أبو يعرب المرزوقي
تونس في2015.02.27
سبق فكتبت عن العقاب بالتحريق لأحدد طبيعته الإجرامية وطبيعة استعماله في الحروب النفسية فأبين ما يتجاوز فيه النسبة إلى عقيدة ممارسيه وأعلامهم الفكرية أو الدينية طريقا إلى التشخيص الذي يمكن من العلاج بالطرق التي لا تكون من جنسه نوعيا وتتجاوزه بآلاف الأضعاف كميا إما مباشرة بأيدي الناكرين له أو بصورة غير مباشرة بسكوتهم عن عملائهم القائمين به.
وقياسا على هذه الحالة أريد أن أفهم ظاهرة تحطيم التماثيل في متحف الموصل وهي ظاهرة استشنعها مثل غيري بل وأكثر منهم بسبب صلتها بمرض حضاري من المفروض ألا يوجد في أمة دينها يفرض عليها احترام كل الحضارات لأن التنوع والتعدد فيه من آيات الحكمة الإلهية مرض تعاني منه أمتنا حاليا وعانت منه غيرنا من الأمم لكنها تظن نفسها واهمة أنها تجاوزته وهو تطبقه بصورة اسوأ مما يتصور من يكتفي بسطح الأحداث كما نبين في هذه المحاولة.
وأدعي أن استشناع الظاهرة عندنا ينبغي أن يكون أكبر بالقياس إلى غيرنا من الأمم خاصة إذا كان غيرنا من المتكلمين عليها يتكلم عليها باسم الحضارة الغربية على طول تاريخها الذي هو مليء بأسوأ مما حدث في الموصل: إنها ظاهرة تحطيم التماثيل في متحف الموصل التي ينسى الكثير من المعلقين صلتها بظاهرة من جنسها هي ما حصل في نهب متحف بغداد والمتاجرة بها من قبل من يتهمون غيرهم بالبربرية.
إذا كانت السفن تغرق بكثرة الملاحين فإن المرضى يموتون بكثرة المتطببين والأمم تنهار بكثرة الخبراء المتخابرين: وما أكثرهم في ايامنا هذه (والغريب أنهم إما عملاء أحزاب أو طوائف لا يكادون يغادورن بلاتوهات الفضائيات العربية والمحلية). كلما شاهدت جلسات المحللين في فضائياتنا أو قرأت لكتاب عرب حول المسألة خرجت بما يؤيد هذه الأحكام السائرة . فليس المطلوب في كلامهم وفي الحالتين فهم الظاهرة بل استسناحها للمزايدة فرصة يبين فيها المعلقون حداثتهم وتحضرهم بالمقارنة مع البرابرة الذين قاموا بهذا الجرم الثقافي إزاء تماثيل قديمة تمثل حضارة هم أولا وأخيرا أصحابها ولم يسبق لهم أن مسوها بسوء. وهو ما يمدنا بدءا بخاصية أولى للسلوك الذي ندرسه : داء تهديم الماضي الذاتي أو موقف من ماض لا يراد له أن يتواصل.
لن أطيل التعليق على المزايدات في إثبات التحضر بالتحصر عند المحللين من غير الباحثين على الفهم والمقتصرين على اجترار أغراض الحرب النفسية بلا وعي. يكفي عرضا أن أشير إلى أن أحد أدعياء علم النفس-تسويقا لكتابه كما رأيت ذلك في قناة نسمة البارحة- في خلط عجيب قاس الظاهرة على الحصر النفسي الذي من جنس ما يحصل في كوميديا الأفلام الغربية من جنس تكسير أثاث المنزل تعبيرا عن الغضب من قبل أحد الزوجين بعد شجار تافه. يعني تحليل نفساني لا يساوي فلسا لظاهرة أساسية لا تخلو منها حضارة قيسا إياها على نفسية الأشخاص لكأن الظاهرات الحضارية الجماعية قابلة للرد إلى الظاهرات النفسية الفردية بفهم فرودي سطحي.
وفي الحقيقة فإن ذلك لم يكن منه إلا مدخلا لبيت القصيد في كل مواقفه وفي كتابه كما حاول تلخيص مضمونه بتفاقه العيي أعني رد المشكل كله إلى الثقافة الإسلامية دون سواها لكأن هذه الآثار لم تكن في أرضها منذ آلاف السنين دون أن ينالها ما ينالها اليوم بعد أن غزتها الدبابة الأمريكية ولكأن المشاركين في هذا التهديم كلهم من ذوي الثقافة الإسلامية في حين أن الجميع يعلم أن جند داعش من جميع الأمم بمن فيهم الأمم الغربية المتحضرة التي يزايد عليها مثقفونا عندما يتكلمون على الحضارة والحداثة: والكثير منهم نشا وترعرع في الغرب وتعلم في مدارسه وعاش في مناخه الحضاري والثقافي "المتسامح" جدا.
مرحلة أولى من التعريف
فلنمر إلى الأمور الجدية تاركين التفاقه الحداثي لمن ينشغل بالتنديد دون فهم وبحث للتخشيص المساعد على الوصول إلى العلاج الشافي. فما طبيعة الظاهرة التي نراها في تحطيم التماثيل والتي كان أول مثال يذكر منها تحطيم تمثال بوذا الذي لم تنله يد التهديم طيلة قرون وهو في أرض إسلامية؟ وليس هو وحده بل إن جل آثار البشرية توحد في دار الإسلام وبقيت على حالها دون أن يمسسها سوء حتى وإن لم تنل العناية لأنها لم تكن ذات دلالة في عقائد الناس إذ لا أحد كان يعبدها أو يخشى أن يعبدها أحد.
لذلك فالسؤال يصبح واجبا : ما الذي حصل حتى يصبح لهذه الآثار دلالة تقتضي موقفا منها مدافعا عنها بالهجوم على ما هو جنسها عند غيره وإن بشكل مخالف أو مهاجما لها بالدفاع عما هو من جنسها عنده وإن بشكل مخالف كذلك؟ ذلك هو الأمر الذي ينبغي فهمه بدلا من الاقتصار على اتهام محطمي التماثيل بالبربرية لأن هذا الوصف يصح على كل الحضارات التي انبنى أهم مراحلها على تهديم ما تقدم عليها وحتى لو كان منتسبا إليها (راجع مفهوم التاريخ النقدي بمعناه عند نيتشه). وطبعا فالجواب السهل والذي هو في الحقيقة غلق التساؤل لتجنب الوصول إلى فهم حقيقة الظاهرة : كيف نفهم ما يوصف ببربرية القاعدة في أفغانستان وبربرية داعش في الهلال ليس لتبريره -إذ لا يبرر التهديم إلا صاحب الفكر الهدام-بل لتجاوز مجرد النكير إلى البحث عن العلاج لأن مقابلة التهديم بالتهديم ليس الحل القويم. فالجواب المقتصر على النكير لا يقدمنا في شيء بل هو يؤدي إلى الرد عليهم بربرية أكبر لا تكتفي بتحطيم التماثيل التراثية بل تبيد الكائنات البشرية معها. طبعا هذا ليس مجرد كلام : فالنظام السوري هدم آلاف المساجد والكنائس والمدن التي هي كلها آثار فنية واغتيل أهلها مثلا باسم الرد على بربرية الثوار أو الإرهابيين لا تهم التسمية.
وإذن فسأحاول البحث عن فهم يجمع بين القراءة الانثروبولوجية وفلسفة التاريخ والدين فهم يخلصنا من الاكتفاء بمجرد التنابز بالألقاب في بوصف المواقف الحضارية من منطلقين متنافيين هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة. فلو اكتفينا بهذا التشخيص لتساءلنا عندئذ عن الحضارات التي تم محوها -بما فيها لغاتها وكل تراثها- مثل حضارة قرطاجة وحضارة الهنود الحمر وحضارة الأندلس مثلا -فضلا عن أهلها- من أزالها من الوجود؟ ولم أزالها؟ وما دلالة ذلك في التاريخ الحضاري البشري؟ إذا أردنا أن نفهم الظاهرة وألا نتكفي بتوظيفها في الحرب النفسية على شعب بعينه فعلينا أن نتجاوز النكير بعميق التدبير طلبا لعلاج: فما شهدناه في الموصل ظاهرة كونية لا يكون تعليلها إلا بعلة كونية ولا يكون علاجها إلا بما يلغي علتها لا بما يضاعفها أي بما هو من جنسها فنستعمل الذرة مثلا لمحو مدينتين بمن فيها من آثار الحجر وكيانات البشر.
مرحلة ثانية من التعريف
ما التماثيل؟ أليست تجسيدا لتصورات إنسانية حول قيم ونماذح عقدية تجسيدا في مادة تتحقق في الأعيان؟ فإذا كان ذلك كذلك ألا توجد تماثيل من جنسها لقيم ونماذج عقدية لكنها لا تتجسد في مادة تتحقق في الأعيان بل تبقى في تصورات منحوتة في الأذهان؟ وهل توجد حضارات من دون هذين النوعين من تعيين القيم والنماذج العقدية: إما بالنحت في المواد الخارجية أو بالنحت في المواد الذهنية مع غلبة أحد الشكلين على حضارة دون حضارة فيكون المميز لها عن غيرها؟
وفي هذا المضمار أليست الحضارة الإسلامية واليهودية بخلاف الحضارة المسيحية والبوذية مثلا ترفضان التماثيل والصور رغم أنهما في العبارة الواردة في كتابيهما المقدسين يستعملان التمثيل الحسي بالصور الذهنية غير المتعينة في مواد خارجية ؟ ومهما عاند من يريد ألا يفهم فإن هذه المقابلة تجعلنا أمام بربريتين : واحدة تهدم التمثيل الرمزي للقيم والنماذج العقدية في مادة خارجية أو عينية (داعش). والثانية متقدمة عليها تهدم التمثيل الرمزي للقيم والنماذح العقدية في مادة باطنية أو ذهنية. وبهذا المعنى فإن الأمة لا تعاني من داعش واحدة بل من داعشين :
1-داعش أولى تحارب التمثيل الرمزي للقيم والمعتقدات الماثلة في مواد خارجية عينية هي التماثيل والصور : مثال ذلك تمثال بوذا أو تماثيل متحف الموصل أو آداب مكتبتها بمعيار الموقف الحضاري الحديث.
2-داعش ثانية تحارب التمثيل الرمزي للقيم والمعتقدات الماثلة في مواد باطنية ذهنية هي النماذج التصورية : مثال ذلك النماذج التصورية التي يهزأ منها كل دعي ينقد صورة الصحابة مثلا أو صورة السنة والقرآن بمعيار الموقف الحضاري التقليدي.
وإذن فنحن أمام حربين على نوعين من المقدس في نفس الحضارة (بتأثير بين من حضارة سائدة تريد محو ما عداها من الحضارات الأخرى لظنها أن رؤاها تمثل الحقيقة المطلقة) وهو ما سبق أن عرفناه بصدام الحضارات بين الحضارات المتجاورة صدامها الذي انتقل إلى الحضارة التي صار أهلها في وضع المستضعفين: صدام الحضارات الداخلي. وهذا الصدام الحضاري المضاعف ينبغي فهمه من خلال التمييز بين نوعيه :
1-النوع الحي والذي يكون ثمرة التطور الذاتي لحضارة بعينها تتجاوز ذاتها فتغير نماذجها القيمية والعقدية بنقد ذاتي وخلال تطور بطيء يشبه تغيير الثعبان لثوبه وتوالي مراحل النضوح العضوي في الكائن الحي. ومنطق التطور هذا يصح على الحضارة صحته على الكائنات الحية: توالي الحياة والموت شرطا للتجدد والبقاء.
2-النوع الميت والذي يكون نتيجة لغزو حضاري من الخارج هدفه استبدال منظومة نماذج قيمية وعقدية للحضارة المغزوة بمنظومة الحضارة الغازية بصورة عنيفة وسريعة يشبه سلخ الحيوان المذبوح. ومنطق هذا التهديم هو الذي ينكص الإنسان بمقتضاه إلى القانون الطبيعي بديلا من القانون الخلقي.
مرحلة ثالثة من التعريف
لكن المستويين الأول والثاني من التعريف يدرسان الظاهرة دون أن يحيزاها في سياقها التاريخي للحضارة التي تعاني من صدام الحضارات بمعنييه أي الحي والذاتي للحضارة نفسها والميت المفورض عليها من خارجها في آن : الحضارة العربية الإسلامية الحالية تعاني من صدامي حضارات أولهما هو المحاولة البطيئة للاستئناف الحضاري والثاني هو الغزو السريع للتشويه الحضاري.
وطبعا فلا يمكن أن نعتبر الصنف الأول هو المحدد للظاهرة التي حدثت في الموصل وقبلها في افغانستان ومثلها سابقا في محو الحضارات المتوالي كحضارة الأندلس مثلا. فالمؤثر بحق والمحدد النهائي للظاهرة هو الصنف الثاني أي النوع الميت من الصدام الحضاري. ذلك أن ظاهرة داعش التي تحطم التماثيل الماثلة في الأعيان لا تقبل الفهم إلا بظاهرة داعش التي تقدمت عليها بل وكانت أهم أسباب وجودها لأن سلوكها كان تحطيم التماثيل الماثلة في الأذهان تحطيما يخرب الأرواح فيجعل الروح الجماعية تعيش الاغتيال البطيء لمقومات وجودها الروحي. وهذه الظاهرة مخمسة الأبعاد لأنها تتعلق باحياز الوجود التي بها يتقوم كيان كل حضارة (كما نبين في التعريف قبل الأخير) وأكثر عنفا وبربرية من تلك.
لكنها في الحقيقة ورغم ما يبدو عليها حاليا من طابع لطيف يتكلم باسم الحضارة والحداثة والتقدم ظاهرة جامعة بين الدعشين : المادي والرمزي. وسأضرب مثالا يفهمه كل التونسيين جيد الفهم وما أظن قطرا عربيا ( وحتى إسلاميا كما في الأتاتركية) يخلو من جنيسه سواء كان ذلك قد حصل سابقا أو هو بصدد الحصول الآن كما نرى ذلك في حرب السيسي على المقومات الروحية في الأذهان للمسلمين خلال حربه على منافسيه في حكم مصر وقبل ذلك كل محاولات التحديث المستبد الذي يريد أن يستعيض عن تراث الأمة بتراث مستورد يتصوره دليلا على التقدم لكأن الحضارات من جنس فرق الكرة التي تشترى ويكفي وضع علم البلاد على لباس اللاعبين: ظاهرة الموقف البورقيبي من ثقافة الشعب الدينية والعمرانية.
1-ففي ثقافة تونس العمرانية أراد بورقيبة بسبب فكره الوضعي والتحديث الزائف تهديم المدينة العتيقة واستبدالها بالعمران الأوروبي ولو لم تحدث حملة وصلت إلى اليونسكو لفقدنا كل التراث العمراني العربي في تونس ولما بقي شيء من المدينة العتيقة.
2-وفي ثقافة تونس الدينية أراد إلغاء كل ما كان الشعب التونسي يعتبره من أقدس مقدساته باسم اللحاق بركب الحضارة مستعملا السخرية من هذه المعتقدات بما في ذلك من النبي الأكرم الذي شوه صورته معتبرا إياه مجرد راع بدوي لا يفهم شيئا.
ولأفتح قوسين هنا للإشارة إلى ما أجبت به الكثير من الأصدقاء عن علة وجود الكثير من الشباب التونسي مشاركا في حرب الهلال رغم أنهم تلقوا تربية علمانية وحديثة كما يدعي المفاخرين بمكتسبات الحضارة المزعومة. وقد تعجبوا من جوابي : ما يقدم على أنه مناف لسلوك شباب تونس هو علته في الحقيقة. ولا نفهم ذلك إلا إذا قرأنا الظاهرة في ضوء وصول التشويه الداعشي للقيم والنماذج المنحوتة في الأذهان وصولها إلى أقصى حد بسبب ما سموه تجفيف المنابع والقضاء على « التماثيل » الذهنية التي ربي عليها التونسي طيلة قرون باعتبارها مقدسات تعطيه نماذج يحاول الاقتراب منها بديلا مما يراد فرضه عليه.
فعندما يسمع الشاب الأستاذ الطالبي الذي يزعمونه من كبار العلماء أو أحد تلامذته المزايد عليه قبل أن يخرف مثله-والكثير من هذا النوع بزاد علمي زهيد فرخوا في المجتمعات العربية إلى حد لا يصدقه عاقل-عندما يسمعه يعرض بأم المؤمنين أو بالفاروق أو (غيره من تلامذته) حتى بالنبي نفسه في ملفات تلفزية جماهيرية فهو يشاهد موقفا داعشيا أخطر من موقف الدواعش الأميين لأنه يعتدي عليهم بتحطيم ما في أذهانهم من نماذج وتماثيل لشخصيات ذات رمزية دينية لديه فلا تستغرب أن يكون سلوكه مع نماذج خصمه النموذجي من جنس سلوكه : هذا يحكم تماثيل في الأعيان وذاك يحطم تماثيل في الأذهان. والأمران سيان بل إن الأمر الثاني أخطر من الأول لأنه هو الذي يضفي البربرية على كل شيء.
المستوى الرابع من التعريف
فما الرهان في هذا الصدام بين نوعي الدعش المادي والرمزي أو بصورة أدق ما الأمر المستهدف على التعيين منهما في هذه الحرب التهديمية الذاتية على النماذج القيمية والعقدية في الأعيان (داعش في الهلال) وفي الأذهان (كل النخب المحاربة لقيم الأمة وعقائدها)؟ولم عم الدعش المادي بالتساوق والتوازي البينين مع الدعش الرمزي؟ ذلك ما لا يمكن أن ندركه من دون وصل الدعشين بموقف من التاريخ الحضاري للأمة وأزمتها الروحية الذاتية وما يفاقهما من تأثير الغزو الخارجي المادي والرمزي كذلك:
1-موقف من يعتبر هذا التاريخ الحضاري قد مات وغير قابل للاستئناف. لكنه يكتشف أنه ما يزال مقاوما فيريد التخلص مما بقي حيا منه في الأذهان بعنف الدولة والاستعاضة عنه بما قبله وبما بعده : إنه موقف من يقبل بتفتيت كيان الأمة المتعين في أحياز وجودها أعني مكانها (القبول بالجغرافيا التي فرضها الاستعمار) وزمانها (القبول بالتاريخ الذي فرضه الاستعمار) ودورتها المادية (قطع وحدة الاقتصاد) ودورتها الرمزية (قطع وحدة الثقافة) وأصل قيامها الروحي (بديل علماني من الإسلام).
2-موقف من يعتبر هذا التاريخ الحضاري ما يزال حيا وهو بصدد الاستئناف.لكنه يكتشف أن محاولة قتله بالدعش الرمزي جارية فيريد التخلص بعنف مضاد ضد استبداله بما تقدم عليه وتأخر (المصري الفرعوني والعراقي البابلي والتونسي القرطاجني واللبناني الفينيقي وكل هذه المواقف لا يفهمها الشعب بوصفها مدا للتاريخ في الماضي بل استبدالا له بدليل الوصل المباشر مع الحاضر الذي يتحول إلى حرب على ثقافة الشعب): إنه موقف من يرفض تفتيت كيان الأمة المتعين في تلك الأحياز التي ماتزال عنده واحدة مكانا (دار الإسلام) وزمانا (تاريخ الإسلام) ودورة مادية (التبادل الاقتصادي) ودورة رمزية (التبادل الثقافي) وأصل قيامها الروحي (الدين الإسلامي).
القضية إذن هي في دلالة الظاهرات التي من هذا الجنس عند الخاضعين لها قسرا وليس لها معنى موضوعي مطلق. لذلك فإن الموقف الأول موقف صاحب الدعش الرمزي ينطلق من التسليم النهائي -في تصوره الذي يظنه نخبويا ومعبرا عن التقدم والحداثة دون إيلاء أي قيمة للأخلاق الموضوعية عند الشعب أي لتصوراته التراثية التي هي عين كيانه الروحي-بانفراط عقد الأمة وبضرورة تحطيم ما بقي مما يوحد بينها في الأعيان (الدعش الأول : ضد المعالم المشتركة من حضارة الإسلام) وخاصة في الأذهان (الدعش الثاني : ضد النماذج المشتركة من قيم الإسلام ومعتقداته) .
والجامع بين الدعشين في هذه الحالة هو محاولة بناء ما يسمى بالدولة الوطنية التي لن تتأسس إلى على شرعية متنافية مع الشرعية المشتركة: فكان تأسيسها بتهور وعنجهية حربا على التراث المادي والرمزي للجماعة فرضا من فوق ممن يتصور أن الأمم تتطور بالبروتاز الحضارية. لذلك فهي تحتاج إلى تمزيق المكان الواحد بحدود معينة (وليكن مثالنا العراق الذي تجري فيه الحادثة) وإلى تأسيس التمزيق بتقطيع التاريخ ليكون لهذه الدولة المستحدثة تاريخ خاص بها (آثار تاريخ ما قبل الإسلام).
وطبعا فهذا التاريخ المستحدث للدولة المستحدثة لا يمكن أن يستمد إلا مما تقدم على التاريخ المشترك الذي يفقد امتيازه في نظر النظام الحاكم بصرف النظر عن نظر الشعب (تاريخ الإسلام) لتأسيس تاريخ حاضر (تاريخ النظام الحاكم لما يسمى بالدولة الوطنية) ومقبل (حضارة قاطعة مع الإسلام أي العلمانية مثلا: التصور البعثي) : وبذلك فالتراث القديم في العراق لم يعد في أذهان الدعش المادي مجرد تراث كما كان قبل الدولة الوطنية بل هو عندما يفهم بهذه الصورة يصبح بمنزلته التي صارت متقدمة على منزلة التراث الإسلامي في أذهان الشعب عدوانا على قيمه ونماذجه سواء كان ذلك بوعي أو بغير وعي.
المستوى الأخير من التعريف
وهنا نصل إلى المفارقة العجيبة التي تجعل الموقفين متساويين في بربرية الدعش ومتفاضلين في الاستجابة لشروط العصر. فأصحاب الدعش المادي برابرة لكنهم يقدمون حلا لحضارتهم وإن بغباء يتجاوز نموذج الدولة الوطنية شرطا في التكيف مع مقومات البقاء غير التابع في عالم العولمة. وأصحاب الدعش الرمزي برابرة كذلك ثم هم يقدمون حلال لحضارتهم بغباء كذلك يقتصر على نموذج الدولة الوطنيةالتي تخلى عنها أصحابها في الغرب لأنها لم تعد كافية لتحقيق شروط السيادة الوطنية.
وإذن فالدعشان يشتركان في الوحشية والغباء لأن الدعش المادي في الأعيان والدعش الرمزي في الأذهان لن يقدم الحضارة العربية الإسلامية ولن يحل مشكلها الذي يخفيه الاقتصار على وصفا الظاهرة بالبربرية : كلاهما يحطم المآثر الحضارية ونماذج القيم والمعتقدات الروحية والجمالية في الأعيان وفي الأذهان (مثال بورقيبة وكل علمانيي العرب وليبرالييهم). ومن ثم فهما وجهان لنفس الداء ويحتاجان إلى نفس الدواء : التمييز بين سنة التطور بتغير القيم والنماذج تغيرا ذاتيا وفرض التطوير بالغزو القيمي والنموذجي.
أدركنا بالتحييز في السياق رهان المعركة ومآلها إلى مسعيين عنيفين أو دعشين مادي ورمزي. فالرمزي غايته تأسيس كيانات مستحدثة على جثمان كيان يظنه قد مات. لذلك فهو يريد تفتيت المكان والزمان والدورة المادية والدورة الرمزية والوحدة الروحية. والمادي غايته الاستئناف لذلك فهو يقاوم ما فرضه الانحطاط والاستعمار لاستعادة وحدة المكان والزمان والدورة المادية والدورة الرمزية والوحدة الروحية. وهذا الصدام الحضاري هو المحدد في الغاية لطبيعة الظاهرة التي يمثلها تحطيم التماثيل في الأذهان بالنسبة إلى صاحب الدعش الرمزي وفي الأعيان بالنسبة غلى صاحب الدعش المادي.
وعلينا الآن أن نطلب العلاج ببيان الدلالة العميقة التي يمكن أن نصفها بكونها من خصائص فلسفة التاريخ الحضاري الإنساني عامة عندما يتعين في حضارة كبرى تستأنف دورها في صدام حضاري كوني بعد سبات عميق وطويل يراد له أن يتواصل وتلك وظيفة الصدام الحضاري الداخلي المساعد في الحرب عليها مساعدة الطوابير الخامسة التي يلجأ إليها الأعداء.
انطلقنا في بحثنا من ظاهرة تبدو دالة على همجية داعش وحدها فتبين أنها صفة عامة تجمع بين نوعين من الدعش رمزي ومادي في صدام حضاري مزدوج داخلي وخارجي يحول دون التطور الحضاري المستقل لأنه يتحول إلى تهديم ذاتي للمنتج الحضاري في الأعيان وفي الأذهان. وما لم نعالج هذا التهديم من خلال فهم رهانه فإن كلا الصفين يبقيان في تبادل التهم والاقتتال دون انتباه لطريق العلاج. وقد فهم الأوروبيون ذلك قبلنا وإن بعد حربين عالميتين أتتا على الأخضر واليابس وجعلتا أوروبا تخسر كل مستعمراتها بل وتصبح مستعمرة لمستعمرتيها الفكريتين : الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية.
فهم الجنزال دوجول وأدناور أن الحرب بين النموذجين الألماني والفرنسي يمكن تجاوزها بتجاوز "مرض الدولة الوطنية" التي فضلا عن كونها لم تعد قادرة على مقتضيات ما بعد الحرب العالمية الثانية وفقدان الامبراطوريات الأوروبية تجاوزه لبناء المواطنة الأشمل التي تلغي الحدود المكانية وتحد من النعرات التاريخية فتوحد الدورة المادية (الاقتصاد) والدورة الرمزية (الثقافة) من خلال البحث عن وحدة روحية جامعة متعالية على الأعراق والوطنيات الضيقة :
1-فإذا فهم أصحاب الدعش الرمزي للحرب على ما في الأذهان من قيم ومعتقدات فتحرروا من مرض الدولة الوطنية رغم فقدانها لشروط السيادة معتبرين من شروطها القطع المطلق مع ما يتجاوزها في المكان والزمان والدورة المادية والدورة الرمزية والوحدة الروحية.
2-وإذا وفهم أصحاب الدعش المادي للحرب على ما في الأعيان من قيم ومعتقدات فتحرروا من مرض الدولة الكلية الملغية لما دونها من دول وطنية وتعدد مكاني وزماني ومادي ورمزي ووحدة روحية.
فإن الحل يصبح ميسورا وتعود إلى الجماعة شروط العمل المبدع في كل المجالات التي تعبر عن منجزها الحضاري دون عدوان متبادل بين ضربي التعين في الأعيان وفي الأذهان. تلك هي الظاهرة التي لا تقبل الرد إلى ساذج النفسانيات ولا إلى عفوي السياسيات بل لا بد فهما من فهم المحددات الجوهرية التي يتقوم بها التاريخ وما بعده أي مقومات فلسفة التاريخ وفلسفة الدين المتحدمتين في سلوك الجماعات الواعي وغير الواعي. والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق