أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2016.04.18
اعراض المرض السطحية
كلامي سيكون على محركي الدمى لا عن الدمى والأذيال التي من جنس بعض المستكلبات والمستكلبين من "مثقفي"تونس ومصر وأدعياء الحداثة لمعاناتهم من عقدة عدم احترامهم الباطن لذواتهم واختصاصهم فجعلوا التنكر لهما نفيا ضمنيا لهما وانتسابا دعيا لما يتميز به سيد لا وعيهم.
فهم قد استبطنوا احتقار الاستعمار لثقافتهم التي اختصوا في فرعيها الأساسيين أي اللغة والحضارة العربية. وبدلا من الإجادة فيهما وانتاج ما يثريهما بمعاييير اكاديمية محترمة تجدهم "يتعلطون" على ما لا علاقة لهم به فيتجرأون على الفكر الفلسفي بكليشهات الحداثة علما وأنهم ليس لأي منهم "في السوق ما يذوق" عدا تخريف عركون والشرفي وحامد أبي زيد والقمني أعني فضلات الفكر الفلسفي الشعبوي غير المستوعبة أو روبافيكيا مجلات التقريب الجمهوري.
ذلك أن هؤلاء الحمقى لا يدرون أنهم مجرد أبواق لرجع صدى معركة لا يعلمون حتى منزلتهم الحقيرة عند موظفيهم. فأن تتجرأ الأصوات المتعالمة ضد كل ما يؤمن به شعبهم بدعوى الفكر النقدي من الأدلة على سخافة أصحابها فضلا عن الطابع البين لعملهم المرتزق: فهم جميعا مأجورون لمن يحركهم في معركة لا ناقة لهم فيها ولاجمل عدى البقشيش الذي يرمى لهم بوصفهم نوادل في مسرح المعركة.
ومن علامات غبائهم التناقض البين لخطابهم. فإذا كانوا يعتبرون معتقدات الشعوب عامية وخرافية وأن ذلك هو ما لا يمكن للشعب أن يتجاوزه بتصوراته العفوية والغفلة فيكون مثلهم "مثقفا" فأي معنى لحربهم عليها ومحاولة بيان هذه الحقيقة لمن هو عندهم عاجز على تصور ما يتجاوزها ليكون مثلهم؟
هل يريدون كنسية مضادة هم بابواتها الذين يفرضون على الشعوب معتقداتهم؟ وبأي قوة يسعون لذلك؟ أليس بقوة الدولة التي يريدون الاستحواذ عليها بسند أجنبي لأن وزنهم الكمي فضلا عن الكيفي لا يتجاوز مجاورة الصفر سواء استعملنا الصناديق أو الشارع للفصل في الأمر؟
وإذا كان الشعب يحتقرهم ولا يوليهم أدنى قيمة فيتركهم يهذون لأنه هو الساخر منهم رغم ظنهم أنهم هو الساخرون فإن بعض الشباب يمكن ان يرد الفعل فيقدم على أفعال توصف بكونها داعشية. وإذا لم يكن القصد هو خلق الظاهرة فاي معنى لكل هذا الاستفزاز من مستكلبين بمعنيي الكلمة:
الاستكلاب الأول بمعنى النهج الكلبي أو السينسم المعتمد على قلة الحياء والجرأة اللامعقولة على كل مقدسات شعوبهم. فبقدر ما يتجرأون على كل الرموز التي ليس لها قوة الفعل المباشر على امتيازاتهم تجدهم من أذل خلق الله في خدمة اصحاب القدرة على حرمانهم مما يعتبرونه أسمى الخيرات: إشباع بطونهم وفروجهم.
وتلك علة المعنى الثاني للاستكلاب بمعنى سعار اللبراتينسم بعرضيه: طريقة كلامهم إذ يزبدون ويرغدون دون أن ندري علل هذه الحماسة المرضية في إبراز جنونهم. وطريقة تسيبهم في عفونات وجودهم المتدني الذي لا يتجاوز ما دون السرة مع كل المذهلات التي تغيب الوعي فتزيل ما يخول الإنسان للكلام في هذه المسائل التي تتعلق بروحانيات الشعوب.
داعش الظاهرة والدواعش الخفية
من يصنع داعش؟ خمسة عناصر تصنع الظاهرة : عنصران موضوعيان وعنصران ذاتيان والأولان لاعلاقة لإرادة صانعيها بهما والثانيان هما علة دور صانعيها والأخير هو ما في ذلك كله مما لا نعلم.
فـماذا أعني بـ"والأخير" هو ما في ذلك مما لا نعلم؟ إنه ما أشارت إليه الآية 60 من الأنفال "وآخرون لا تعلمونهم الله يعلمهم". ففيها أمر مجهول نقدره ولا نستطيع له تحديدا.
ولنبدأ بالعنصرين الموضوعيين. فأحدهما في الأذهان وهو التاريخ في الأذهان. إنه ثابت تاريخنا وتاريخ من يعادينا في الإقليم وما يحيط به: وذلك منذ التاريخ القديم.
فالمعمورة عامة والإقليم خاصة يخضع لقانون التاريخ الطبيعي قبل القانون الخلقي. وهو أن الأجوار فيها يتنافسون ويتصارعون على الأرض وخيراتها التي هي أسباب عيشهم.
وهذا الصراع يحكم التاريخ الإنساني قبل نشأة الدول بين الجماعات الصغرى والكبرى وبعدها. وهو يتزايد كلما قلت أصبحت سباب العيش نادرة بسبب تلاصق الأجوار بحثا عنها فيصبح الصراع سبيلا إليها.
في خلال ذلك تكبر الجماعات فيتضخم الصراع ويصبح صراع أمم كبيرة ومناطق ثقافية كبرى. وسنكتفي منها بما يتعلق بنا أيب ملتقى القارات الثلاث المتلامسة أي آسيا وافريقيا وأوروبا.
فما فيها من صراعات تصبح بعد تغلب قوة في كل منها صراعا بينها . والمعلوم منها عندنا حتى لا نطيل بدأ بالصراع بين قرطاج وروما على تجارة ملتقى القارات.
وقد قص أفلاطون صراعا خياليا بين حضارة يونانية قديمة وحضارة أخرى انتهت بتغلب اليونان وانقراض الحضارة الأخرى تأسيسا لتاريخ اليونان التي الموجودة في التاريخ الفعلي (الاطلنطيد).
كانت الحرب سجالا بين شرق هذا الإقليم الذي تلتقي فيه القارات الثلاث وغربه. غلبت روما قرطاج وظلت سيدته إلى أن استعادت حضارة جديدة يفاع القوة فعاد الصراع من بداية القرون الوسطى إلى بداية العصر الحديث بيننا ممثلين لقارتين وأوروبا المسيحية.
وكان المد لصالحنا والجزر ضد اوروبا المسيحية حتى بدأو الحرب الصليبية ثم حرب الاسترداد وتم الحسم المادي لصالحهم فبلغ الذروة في استعمارنا عنوة..
وقد حضارتنا صمدت. لكننا منذ سقوط الاندلس والاحاطة بدار الإسلام أصحبنا شبه خارج التاريخ إلا انفعاليا أي خضوعا لإرادة سادة العالم الذين أخذوا منا مقاليده وسيطروا.
وصمودنا يعني أن المقاومة لم تتوقف. لكنها كانت معتمدة على أدوات بدائية لم تواكب تقدم سر الحضارة الحديثة أي العلوم وتطبيقاتها والتنظيم السياسي وثمراته المدنية.
ولولا تنافس قوى الغرب خلال تقاسم المعمورة وما كان جزءا من امبراطوريتنا ولولا قوة عقيدتنا لكان مآل المسلمين كلهم مآل مسلمي الأندلس والهنود الحمر. تنافسهم وعقيدتنا مكنا لصمود المقاومة وبداية الاستئناف.
ما دلالة وجود داعش؟
داعش أساسها غاية مؤلمة لهذه المقاومة البدائية مع ما يشوبها من توظيف من قبل العاملين الذاتيين أي الناتجين عمن يستفيد من هذا الحل الفاسد لمشكل حقيقي.
فما المشكل الحقيقي الذي يعالج علاجا فاسدا بذاته ويستغل بتوظيفاته ليحقق عكس دوافعه وغاياته؟ فلنذكر بالعنصرين الموضوعيين ما هما وكيف يفعلان.
تاريخ العلاقة بين الحضارات في ملتقى القارات الثلاث نعتبر نحن واوروبا آخر من يـمثلها في تاريخ المعمورة. وذلك في الأحداث والأعيان وفي الأحاديث والأذهان.
ومن هذا نتجت إيديولوجية داعشنا وداعش الغرب الحالي أعني يمينهم الذي هو أكثر داعشية من داعشنا بسبب ما لديه من قدرات: هم يواصلون وهم المحافظة على علاقة الغلبة لصالحهم ونحن نحافظ على طرق بدائية في المقاومة.
وقد سبقونا إلى ذلك وبنفس الأسلوب لما كنا نحن الغالبين. فهم استردوا الأندلس وكل ما كان تحت سلطاننا بمقاومة بدائية. لكن الفرق أنهم تجاوزا بدائية المقاومة لأن لهم مؤسسات فهمت شروط الغلبة الإسلامية حينها.
انتقلوا من حركات المقاومة في أدغال الأندليس أي حزامها الفاصل بينها وبين بلاد الفرنجة بـالإغارات البدائية المماثلة لحركات المقاومة الإسلامية الحالية انتقلوا إلى تكوين دول أسست للعلوم وتطبيقاتها.
فكان سر غلبتهم دور الكنيسة في توحيدهم سياسيا وروحيا بدءا بحروب الصليب وختما بحروب الاسترداد ومعرفيا وروحيا بإصلاح نظام التربية لديهم ضما للفلسفة وعلومها إلى الدين وعلومه جمعا بين القوتين الروحية والعلمية.
وقد نبه ابن خلدون لهذه الظاهرة لكن أسمعت لو ناديت حيا. بقيت التربية لدى المسلمين في حربها الأهلية الغبية بين ممثلي الأركان الخمسة لمناهل المعرفة : ممثلي الفقه والتصوف وأوصلهما عمليا والكلام والفلسفة وأصولهما نظريا والتفسير الأصل الجامع بينها كلها.
ومعنى ذلك أن الأصل الجامع يتضمن في آن الموقف التأويلي (اصول الفقه والتصوف) والتحليلي (أصول الكلام والفلسفة) دون أن يتسير البحث في الجامع بين التأويل والتحليل قبل ثورة ابن تيمية في النظر وثورة ابن خلدون في العمل الثورتين اللتين وئدتا لانعدام من يواصلهما بعدهما.
فكانت الـحرب النظرية بين علم الكلام والفلسفة بترضية حكام حمير ينحازون للدجل للسلطان على العامة والحرب العملية بين التصوف والفقه بنفس التحريض لنفس الغرض مع غلبة كل النزعات التعقيمية لإبداع شروط القوة.
عمت الحرب الأهلية بغلبة النزاعات الكلامية والشعوذات التدجيلية بين توابع التصوف والكلام وبين توابع التصوف والفلسفة وبين توابع التصوف والفقه وهم في الحقيقة جميعهم أدوات في يد استبداد وفساد لا يهمه مصير البلاد والعباد.
وما يزال الامر على ما هو عليه إلى الآن كما بينا في القسم الأول الذي بدأنا به هذه المحاولة. فالتعليم الحالي ظاهره حديث وباطنه أكثر تخلفا مما كان عليه في غاية القرون الوسطى بسبب غياب الشروط والمشروع خاصة.
فشروط القوة المحققة للحماية (القوة الاقتصادية والدفاعية) والرعاية (الشروط الاقتصادية والاجتماعية) تتعلق بالبحث العلمي والسيادة السياسية ومن ثم فلا يمكن تصورها ممكنة من دون مشروع يسعى إليها.
25-وكلاهما غابت شروطه بسبب سلوك النخب التي من المفروض أن تكون هي الساعية إليه والطامحة لتحقيقه لأنه شرط شروط فاعليتها الحديثة في العالم كله.
حقيقة داعش ما هي؟
داعش وجنيساتها بديل فاسد مما كان ينبغي ان يكون من مهام النخب الخمس التي تتألف منها قوة الأمم: نخبة الإرادة (السياسة حكما ومعارضة) والفكر (العلوم إبداعا ونقدا) والقدرة (الاقتصاد راسمال وعمل) والحياة (الفنون والنقد الجمالي) والوجود (الدين والفلسفة).
فباستعارة طبية ليست داعش إلا حمى بدن الأمة الجماعي يستغلها الدواعش الحقيقيين الذين سنتكلم عليهم الآن في حديثنا عن عاملي الوضعية الذاتيين أي ما ينتج عن التوظيف القصدي للظاهرة.
فهي بديل أحمق من دور النخب الخمس تعبيرا بدائيا عن إرادة الجماعة الهزيلة وعن فكرها الساذج وعن قدرتها الباهتة وعن حياتها المدقعة وعن وجودها الغائم في غياب التعبير المناسب للعصر والمحقق لعميق الأهداف.
لذلك يجد فيها الشعب تعبيرا عن عجزه وعن التشفي البدائي من أي عدو ولو بخدش صغير ينفس عن العضب العاجز ولا يحل اي مشكل بل هو يزيد الوضع تعفينا.
ما علل وجودنا في هذا الوضع؟
نحن أحد قطبي ملتقى القارات الثلاث يتعامل معنا القطب الثاني بمنطق إما هو أو نحن لكنه لم يستطع محونا من جغرافية الإقليم فضلا عن محونا من تاريخه. وذلك منذ انتقال الإقليم من الصدام بين قرطاج وروما إلى القطبين الحاليين بعد سقوط السوفيات : نحن والغرب.
والمشكل أن "نحن" لسنا إلا قطبا بالقوة في حين أنه "هو" قطب بالفعل. وهو قطب يخشى انتقالنا من القوة إلى الفعل. وليس هو الوحيد لأنه توجد ثلاث قوى تسعى لنفس الغاية.
فالصفوية والصهيونية والقومية (سواء كانت بعثية أو ناصرية) ثلاثتها تريد شطبنا لاسترداد امبراطوريات متقدمة على الإسلام : امبراطورية فارس وامبراطورية داود وامبراطورية مابين النهرين وامبراطورية الفراعنة.
ثم إننا نحن المسلمين كنا ولازلنا في كماشة بسبب وجودنا في الوسط بين قطب الشرق الأقصى (الصين والهند) الممتد من الجانب الثاني من المعمورة إلى قطب الغرب الجديد أو الغرب الأقصى (أي الغرب الجديد في الأمريكتين).
فالوضعية التي نشأت خلال الصراع ومحاولة الغرب الإحاطة بنا من خلال الانعطافتين حول أفريقيا وحول أمريكا جعلتنا في قلب تاريخ المعمورة كلها من جديد بمجرد أن عاد لنا طموح الاستئناف.
وإذن فكون الصراع معنا استئنف على أشده الآن في غاية العولمة ليس من الصدف بل ليس هو إلا دليـلا قاطعا على أن تاريخنا منذ بدئه في ملتقى القارات كوني بالجوهر ولا يمكن أن يكون إلا كذلك.
داعش نقيض الحل الواجب
لايمكن لهذا التاريخ الكوني أن يتم التعامل معه بالوسائل البدائية لرد الفعل العفوي من شباب غاضب يسهل توظيفة من أعداء قضيته واستغفاله بأيسر الطرق وأكثرها بدائية.
فمن اليسير استغفال الشباب الغاضب والمعبر عن هذا الوعي الغائم بطبيعة المعركة وهو استغفال يرد كذلك إلى العاملين الذاتيين: أعني إلى فعل القطب المنافس بنفسه وإلى وفعله بذراعيه (إيران وإسرائيل) وحتى بالأنظمة التي آمنت بالدولة القطرية فضلا عن المليشيات التي تخدم الذراعين والأنظمة.
وفعل القطب المنافس بنفسه هو الاستعمار المباشر بالحضور المباشر. وفعله باذرعه هو الاستعمار غير المباشر بأدوات هي إيران وإسرائيل والأنظمة العميلة مع الحضور غير المباشر في أحياز الأمة وفي نخبها.
استراتيجية العدو
فماذا فعل الاستعمار فينا بنفسه؟ أنه ما يتحقق بأدوات الاستضعاف. فإذا أنت فتتت جسد الأمة وثمرته (حيز المكان أو الجغرافيا) وروح الأمة وثمرتها (حيز الزمان أو التاريخ) وحاولت ضرب حصانتها (المرجعية الروحية للأمة) فقد أوهنت كل قوتها.
والمعلوم أن جسد الأمة هو وحدة جغرافيتها وأن ثمرتها هي ثروتها المادية وروح الأمة هو وحدة تاريخها وأن ثمرته هي تراثها وحصانتها هي مرجعيتها أعني القرآن والسنة ودلالتهما المقدسة.
كيف يفتت العدو الجغرافيا؟ ينشيء إمارات وملكيات ومشيخات وجمهوريات ليس لها من ذلك إلا الاسم لأنها كلها مجرد ولايات تابعة له مباشرة ومستبدة بشعوبها فتحكمها بالعنف والفساد.
ثم يجعل هذه المخلوقات التوابع تتقاتل على ثروات الجغرافيا الواحدة التي تصبح أعداء فيبحث كل واحد منه اعن تبرير لوجوده بتمزيق التاريخ الواحد لشرعيته.
فيحيون كل جروح الماضي التـي جبها الإسلام وتتحول الأمة الواحدة إلى شعوب وقبائل تتناكر ولا تتعارف فيعودون إلى العرقية والطائفية وما قبل الإسلام : الدويلات العربية لا تختلف عن قبائل العرب الجاهلية في تناحر دائم.
لذلك صارت "الدول" القومية والقبلية كلها باحثة عن شرعية في تاريخ خارج المشترك بين أهل دار الإسلام ثم يعود الجميع إلى محو التاريخ المشترك : هم اليوم أقل من المناذرة والغساسنة.
فيصبح الجميع باحثا في ما تقدم على الأسلام من مجد قومي يريد أن يستعيده الفارسي والفرعوني والفينيقي والقرطاجني والبابلي إلخ..هدف الاستعمار.
العامل الذاتي الأول
لكن الأدهى ليس ذلك فقط بل تواصل هذه الأنظمة العميلة للاستعمار بقصد أو بغير قصد مهمته في الحرب على ما يوحد الأمة بتهديم يزعمونه تحديثا.
ولعل أكبر علامات ذلك هو أنهم لم يدركوا أن اكبر عائق أمام الندية والبناء الحديث هو وهم الدولة القطرية الحديثة التي جردت من شرط الشروط السيادة والقيام المستقل.
فكل الدول القطرية فصلت بصورة تجعلها بالجوهر تابعة لأنها عاجزة عن تحقيق شرطي الدولة الفعلية لا اسم الدولة أي شرط التنمية المادية والرمزية المشروطتين في السيادة.
ففي العصر الحديث كل القوة مبنية على المعرفة والعلوم وتطبيقاتها. وهذه ذات كلفة لا تكفي فيها للبحث العلمي دخول الدويلات القزمية التابعة والمحتاجة للحماية والرعاية بموجب حجمها الفاشل بالطبع.
والعجز عن البحث العلمي المعاصر يعني استحالة التنمية الاقتصادية والتنمية التنقية والاجتماعية السياسية ومن ثم فالتبعية تصبح تبعية بنيوية لسادة ذلك كله.
ولولا فهم ذلك لما اضطرت ألمانيا وهي ما هي وفرنسا رغم ما بينهما من حروب جزئية وعالمية إلى الاتحاد وبناء أوروبا المعاصرة لتوفيرشروط السيادة.
العامل الذاتي الثاني
وهنا يأتي العامل الثاني: داعش تنتجها داعشان استعمارية مباشرة واستعمارية عن طريق عملائهم من الأنظمة ومن الذراعين الإيراني والاسرائيلي.
وهؤلاء الدواعش الحقيقيين ينتجون داعش الغباء لتستغل قضية حقيقية بأدوات بدائية فتحقق عكس الغرض تماما: غباء لـمزيد تفريق للأمة لا توحيدها بعقل.
كيف ذلك؟ بطريقتين: الأولى بالاستفزاز الرمزي والعدوان على المقدسات التي تحرك الغضب ولاتحرك العقل والثانية بتخريج القيادات والاختراق المخابراتي للمقاومة.
فالاستفزاز الرمزي اختراق للأذهان هدفه تحقيق التجييش حتى يجندوا الشباب من أجل التهديم باسم البناء الثوري الزائف وتكوين القيادات والاختراق للتشويه القصدي.
والتشويه يحتاجون إليه لعلتين: أولا لعلمهم أن القضية حقيقية وليست مزحة أي إن الأمة تريد أن تستأنف دورها وأن تتحرر من الاستعمار والاستضعاف.
وثانيا لعلمهم أن الأمة قوية روحيا وأنهم ضعفاء روحيا ما يستوجب تحريك شعوبهم لمقاومة محاولات الأمة التي تسعى لاسترداد قوتها المادية واستئناف دورها في معركة تاريخية كبرى.
قصة داعش هي إذن قصة بعيدة الغور. إنها في الحقيقة ظاهرة سطحية. وما يوجد في عمقها خلفها هو دواعش فعليون يحقق بهم الاستعمار والأنظمة العميلة وذراعاه منع الاستئناف.
والاختراق الثاني هو كيف ينتدبون القيادات؟ بطريقتين: يفقدونهم إنسانيتهم بالإهانات في سجونهم والاعتداء على كرامتهم وخاصة رجولتهم. ثم يشحنونهم بالحقد والتوحش أي بكل ما ينافي البناء فيتمحضون للتدمير.
ثم يشحنون رؤسهم بقضية صحيحة في الجوهر ومشوهة في الشكل فيجندونهم لمزيد التشويه: فطلب استعادة الخلافة الراشدة قضية حقيقية والعودة الحكم الراشد الذي يخدم الأمة ولا يستخدمها من مطالب الجمهور. لكنهم لا يأخذون منها الاسم والباقي كله عكسها تماما.
يصنعون منها كاريكاتورا يجعلها أحقر ما يمكن تصوره من أنظمة الحكم. فليس في من يدعيها أدنى شروطها وليس فيها من المرجعية إلا الاسماء لا الحقائق.
والاستفزاز يكلفون به كاريكاتور الحداثة وممثليه من أنصاف المثقفين الذي بدأت بوصف عينة منهم حتى يدفعوا الشباب الغاضب لكل الحماقات المنتظرة والمقصودة والدعاية لها بقصد.
ما الداء وأين يطلب الدواء
كذلك أفهم الظاهرة. لذلك فمن صدقت منه النية في علاج الظاهرة فلا ينبغي أن يتوجه إلى داعش الظاهرة فهي ليست أصل الداء بل هي مجرد حمى تعاني منها الأمة. والأصل هو ما وصفنا والله أعلم.
فقبل أن يصنع الاستعمار وعملاؤه وذراعاه (إيران وإسرائيل) ظاهرة داعش الـحمى في بدن الأمة يبدأ فيصنع صناع الدواعش أي النخب الخمس التي بعمالتها تدعشن الشباب الغاضب.
فنخبة الإرادة أو الساسة (حكما ومعارضة) الذين من المفروض أن يعبروا عن إرادة الامة أصبحوا لا يعبرون إلا عن إرادة من يحيمهم ضدها أي الاستعمار: هم إذن صنيعته.
وإذا كان لإيران "قدرة" ما تجعلها تستطيع تحدي كل الأنظمة العربية فهي ما يبدو لديها من عناد يجعل الاستعمار نفسه يحترمهما ويحتقرهم لحقارتهم.
وسأكتفي برمز قد لا يعيره الناس كبير اهتمام لكنه ذو دلالة عميقة: قارنوا زيارة مسؤولة غربية لإيران وزيارتها لأي بلد عربي. احترام هناك واحتقار هنا كما يعبر عن ذلك مجرد الهندام في الحالتين.
فكيف للغير أن يحترمك إذا أنت لا تحترم لا شعبك ولا حضارتك ولا نفسك بل تقبل أن تكون مجرد خاتم في إصبع أدنى مسؤول غربي حتى بواب الإدارة.
خذ مثالا فاقعا: يكفي أن تتجول في شارع بورقيبة: سفارة فرنسا في قلبه احتلته واحتلت كل ما حوله رغم الثورة ولا أحد يتكلم رغم أنها في ساحة 39 افريل الشهيرة.
فالسيادة لا معنى لها عند من الكرسي عنده حكم والدولة قطعة قماش تذروها الرياح وتمثال لا يعبر إلا عن الإفلاس الفكري والروحي لنخب مغتربة. تلك هي غاية السفالة.
إن النخبة المعبرة عن الإرادة تابعة. والنخبة المعبرة عن المعرفة تابعة لهذا التابع. ونخبة القدرة وسيط التبعية بين الجميع. ونخبة الحياة مزينة للتبعية ونخبة الوجود تبرر ذلك كله : سواء بفتاوى الشرع (الفكر المزعوم دينيا) أو بفتاوى الوضع (الفكر المزعوم فلسفيا).
الخاتمة
تلك هي حالنا أصفها بكل مرارة وألم. فوظيفة الفكر الصادق أن يصف شروط الاشرئباب إلى الحرية والكرامة التي طلبها الشباب الذي ما يزال طاهر الروح والعقل.
تلكمت على العناصر الأربعة الصانعة لداعش. وذكرت عنصرا خامسا قلت إنه مما لا نعلم ولا يعلمه إلا الله. والقصد أننا لا نعلمه علم اليقين لكننا نحزره حزر التقدير.
إنه ما بدأنا بالإشارة إلى ما لا يد للإنسان فيه: وجودنا في ملتقى القارات الثلاث والصراع المتكرر الذي ينتج عن هذا الوجود بين قطبين شرقي وغربي.
وهو ما يصفه القرآن بكونه قابلا للرد إلى سنة الاستبدال. لعلنا الآن في مرحلة استبدال جديد يمكن ألا يكون استبدال حضاري بل صلح بين الحضارات.
فقد بينت في تغريدات الأمس أنه يوجد تداخل وتغاز متبادل بيننا وبين الغرب الأوروبي على مستويين من التاريخ السريع والتاريخ البطيء بين ضفتي المتوسط قد ينتهي إلى صلح حضاري تفيد منه الإنسانية كلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق