أبو يعرب المرزوقي
تونس في 2016.04.24
تمهيد:
1-السياسة وتعريفاتها المغالطية من أهم الاقنعة التي يتستر بها ضعفاء الساسة في البلاد التابعة التي ينسى أصحابها أنه لا سياسة من دون سيادة وقدرة.
2-ولما كانت السيادة والقدرة مشروطتان بشروط هي عين مقومات جماعة الأحرار فإن السياسة لا معنى لها في مجتمعات لم تبن على حرية الإنسان بحد القرآن.
3-فالإنسان الحر بحد القرآن مكلف ومسؤول ومن ثم فلا يمكن أن يساس من قبل غيره إلا بتكليف منه فيكون المكلف منه مسؤولالديه لئلا يكون مغتصبا مستبدا
4-وإذن فأول معنى للسياسة أنها إما الفعل المباشر للإنسان المكلف والمسؤول أو الفعل غير المباشر بنظرية الإنابة التي هي عقد تمثله البيعة الحرة.
التعريف المغشوش الأول
5-ولنأت الآن إلى تعريفات السياسة المغالطة والتي تهدف لستر عورة التبعية. التعريف الأول: السياسة هي فن الممكن. وهذه المغالطة معادلة كاذبة مغشوشة.
6-ذلك أن الممكن ليس الأمر الواقع أو الحاصل لكأنه قضاء وقدر بل هو على ما هو عليه بسبب فقدان السياسة لفن توقعه واستراتيجية تغييره ليكون ما نريد.
7-فالممكن السياسي ليس قضاء وقدرا بل هو حصيلة صراع إرادات. ومن ثم فهو ثمرة استعداد متقدم على الحاصل منه من جنس الاستعداد والتوقع في لعبة الشطرنج.
8-لذلك وضع القرآن الكريم الآية 60 من الأنفال للردع بالاستعداد في مجالين هما مجال القوة عامة والقوة العسكرية خاصة للتصدي للممكن بفن أي بدراية.
9-والاستعداد للممكن بفن ودراية يقتضي أولا تحديد الأعداء. وقد بين القرآن ما يقبل التحديد الصارم وما ينبغي الاستعداد له مع عدم استثناء المفاجئات.
10-وذلك بتصنيف الأعداء إلى ثلاثة أصناف بسيطة مع توليف ظاهر وتوليف غير ظاهر. وإذن فأصناف الأعداء خمسة: أعداؤنا وأعداء الله ومن لا نعلم من الأعداء. فيحصل توليف الأولين. وتوليف الثلاثة.
11-فعندما يكلمك سياسي عربي ليقول لك تلك هي إكراهات السياسة. ولا تلمني فالسياسة هي فن الممكن فاعلم أنه يخفي ما لم يقم به من استعداد جعله دمية قهر الظروف.
التعريف المغشوش الثاني
12-التعريف الثاني هو التعريف البورقيبي لسياسته التي يظن نفسه متميزا بها. وهو تعريف لم أر اغبى منه: فالقول بسياسة المراحل بليوناسم (من جنس أصعد إلى فوق).
13-فكل عمل مهما كان بسيطا لمجرد أنه يجري في زمانين متواليين لا بد فيه من مراحل بعضها متقدم وبعضها متأخر. المشكل هو ما الترتيب الذي يحدد المراحل.
14-ولماكان تحديد المراحل لا يكون إلا بالإضافة إلى الغاية فإن ترتيبها هو جوهر السياسة التي تبدأ بتحديد الغاية ثم تعود منها بالتحليل إلى شروطها فترتبها في مراحل للتحقيق.
15-ولنطبق ذلك على ما فعله بورقيبة في أزمتي الحزب الدستوري: مع الثعالبي حول طبيعة العلاقة بين الاستقلال والإسلام. مع ابن يوسف حول طبيعته العلاقة بين الاستقلال والمغرب العربي.
16-فالخيار البورقيبي كان في المرتين يهدف إلى دولة قطريةوإذن فالمراحل المقصودة هو الخداع لتحقيق القطع مع الأمة عامة ومع العرب خاصة ومن ثم فالهدف كان تأسيس محمية فرنسية أكثر تبعية مما كانت.
17-لذلك فالمراحل التي يقصدها بورقيبة ليست مراحل السياسة التي تسعى للاستقلال المحقق للسيادة بل هي تحقيق شروط الانتقال من الاستعمار المباشر إلى غير المباشر.
وذلك ما حصل بالفعل: فتونس اليوم هي أكثر تبعية واستعمارا مما كانت عليه قبل ما يسمى بالاستقلال بالمراحل. كانت على الأقل حرة ثقافيا ومشرئبة لأفق أمتها لا خارجه.
18-مفهوم المراحل هنا هو إذن خدعة وليس تعريفا للسياسة لأن السياسة ككل عمل إنساني يجري في الزمان مشروطة بمراحل تتحدد بالعودة من الهدف إلى شروطه مرتبة بحسب تواليها الميسر لتحقيقها.
1.
المناورة والخديعة السياسية المشروعة
19-يحق للسياسي أن يغالط إذا كان لمغالطة الأعداء لا لمغالطة من يمثل إرادتهم. ما نلحظه هو أن السياسة صارت عندنا العكس تمام.ا تصدق العدو وتغالط الأمة.
20-فمثال الغش السياسي عند من يدعون أنهم مسلمون: خطاب إيران العدائي إزاء أمريكا وإسرائيل يعلمان أنه للاستهلاك المحلي ما يفسر تعاونهما معهم.
21-ومثل ذلك كل عنتريات الأنظمة العربية عامة والتي تعلن عن العداء والممانعة خاصة مغشوش لعلمنا أنها مدينة ببقاءها المستبد والفاسد ممن تجاهر بعدائهم بالأقوال لا بالأفعال.
22-صحيح أن السياسة تقتضي فن المناورة والخداع. لكن ذلك يصبح جريمة إذا لم يكن موجها للعدو لا لتركيع الأمة لهم حتى يحموه منها لأنه عديم الشرعية.
23-فعندما صالح الرسول في الحديبية كان يمكن للكثير من المسلمين ألايفهموا حقيقة المناورة والخداع الذي اعتمدته سياسة الرسول. لكن الثقة فيه مررتها مع احتجاج معلوم لأن الأمة كانت فعلا واعية.
24-فهل يوجد اليوم بين حكامنا من يمكن أن نثق فيه فنمرر له مناورة مثلها كأن يقدم مشروعا من جنس صلح الحديبية مع إسرائيل فنصدق مقصده الخفي؟
25-ألم يصبرونا نصف قرن على أنهم يستعدون لتحقيق الترادع الاستراتيجي ليبدأوا التحرير لكأننا نجهل أن مفهوم التوازن الاسترايتيجي يعني المحافظة على استاتكوو لا تغييره؟
تعريف السياسة الموجب
26-ولنمرالآن إلى التعريف الموجب للسياسة. قلنا إنها سياسة الجماعة المؤلفة من أفراد أحرار يعني مكلفين ومسؤولين واجماع اغلبيتهم هي إرادة الجماعة.
27-ولما كانت الجماعة بحجم يتجاوز إمكانية السياسة المباشرة فإن الإرادة الجماعية تصبح مبنية على عقد يعين بمقتضاه من ينوب الجماعة فيجعل القرار النهائي في حسم شؤون الجماعة فرض كفاية لا فرض عين.
28-لكنه يضيف إلى هذا التنازل الضروري شرطا يحول دونه والتحول إلى استبداد وفساد وهو شرط مضاعف: فأولا شرط المراقبة الدائمة وثانيا شرط الاحتكام على قانون يخضع له الحاكم والمحكوم.
29-والاحتكام إلى قانون يجعل المحكوم حاكما في الحاكم بقاعدة: لا طاعة في معصية الله. وإذن فالمطالب بالطاعة أو المحكوم هو الحكم في احترام الحاكم لشرع الله.
30-ما يعني أن التنويب السياسي مشروط برعاية المنوبين لشرع الله حكما بينهم وبين من كلفوه بتمثيل إرادتهم لفترة محددة قد يبقوه فيها وقد يعزلوه منها.
31-وفي هذه الحالة تصبح السياسية ذات وجهين: الأول هو شروط بقاء العقد والثاني هوشروط تحقيق وظائف الحكم العشرة المشروطة في كل نظام سياسي
شروط بقاء العقد صالحا
32-وشروط بقاء العقد تتعلق باحترام بنوده الضابطة للعلاقة بين طرفي العقد بضامن هو المحتكم إليه عند الخلاف بين الحاكم والمحكوم أعني طرفي العقد.
33-والضامن الذي يتساوى أمامه الطرفان حتى يكون العقد ملزما لأنه بين متساويين هو من يحتكم اليه أي قانون الشرع في الإسلام وقانون الوضع في أي دولة حديثة أو قديمة.
34-فإذا كان هذا الضامن أو المشرع من إنتاج طبقة أو فئة غالبة فالعقد يفسد لأن الضامن يصبح طرفا وليس حكما. ولما كان لا يمكن للقاضي أن يكون متقاضيا بات الشرع أفضل من الوضع إذا وجد واحترم حقا.
35-وفي كل الأحوال سواء كان المحتكم إليه قانونا شرعيا أوقانونا وضعيا -أو كليهما كما في دولة الإسلام لأن المباح يشرع فيه الإنسان بالاجتهاد- فإن الحكم في الأخير يكون للشعب باعتباره ممثلا لإرادة الجماعة حتى شرعا : مفهوم عصمة الأمة.
شرط تحقيق الوظائف
36-أما الشرط الثاني أعني تحقيق وظائف الدولة أو الحكم من خلال القوامة التعاقدية على أجهزتها فهو وظائف الدولة العشرة أي وظائف الحماية الخمس والرعاية الخمس.
37-فوظائف الحماية خمس وهي داخليا القضاء والأمن وخارجيا الدبلوماسية والدفاع ويجمع بينها ما يجعلها تعمل على علم أي نظام الاستعلام والاعلام السياسي.
38-ووظائف الرعاية خمس وهي تكوينا التربية والمجتمع الأهلي وتموينا الثقافة والاقتصاد يجمع بينها ما يجعلها تعمل على علم بنظام الاستعلام والإعلام العلمي أي البحث العلمي.
39-لكن ذلك كله لا يكون سياسية إلا بشروط الآية 60 من الأنفال وخاصة بمفهوم "أعدوا". فالإعداد يعني الوقاية تغني عن العلاج أو تحقق شروط نجاحه.
استراتيجية السياسة غير التابعة
40-وذلك يعني استراتيجية مضاعفة شكلا ومخمسة مضمونا. ولنبدأ بالشكل. فالآية 60 من الأنفال تعلقت باعداد القوة عامة وباعداد القوة العسكرية خاصة.
41-إذ قالت: قوة (عامة) ورباط الخيل (كناية على الدفاع). فتكون القوة عامة هي شروط الرعاية التي منها تستمد شروط الحماية. فالدفاع تموله الجماعة.
42-والحماية مقدمة شكلا على الرعاية لأنها تحميها من الفوضى الداخلية بعدل القضاء والأمن وتحميها من الفوضى الخارجية بالحزم الدبلوماسي والدفاع الحائل دون العدوان الخارجي. والرعاية مقدمة مضمونا.
43-من ذلك أن الرسول لما كان يجهز لـحملة فإنه يطلب من المجتمع الأهلي أن يمول الحرب وأن يجهز الجيش لأن الدفاع ليس دولة في الدولة لئلا يستبد ويفسد.
44-وقد نصح ابن خلدون الأمة قائلا: الشعب الحر لا يعتمد على الحامية لئلا يكون عالة عليها بل هو عين حامية نفسه. ولسوء الحظ فالدولة الوحيدة التي تطبق هذه القاعدة هي إسرائيل.
مضمون وظائف الدولة
45-ونأتي الآن إلى التعريف المضموني لوظائف الدولة. وهذه حددتها قصة يوسف عليه السلام: وهي خمسة مضامين لا غير. والمضامين هي ما لاجله يتصارع البشر فيحتاجون إلى الحكم وازعا بينهم وبينهم وبين عدوهم.
46-ما هي الوظائف المضمونية: 1-أكثرها دفعا للصراع هو المراة والحب. و2- هو الثروة والمعاش. و3- هي المعرفة المتوقعة للمستقبل و4- هي الحكم و5- رؤية برهان الرب.
معنيا الوظائف الأدنى والأسمى
47-ذلك أن الأربعة الأولى تتعلق باستعمار الإنسان في الأرض دون تجاوز لما يضفي عليه المعنى. والخامس يتعلق بالاستخلاف الذي يضفي عليها المعنى.
48-والسورة قالت أمرين لعل الانتباه إليهما هو الذي يتعلق بتعريف مفهوم السياسة الحقيقي على الأقل كما ينبغي أن يفهمه المسلم الذي يؤمن بالقرآن.
49-الأمر الأول قالته بصراحة من بدايتها: وهو أن القرآن يقدم قصة تحرر من الغفلة بخصوص العلاقة بين استعمار الإنسان في الارض واستخلافه فيها
50-والأمر الثاني يستنتج من بنية القصة: فكل ما حدث فيها حدث مرتين: في مستوى الحلم وفي مستوى العلم أو في الأذهان وفي الأعيان. السياسة حلم وعلم.
51-وختاما فسياسة العرب قتلت كل حلم وتجاهلت كل علم. لم تبق للعربي إلا الخمود والقعود أو الثورة على فساد الوجود. لم تكن السياسة إلا كما يعرفونها بعد فهم قصدهم: مجرد ركوع للأمر الواقع بسبب التبعية وغياب المشروع الذي يعيد للشباب الطموح والعزة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق