أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2015.07.08
إذا صح أن حكومة النداء واليسار الاستئصالي قررت فعلا إقامة جدار عازل بين تونس وليبيا فإنها تكون قد أقدمت على ما لم يقدم عليه لا الاستعمار الفرنسي ولا الاستعمار الإيطالي للفصل بين الشعبين رغم ما فرضاه من حدود معلومة لعجزهما عن محاربة مقومات الهوية التي باتت الهدف الأول والأخير للعملاء في حربهم على الأمة بدعوى تجفيف المنابع. لذلك فلا بد من بيان دلالة هذا العمل المشين الذي لا يهدف إلى حماية تونس بل هدفه حماية محتليها الجدد الذين وعدوهم بالمقام هناك.
ولهذا القرار خمس دلالات تستنتج من تجربتين عرفانا على دور الجدار العازل في التاريخ الحديث :
1-جدار برلين بين الألمانيتين.
2-وجدار الاحتلال الصهيوني في فلسطين المحتلة
ولهذين التجربتين صلة بينة بالحكم الحالي لأنهما من ابداع أصدقاء النداء واليسار الاستئصال الذي ضحك على بعض الدساترة الذين أعماهم الطمع في العودة إلى الحكم بأية وسيلة.
من وحي التجربة الستالينية
فمن علاقة الجدار المزمع بتجربة جدار برلين نستنتج دلالتين :
الأولى أن الحكومة يقودها تيار ستاليني بيده السلطة الفعلية : إنه اليسار الاستئصالي. ولا سلطان عليها لطراطير المصوتين لها في المجلس. ذلك أن فكرة إعادة تمزيق الشعب الواحد- تونس وليبيا شعب واحد-بعد أن قضت الثورة على الحدود التي فرضها الاستعمار وعملاؤه لا تختلف كثيرا عن محاولة اليسار الستاليني الغبي في ألمانيا إعادة تمزيقها بعد وحدتها التي جعلتها عملاق أوروبا والغرب. هدف اليسار منع الوحدة بين جناحي الثورة في تونس وليبيا وليس منع الإرهاب كما يزعمون لأن الإرهاب هم مصدره وبه وصلوا إلى الحكم وبه يريدون البقاء فيه. لذلك تفهم تغزلهم بالجنرال الجبان والمفلس حفتر : وبالتونسي فهم مثله يحفترون أن "يطففون".
والثانية ما يستوحى من تجارب مرجعيتهم الستالينية في النظرة إلى الشعب : فالجدار العازل رمز لتصور الشعب جماعة سجينة في حبس إيديولوجي يتحول إلى قفص جغرافي تحيط به الجدران. فالوطن عند الستالينيين ليس شيئا آخر غير حبس المواطنين ليبقوا خاضعين لسلطانهم. ومن لا يقبل سلطانهم يرمى به في الجولاج السبيري. ولما كانوا ليس لهم سيبيريا فالجولاج هو "كاف" الداخلية ودواميس الاستعمار في الشمال يدفن فيها المعارضون أحياء.
من وحي التجربة الصهيونية
ومن علاقة الجدار المزمع بتجربة جدار الضفة الغربية نستنتج دلالتين :
الأولى دور الصهاينة. فالبلاد الآن وبعد الانقلاب النقابي المسمى حوارا وطنيا يقودها تيار يتجاوز اليسار الاستئصالي إلى كل من يشاركه العمالة لإسرائيل ويفكر مثلها في حمايتهم باعتبارهم مستوطنين ضد بقية الشعب أصحاب الأرض. ذلك أن الجدار ليس هدفه حماية تونس من الإرهاب مرة أخرى بل حماية المستوطنات التي يمثلها هؤلاء المستوطنون في تونس. و بين هذه المستوطنات فنادقهم وشاليهاتهم وضيعاتهم وأحياؤهم الراقية ونخبهم العميلة أي كل خدم إسرائيل والغرب ممن امتصوا دم الشعب.
وها هم الآن قد أصبحوا ا حكامه بدعوى حمايته من الإرهاب الذي هم صانعوه : فمن يفتح كل وسائل الإعلام لمحاربة ثقافة الشعب لا يمكن أن يكون هدفه محاربة الإرهاب بل هو يغذيه بالإرهاب الرمزي الذي تبثه هذه الوسائل والدجالون المتكلمون في الدين والخبرة والتحليل الاستراتيجي وحتى عندما يصبر الشعب ويتحمل فإنهم يدفعوه دفعا لما يسمونه إرهابا بالارهاب الرسمي أو المخابراتي.
الدلالة الثانية هي التي يغفلون عنها. فالجدار يفيد بوضوح هشاشة هذه الجالية الاستعمارية التي تتعامل مع الشعب التونسي تعامل الاحتلال الصهيوني مع الشعب الفلسطيني وتعيش رعب الخوف من ثورته: لذلك فهي لا تقوم إلا على السند الأجنبي تماما كإسرائيل. وتلك علة حاجتهم للجدار العازل. فالحكومة والحزب الحاكم فيهما من أحباب اسرائيل ما لم يجتمع في أي حكومة أو حزب قبل الآن. ولعل أكثر الأدلة إفحاما هو أن الغريبة صارت أهم من القيروان. فإليها المحج وقد ياتي في الدرجة الثانية كتدرائية تونس وفي الدرجة الثالثة عبادة القبور والشعوذة وفي الدرجة الخامسة الحانات التي صارت أفضل من المساجد. وكل ذلك للحرب على ما ترمز إليه القيروان والزيتونة والحضارة التي يعتبرها الشعب عين ذاته.
دلالة الدلالات
أما الدلالة الجامعة فهي مشتركة بين كل أطراف الثورة المضادة : فكل الانقلابيين على الثورة -في مصر وسوريا وليبيا وتونس واليمن والعراق- يشتركون في خاصية برزت بوضوح عندما تبين لهم أن الثورة جعلت الشعب يعبر بصدق عن إرادته التي تمثلت في تحرير الحيزين مما جعلهما يتحولان إلى حائلين دون تحقيق شروط الحرية والكرامة والسعي لإعادة وحدتهما شرط القوة المادية والروحية للجماعة التي يحق لها أن تستأنف دورها التاريخي الكوني:
الجغرافيا الاستعمارية التي فتت وحدة الوطن الكبير
والتاريخ الاستعماري الذي شتت وعي الشعب الكبير.
وتلك هي الدلالة الخامسة التي هي أصل الدلالات الأربع التي وصفنا. إنها الدلالة الأخطر : إنها طبيعة الدولة التي يريدونها لاضطهاد الشعب وإفقاده شروط إرادته الحرة وكرامته العزيزة : وحدة الوطن جغرافيا وتاريخيا شرطا في تحقيق مطالب الثورة في الحرية والكرامة والتحرر من التبعية في الحماية والرعاية التبعية التي هي أداة الاستعمار في استضعافنا واستتباعنا وتسليط الاستبداد والفساد ليحكمنا.
فلا يمكن أن تقوم دولة ممثلة لإرادة شعبها إذا كان القائمون عليها يتصورونها قاعدة للحرب على هويتها وانتسابها إلى الحضارة الغازية وليس إلى الحضارة التي تريد استئناف دورها والتي ينتسب إليها الشعب. فالقائمون على الدولة لا يعتبرون الشعب مواطنين من جنسهم بل هم عندهم انديجان له مهمة تحضيرية إزاءهم ومن ثم فمحاربة الإرهاب تعني محاربة ثقافتهم التي يسمونها منابع الإرهاب والتي يريدون تجفيفها :
فما يسمونه تجفيف المنابع يهدف إلى مواصلة سياسة الاستعمار مع الانديجان بفرض تاريخ غير التاريخ الذي كون هوية الشعب والذي أعادته إليه الثورة على فشل المشروع بعد 75 سنة من الاستعمار المباشر وستين سنة من الاستعمار غير المباشر: ألم يكن الاستعمار يعلمنا أن جدودنا هو الجولوا؟ ذلك ما يسعى إليه عملاء التحديث القردي الذي يتصور التنكر للذات شرط التقدم الذي يقصرونه على الإخلاد إلى الأرض.
وما يبنونه من جدران يهدف إلى إحياء الجغرافيا الاستعمارية التي هي غير الجغرافيا التي يتكون منها كيان الأمة والتي أعادته إليها الثورة بعد نفس الحقبتين اللتين أراد أصحابهما خلالها القضاء على وحدة الوطن الكبير. ولا علاقة لهذه الخطة بحماية الوطن من الإرهاب لأن الإرهاب مرة أخرى هو هذه السياسة التي تريد من الشعب أن يتخلى عن ذاته وحضارته ليكون مجرد مسرح للجيوش الغازية عسكريا وثقافيا ومرتعا للعجائز ليكون الشباب التونس مجرد نوادل في خدمتهم عبيدا جددا في العالم الحديث.
عجبي ألم يروا أن كل البلاد التي بنت اقتصادها على الخدمات السياحية أفلست لهشاشة هذا الخيار الغبي الدال على فقدان الطموح للاستقلال والكرامة رغم كل ما قدمته لهم أروبا من مساعدات ما يقدم لتونس بالنسبة إليها مجرد فتات : أين اسبانيا واليونان؟ ولو جمعنا ما خسرته تونس لإقامة هذا القطاع الهش من أرض وماء وبنى تحتية وتحقير من الدينار والخدمات ثم ما سيضاف من حماية أمنية فسنجد أن الشعب التونسي هو الذي يدفع كلفة عطل المتقاعدين الأوروبيين وتعطيل السباب بتعويدة على البزنسة بدل العمل المنتج والفكر المبدع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق