أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2015.07.20
فليكن واضحا من البداية أني كان من دعاة المصالحة أولا ومن دعاة تقديمها على المحاسبة. وعلي قبل الكلام في ما يدعو إليه رئيس الدولة حاليا أن أعلل موقفي السابق والذي لم يعد قابلا للتطبيق لما سنرى من العلل. لم يكن موقفي السابق لسذاجة سياسية بل لعلتين خلقية وسياسة هدفهما تقليل الكلفة على الثورة وتمكين الشعب التونسي من تحقيق الانتقال الديموقراطي بايسر السبل الممكنة:
1-العلة الأولى خلقية : وهي تجنب جعل المحاسبة هي المناخ المحدد لمزاج المصالحة. فهي حينئذ كانت ستفقد سماحتها فتزول الفائدة المنتظرة منها بعد أن يكون الانتقام أو ما يقرب منه قد حصل.
2-العلة الثانية سياسية وتتمثل في أن البدء بالمحاسبة ولو بقلة كان سيجعل الجميع خائفا منها فتتكون عصبية محاربة للثورة وتمنع المحاسبة ولن نصل إلى المصالحة وهي الهدف الذي من دونه يمتنع تجنب الحرب الأهلية.
كل ذلك شرحته حينئذ في مداخلات رسمية وندوات علمية. وإذا كانت العلة الأولى خلقية بمعنى أنها لا تعتمد على حساب المنفعة والمضرة فإن الثانية كانت سياسية همها جلب المنفعة ودفع المضرة. ذلك أن المصالحة لأنها تطمئن الأغلبية تمكن من فرز الأقلية التي ينبغي محاسبتها من وجهين هما ما دفع الشعب للثورة :
الوجه الأول يتعلق بالحقوق السياسية والمدنية التي أضر بها الاستبداد. فتكون محاسبة المستبدين وأدواتهم- وهم قلة لأنهم هم أصحاب القرار في المجال السياسي يسيرة وقليلة الكلفة السياسية. فهؤلاء بعد طمأنة الغالبية لن يبقى لهم صديق إذا عزلوا فلم يشعر أحد سواهم أنه يمكن أن تشمله المحاسبة بذنب لم يقترفه. ذلك أن أغلب من كان يعمل معهم كان إما مضطرا بحكم العيش والوظيفة أو بسبب الابتزاز النظام له بما لديه من أوراق تهدده هو أو أسرته في اسرار حياته.
والوجه الثاني يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي أضر بها الفساد فتكون محاسبة الفاسدي -وأغلبهم من المستبدين وتوابعهم المباشرة-مما يقلل من العدد فيسر الحساب دون كلفة سياسية. ذلك أن الثورة التي تولد بالضرورة الكثير من الفوضى فتعطل النشاط الاقتصادي خاصة- لا ينبغي أن نثقل عليها بكلفة سياسية تجعل التعطيل أهم أداة التخريب كما حصل.
لكن المصالحة التي يريدها رئيس الجمهورية-والتي أسقطت دون حوار وطني حتى مع الأحزاب التي تشاركه الحكم- فلا يعللها لا القصد الخلقي ولا القصد السياسي. فخلقيا هو يريد مصالحة مع المستبدين والفاسدين. فحتى ما بدا التركيز على رجال الأعمال فهو خدعة. ذلك أن رجال الحكم تمت مصالحتهم بعد بمجرد أن عاد التجمع واليسار الاستئصالي إلى الحكم بعد الانتخابات الأخيرة.
لكن هؤلاء بصنفيهم- أي المستبدين والفاسدين وجلهم يجمع بين الدائين- هم من ينبغي محاسبتهم على الأقل بفرض التعويض على الفاسدين ومنع المستبدين من ممارسة السياسة طيلة ما بقي من حياتهم. ومما يساعد على ذلك أن اطمئنان الأغلبية حاصل بعد أن استبعد من يتهم بأنه يريد أن ينتقم رغم علم الجميع أنه حتى لو أراد لما استطاع لأنه لم يكن له من الحكم إلا الاسم.
والغريب أن من اقترح على النظام محاولة البحث عن طرق المصالحة مع الكثير من الشباب الذي دفعه الظلم والقهر والعدوان إلى الجنوح للتطرف اعتبروه مبيضا للإرهاب الذي صنعوه بسلوكه المستبد والفساد وأصبحوا يستثمرون فيه لأعادة الخوف ومن ثم فرض المصالحة مع سبب كل الأدواء. ذلك ان المصالحة لتكون عامة كان ينبغي أن تشمل كلا التطرفين من كلا الصفين حتى نقلل من كلفة الانتقال الديموقراطي. هذا خلقيا و علاجا للأسباب الاجتماعية والاقتصادية للظاهرات العنيفة التي يمكن الحد منها بعلاج أسبابها العميقة في كل سياسية ذات روية وحكمة.
أما سياسيا فدلالة العملية لا يوجد أبلغ منها اعترافا من رئيس الدولة الذي من المفروض أن يكون محافظا ليس على القانون فحسب بل على أسسه الخلقية كذلك لأن القانون الذي لا يحافظ على اساسه الخلقي ليس إلا قانون الغاب أو إرهاب دولة-اعترافا ببناء الدولة على المافية أي على من كان مستبدا من المشاركين في تعسف الحكم وفاسدا من المشاركين في سرقة الثروة. فإذا كان هذان النوعان هما ما ليس منه بد لبقاء الدولة المزعوم وكانوا هم الوحيدين الذين ستعتمد عليهم الحكومة لتحريك الحياة الاقتصادية والسياسية فمعنى ذلك أن:
سياستنا
واقتصادنا
مبنيان على الاستبداد والفساد ومن فلا مستقبل لتونس إلى بعودة المافية التي تقدمت على الثورة. والسؤال هل ليس لتونس من الأبناء والبنات في السياسة والاقتصاد إلا من شارك في الاستبداد والفساد وكان فاقدا للحس الوطني.
فلماذا إذن لا يكون مضمون القانون صريحا فيسمى قانون ترتيب إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الثورة وكفى المافية شر القتال؟ ولماذا نحتاج إلى تغيير القوانين فضلا عن ادعاء تحقيق أهداف الثورة؟ أما كان يكفي القول : نعيد الشعب إلى الخير العميم الذي كان عليه ولنبن من حوله أسوارا لنحمي الجنة المافيوزية التي نمت تونس وطورتها فجعلتها قطعة من أوروبا؟ وأفضل طريقة للنجاح هي دعوة ابن علي للعودة ما دام إعلام الحزب الحاكم ونخبه الفكرية والإبداعية المزعومتين من صف حفتر وبقايا مليشيات الجدافي والسيسي وبشار والحوثي. فذلك سيمكن من المحافظة على مكتسبات الحداثة والعهدين السعيدين للنظام الذي يرمز إليه رئيس الدولة العائد والمعيد لكل ما يعادي الجديد.
لذلك فلا يعجبن أحد إذا واكب هذه السياسة حرب نفسيه على المخلصين من المؤمنين بقيم الثورة من كل الحساسيات السياسة -لأنهم موجودون فيها جميعا وإن كانوا قلة-بمحاولة تشويه صورتهم والاعداد لاتهامهم بالتهمتين النافقتين حاليا في سوق خدمة أمريكا وشرطيها الاسرائيل والإيراني والأنظمة التي تمول الثورة المضادة : الإرهاب والتكفير. وطبعا فهم يعدون العدة لما يتصورونها معركة فاصلة تعيدهم نهائيا لستة عقود أخرى. لكن الرياح لا تجري دائما بما تشتهي الفن المخرومة : سينقلب السحر على الساحر خاصة وأغلب خبرائهم الذين هم مخبرون أجهل من أحذيتهم ناهيك عن جل العضاريط (العضروت بالعربية تعني من يعمل بمقابل هو إشباع بطنه أكلا وشربا) من صحفيي الإعلام المأجور والاستقصاء المأمور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق