أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2015.07.02
رأينا في الفصل السابق أن مدار المعركة الجارية بين الثورة والثورة المضادة هو الموقف مما نتج عن الانحطاطين اللذين سيطرا على تاريخ الأمة الحديث الانحطاط الذاتي والانحطاط الموروث عن المرحلة الاستعمارية :
فالأول جمد قدرات الأمة الإبداعة فدخلت في سبات شتوي رغم محاولات الإصلاح التيمية (فلسفة النظر والعقائد) والخلدونية (فلسلة العمل والشرائع).
والثاني حاول فرض كسر دائم على أحياز وجودها (المكان وثمرته المادية والزمان وثمرته الرمزية والحصانة الروحية) التي من دونها لا معنى لقيام مستقل للأمة.
ومن ثم فالرهان الحقيقي والمعركة التي ينبغي تسميتها باسمها الحقيقي هي حرب تحرير ملتقى القارات الثلاث (آسيا وافريقيا وأوروبا) وخاصة الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط من استعمار الضفة الشمالية لها سواء كان ذلك مباشرة أو بواسطة العملاء التابعين للغرب ولذراعيه في الإقليم إسرائيل وإيران . إنها نفس الحرب التي تكررت منذ ما قبل الميلاد (بين روما وقرطاج) وظلت تتكرر في العهود المتوالية طيلة القرون الوسطى إلى أن بلغت ذروتها وتمامها في عهد الاستعمار عندما تقاسمت دول أوروبا بقايا الخلافة العثمانية حتى بلغت الذروة في حرب التحرير في القرن الماضي.
لكن الجديد في هذه الحرب أنها صارت بعد جلاء الاستعمار أكثر خبثا لأنها تتوسل الغزو اللطيف والعملاء بدلا من الغزو العنيف والحضور المادي للمستعمر فأصبحت حربا أهلية داخلية بين طالبي الاستقلال والتحرر من التبعية المادية والمعنوية وعملائه الساعين نيابة عنه إلى الحفاظ على ما وطده من شروط تجعل هذه المنطقة عاجزة عن الاستقلال. وإذن فالثورة الحالية هي في حقيقتها التي ينبغي أن تعلن صراحة حرب أهلية بين مشروعين أحدهما يؤمن بالذات ويحاول استئناف دورها التاريخي والثاني يئس منها ويقبل بالاستعمار.
وهذه الحرب تبرد أحيانا وتسخن أخرى لكنها متواصلة منذ بداية الاستعمار الأوروبي الحديث أي منذ بداية المقاومة التحريرية المعاصرة لحركة الإصلاح والنهوض في الوطن العربي والعالم الإسلامي في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. لذلك فالثورة ليست بنت ما يسمى بالربيع العربي الذي لا يمثل إلا لحظة اجتماع الشروط لتعم الثورة كل الأقطار بالتزامن وبنفس المطالب الإصلاحية والتحديثية في آن. إنها حرب أهلية بين:
1-الثوار الذين يريدون تحرير الضفة الجنوبية من الأبيض المتوسط وكل المنتسبين إلى نفس الحضارة (الحضارة العربية الإسلامية) من خلال استعادة شرط شروط هذا التحرير أعني التوحيد المحقق للكرامة والحرية للمواطن والوطن في آن.
2-وأعداء الثورة الذين يريدون إبقاءها خاضعة للضفة الشمالية بمنع تحقيق شرط الشروط لتحقيق حلم روما الجديدة فتواصل استعمارها والقضاء على وحدة أحيازها والتعامل الندي معها والاحترام المتبادل بين الضفتين.
وأوروبا المتحدة أو روما الجديدة التي تتعامل معنا تعاملها السابق في بداية عهد الاستعمار بسياسة فرق تسد, سياسة التدخل لصالح المدافعين عن التبعية-وتساندها في ذلك الولايات المتحدة لحماية إسرائيل مما يمكن أن يحدث لو تحققت وحدة الضفة الجنوبية. وعلينا أن ندرك أنها لا يمكن أن تتعامل مع الضفة الجنوبية معاملة الند للند إلا إذا أدركت أن شباب الثورة لم يعد غافلا عن غايات المساندة اللامشروطة للثورة المضادة في الانقلابات التي تقدمت على الثورة في الجزائر واستئنفت على الثورة في مصر والتي هي بصدد الانتشار في كل أقطار الربيع.
وعلى حكماء أوروبا أن يعلموا أن شباب الثورة لن يتسامح مع التدخل الاستعماري لإجهاض ثورته التحريرية وبناء شروط حريته وكرامته. عليها أن تدرك أن شباب الثورة إذا اضطروه لذلك فلن يتركوا أوروبا خارج الصراع وهي تحرك دماها لإبقائنا خارج التاريخ. فات الزمان الذي يمكن للعدو أن يحصر الحروب خارج أرضه: فإذا لم يريدوا الأمن والعدل للجميع فمعنى ذلك أنهم سيجعلون اللاأمن والظلم للجميع. والحرب الأهلية التي ينحاز فيها الغرب الأوروبي للثورة المضادة رغم أنها تمثل نقيض قيمه ضد الثورة التي تؤمن بأفضل ما في قيمه وتعتبرها مطابقة لأفضل ما في قيمها يمكن أن تعم الأبيض المتوسط بضفتيه بل والعالم إذ إن الأخيار من البشر وكثير منهم بين شباب أوروبا يرفض هذا الوضع بصرف النظر عن كل الفروق بخلاف الأجيال التي رضعت منطق الاستعمار لن يقبلوا لغة الغرب المزدوجة في ما يتعلق بحقوق الإنسان وكرامته. لن يقبل شباب الثورة:
بتفتيت مكان أمته بالجغرافيا التي فرضها سلاطين الانحطاط سابقا والتي يريد الاستعمار تأبيدها من خلال دعم نوابه الذين يمثلون الاستعمار غير المباشر ويطلقون أيديهم بالاستبداد والفساد في خيرات البلاد وحريات العباد.
وتشتيت زمان أمته بالتاريخ الذي فرضه نواب الاستعمار لأن السلاطين كانوا على الأقل دونهم خيانة لوجدان الأمة. لكن عملاء الاستعمار يريدون أن يجعلوا لكل قطر تاريخ يخصه يجعله أمة بدلا من أن يكون جزاء من أمة.
وتقزيم دورة أمته الاقتصادية بسبب المكان المفتت فصار كل قطر ارتباطه بالمستعمر أساس بقائه وعلة قطيعته مع باقي الأقطار. وهذا الارتباط بالمستعمر يوطد التبعية ويجعل الابتزاز الاقتصادي حائلا دون أي إمكانية لحرية المواطن وكرامته.
وتهديم دورة أمته الثقافية بسبب الزمان المشتت فصار كل قطر يخلط بين الفلكور المحلي والثقافة التي تؤسس عليها الأمم تربية أجيالها التي تصبح محتقرة لذاتها ومؤمنة بأنها لا تبلغ درجة الإنسانية إلا بالتبعية الروحية لسيد مستعبديها.
وإعطاب مناعة أمته الروحية بسبب كل تلك الأدواء التي زرعها الانحطاطان الذاتي والاستعماري وتحاول نخب الثورة المضادة سواء انتسبت إلى تشويه الماضي الأهلي أو إلى تشويه الحداثة الإبقاء عليها حتى تبقى في دورها المسيطر بالاستبداد والفساد على مقدرات البلاد خدمة لحاميها مستعمر الأمس.
فالعميل من النخبة السياسة الحاكمة ومنظريها من أدعياء التحديث وأبواقها من سفهاء الإعلاميين يحتقرون الشعب ويريدون حكمه رغم أنفه بالحديد والنار بدعوى قوده إلى جنة الحداثة القشرية بالسلاسل حتى يتمكنوا نهائيا من القضاء على أساس كل صمود حضاري للجماعة خلطا بين الحداثة المبدعة والمحررة للإنسان وحداثة البهرج الاستهلاكي للنخب العميلة.
والعميل من النخبة الاقتصادية بنفس المنظرين والإعلاميين تابعون للنخبة السياسية بل هم هي بعد أن نهبوا البلاد فصاروا أغنياء يتاجرون بثروات البلاد ويتقاسمونها مع المستعمر. وهم ساعون إلى جعل البلاد العربية مجرد أسواق للخردة التي يقتلون بها شعوبهم كما نرى ذلك جاريا في سوريا ومصر والعراق وقبل ذلك في الجزائر أومستودعات للفضلات النووية أو مناجم للمواد الخام التي تنهب أوممرات للقوة الاستعمارية ومنتزهات لعجائزهم بل هم جعلوها ذلك كله في آن.
والسفيه من النخبة التربوية (عميل العلماء من النخبتين السابقتين المتسول على فتاتهم) خدمة للنخبتين السابقتين يحولون التربية إلى مجرد ساحة إيديولوجية للتحقير من الذات وتمجيد الاغتراب في الغير باسم تحديث قشري لا يجعل المدرسة مؤسسة تخرج المبدعين القادرين على تمكين الأمة من سد حاجاتها التي لا تسد من دون ثورة علمية وتقنية بل مجردى مستهلكين للميت من الأفكار التي لا تتجاوز سابق الرأي وبادئه. ولعلك واجد نموذج السفاهة في أولئك الذين يتصورون تعريب التربية انغلاقا وهو لا يتعدى انفتاحه على لغة أسياده التي صار يدافع عنها أكثر منهم علما وأن دعاة التعريب أكثر علما منه بجل لغات الغرب التي يعتبرون التمكن منها شرطا في التعريب الناجح كالحال في كل جامعات العالم.
والسفيه النخبة الثقافية وهم أدنى العملاء رتبة لأن أغلبهم من أرباع المثقفين (عميل العملاء من النخبتين السابقتين المتسول على فتاتهم) لا تتجاوز خدمتهم تلميع أسيادهم من النخبتين الأوليين فيحولون الثقافة إلى مجرد شطيح ورديح لا يشجع على الإبداع والتميز بل أقصى ما يصل إليه الخيال المبدع في الفنون هو التعبير عن أحوال نفوس مريضة تخلط بين التعبير المبدع للمستقبل ومجرد الاستبطان السطحي لبعض الفاشلين في حياتهم.
أما نخبة الحيز الأساس وأصل كل الأحياز أعني النخبة التي من المفروض أن تكون راعية للمناعة الروحية فإنها تنقسم إلى من ما يزال منهم في سبات عميق همه أن يبقى في خدمة أنظمة الجاهلية العربية أو إلى من يخلط بمنطق سخيف بين الجهاد الذي يحقق استراتيجية تستعيد دور الأمة الكوني من أجل استئناف رسالتها المحررة للإنسانية ومجرد التخبط العنيف لحركات لا تميز بين السعي إلى الهدف البعيد ومجرد الاقتتال من أجل أن تتقاسم ما صار تركة بلا صاحب إذ يصبحوا أمراء حرب في هذه الحركات ضمن نفس ما خلفه سعي الاستعمار وعملائه للقضاء على وحدة الأحياز التي يتعين فيها قيام الأمة بل يزيدونها تفتيتا وتبديا:
1-حيز المكان الذي أقصى ما يمكن أن يحققوه فيه بهذا السلوك لن يتجاوز الإبقاء على نفس التبعية لكون الدويلات التي عزلها الاستعمار بالحدود المغلقة فيما بينها لا تستطيع تحقيق أدنى شرط من شروط التنمية المستقلة لأن ارتباطها به اقوى من كل ارتباط آخر بمن حولها من أبناء جلدتها.
2-وحيز الزمان الذي اقصى ما يمكن أن يحققوه فيه بهذا السلوك هو مواصلة الكلام على الخصوصيات القطرية ومحاولة بناء مجد قطري حتى صار البعض يتكلم على تحديد الإسلام بالفلكور القطري كأن يقابلوا بين إسلام تونسي وإسلام تركي وإسلام أفغاني إلخ.. من المهاترات السخيفة.
3-وحيز الدورة الاقتصادية التي ستزداد تبعية لأن أمراء الحرب سيحولوها إلى مجرد معابر لتجارة الممنوعات كما نرى ذلك عندما يختلط الجهاد والإجرام المنظم في بعض الحالات إما لغفلة تمكن من اندساس المجرمين فيها أو بسبب تكوين بنيوي لهذه الجماعات التي جعلت الرسالة مجرد عبث للمغامرين.
4-حيز الدورة الثقافية التي سيحصل فيها ما يحصل في الدورة الاقتصادية لأنها ستزداد بداوة وتخلفا إذ إن التبعية في المجالات الاقتصادية الدنيا مع تكوين إمارات تخلط بين استئناف الدور بمنطق العصر ومجرد تقليد الماضي لا يمكن أن تحقق ثورة علمية أو تقنية.
5 وحيز المناعة الروحية أو القيام المستقل للأمة الذي سيجمع بين الانحطاطين إنحطاط ماضينا في العصور التي تلت العصر الذهبي والانحطاط المروروث عن الاستعمار من تحضر استهلاكي دون شروطه العلمية والتقنية ما يعني أن الحيز الذي لم يستطع الاستعمار فك وحدته يصبح مهددا من قبلهم فإذا هم يحققون ما عجز دونه الاستعمار وعملاؤه.
تلك هي الحال التي عليها الوضع وتلك هي المعارك التي على شباب الثورة أن يدرك أبعادها ليخوصها وهو على علم بمجالات التحدي وبعسر المهمة. لكنها ليست مهمة مستحيلة بل إن ظروف التاريخ الحالية تشجع عليها وتيسر سبل تحقيقها بشرط أن يواصل شباب الثورة جهده لحسم هذه المسائل. فالتجربة الأولى تمكنت بأقل مما نملك من إمكانات من تحقق ما جعل المسلمين اليوم قلب العالم. وعلى أجيالنا الحالية أن تكون أهلا لما ورثته عنهم: كيف نغير الجغرافيا والتاريخ والدورة الاقتصادية والدورة الثقافية التي فرضها الانحطاطان لكي تصبح المناعة الروحية التي يمثلها أساس قيامنا ووحدتنا أعني قيم الإسلام متحققة فعلا في الأعيان فلا تبقى مجرد أشواق وأحلام في الأذهان.
ولما كانت الثورة فرصة سانحة للتخلص من هذه الأدواء فإنها لن تكتمل بحق ولن تحقق ما طلبت به في موجتها الأولى باعتباره الغاية المباشرة أعني الكرامة والحرية إلا إذا حققت شروطهما أعني:
القدرة المادية أو التنمية المتحررة وغير التابعة سياسيا واقتصاديا (بإعادة وحدة المكان والقضاء على الحدود المكانية)
والقدرة الرمزية أو التنمية وغير التابعة تربويا وثقافيا (بإعادة وحدة الزمان والقضاء على الحدود الزمانية).
فالثورة إما أن تشمل كل الوطن أو هي ستفشل حتما. ذلك أن كلتا التنميتين مستحيلة بالنسبة إلى أقطارنا إذا باشرها كل قطر بمفرده والثورات سيقضى عليها إذا تركت في حدود القطر إذ يستفرد بها العدو فيجهضوها الواحدة تلو الأخرى. وقد فهمت دول أوروبا ذلك بعد الحرب العالمية الثانية رغم كون حجهما لا وجه للمقارنة بينه وبين حجوم أي قطر عربي حالي فهموا أن الحجم المطلوب للتحرر من التبعية ينبغي أن يكون معادلا للقوى المهيمنة أو على الأقل قابلا للمقارنة متها لكونه بات مشروطا في كل سعي لدخول المنافسة في كلتا التنميتين:
فالبحث العلمي المحقق للتنمية العلمية والتقنية المشروط في التنمية الاقتصادية والاجتماعية ليس في متناول أي قطر عربي بما في ذلك تلك التي تدعي الثراء لأن بها بعض آبار النفط: أغني بلد عربي دخله القومي الخام لا يساوي ما يتحاجه برنامج غزو الفضاء مثلا أو أي برنامج للبحث العلمي الأساسي في الطبيعيات.
والإبداع التقني المحقق للتنمية العلمية والتقنية المشروطين فيهما كذلك يحتاج ليس إلى البحث العلمي بمعناه أعلاه بل يحتاج كذلك إلى غزو الفضاء وغزو الكون والتنافس مع الاقتصاديات الكبرى التي تجعل التربية والثقافة وتطبيقاتهما هي بدورها مجال عمل منتج ذي مردود اقتصادي إذا توفر فيه شرط الحجم.
لذلك فالثورة هي الفرصة الثانية التي ينبغي ألا يفرط فيها الشباب لتحقيق هذه الأهداف. فقد كانت الفرصة الأولى هي حروب التحرير الشعبية التي أخرجت الاستعمار المباشر أو أجلت وجوده المادي. وهي قد كانت فرصة للتوحيد لأنها عقيدتها المحركة كانت بالإساس إسلامية ومتجاوزة للحدود. لكن الاستعمار قضى على وحدة العقيدة للمقاومين بأن ولى على البلاد التي أوهمها بأنها تحررت من كانوا مثله يؤمنون بأن المستقبل ليس للوحدة بل لهذه التفتيتات التي وصفنا.
والخوف كل الخوف هو أن تضيع الفرصة الثانية فيبقى المكان مفتتا والزمان مشتتا والدورة المادية مقزمة والدورة الثقافية ممزقة فتمتنع كل شروط التنمية المادية والرمزية ويصبح من العسير بعد فوات الفوت المحافظة حتى على الوحدة الروحية التي بدأ عملاء الاستعمار من الساسة والاقتصاديين والمربين والمثقفين يوجهون إليها السهام القاتلة حتى إنهم لم يعودوا يخفون حربهم على الإسلام نفسه فبات عدوهم الأول والأخير هو قيم القرآن وسنن محمد صلى الله عليه وسلم باسم عقل ليس لهم منه إلا الاسم وحداثة لم يفهموا منها إلى الفتات التي يرميه لهم من يعتبرهم كلاب حراسة لمستعمراته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق