أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2015.11.01
تمهيد :
انطلقت شرارة الموجة الأولى من ثورة الحرية والكرامة من تونس. ومن مكر الله الخير ستكون تونس كذلك منطلق الموجة الثانية. والمكر الإلهي سخر لذلك غباء أدعياء اليسار الحداثة العرب عامة والتونسيين خاصة. وما يعنيني هنا هو بيان هذا المكر الخير كيف تم وما مراحله الأساسية وما مستقبله المتوقع.
ادعى اليساريون والحداثيون العرب في بداية الموجة الأولى للثورة أنهم هم مفجروها. وكاد الكثير يصدقهم بسبب سيطرتهم على الضجة الإعلامية والمسرح المزعوم ممثلا للمثقفين في بلاتوهات التفلزات والإذعات وكل وسائل التواصل إذ هم عاطلون بالجوهر ومتفرغون للثرثرة ما داموا أولاد مقاهي وحانات وصالونات.
لكن الأحداث بدأت تكذب دعاواهم بالتدريج ليس بالالتفات إلى اساطيرهم حول الموجة الأولى بل بالالتفات إلى المستقبل حول أفاعليهم التي ستؤدي إلى الموجة الثانية التي تكون بخلاف الأولى بينة الرسالة والطبيعة ومحددة القيادات بعد أن يكونوا هم قد تحددت هويتهم السياسية والإيديولوجية الحقيقة التي هي نقيض ما يدعونه بصورة تامة.
افتضاح أدعياء اليسار والحداثة العرب
فهم يدعون أن الثورة ثورتهم وأن الإسلاميين ركبوا عليها وتحالفوا مع العسكر في مصر ومع النظام القديم في تونس. وكانت هذه الدعاية أساس ما سمى في مصر وتونس بجبهة الانفاذ التي أوقفت كل أنشطة الدولة والمجتمع وعطلت الإنتاج الاقتصادي وافسدت الأمن المدني فكانت ليس موضوعيا فحسب بل وذاتيا أدوات من يتهمون الإسلاميين بالحلف معهم أي العسكر والدولة العميقة في تونس ومصر على حد سواء.
وكانت العلة بينة : فنجاح الموجة الأولى أولا وما تلاها من فرز للقوى السياسية ثانيا أظهرت لأدعياء اليسار والحداثة حجمهم الحقيقي. رفضهم الشعب عندما عبر بحرية عن خياراته ورفض ما يقدمونه من بضاعة سياسية واجتماعية وخاصة ثقافية. منع الشعب لهم من ركوب الثورة أنهى طموحهم. ذلك أن الشعب يعلم أنهم لم يكن لهم فيها ناقة ولا جمل في الثورة.
كان الشعب الذي خرج بحماسة للتصويت في الاستحقاقات الانتخابية يعلم أن أوهامهم التي كانوا يثرثرون بها في المقاهي والحانات لا صلة لها بالشعب وهمومه بل هي كانت تعبيرا عن حلم ظنوا أنه تحقق: أن يرثوا النظام القديم بكل أجهزته وشبكاته لحكم مصر وتونس دون أدنى تغيير يحقق ما لأجله قامت الثورة أي استرداد شروط الحرية والكرامة وأولها عدم التبعية الثقافية والاقتصادية والسياسية.
كان همهم أن يصبح دورهم أكبر مع نفس المافيات الحاكمة العسكرية والقبلية في اقطار الوطن. ولما كانوا يعلمون أن وجودهم رهن هذه التبعية باتت الثورة ممثلة لعدوهم الأول رغم خطتهم السياسية التي تتمثل في المزايدة على الإسلاميين بدعوى أنهم أقل ثورية وأنهم ركبوا ثورة لم يقوموا بها. وذلك يتبين من أمرين لا يمكن أن يخطئ المرء في فهم دلالتهما مهما حاول أن يتعامى عن الحقائق :
الأمر الأول بنيوي ويتعلق بالأساس الأيديولوجي الذي جمع مكونات جبهتي الأنقاذ في مصر وتونس وخاصة مموليهم من الدولة القبلية التي تخشى الثورة. والثورة كانت مخيفة لهم بسبب جمعها بين جوهر القيم الأصيلة (ضد القبائل التي تمثل انحطاط الماضي لأنها نكوص للجاهلية) والقيم الحديثة ( ضد الانظمة العسكرية التي تمثل انحطاط الحداثة الاستعمارية التي ولت العسكر والمافيات على الأقطار التي كانت تستعمرها استبدالا للاستعمار اللامباشر بالاستعمار المباشر). كلاهما كان يخشى الديموقراطية الحقيقة ويريد أن يخالط الشعب بمجرد شكل خارجي تكون فيه الدول العربية جمهوريات موز تابعة. لكن الشعب فهم اللعبة وأراد أن يستأنف مسيرة أمة تسترد حريتها وكرامتها وتشرع في البناء المستقل المؤصل والمحدث في آن.
الأمر الثاني ظرفي ويتعلق بالمواقف من الوضعية السياسية الراهنة الدالة على حقيقة الأساس الإيديولوجي. فمواقف مكونات الجبهة من الثورة التي تعثرت في ليبيا وسوريا والصف الذي انحازوا إليه يثبتان بصورة لا لبس فيها أنهم يمثلون المافيات التي تمتص دم الشعب وإذن فهم أعداؤه مباشرة وبوصفهم عملاء عدوه الذي يريد الأبقاء على التبعية. فبهذه المواقف المرتبطة بالظرف افتضح كل شيء في بنية الجماعة التي تكونت منها جبهة الانقاذ : تبين أن انحيازهم إلى الدكتاتورية العسكرية (بشار والسيسي وحفتر وصالح وبقايا الجدافي) والدكتاتورية القبلية (ممولوهم) هو المستوى الأول من الخيانة التي لها مستويان أعمق هما الانحياز للملالي ومليشياتهم العربية والانحياز للمسيحية الصهيونية ومليشياتها العربية.
المؤامرة موجودة لكنها لصالح الثورة المضادة
وهنا افتضحت آخر حجة بدأوا في التغريد بها عندما أبعدهم الشعب من قيادة ثورته الحجة التي تتهم الثورة بكونها مؤامرة غربية ضد الممانعة والدولة الوطنية وتتهم من اختارهم الشعب بحرية لقيادة المسيرة نحو تحقيق أهداف الثورة بكونهم أدوات هذه المؤامرة وعملاء أمريكا. ذلك أن انحيازهم بمستوياته الثلاثة- المحلي والإقليمي والدولي- بين أن المؤامرة فعلا موجودة لكنها لصالحهم وليس ضدهم : فهي ليست لصالح الثورة بل هي لصالح الثورة المضادة التي تمثلها جبهة الانقاذ وبأحلافها الثلاثة : العربية والإيرانية والإسرائيلة بقيادة غربية أصبحت بينة المعالم في الهلال الخصيب وفي المغرب العربي وفي الخليج.
لكن ذلك كله لم يوصلنا إلى بيت القصد الذي يبين دلالة اللحظة الراهنة عامة وثورة المساجد خاصة. فبيت القصد هو ما يجري الآن بين الموجة الأولى وبداية الموجة الثانية من الثورة. فقد أراد المكر الألهي أن يجعل عودة النظام القديم وأدعياء اليسار والحداثة للحكم في تونس ومصر الطريق التي تعيد المعركة إلى حقيقتها التي زيفت منذ ما يسمى بالاستقلال الشكلي. فالانتقال من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار غير المباشر تم بأداوت هي هؤلاء الذين عادوا بالانقلابات والمؤامرات بعد الموجة الأولى من الثورة. وعودتهم تعيد المعركة إلى مطلبها الاساسي الأول الذي فقدته بسبب حيلة الاستقلالات الوهمية. بات مطلب الثورة المحدد والجامع لفرعيه أي الحرية والكرامة هو كيف نجعل الاستقلال استقلالا حقيقيا لأمة ذات رسالة بمرجعية روحية وقيمية غير تابعة لبناء شروط القوة المادية والروحية وتحقيق شروط التحديث الأصيل المتحرر الانحطاطين الذاتي والمستورد.
ينبغي أن نعترف لأدعياء اليسار والحداثة بأن لهم فضلا كبيرا بسبب غباواتهم التي أفقدتهم كل حيل التخفي : تبينت طبيعتهم المليشاوية بأصنافهم الخمسة : الباطنية والصليبية أداتي إيران والعلمانية والليبرالية أداتي إسرائيل والقومية الفاشية المظلة الجامعة والتي تستمد بقاءها من العمالة الفعلية والمقاومة القولية لذراعي الغرب إيران وإسرائيل.
غباؤهم من مكر الله الخير
إننا ندين لغبائهم بإعادة المعركة إلى أصلها لأنهم فهمة أن هو الذي كان فشلهم بوصفهم أدوات الاستعمار غير المباشر كما كان سبب فشل الاستعمار المباشر. الشعب رفضهم رفضه للاستعمار المباشر. فاضطروا للكشف عن حقيقتهم فكان الحلف ذي المستويات الثلاثة :
مع الدكتاتورية العسكرية والقبلية داخليا
ومع الملالي والمسيحية الصهيونية خارجيا
ومع محرك الحلفين أي المؤامرة الأمريكية لمنع الأمة من استئناف دورها.
لكن الثوار كانوا مدركين لهذه الحقيقة قبلهم فلم تنطل عليهم دعايتهم بمقاومة الامبريالية والسعي للديموقراطية. ذلك أن الثوار يعملون -كما تبين شعارات الثورة حتى وإن لم يكن ذلك بوعي كامل الشفيف-أن هذه المليشيات الخمس طوابير خامسة تخفي عداوتها لسر قوة هذه الأمة ومبدأ صمودها وشرط استئناف دورها فابعدتهم واعتبرتهم أذيال الأعداء وهم فعلوا كل شيء ليثبتوا صحة هذا الحكم بما وصفنا .
لذلك فبمجرد عودتهم إلى الحكم وبعد افتضاح أمرهم بهذه الأحلاف صار ما كانوا يخفونه علينا. فأصبحت الحرب على المرجعية الروحية شعارهم الصريح الذي هو عين الهدف الذي فشل فيه الاستعمار المباشر. وهذا هو المقتل الحاسم : لم تعد المعركة مع حزب إسلامي معين بل هي مع شعب مسلم عامة . والرمز هو الحرب على مؤسسات المرجعية الإسلامية : الكتاتيب والمساجد والجمعيات الخيرية وخاصة على اللغة والتاريخ والقيم التي يعتبرها الشعب أساس استقلاله الذي هو بداية كل عمل تحرري ماديا (التنمية الاقتصادية والاجتماعية) وروحيا (التنمية العلمية والتقنية والخلقية).
غباؤهم من نعم الله على الأمة
لذلك فيمكن القول إن غباء أدعياء اليسار والحداثة يمثلان البعد السلبي من شروط تحقيق مقومات الموجة الثانية من الثورة التي هي البعد الإيجابي من مسار التاريخ العربي الإسلامي الحديث. فالبعد السلبي مكن من التعيين الدقيق لشرطين كانا خفيين في الموجة الأولى وأصبحا الآن علنيين برمزيها البينين رمزيها اللذين نقلا المعركة من مقابلة بين إسلامي علماني إلى المعركة بين جماعة مؤمنة بذاتها حرة مستقلة هي الأمة كلها دون انتساب حزبي ومليشيات عميلة للاستعمار وذراعية في المحل والإقليم بقيادة من يريد أن يسيطر على العالم من خلال الاستحواذ على بلاد المسلمين جغرافيا سياسيا (لانها سيدة كل البحار السخنة في المعمورة) واقتصاديا (لأن جل طاقة العالم فيها فضلا عن الخيرات الأخرى) :
الرمز الأول هو ثورة المساجد التي تمثل في الثقافة العربية الإسلامية الدين والعلم والوعي السياسي والمدني كما ترمز إلى ذلك الجمعة التي هي المؤسسة الجامعة لأبعاد الثورة القرآنية : حياة التعالي على الإخلاد إلى الأرض (الدين) وحياة الاستعمار في الارض (السياسة) شرطين في الأهلية للاستخلاف أي للكرامة الإنسانية التي هي الحرية المطلقة ورمزها الا معبود للإنسان غير الله.
الرمز الثاني هو أن هذه الثورة ليست لحزب معين يوصف بكونه إسلاميا بل هي لشعب يريد أن ينهض دون أن يفقد مرجعياته بل هو يعتبرها اساس نهوضه الروحي المشروط في نهوضه المادي. ومن ثم تدارك ما فقده في معركة الاستقلال الأول. لن يترك الشعب مصيره بيعد عملاء الاستعمار الذين كادوا يحققون ما عجز عنه : سلب الشعب شروط قيامه الذاتي لجعله تابعا روحيا وليس ماديا فحسب.
إن الدلالة الحقيقة لهذين الرمزين دلالة جوهرية وهي محددة لصورة الموجة الثانية من الثورة ولمادتها. إنها دلالة مضاعفة فرعها الأول يتعلق باسترداد المعنى الحقيقي لمسار النهوض العربي الإسلامي بوصل الحاضر بالماضي مسارها منذ قرنين من حيث هو ثورة تحرر داخلية على الاستبداد والفساد (ويمثله سلوك الأنظمة العسكرية والقبلية والنخب العميلة التي ترفض التحديث المستقل الذي لا يقطع مع الأصول) وثورة تحرير خارجية ضد الاستضعاف والاستتباع (ويمثله استناد هذه الأنظمة والنخب العميلة على السند الأجنبي بديلا من الشرعية المفقودة).
وفرعها الثاني يتعلق بمسار النهوض العربي الأسلامي بوصل الحاضر بالمستقبل مسارها من حيث جعل هذه الثورة ببعديها التحرري والتحريري مضمون الموجة الثانية من الثورة الحالية بعد أن تحدد الهدف الموحد لكل مطالبها وتعينت قياداته في السلم والحرب على حد سواء: قياداته هي قيادات ثورة المساجد. ولا أقصد بقيادات ثورة المساجد الأيمة المخلصين لقيم الثورة الجامعة بين الأصالة الروحية (المرجعية الذاتية) والحداثة السياسية (الديموقراطية) فحسب بل وكذلك من فهم أن المعركة ليست بين الدين والدولة بل هي بين دولة مخلصة لشعبها وحضارتها ودولة لقيطة لا تقوم إلا على التبعية والذيلية للاستعمار مباشرة ولذراعيه ومليشياتهما في المحل والإقليم والعالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق