أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2016.08.20
لم انتظر خروجي من حكومة الأستاذ حمادي الجبالي-أول حكومة منتخبة بعد الثورة- لأقول إن تونس تعاني من مافيتين هما التجمع والاتحاد العام التونسي للشغل.
ولما كان التجمع هو حزب المافية المسيطرة على الأعراف والاتحاد العام التونسي للشغل حزب المافية المسيطرة على العمال فتونس يحكمها المافيتان.
قلت ذلك في مداخلات رسمية وقلتها لرئيس الاتحاد. وعلمت من لقاء واحد في باريس مع الأعراف الفرنسيين أن الأعراق التونسيين مجرد ممثلين للمافية الصهيونية المسيطرة عليهم جميعا.
والأمر ليس جديدا فهو بدأ منذ أول الصدام في حركة التحرير اي الحزب الدستوري لما اعتمد أحد طرفيه على الاتحاد والجيش الفرنسي لحسم المعركة لصالح حزب فرنسا في تونس.
وما تجربة احمد بن صالح إلا أولى تجارب الحكم الخاضع لخيارات قيادات الاتحاد. فكانت النتيجة التي يعلمها الجميع. ثم كان الصراع الذي آل إلى معركة 78 ونتائجها.
وكانت آخرة معارك مافية الاتحاد مع مافية ابن علي نفسه هي مساهمة الاتحاد في ما حدث خلال ثورة الشعب ظنا منهم أن الفرصة حانت لكي يكون الاتحاد الوريث هو واليسار.
لكن الشعب فضل الديموقراطية. فأعلنت الحرب ضد الثورة لأن الشعب اختار الإسلاميين للحكم. والثورة لم تصبح شعبية بحق إلا بعد سقوط راس النظام .
فخلال عمليات السيطرة عليها حصل صراع بين الاتحادين لأنهما كليهما ساهما في إسقاط النظام بصراع ما فيهما من المافيات التي حرمتها مافية ابن علي من سهم يرضيها.
ففي بدايات الثورة لما رأى أن اتحاد العمال الذي يسيطر عليه اليسار وذئلهم من القوميين لم يحصل على ما كان ينتظره من دوره في سقوط ابن علي أي أن يرث النظام أنه الاتحادقال آلة تطحن من يعترضها.
اليوم تونس في حرب مافيات الأعراق ومافيات على الثورة. ولما قال الشيخ مورو إن الثورة أسقطها الجيش في مصر والاتحاد في تونس ظن الكثير أنه هو أول من قال ذلك: نسوا تصريح أحد زعماء الاتحاد.
فهو الذي شبه الاتحاد بالآلة التي تطحن كل من يقف في طريقها. بدا الطحن والطحين (بالتونسي) فتأسس ما يسمى بجبهة الانقاذ بعد أن أسقطوا الجهاز الاقتصادي وكل فاعلية لاجهزة الدولة.
فالإضرابات صارت بالآلاف والمطالبات النقابية فقد كل حد معقول ثم وصلوا إلى الإرهاب لإسقاط الحكومة الاولى والثانية. وذلك ما دفعني لمقابلة رئيس الاتحاد الحالي باسم رئيس الحكومة وسألته السؤال الواجب.
سألته: فرحات حشاد يمكن أن يقول شاركت في حركة التحرير. الحبيب عاشور شاركت في بناء الدولة. فماذا ستقول أنت وماذا سيقول التاريخ؟ هل ستقول شاركت في إفشال الثورة؟ وهل من العدل أن نرفع أجر العامل وننسى العاطل؟وهل يمكن العناية بالمناطق المحرومة وإمكانات الدولة كما تعلم محدودة؟
كل هذا لأقول: اليوم ورغم ما يسنب إلى السبسي من خبرة ودهاء فإن الأمر انتهى إلى ما كان يسعى إليه الاتحادان : هما من يسقط الحكومات بالأحزاب العميلة وبالإضرابات.
والحكومة التي يسمونها حكومة وحدة وطنية هي حكومة توافق مؤقت بين الاتحادين ولا علاقة لها بالديموقراطية ولا بالوحدة الوطنية : فهم يسقطون الحكومات ويعينون الوزراء. لا غير.
أعلم أنه ليس بوسع النهضة أن تكون في المعارضة بصورة مطلقة الوضوح. لكنها ليست مضطرة لأن تكون كلها في الحكومة بنفس المنطق. عليها أن تجعل تصويتها للحكومة متناسبا مع الوزن الذي لها فيها لأن الحكومة ليست حكومة وحدة وطنية إلا بالاسم..
فهي حسب التشكيلة التي أعلن عنها اليوم لها دون ما أسند لليسار وإن بصورة خفية. عليها ألا تصوت للحكومة بأكثر من هذه النسبة. ومعنى ذلك أن النواب ينبغي أن يكونوا أحرارا مثلما كانوا في أسقاط حكومة الصيد.
من دون ذلك تكون النهضة قد أصبحت مجرد شاهد زور. فعدم التصويت لصالح الحكومة إلا بالتناسب مع وزنها يبقي لها الباب مفتوحا للنقد ولمنع تجميلها مسؤولة حكومة فرض عليها دخول من هم في الحقيقة ممثلون لجبهة الإنقاد وليس للوحدة الوطنية.
وإذا كان غيرها يناور ولا يهتم بالمصلحة الوطنية مع التصريح الدائم بأنه الحزب الذي ربح الانتخابات فلا ينبغي أن تكون هي المسؤولة على ما يترتب على المرحلة التي كل مناوراتها لا تهدف للمصالحة الوطنية بحق بل هي تواصل نفس منطق جبهة الانقاذ.
والانقاد لا يعني علاج مشاكل تونس الحقيقية بل مواصلة الحرب على دور إرادة الشعب التي يعبر عنها في الانتخابات حتى يفرضوا إرادة المافيات والسفارات والأجندات التي تطبخ خارج ما تتطلبه أهداف الثورة وثقافة الشعب.
ثم إن السبسي نفسه وكل من يدعي التكتيك ليس لهم إلا السلطان الظاهر: هم يطبقون أوامر المافيتين والتدخلات الأجنبية أكثر مما كنا في عهد البايات.
الحكومة الجديدة حكومة المافيات والسفارات وهي حكومة العمالة المطلقة لإسرائيل. والامر لا يتعلق بالكفاءة التي تدلل عليها الشهائد. الأمر يتعلق بفهم اللحظة التي تمر بها الأمة.
لماذا بدات فقلت لم انتظر خروجي من الحكومة المنتخبة الأولى بعد الثورة لاقول ما شرحت هنا:ليعلم القاريء أني أرفض ما يتصوره البعض دهاء سياسيا.
صحيح ان مبدأ كل فعل هو أن يستعين المرء على قضاء حاجته بالكتمان. لكن ذلك لا يتعلق بتحديد أعداء مشروع شعب ضحى وثار ليحقق شروط حريته وكرامته.
لو كان الأمر يتعلق بنجاح شخصي لما ترددت في تطبيق مبادئ السياسة السياسوية. لكن الأمر يتعلق بتغير جوهري ليس في تونس وحدها بل في كل بلاد العرب.
فلأول مرة منذ قرون تحرك شعب من أجل حريته وكرامته أي في الحقيقة من أجل الثورتين القرآنيتين: الحرية الروحية والحرية السياسية بدليل الشعار.
فبيتا الشابي شعارا لكل شباب الأمنة من تونس إلى الشام إلى اليمن هو إصلاح الفهم الخاطيء للقضاء والقدر واحياء مفهوم إرادة الأمة: الشعب يريد.
والدليل على أن الأعداء فهموا الأمر كذلك هو ما تلا نجاح الإسلاميين الحداثيين في بلاد العرب وخاصة في تونس ومصرحتى أصبح العالم كله ضد الثورة.
ما يزعجهم هو الإسلام الذي استأنف السعي لتحقيق قيمه الأصلية وليس بدائلها النكوصية إلى الجاهلية والتي هي اليوم متحالفة مع أعداء الإسلام.
ظنوها في البداية من فعل صنائعهم التي يسمونها المجتمع المدني فاكتشفوا أنها من فعل روح الجماعة أو المجتمع الأهلي الذي انتخب الإسلام الحديث.
لذلك فلا تعجبوا إذارايتم فروخ اليسار والقوميين وأذناب الملالي والرؤوس المربطة التي تمول الثورة المضادة كلهم بأوامرالاستعمار تحارب الاسلام.
فهم أدركوا أن الثورة ليست كما توهموا لطلب الديموقراطية الشكلية التي تأتمر بتعاليم واشنطن وباريس وطهران وتل أبيب بل هي بداية الاستئناف.
لذلك فالموجة الثانية آتية لا ريب فيها وهي ستعم الوطن العربي كله بل وكل الأقليم لأن العدولم يقتصر على سنة العرب بل هو أراد في آن ضرب تركيا
ذلك أنه فهم أنه لا يمكنه أن يتم ما فشل فيه بعد الحرب العالمية الأولى إلا بالقضاء على مراكز صمود الأمة أي عواصم الخلافة الأربعة ومصر.
إيران احتلت عاصمة (بغداد) وتكاد تحتل الثانية (دمشق) وإسرائيل احتلت مصر ولم يبق إلى المدينة واسطنبول. وهم الآن يحاولون تحقيق ذلك علانية.
تركيا أفشلت محاولتين إلى حد الآن: محاولة الانقلاب غير المباشربطريقة الجيش الأحمر لو دخلت حرب سوريا ثم محاولة الانقلاب المباشر الاخيرة.
وهم لن يتوقفوا إلاإذا هزموافي الشام والعراق.ويحاولون نفس السيناريومع السعودية ينوون استغلال حرب اليمن لانقلاب غير مباشر وقد يمروا للمباشر.
وتلك هي علتي اهتمامي بما يجري في الخليج وهو ما قد يبدو في أعين بعض الاخوة في الخليج تدخلا في شؤونهم: لم يتساءلواعن تمويل الثورة المضادة.
ومعنى ذلك أن من تدخل في شأن "غيره" الأول هو حكام الخليج وليست الشعوب التي ثارت على حكامها المستبدين والفاسدين:هم خافوا من العدوى فحاربونا.
لكننا نحن لا نحاربهم بل بالعكس نحاول نصحهم حتى يتجنوا وصول شعوبهم إلى ما وصلت إليها شعوبنا: ذلك أن طفرة البترول التي تسكت الشعب زالت.
الشعوب عندما تطالبها بأن تدفع ما عليها تريد أن تكون مواطنين يؤدون الواجب ويطلبون الحق. فلا يمكن أن تعامل شعب يدفع كما كان وهو يقبض ليسكت.
إذا كان في هذا الكلام ما يغيض فمعنى ذلك أن من اغتاض متواطيء مع الفساد والاستبداد وراض عن الاستضعاف والاستتباع: وضع المحميات عديمة السيادة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق