Hot

الجمعة، 24 يناير 2014

طبيعة الملحمة الجارية 3 - أبو يعرب المرزوقي


لعل ما حصل في الموجة الثانية من الثورة (الأحداث الجارية منذ بداية الانقلابات) لعله جعل الشباب فتياته وفتيانه يدرك أن مطالب الثورة (أو غايتيها الحرية والكرامة) لا تتحقق من دون وسائل ضرورية بعضها مادي (الإرادة السياسية والقدرة الاقتصادية) وبعضها الآخر معنوي (تربية الإيمان بالذات وثقافة القدرة الإبداعية). ولست أشك في أن الكثير من الشباب النابه يتساءل الأسئلة التي تنتج عن إدراك هذه المعاني ويسعى لتحقيق البلوغ إلى الأهداف بأسبابها المادية والرمزية:

فالكثير من الشباب يتساءل دون شك عن علل التبعية السياسية وصلتها بالعجز التنموي الاقتصادي والتقني في بلاد المسلمين, رغم ما تزخر به أرضهم من ثروات مادية لا تقدر. فلا أحد من الشباب بلغت به السذاجة حد الظن بأن الأمر مقصور على خذلان الإرادة من دون صلتها بالعجز الناتج عن عدم القدرة المادية. فشروط التحرر من التبعية المادية مفقودة فضلا عن إرادة تحقيقها: فعندما لا نعالج الحيل التي استعملها العدو وعملاؤه لمنع القدرة التنموية الاقتصادية غير التابعة لا يمكن أن نفهم علل فقدان الإرادة الحرة.

والكثير من الشباب يتساءل دون شك عن علل التبعية الثقافية وصلتها بالعجز التنموي المعرفي والإبداعي في بلاد المسلمين رغم ما تزخر به حضارتهم من ثروات فكرية لا تقدر. فلا أحد من الشباب كذلك بلغت به الغفلة إلى حد الظن بأن الأمر مقصور على خذلان العقل من دون صلته بالقدرة على شروط التحرر من عدم القدرة المعرفية أو البحث العلمي. فشروط التحرر من التبعية المعنوية مفقودة فضلا عن إرادة تحقيقها: فعندما لانعالج الحيل التي استعملها العدو وعملاؤه لمنع القدرة التنموية العلمية غير التابعة لا يمكن أن نفهم علل فقدان القدرة المؤثرة.

استراتيجية العدو في منع الأمة من شروط الحرية والكرامة

بينا أن العدو وعملاءه يمنعان القدرة المادية (السياسية والاقتصادية) والقدرة المعنوية (التربوية والثقافية) ليؤسسا التبعية الدائمة بنفس الحيل التي تقضي على مقومات الكيان القادر على الحياة غير التابعة:

1-تفتيت وحدة المكان لمنع وحدة التنمية الاقتصادية والسياسية.

2-وتشتيت وحدة الزمان لمنع وحدة التنمية العلمية والإبداعية.

وهم يحاولون الآن منع شباب الثورة من فهم هذه الحقائق والعمل على معالجتها بمنطق الثورة التي لا تكتفي بطلب الأهداف بل تحقق شروط تحقيقها لأن ما كان يبدو أهدافا مباشرة تثبت التجربة ومجريات الأحداث أنها مستحيلة من دون أسبابها إيجابا (إبداع مقومات الحياة الكريمة والحرة بالإصلاح السياسي والاقتصادي والتربوي والثقافي) ومن دون نفي نفيها سلبا (إزاحة العقبات الحائلة دون هذه الإصلاحات والتحقق). ولما كانوا يعلمون أن ما يجعل الشباب قادرا على النجاح في ثورته بالتغلب على هذه الحيل هو أصل حصانتهم الروحية ركزوا جهدهم الحالي على محاربة هذه الحصانة الروحية أي منظومة القيم والأسس التي تستند إليها حضارة الأمة وكل المعاني التي تجعل الذات مدركة لفرادتها ولقدرتها على أن تكون حرة وكريمة فتكون من ثم ذات رسالة تؤديها فتسهم بها في فتح آفاق جديدة لذاتها وللبشرية.

والمعلوم أن من أساسيات الاستراتيجية الحربية القضاء المتدرج على أسس قيام الأمم الحرة أعني هزيمة الجيش ماديا (السلاح) ومعنويا (عقيدة الجندي) ثم احتلال المجال الحيوي الذي يمد الجيش بالقوة المادية (الأرض) والمعنوية (ثقافة الحماية الذاتية أو الجهاد) ليصل إلى أصل ذلك كله الحائل دون الاستسلام للهزائم واعتبارها كبوات يمكن التغلب عليها ومواصلة المقاومة حتى تتحقق شروط الاستئناف الفاعل فتنتقل الأمة من المطاولة برد الفعل إلى المناجزة بالفعل الموجب فيصبح العدو في وضع المدافع بعد أن كان مهاجما.

ولما كان هذا الأصل المحقق لحصانة الأمة الروحية قد يتحول إلى مجرد فكرة في الأذهان معطلة لأن حرب العدو وعملائه تسعى إلى جعلها فاقدة لفاعليتها التاريخية الحقيقية في الأعيان فإن تحقيقها لا يمكن أن يحصل من دون استرجاع وحدة المكان جغرافيا ووحدة الزمان تاريخيا ووحدة أسباب الحياة ماديا اقتصاديا ووحدة معاني الحياة رمزيا ثقافيا فإن العدو يحاول القضاء على أصل محاولات استرجاعها روحيا بعد أن شتت هذه الوحدات وفتتها ليجعل الجسم الكلي للأمة عاجزا وفاقدا لأسباب القوة المادية (فيكون تابعا في معاشه وفي حماية ذاته) والمعنوية (فيكون تابعا في معاني حياته وقدرته على الإبداع).

الاستراتيجية كما تتحدد بنيويا وظرفيا

لذلك كانت دعوتنا الشباب إلى الانتباه إلى هذه الأدواء واقتناص فرصة الثورة للقضاء على ما ورثناه من عهد الانحطاط وعهد الاستعمار من حدود مكانية تفتت جغرافية الأمة وحواجز زمانية تشتت تاريخها وما يترتب عليهما من حد للدورة المادية والدورة الرمزية. فذلك هو شرط استعادة الأمة للقدرة على حل المشكل الاقتصادي (التنمية الاقتصادية والتقنية شرطي عدم التبعية السياسة) وحل المشكل الثقافي (بالتنمية العلمية والخلقية شرطي عدم التبعية الحضارية). وحتى نستكمل هذه الدعوة فعلينا أن نحدد الاستراتيجية التي ينبغي أن ننتهجها لتحقيق شروط الاستئناف.

فهذه الاستراتيجية لا يمكن أن تكون تحكمية أو ارتجالية بل هي لا تكون استراتيجية بحق إلا إذا نتجت عن تحليل عقلي رصين وتجنبت الارتجال الذي هو سر فشل الحركات الإسلامية في أداء دورها وخاصة عندما سلمها الشعب مقاليد الحكم في الموجة الأولى من الثورة فعجزوا عن علاج الأمور بالحكمة والرشد الكافيين بسبب العجلة واستسهال الأمور واللامبالاة بنصح الصادقين وظن القيادة مقصورة على خفة اليدين وكثرة المثرثرين. إنها استراتيجية تقبل أسسها للرد إلى مبدئين أحدهما ذاتي لها أو متعلق بالعامل البنيوي في قيام الأمم لكونه من مستمد من جوهرها عينه والثاني عرضي أو متعلق بالعمال الظرفي لكونه مستمدا من الوضع الدولي المحيط بالأمة الوضع المحدد لخصائص معاركها في ظرفية تاريخية معينة.

المبدأ الأول وما يترتب عليه استراتيجيا

ولنبدأ بالمبدأ المتعلق بالعامل البنيوي الذاتي للأمة العامل الثابت الذي لا يتغير لأنه من مقومات الوجود عامة ومقومات التعبير عن الوجود بما هو إرادة وقدرة أعني الوجود السياسي في المعترك الدولي. ولهذا المبدأ دائما صلة بالحال التي عليها أحياز قيامها تماما كما يكون مبدأ حفظ الصحة في الكائن الحي ذا صلة دائمة بمقومات الكيان الحي وخاصة بمقومات مناعته العضوية.وبالنسبة إلى الأمم فكيانها يتحدد دائما بأحياز مقامها الفعلي وبمدى سلطانها عليها أعني:

1-حال مكانها وسلطانها عليه ويناظره في الكائن الحي البدن ومعنى ذلك أن بدن الأمة هو مكانها أو حيزها في المعمورة. وتفتيت المكان يحول دون هذا الشرط.

2-وحال زمانها وسلطانها عليه ويناظره في الكائن الحي النفس ومعنى ذلك أن نفس الأمة هو تاريخها أو حيزها في تكوينية الإنسانية. وتشتيت الزمان يحول دون هذا الشرط.

3-وحال دورتها المادية وسلطانها عليها ويناظره في الكائن الحي الدورة الغذائية المادية ومعنى ذلك أن الأمة لا تكون كريمة من دون القدرة على إعالة نفسها. الحائل الأول يمنع هذا الشرط.

3-وحال دورتها الرمزية وسلطانها عليها ويناظرها في الكائن الحي الدورة الغذائية الروحية ومعنى ذلك أن الأمة لا تكون حرة من دون القدرة على إبداع شروط بقائها بفكرها. والحائل الثاني يمنع هذا الشرط.

5-وحال حصانتها الروحية ويناظرها في الكائن الحي القيام الشخصي الواعي بذاته والشاعر بحريته وكرامته. وتلك هي أصل كل سلطان ومنطلق أي سعي لاسترداد أي واحد من العناصر السابقة إذا صادف تاريخيا أن أصابه عطب (لأن البدن الفاقد للمناعة يمكن لأي نسيم أن يقضي عليه) من حيث الوحدة والقوة والمتانة والمناسبة لشروط التنافس في العصر الذي تتصدى فيه للتحديات.

ومن هذا المبدأ الأول نستنتج أن غاية الغايات ووسيلة الوسائل في آن هي عمل كل ما ينبغي عمله للقضاء على ما حل بأحيازه من أعطاب التي هي بالأساس الحدود التي وضعها الأعداء ويريد تأبيدها بمساعدة العملاء الذين نصبهم لحكم ما أصبح أشلاء من دار الإسلام. والعلاج يتمثل في تحرير الأمة من الحدود المكانية والزمانية وما يترتب على الأولى في الدورة المادية وعلى الثانية في الدورة الرمزية بالاستناد إلى ما بقي من الحصانة الروحية التي هي خط المقاومة الأخيرة في وضعنا الحالي مثلها مثل جهاز المناعة في الجسد الحي. وبذلك يصبح هدف الثورة الأساسي هو تعميم الفعل الثوري لكسر هذه الحدود لأن حصر الثورة في القطرية هو علة ضعفها وهو من ثم علة قوة عدوها خاصة والثورة المضادة هي التي بدأت فأصبحت متجاوزة للقطرية ليس بالقلب والكلام فحسب بل وبالمال واليد كذلك.

ذلك أن كل محاولات إفشال الثورة في مصر وفي سوريا وفي تونس وفي ليبيا وقبلها في الجزائر وفي العراق كلها دون استثناء تعاون عليها كل الأعداء الذين يحولون دون الأمة والعودة إلى دورها سواء كان هؤلاء الأعداء عملاء من الأقطار العربية الأخرى أو من حماتهم الاستعماريين أو منهما بحلف بين الطامعين في تقاسم دار الإسلام سواء كانوا من بين المسلمين أو من الغزاة غير المسلمين.

ومن ثم فحصر الثورة في الحدود القطرية خداع للذات يقع فيه الثوار ولن يستطيعوا أن يخلدوا للراحة في الحدود الحالية لأن غيرهم لن يتركهم وحالهم حتى لو تنازلوا عن مطالب الثورة واكتفوا بدويلة تابعة تعيش على التسول والابتزاز الدائمين لأنها بحكم حال الأحياز التي وصفنا لا يمكن أن تكون إلا تابعة في قوتها اليومي. ثم إن العدو وعملاءه تجاوزوا الحدود. والبادئ أظلم, فضلا عن كون عدم الاعتراف بالحدود كان ينبغي أن يكون من واجب الثوار القيام به حتى لو لم يبدأ العدو بتوحيد الثورة المضادة.

المبدأ الثاني وما يترتب عليه استراتيجيا

ولنثن بالمبدأ الظرفي الذي يتغير لأنه متضايف مع الوضعية الدولية التي تجريفيها المنافسة على شروط حياة الأمة وأحيازها وبالتضايف مع التحديات بينها وبين من يحيط بها من الشعوب والدول أعني صلة التحديات التي تعترضها صلتها بمكانها وبزمانها وبدورتها المادية وبدورتها الرمزية وأخيرا بحصانتها الروحية. ولما كانت الوضعية الدولية هي ظرفية فرض شروط المستفيدين من العولمة السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية وحتى الروحية فإن المعركة ليست لا قطرية فحسب بل هي ليست حتى مناطقية بل هي عالمية: إنهم أرادوا:

السيطرة على المكان بالسيطرة على الدورة المادية

والسيطرة على الزمان بالسيطرة على الدورة الرمزية

والسيطرة على السيطرات الأربع السابقة بالسيطرة على الأرواح.

لذلك فالمرحلة الحالية هي مرحلة الحرب على الحصانة الروحية لقتل حلم شباب الأمة باستعادة الدور الكوني للأمة ومن ثم الإبقاء على الحال التي فرضها الاستعمار مكانا وزمانا ودورة مادية ودورة رمزية. ولعل أفضل مثال يمكن ضربه للدلالة على آثار هذه الحرب المدمرة هو المقارنة بين موقف آبائنا الذين كانوا يفاخرون بالجهاد في أي أرض عربية أو إسلامية نصرة لأخوتهم وموقف الكثير من العملاء الذين يريدون تجريم النهوض لنصرة المجوعين في مخيم اليرموك باسم نزعة قومية تخفي مواقف طائفية بشعة أدت إلى تهديم سوريا وتسعى إلى تهديم مصر وتونس وليبيا.

ولما كانت دار الإسلام موجودة بين الأقطاب الساعية لتقاسم العالم فإنها قد أصبحت موضع تنافس عليها من خارجها (الأقطاب المحيطة بها) ومن داخلها (من يتصورون أنفسهم أقطابا يستأنفون ما قبل الإسلام من امبراطوريات) فإن الأعداء صاروا بما لايقبل الحصر. فإذا أضفنا إلى ذلك أن العولمة جعلت العدو مبهما لأنه تابع للمصالح العالمية التي تمثلها الشركات المتجاوزه للحدود فإن من يحاربنا لا يقتصر على فاعل قابل للحصر في مكان معين أو في زمان معين أو في دورة مادية معينة أو في دورة رمزية معينة أو في حصانة روحية معينة بل هو سلطان غامض ومتنكر يسيطر على العالم.

وهذه الخاصية تغير طبيعة الحرب التي علينا خوضها ويوفر لنا فرصة فهم حقيقة الرسالة الخاتمة: إنها رسالة موجهة للعالمين أعني أن ثورتنا تصبح بالجوهر ثورة كونية هدفها تحرير البشرية من الاستبداد والفساد الكونيين خلال تحريرنا لأنفسنا من أحد تعيناتهما المحليين. والمعلوم أن العدو الكوني للإنسانية والمتنكر في مجريات العولمة المادية والرمزية يستعمل صنفين من الأدوات علينا تحديد فاعليتها لمحاربتها ليس وحدنا بل بدعوة كل شباب العالم للثورة عليها حتى يكون استئناف المسلمين لدورهم مثل بدايته كوني المطالب والأهداف والتأسيس الخلقي من حيث هو رسالة كونية لتحرير الإنسانية من العبودية التي كمايعلم الجميع اعتبرها القرآن الكريم من أكبر العبادات (الجهاد من أجل المستضعفين) وأولى الكفارات (تحرير الرقاب):

فأما جنس الأدوات الأول فهو ما يمكن أن نطلق عليه اختصارا اسم الربا المادي أو الاستغلال المادي أعني ما تستعمله المافيات لاستعباد الإنسان بالتحكم في حاجات بدنه بل وبإفسادها يما يمكن أن نسميه بالمخدرات المادية أو تلويث الطبيعة. فالنخب المسيطرة على السياسة والاقتصاد مافيات تتلاعب بحاجات الشعوب المادية وتستغل أبدانها وبما فيها شعوب هذه المافيات نفسها. ومعنى ذلك أن أرباب الربا المادي في الولايات المتحدة مثلا لا يمتصون دماءنا وحدنا بل هم يمتصون دماء شعوبهم أيضا.

وأما جنس الأدوات الثاني فهو ما يمكن أن نطلق عليه اختصارا اسم الربا الرمزي أو الاستغلال الرمزي أعني ما تستعمله المافيات لاستعباد الإنسان بالتحكم في حاجات روحه بل وبإفسادها بما يمكن أن نسميه المخدرات الروحية أو تلويث الثقافة. فالنخب المسيطرة على التربية والثقافة مافيات تتلاعب بحاجات الشعوب الرمزية وتغسل أرواحها وبما فيها شعوب هذه المافيات نفسها. ومعنى ذلك أن أرباب الربا الرمزي في الولايات المتحدة مثلا لا يسعون إلى استعباد الإنسان بالتحكم في المخيال خارج أوطانهم فحسب بل حتى في بلادهم.

مدى الثورة الكوني استئنافا للرسالة

لا شك أن الكثير من الكلبيين وأشباه المثقفين يهزأون من مثل هذا الطموح الكوني للثورة الحالية تماما كما فعل كلبي و الغساسنة والمناذرة عندما نشأت الدعوة الإسلامية في بدايتها. لكن الثورة تحققت فزال المناذرة والغساسنة والامبراطوريتان اللتان كانت تحمي نظاميهما وتستعمر شعبيهما. لذلك فالثورة الحالية لا معنى لها إذا كانت دون الرسالة كونية وتأسيسا خلقيا الرسالة التي تمثل سر الحصانة الروحية لهذه الأمة. فالشباب المسلم فتيات وفتيانا لا يمكنه أن يشعر بالندية مع سلفه فيكون خير خلف لخير سلف إلا متى كانت ثورته استئنافا للرسالة. وهي تكون كذلك إذا صارت ثورة على هذين النوعين من الاستعباد في العالم النوعين الناتجين عن سيطرة المافيات المحلية والدولية على أدوات سد حاجات البدن وعلى أدوات سد حاجات الروح سيطرة مفسدة للبدن والروح في آن بل وكذلك للمعمورة نفسها بتلويث الطبيعية والثقافة في آن رغم كونهما شرط كل حياة.

وفضل هذا المعنى من الثورة أنه يضفي عليها شرعية أخلاقية تجمع بين المرجعيتين الإسلامية والحقوقية الحديثة. ذلك أنها تهدف إلى حماية الإنسانية والمعمورة من عبادة العجل عبادته التي تجعل الإنسان مرهونا للبنوك طيلة حياته وتجعل الأرض والثقافة عرضة للتلوث الدائم من أجل جشع أرباب الشركات عابرة القارات دون سد الحاجات الأولية للإنسان بل مع جعل المعمورة "غزة" أو "مخيم يرموك" محاصرين ومجوعين فلا يتنفس أهلها إلا بشروط المافيات الدولية. ومعنى ذلك أن الحرب الثورية لم تعد قطرية ولا مناطقية بل هي عالمية.

لا بد للثورة أن تشمل المعمورة كلها. ولا بد أن يكون شباب الأمة محركا لكل شباب العالم الذي هو بمقتضى نظرية الإسلام كله مسلم بإسلام الفطرة التي تجعله يرفض السلوك المافياوي المسيطر على مقدرات البشرية والمعمورة. لكنها ينبغي أن تكون حربا ثورية لا فزات إرهابية فاقدة لأي استراتيجية ذات غايات خلقية وأدوات مادية. وهي ليست دفاعا عن الذات أو عن الإسلام فحسب بل هي دفاع عن الإنسانية والقيم الروحية والعقلية في آن من منطلق مرجعية كونية يلتقي فيها العقل السليم والدين القويم.

بذلك وبذلك فقط تصبح الثورة الحالية ثورة كونية تتجاوز الدوافع الأولية لتحقق شعاراتها التي كانت في البدء لا واعية في بيتي الشابي المشهورين وفي ما تترجمانه شعريا من آيات قرآنية سبق لنا شرحها تحديدا ثوريا لمفهوم القضاء والقدر المحررين من الاستسلام للمافيات بخلاف ما جعلهما عليه عصر الانحطاط. وقد يكون في ذلك الأساس المرجعي لشرعية الثورة حتى لو بقيت في مرحلتها الحالية مقصورة على الوطن العربي والعالم الإسلامي.

لكن الغاية هي أن تكون الثورة ثورة كونية بحق لأنها ستكون استئنافا لرسالة الإسلام الساعية إلى تحرير الإنسانية من هذين النوعين من الربا ومن ثم من الاستعبادين الناتجين عنهما. ومن دون ذلك فإن تحقيق الكرامة والحرية لن يكون حقيقا ولا فعليا كما يقتضي ذلك مدلول تكريم بناء آدم ليكونوا أهلا للاستخلاف وحماية المعمورة من التلويثين المادي (نتيجة لسلوك المافية السياسية والاقتصادية) والرمزي (نتيجة لسلوك المافية التربوية والثقافية) لتكون مقاما طيبا يعيش فيه البشر أخوة كما تحدد ذلك الآية الأولى من سورة النساء.

وهذه المافيات الأربع عالمية بالجوهر لأن المافيات المحلية ليست إلا نوابها على الشعوب المستضعفة نوابها المؤبدين للاستبداد والفساد بما يحصلون عليه من فتات الاستغلال والاستعباد الدوليين للإنسانية والتلويث النسقي للطبيعة والثقافة من أجل عبادة الهوى والأخلاد إلى الأرض. لذلك فالثورة ينبغي أن تكون عالمية مثل الثورة المضادة: الثورة لتحرير الإنسانية وتخليص المعمورة طبيعة وثقافة من الاستعباد والتلويث اللذين يمثلان جوهر الثورة المضادة في عصر العولمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق