناصري والقدافي من الديموقراطيين الله إلا إذا كان للكلمة معنى جديد هو معاداة الإسلاميين الديموقراطيين الذين يريدون ترشيد حتى المتطرفين بين صفوفهم لبناء دولة مدنية تسع الجميع؟ في الحقيقة لا يوحد الخليط الذي كونه السبسي إلا أمران :
أولهما هو حربهم على ثقافة الشعب واحتقاره : يكفي قراءة راي بعض المثقفين والمثقفات في الثورة بوصفها دالة على الجهل والأمية.
والثاني هو خوفهم من الوزن الانتخابي للإسلاميين وزنهم الذي بينته الانتخابات الأولى رغم كل التحيل الذي اعتمد في النظام الانتخابي للحد من هذا الوزن.
الظاهرة الثانية : "تهشيش" الحاكمية والمحكومية في آن
تخص منطق الغنيمة الذي يحرك المنتسبين إلى هذا المزيج المتفجر الذي يسمى النداء. فاللذين شاركوا في إعادة التجمع لا يجمع جامع ذو مرجعية تقبل التحديد السياسي بالمعنى الحديث (يمين أو يسار بكل تقازيحهما) أو التراثي (إسلامي قومي). أغلب زعماء هذا الخليط هم ممن خانوا أمانة الناخب فاحتالوا عليه وغادروا القوائم التي نجحوا باسمها لينضموا إلى الخليط المتفجر الذي يسمى النداء. وقد تم رمي أغلبهم كما ترمى الأوراق التي تستعمل في الحمام. وبذلكفقد أصبح هذا "الكوكتال مولوتوف" أو النداء أخطر على الثورة من التجمع السابق لأنه حقق ما لأجله شارك الفرع النقابي في الإطاحة بالفرع الحزبي-خلال الثورة بصورة ملفتة- ثم النكوص السريع ضد الثورة بمجرد أن تبين لقياداته أنه لن يستطيع التحكم في اللعبة كما كان يتمنى.
فكانت حربه على النظام الجديد الموالي للثورة معتمدة على موقف مطالباتي لا يعقل حتى في الاقتصادات المزدهرة وإضرابات أقعدت الاقتصاد الوطني. ولا تفسير لهذا السلوك المتناقض في أقل من شهر غير التفسير السياسي الوحيد المعقول أعني أن مشاركته في الثورة لم تكن ثورية. وإذن فإسهامه في الثورة لم يكن في هذه الحالة إلا من أجل تنفيل سهمه للسيطرة على مقدرات البلاد ليس من منطلق سيطرته على المجتمع المدني والنقابي فحسب بل وكذلك من منطلق سيطرته على أجهزة الحكم بحيث تصبح الدولة ببعديها السياسي والاجتماعي خاتما في إصبعه.
وقد تحقق له ذلك لأن الاتحاد ومحركيه من الأقليات اليسارية والقومية صار الحكم المطلق بين القوى السياسية التي فقدت سلطانها خاصة بعد أن أصبح للأمن هو بدوره نقابات تصول وتجول ضد هيبة الدولة بدلا من أن تكون في خدمتها. فباتت نقابات الأمن تهين الرؤساء الثلاثة وتوجه إنذارات للحكومة في شكل التيماتوم محدد الأجل. وقد يكون مفهوما أن يصبح أصحاب القوة المادية -اقتصادا وأمنا-أعلى الأصوات في زمن الخلل الموالي للثورة. لكن السياسيين الذين يشجعون ذلك سيكونوا أول ضحاياه : وقد نددت بموقف الراجحي لم "بربش" المؤسسة الأمنية بدعوى إزالة البوليس السياسي والمرزوقي لما اصبح هو مستشاروه يتدخلون بصورة سافرة في مؤسسة الدفاع التي ظلت محايدة وكان يمكن أن تتدخل بقوة لو أرادت لما سقط راس النظام.
ولعل أول كبوة للسيسي ونظامه -وهي كبوة إن لم تكن بتخريب قصدي فإنها تثبت أن الرجل أقعر من كل من كان يتعهمهم بأنهم أقعار-حصلت يوم تكريم الشهداء المزعوم لما أفصحت عنه من خبيث النوايا وفساد الطوايا: فسواء كان ما حصل بموافقة رئيس الدولة أو مؤامرة ضده فإن البداية الأولى للقائه بالثورة ممثلة في أهل شهدائها يفيد بما لا يقبل التأويل أن الرجل أو من حوله من ذوي الطول يعتبرون الثورة "حكاية فارغة" ويطبقون قصة التارزي الروماني مع خروتشاف أي الشعب الذي "وسخ القصبة" وأتى هو وجماعته لتنظيفها.
والخطير في هذه الكبوة ليس وجهها الظاهر بل ما يدل عليه. فعدم كلامه على شهدا الثورة وضرورة انصافهم لمعرفة القتلة دليل على تبرئة ضمنية لهؤالاء ولنظام ابن علي ما يعني أنه يرى أن الشهداء قد نالوا ما يستحقون باسم هيبة الدولة. وكلامه على من سماهم شهداء أعني نقض وبعليد والبراهمي بوصفهم شهداء لا بد من معرفة قتلتهم يعني بوضوع أن له فكرة عن القتلة وطبعا فهو عين ما تصرح به الجبهة : اتهام النهضة.
وجملة الموقف تفيد بأن جرائم الستين سنة المتقدمة على الثورة ينبغي أن تمسح في ما يصور على أنه جرائم الإسلام السياسي الذي حكم شكليا مدة سنتين. إذ يتكلم على طي صفحة الماضي البعيد الذي كان أحد صانعيه وإحياء صفة الماضي القريب الذي يجرمه تماما كما نرى ذلك يحدث في مصر : تبرئة مبارك وتجريم شباب الثورة. 
لكن كل ما مؤامراتهم التي شوشوا بها على أول حكومة منتخبة سيكون مآلها من جنس مآل من حفر جبا لأخيه وقع فيه. فمن يفسد عمل الدولة ويخرب الاقتصاد الوطني ويؤلب الرأي العام الدولي بتحريك هيئات التقويم الاقتصادي والنصح بعدم تمويل الاستثمار وانتظار سقوط هذه الحكومة لا يمكنه أن يكون أهلا لحكم وطن قام أبناؤه بثورة فكانوا أول من أهان. لكن الإهانة عادت عليه وعلى نظامه لأنه سيبقى أضحوكة في نظر كل الضيوف الحاضرين وخاصة بسبب عبارته الأخيرة وخروجه وهما من علامات "أرذل العمر" الذي ليس لصاحبه "فين يدور الروح" والعجز عن رد الفعل المناسب في الوقت المناسب :
1-زرعوا شوك النقابات والاضرابات وتعطيل الإنتاج ولن يستطيع أحد إنهاء هذه الثقافة إلا بدكتاتورية ما أظن أحدا قادرا عليها بعد الثورة.
2-زرعوا شوك الاعتصامات وتعطيل المؤسسات الدستورية ولن يستطيع أحد إعادة ما يزعمونه هيبة للدولة لأن رئيس الدولة نفسه كان يهين من تقدم عليه واصفا إياهم بـ"اللمارك".
3-زرعوا شوك الإعلام الذي تحول إلى قضاء فضائيات ولن يستطيع أحد السيطرة على إعلاميين وفضائيات لا نعلم بأي اجندة تعمل.
4-زرعوا جيشا من الخبراء المزيفين كانوا أشبه بفقهاء فضائيات التخلف مثلوا ذبابها الملازم للبلاتوهات لمدة ثلاثة سنوات وكل هؤلاء سيوظفهم غيرهم ممن يريد أن ينقلب عليهم من بينهم. 
5-زرعوا الفتن بين الأحزاب والزعماء فقضوا على وحدة شباب الثورة بجنسيه ليستعملوا بعضهم ضد البعض ويقضوا عليهم جميعا بحيث صحر المسرح السياسي والاجتماعي ليعيدوه إلى الوضعية التي حدث فيها الانقلاب على بورقيبة. والمعلوم أن وضعية آخر ايام بورقيبة افضل من وضعية أول أيام السبسي : 
فبورقيبة انتهى عهده بالصراع على خلافته على الأقل ضمن حزبه الذي أسهم في تحرير البلاد ولو شكليا.
والسبسي بدأ عهده بالصراع على خلافته بين ثعالب لا دين لهم ولا ملة ولسنا ندري أي أجنده وراء دورهم.
اللهم لا تجعل تونس تعود إلى وضع يشبه انتظار الانقاذ من ابن علي ثان يفاجئنا ذات يوم في الفجر منه بإعلان حول أهلية الشعب لحكم نفسه بنفسه بعد أن أفقدوه كل شروط الحرية والكرامة وأهانوا من قدموا دمهم لتحريره من استبدادهم وفسادهم. ذلك أن كثيرا من "غيران النمالة" وقع تحييرها خلال عمليات "تشليك الدولة" من المغنين بهيبتها والذين لا يميزون بين الهيبة والاستبداد لجهلهم بأن الهيبة مهابة وبأن المهابة خلقية وقوة لطيفة بدل من أن تكون همجية تنبير وقوة عنيفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق