أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2015.07.01
أعلم أن الكثير من "الواقعيين" الجديين ناهيك عن المستهتر من محقري الذات سيصفون ما نعرضه هنا بكونه مجرد أحلام إذا تأدبوا وأضغاث أوهام إذا أظهروا ما يعرفون به من نزعة كلبية (سينيسم). لكني مع ذلك سأواصل ما أنا متأكد من حصوله وذلك كما حاولت وصف ضرورته منذ السبعينات في كتاب الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر.
فكل ما يجري حاليا في أحوال الأمة هو نتيجة لنجاح حركة الإصلاح والنهوض الهادفة إلى بعث الحضارة العربية الإسلامية ومن ثم إلى التغلب على السياسة الاستعمارية التي حاولت القضاء على وحدة الأحياز الخمسة لوجود الأمة وجودها الواحد: 1-وحدة مكانها 2-ودورتها الاقتصادية 3-ووحدة زمانها 3-ودورتها الثقافية 5-وأصل كل الوحدات أي هويتها أو وعيها بذاتها شرطا في مناعتها الروحية.
لذلك فكل محاولة لتحرير أحد الأحياز يحدد المنتسبين إلى الثورة المضادة وأعداء الأمة المدافعين عن الجغرافيا والتاريخ الاستعماريين بحيث إن أعداء الثورة يمكن حصرهم بالانطلاق من الأحياز التي هي بصدد التحرر من المآل الذي جعل الأمة قابلة للاستعمار والاستتباع. ويمكن القول إن الثورة الحالية وخاصة منذ أن بدأت موجتها الثانية بعد الانقلاب على موجتها الأولى شرعت في تحقيق التلاحم بين بؤرها في جل أقطار الأمة أي أهمها في المشرق والمغرب على حد سواء.
العدو الأول
العملاء المدافعون عن الجغرافيا التي فرضها الاستعمار
ذلك أن آخر ما بدأ يظهر للعيان من نجاح حركة الإصلاح ومن ثم من انهيار الخطط الاستعمارية هو بداية سقوط الجغرافيا التي رسمها الاستعمار بالتدريج لإنهاء الوحدة المكانية لقيام الأمة. والرمز في المشرق وفي المغرب على حد سواء هو التطابق بين الثورة المضادة ومحاولات الحفاظ على الجغرافيا التي رسمها الاستعمار:
1-فما وضعته خارطة سايكس بيكو من حدود في المشرق العربي, لم يعد لها معنى بعد أن صارت المنطقة مسرح حرب ضروس لا تزال تتحسس طريقها وأهدافها لكنها سلبا هي نهاية خارطة سايكس بيكو. ولن يحصل ما يخوفنا منه الكثير من تفتيت المفتت لأن أقصى ما يمكن أن يحصل بمنطق الجدل الجاري هو تكون دول إما على أساسا قومي أو على أساس مذهبي : فتكون دولة العرب أو دولة السنة أكبر دولة في المنطقة. وتلك بداية الاستئناف تماما كما حصل في النشأة الأولى. دار الإسلام بدأت بوحدة العرب ودولتهم الأولى بعد الخلافة الراشدة التي حققت وحدتهم: الدولة الاموية.
2-والخارطة التي وضعتها القوى الاستعمارية في المغرب العربي بدأت هي بدورها تتشقق وهي حتما آيلة إلى ما آلت إليه خارطة سايكس بيكو حتى وإن بدا أن الحدود الحائلة دون ذلك شديدة الحراسة. والحصيلة كذلك ستكون دولة عربية سنية أي أكبر دولة في شمال إفريقيا من مصر إلى المغرب الأقصى. وكل من يتصور غير ذلك واهم لأن الثورة المضادة والاستعمار يستشعر هذا المآل ويعمل كل ما يستطيع لتعطيله لكنه يعلم أن منعه مستحيل وأن المسار بدأ ولن يتوقف حتى يبلغ الغاية.
3-فتكون الغاية تكوين مجموعتين عربيتن سنتيتين واحدة آسيوية والثانية افريقية وهما متصلتان بالحيزين المكاني والزماني رغم محاولات إسرائيل وإيران لمنع ذلك. وطبعا فهذان الاتصالان لن يصبحا حيين ومؤثرين في التاريخ الدولي إلا بثمرتهما : الثمرة المادية أو التكامل الاقتصادي والثمرة الرمزية أو التكامل الثقافي. ولما كان الثاني حاصلا فالأول سيحصل حتما لأن الثورة هدفها علاج مشكلتي الحرية والكرامة : ولا كرامة من دون حل المشكل الاقتصادي المشروط بالاستفادة من وحدة المكان ولا حرية من دون التكامل الثافي المشروط بالاستفادة من وحدة الزمان. وهذان مشروطان بالتكامل السياسي والتربوي أداتي تصوير العمران.
العدو الثاني
العملاء المدافعون عن التاريخ الذي فرضه الاستعمار
وما كانت هذه المرحلة الغاية تشرع في الحصول لو لم يتقدم عليها سقوط التاريخ الذي أراد الاستعمار رسمه بالتدريج لإنهاء الوحدة الزمانية لقيام الأمة. والرمز في المشرق والمغرب على حد سواء هو التطابق بين الثورة ومحاولات تحقيق أهداف حركة الإصلاح والنهضة التي بدأت تقريبا في جل أقطار الأمة بمرجعية إسلامية. وكلتاهما تعتبر عصر الراشدين النموذج الأعلى في المبادرة الحضارية والقيمية لتحرير الإنسان من الانحطاط الذي حمل للاستبداد والفساد في الحكم والاقتصاد والتربية والثقافة.
لم يعد بالوسع من ثم للتخلي عن القيم الروحية للأمة أساس وحدتها الحضارية والتاريخية. فكل محاولات إحياء التاريخ المتقدم على الوحدة الحضارية العربية الإسلامية فشلت وأشد فشلا منها كل محاولات بناء تاريخ قطري على المرحلة الاستعمارية : لم يعد بوسع الفاشيات القومية أن تفضل الانتساب إلى التاريخ البابلي أو الفرعوني أو الفينيقي أو القرطاجني إلخ... ولا بوسع النخب العملية الانتساب إلى التاريخ الاستعماري الذي يتعصوروه قد تجاوز التاريخ الإسلامي وأنهاه.
هزيمة العدو الأول
ثمرة الإطاحة بالجغرافيا الاستعمارية لمنطقتنا
ولما طالبت الثورة بشروط الكرامة والحرية في موجتها الأولى تبين أن العائق الأساسي الذي كان مخفيا أصبح بينا لشبابها بجنسيه وخاصة منذ موجتها الثانية التي أظهرت حتى للعميان أن التدخل الأجنبي يمثل أكبر عائق أمام التحرر والكرامة ليس بالابتزاز الاقتصادي فحسب بل وكذلك بالتدخل السافر في تعيين الحكام بالقوة العسكرية أو المؤامرات الإرهابية أو بالتحيل الدبلوماسي. لذلك فجل شباب الثورة بدأ يقتنع بأن هذين المطلبين غير قابلين للتحقق من دون شروطهما أعني التحرر من التبعية المضاعفة في الحماية (دعوى حماية الدويلات العربية) والرعاية (دعوى المساعدة في التنمية).
فالتنمية الاقتصادية غير ممكنة من دون القضاء على أكبر عوائقها أعني تقزيم الأمة تقزيما يجعلها تابعة بالجوهر وذلك من خلال ما وضعه الاستعمار من حدود تحول دون تعاونها الشارط للتنمية بحيث يكون كل قطر عربي عاجزا عن توفير شروط الإرادة الحرة. وذلك هو الحيز الثالث الذي بدأت الثورة توجه إليه انتباه الشباب حتى يحرر الدورة الاقتصادية العربية من الربط التابع مع مستعمر الأمس ربطا يحول دون التنمية المستقلة التي تحمي ثروات البلاد وتحرر العباد.
هزيمة العدو الثاني
ثمرة الإطاحة بالتاريخ الاستعماري لمنطقتنا
وما كان شباب الثورة بجنسيه يصل إلى هذه الحقائق ويعيها لو لم يتقدم على الثورة حصول الوعي الثقافي الذي زادته تجربة الثورة حدة الوعي بشروط التحرر في زمن العولمة التي جعلت مناخ العالم يقضي بألا يعيش فيه حرا وكريما إلا من كان قويا ولا قوة من دون شروط الحجم الممكن منها. فهم شباب الثورة الثقافة الجديدة في عصر العولمة.
وما كان ممكنا للأوروبيين الذين سعوا للتحرر من الاستعمارين الأمريكي والسوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية ليس بمستحيل لنا خاصة وشروط التوحيد والتعاون أكثر توفرا لدينا منها لديهم. فهم قد تخلصوا من الأفق الضيق للدولة القومية واستعاضوا عنها بالدولة المتجاوزة للقوميات دون أن يروا في الجمع بين مواطنين قطرية وقارية ما يتناقض مع العقل السليم فأسسوا وحدتهم على حدة الثقافة (التي يسعون لإيجادها) والمصالح (الحاصلة بعد) بوصفها المجال الرمزي والمجال الحيوي للجماعة. وذلك هو الحيز الرابع الذي بدأت الثورة تحقق الوعي بضرورة تحريره من الأفق الضيق للدويلات التابعة وبناء الولايات المتحدة العربية على الأقل بداية لعودة المسلمين لدروهم التاريخي الكوني.
استئناف الأمة دورها
شروط النصر الحتمي تحققه الثورة
وبذلك يتبين أن الثورة وخاصة في موجتها الثانية بعد الانقلاب في الجزائر والعراق في نهاية القرن الماضي والانقلاب في مصر ومحاولات الانقلاب المتواصلة في تونس واليمن وليبيا لم تعد الثورة مجرد فزة غضب ضد الاستبداد والفساد فحسب تجري في كل قطر على حدة. فهي قد أصبحت ثورة شاملة بمفعول هذا الوعي وكذلك بغباء الثورة المضادة التي حققت الوحدة السلبية قبل أن تصبح الثورة ساعية إلى الوحدة الإيجابية. إنها ثورة شاملة لكل أقطار الوطن أو على الأقل لأهمها ضد قابلية التبعية والاستعمار الذي آل إليه أمر الأمة عندما انحطت شروط مناعتها الروحية فلم تعد قادرة على فهم ذاتها لما ران على وعيها بأساس مناعتها من شوائب الانحطاط الحضاري الذاتي ولا قادرة على استيعاب عصرها لما ران على فهمها من شوائب الانحطاط المستورد من الاستعمار الانحطاط الذي تواصل فرضه النخب العملية.
لكن الثورة في موجتها الثانية وبفضل غباء العملاء والسفهاء من النخب العميلة لذراعي الاستعمار أي إيران وإسرائيل (المليشيات الخمس : بقايا الباطنية وبقايا الصليبية وبقايا الشيوعية وبقايا الليبرالية وبقايا القومية الفاشية) جعلت الأمة في كل أقطار الوطن تستعيد الوعي بضرورة الاعتماد على شروط المناعة الروحية حتى تصبح ثورتها ثورة ذات رسالة كونية وذات قيادات نابعة من الشعب ومعبرة عن أحلامه وآماله ومن ثم حائزة على ثقته وقادرة على استئناف الدور لتحقيق المصالحة الناجحة بين إحياء القيم الأصيلة واستنبات القيم الحديثة دون تنافر بين الثورتين الروحية والسياسية. وبذلك تتحدد طبيعة المعركة خصوصية الملحمة: إنها معركة بين مشروعين:
المشروع التابع الذي يحول دون شروط قيام الأمة من جديد أعني المشروع الذي يريد أصحابه أن يحافظوا على تشتيب المكان وتفتيت الزمان ليحولوا دون الدورة الاقتصادية القادرة على التنمية غير التابعة ودون الدور الثقافية القادرة على إبداع شروط القيام المستقل المادية والرمزية ومن ثم على القضاء النهائي على شروط المناعة حتى تذوب الأمة فتصبح من جديد تابعة لروما الجديدة أي أوروبا المتحدة ولربيبتيها أمريكا وإسرائيل.
المشروع المتحرر الذي يسعى أصحابه لتحقيق شروط قيام الأمة بالتحرر من الجغرافيا التي وضعها الاستعمار لتشتيت المكان والتاريخ الذي وضعه لتفتيت الزمان ومن ثم لمنع القدرة التنموية غير التابعة والقدرة الإبداعية المستقلة ومن ثم للحيلولة دون استئناف الأمة لدورها التاريخي الكوني خوفا من القطب الذي يمكن أن ينشأ في جنوب المتوسط فيصبح ندا يمكن أن يحمي ثرواته وأهله. وهذا القطب لم يعد مجرد إمكان مستبعد بل هو صار مشروعا بصدد التحقق من خلال الثورة الجارية كما هو بين للعيان.
لذلك فلا يعجبن أحد من وصفي الأمر بالملحمة التي تجعل جيل الشباب مقدما على معركة كبيرة وهو بها جدير لأن روحانية حركة الإصلاح كما أسلفنا تغلبت في النهاية بعد قرنين من الأخذ والرد ما يعني أن كل محاولات التغريب قد فشلت دون أن يعني ذلك قطيعة مع التقدم الإنساني: فالممثلون الحقيقيون للحداثة السوية هم من غير المتنكرين للذات ومن المتحررين من التبعية بعد أن أدركوا أن الحداثة الأصيلة لا تختلف من حيث القيم مع قيم الأصالة الحية: فكلتاهما تريد للإنسان أن يحقق معاني الإنسانية في ذاته كما يقول ابن خلدون وفي الجماعة القريبة والبعيدة كما تحدد ذلك الآية الأولى من سورة النساء التي تعتبر البشر أخوة ولا تميز بينهم بالعرق أو بالطبقة بل هي تدعوهم للتعاون والتعارف.
ومن ثم فالفرق الأساسي بين النخب الأصيلة والنخب العميلة يتمثل في أن الأولى أدركت أن مطالب الثورة لا تتحقق من دون شروطها بمنطق العصر المعولم والمتقنن ومن ثم من دون شروط المعرفة والقوة أساس كل حرية وكرامة في حين أن الثانية تكتفي بالعيش التابع على قشور الحضارة بالاعتماد على دويلات عاجزة عن توفير شروط الكرامة والحرية ومن ثم فهو دول متسولة أقصى ما يمكن أن تحققه هو أن تجعل شعبها خدما لسيدها الذي كان مستعمرها من أجل لقمة العيش التي يتفضل عليها بها من يستغل ثرواتها ويستعبد شبابها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق